أسباب نشوء البدعة
البدعة عمل اختياريّ للمبتدع، ولها ـ كسائر الأفعال الاختياريّة ـ أسباب وغايات، تتعدّد ثمّ تَؤول إلى سبيلٍ غير سبيل الله عزّوجلّ، يبيّنه هذا الخبر الوارد عن ابن مسعود، قال: خطَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله خطّاً بيده، ثمّ قال: هذا سبيل الله مستقيماً. ثمّ خطّ خطوطاً عن يمين ذلك وعن شماله، ثمّ قال: وهذه السبل، ليس من سبيل إلاّ عليه شيطان يدعو إليه. ثمّ قرأ: وأنّ هذا صراطي مستقيماً فآتّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عَن سبيلهِ (66).
وإذا كان للبدعة أسبابها، فإنّ هذه الأسباب متجدّدة على طول تاريخ الأمم حتّى هذه الأُمّة؛ لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: كلّ ما كان في الأُمم السالفة فإنّه يكون في هذه الأُمّة مِثْله، حَذْوَ النَّعل بالنعل، والقُذّة بالقذّة (67).
لقد بلّغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رسالته على أكمل وجه، وكانت سُنّته جليّة أمام أنظار المسلمين، ممّا لا يَدَع مجالاً للاجتهادات الشخصيّة والاقتراحات الأهوائيّة، ثمّ لا يَدَع مجالاً لظهور الاختلافات.. فلماذا إذن حدثت البدع من بعده ؟
جواب هذا السؤال ـ أيّها الإخوة ـ يكمن في هذه النقاط التالية:
أوّلاً: توهّمُ المبالغة في التعبّد لله تعالى، إذ خرج البعض عن الحدّ المعقول في التعبّد، فجاء باجتهاد مخالفٍ لتعاليم الشريعة، ظانّاً هذا البعضُ أنّه يرتقي في طاعاته لله عزّوجلّ، فيضيف ويُنقص ـ حسب هواه ـ ولا يشعر أنّه يبتدع في الدين ما ليس منه، ويخرج عن حالة التسليم لأوامر الله تعالى ونواهيه.
وهذه نماذج من هذا السبب في نشوء البدعة:
أ. استأذن أحدُ الصحابة رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في الترهّب، فقال له: إنّ ترهّب أُمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة (68).
ب. روى جابر بن عبدالله الأنصاريّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان في سفر، فرأى رجلاً عليه زحام قد ظُلِّل عليه، فقال: ما هذا ؟ قالوا: صائم، قال صلّى الله عليه وآله: ليس من البِرّ الصيامُ في السفر (69).
ج. عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله خرج من المدينة إلى مكّة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة. فلمّا انتهى إلى كراع الغَميم دعا بقدَح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر، ثمّ أفطر الناس معه، وثَمّ أُناسٌ على صومهم فسمّاهم « العُصاة »، وإنّما يؤخذ بآخِرِ أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله (70).
د. وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السّلام.. أنّ الصحابيّ سعد بن أشجع قال: إنّي أُشهِد اللهَ وأُشهد رسوله ومَن حضرني، أنّ نوم الليل علَيّ حرام، والأكل بالنهار علَيّ حرام، ولباس الليل علَيّ حرام، ومخالطة الناس علَيّ حرام، وإتيان النساء علَيّ حرام! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا سعد! لم تَصنَع شيئاً، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس ؟! وسكونُ البَريّة بعد الحضر كفرٌ للنعمة، نَمْ بالليل وكُلْ بالنهار، والبَسْ ما لم يكن ذَهَباً أو حريراً أو مُعَصفَراً، وأْتِ النساء (71).
• يتصوّر البعض ـ أيّها الأصدقاء ـ أنّه إذا أضاف إلى الدين شيئاً من عنديّاته.. كان قد بالغ في عبوديّته لله تعالى، متخيّلاً أنّه سيكون بعمله المبتدَع أكثر قبولاً عند الله سبحانه؛ لأنّه حرّم المباح وأوجب المستحبّ وحرّم المكروه! واللهُ تعالى يقول في صريح تنزيله الكريم: قُلْ مَن حَرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِهِ والطيّباتِ مِن الرزقِ ؟! قلْ هي للذين آمنوا في الحياةِ الدنيا خالصةً يومَ القيامة، كذلك نُفصِّلُ الآيات لقومٍ يَعلَمون (72).
ويبالغ البعضُ الآخر ـ جهلاً أو رياءً ـ فيحرّم الواجب، مبتدعاً حكماً صريحاً في مخالفته لحُكم الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله!
• روى الدارميّ قال: سمعتُ عامَ حَجَّ معاويةُ يسأل سعدَ بن مالك: كيف تقول بالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ؟! قال: حسنة جميلة، فقال معاوية: قد كان عمر ينهى عنها، فأنت خيرٌ من عمر ؟! قال سعد: عمر خيرٌ منّي، وقد فعلَ ذلك النبيُّ وهو خير من عمر (73).
• وروى الترمذي قريباً من ذلك إلاّ أنّ الحوار كان بين سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس الذي قال: لا يصنع ذلك ( أي التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ) إلاّ مَن جهل أمر الله، فقال سعد: بئس ما قلتَ يا ابن أخي! فقال الضحاك: فإنّ عمر قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه (وآله ) وسلّم وصنعناها معه.
• وعن الزُّهريّ عن سالم قال: إنّي لَجالسٌ مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال ابن عمر: حسن جميل، قال: فإن أباك كان ينهى عنها! فقال: ويلك! فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وأمر به، أفبقولِ أبي آخذ أم بأمر رسول الله ؟! قُمْ عنّي (74).
ويقترح البعض ـ أيّها الإخوة ـ على الدين ويرى نفسه متفضّلاً أو فاضلاً، لأنّه بالَغَ أو ابتدع أُسلوباً شاذّاً في العبادة، رغم أنّه يقصّر في أُسلوبه هذا في حقوق الله وحقوق الناس، ويبتعد كثيراً عن روح الدين واجتماعيّة الشريعة وحياة الأُمّة وتكاليف الرسالة، ويخرج من حالة الطاعة والعبوديّة لله تعالى، فيُعمِل رأيه أمام حكم الله متجاهلاً قوله تعالى: قُلْ أتُعلِّمونَ اللهَ بدِينِكُم واللهُ يعلمُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ واللهُ بكلِّ شيءٍ عليم ؟! (75).
ثانياً: اتّباع الهوى، وهو باعثٌ آخرُ على البِدعة في الدين. وقد يُصاب به طلاّب الشهرة ومحبّو الرئاسة وأصحاب الأهواء والمبتلَون بحب الظهور والسمعة. فيبتدعون طريقة جديدة أو أُسلوباً لافتاً، وقد يؤسّسون فرقة أو مذهباً يدعون إليه، بل قد يصل اتّباع الهوى عند بعضهم حدّاً يدّعي معه النبوّة، فيُحدث فتناً تجرف عن الدين وتُلقي في المهالك.
إنّ صفحات التاريخ ـ أيّها الإخوة ـ زاخرة بالأمثلة الواقعيّة على ذلك، فكان منها نشوء الخوارج الذين خاطبهم أمير المؤمنين عليه السّلام وهم قتلى بعد معركة النهروان: بؤساً لكم! لقد ضَرّكم مَن غَرّكم. فقيل له: مَن غرّهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السّلام: الشيطان المُضلّ، والنفس الأمّارة بالسوء.. غَرّتْهم بالأمانيّ، وفَسَحت لهم في المعاصي، ووَعَدتْهم الإظهار، فاقتَحَمتْ بهم النار (76).
وكان عليه السّلام يقول: أيّها الناس، إنّما بَدءُ وقوعِ الفتن: أهواء تُتَّبَع، وأحكام تُبتدَع، يُخالَف فيها كتاب الله (77)، ويقول عليه السّلام: إنّما أخاف عليكم اثنتَين: اتّباعَ الهوى، وطولَ الأمل. أمّا اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة (78).
ومن قبل ذلك كان قول الله تعالى: ولا تَتَّبِعِ الهوى فيُضِلَّكَ عن سبيلِ الله، إنّ الذين يُضِلّون عن سبيلِ اللهِ لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسُوا يومَ الحساب (79).
وكم كان لاتّباع الهوى نصيبٌ كبير في تفرّق الناس وتناحرهم، وإحداث الفرق والمذاهب الهجينة، وظهور العداوات والمعارك.. لانّه انحراف عن الحقّ، وميل إلى الباطل، وسبب في البدعة، وعامل في إحداث الفتنة.
ثالثاً: التسليم لغير الكتاب والسُّنّة، وذلك سبب واضح وأكيد في ظهور البدع والمستحدثات. فالقرآن الكريم كلام الله تعالى وهو الخطاب الفصل وفصل الخطاب، والسنّة النبويّة الشريفة: قولاً وفعلاً وتقريراً.. سنّةٌ إلهيّة معصومة من كلّ زلل وخطأ وسهو ونسيان ولَبس، فهي شرعٌ أمَر الله تعالى بالأخذ منها وهو القائل عزّ من قائل: يا أيُّها الذين آمنوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسولَ ولا تُبطِلُوا أعمالَكم (80).
وقال تبارك وتعالى: مَن يُطعِ الرسولَ فقد أطاعَ اللهَ ومَن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظا (81).
والقرآن وحي إلهيّ يرسم لنا حقائق الدين وشرائعه، والسنّة المطهَّرة عناية إلهيّة معصومة في ذاتها وعاصمة للشرع من التحريف، ومؤتمَنة على رسالة الله الحقّة. وكلاهما يُطاعانِ ويُتَّبعان ويُسلَّم لهما، وإلاّ نشأت البدعة إذا جيء بالرأي في معرضهما وقبالهما، أو أُخذ عن جهةٍ غير معصومة جُعلت في مصافّ مصادر التشريع.. لأنّ غير المعصوم يخطئ وقد يكذب ويدّعي ويفتري، فيكون التسليم له سبباً للانحراف، كما يكون التسليم لرأيه سبباً في الابتداع.
أمّا الأئمّة من أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله فهم أولو الأمر الذين وجبت طاعتهم.. بأمر الله تعالى أوّلاً ـ يا أيُّها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعُوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم.. (82)، وإنّما يُؤمر بطاعته في مصافّ طاعة الله ورسوله مَن كانوا معصومين، وهم الأئمّة عليهم السّلام إذ هم أمناء الله على وحيه، وترجمان سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسُنّته. وثانياً ـ بأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله، حيث روي عنه من طرق العامّة والخاصّة قوله: إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تَضلّوا: كتاب الله وعترتي.. فلا تَقدِموهما فتهلكوا، ولا تَقصُروا عنهم فتهلكوا، ولا تُعلّموهم فإنّهم أعلم منكم (83).
ذلك أنّ أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله بنصوص: عامّة وخاصة، صريحة ومؤوّلة.. معصومون، وعن الله ورسوله يأخذون. جاء عن الإمام محمّد الباقر عليه السّلام قوله لجابر بن يزيد الجُعفيّ: يا جابر، لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لَكُنّا من الهالكين، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله كما يكنز هؤلاءِ ذهبَهم وورقهم (84).
ومن هنا يقول هو سلام الله عليه لسَلَمة بن كُهيل والحكَم بن عُيَينة: شَرِّقا وغَرِّبا، لن تجدا علماً صحيحاً إلاّ شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت (85).
لقد كان القرآن الكريم خاتم الكتب، وكانت شريعة الإسلام خاتمة الشرائع.. فلا حُكمَ إلاّ ما حكم الله به، ولا سُنّة إلاّ ما سنّها الرسول صلّى الله عليه وآله وتابعها عليها أهل بيته الأطهار عليهم السّلام، والخروج عن هذا الإطار ممهّدٌ لطريق البدعة.. لأنّه خروج عن جهتين معصومتين:
الأولى: الكتاب الذي قال الله تعالى فيه: .. وإنّه لَكتابٌ عزيز * لا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يدَيهِ ولا مِن خَلْفهِ تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميد (86).
والثانية: السيرة الطاهرة المعصومة لخاتَم الأنبياء وسيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله، والذي قال الله تعالى فيه: ما ضَلّ صاحُبكم وما غوى * وما يَنطِقُ عنِ الهوى * إنْ هوَ إلاّ وحيٌ يُوحى (87).
وامتداد النبوّة الإلهيّة كان ـ بحكمة الله ومشيئته ـ من خلال الإمامة المستحفَظَة من قِبل الله تعالى والمستحفِظة لدين الله جلّ وعلا، وعلمها مأخوذ من الكتاب والسنّة.
بعد هذا يكون الخروج عن هذه الحدود التي عيّنها الله سبحانه تميهداً لطريق المبتدعين، وعلى ضوء ذلك لا معنىً يُعقَل لتقسيم السنّة إلى: سنّة النبيّ، وسنة الصحابة.. فتَلقى الثانية حجّة شرعية وإن لم تستند لا إلى الكتاب ولا إلى السنّة!
-----------
66 ـ الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطيّ 56:3، والآية في سورة الأنعام: 6.
67 ـ كمال الدين، للشيخ الصدوق 576. والمقطع الأخير مثَلٌ يُضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان، والقُذّة: ريشة الطائر.
68 ـ الاعتصام، للشاطبيّ 325:1.
69 ـ مُسند أحمد بن حنبل 319:3 و 399. من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق 92:2 حديث 2.
70 ـ الكافي، للكلينيّ 127:4 حديث 5 ـ باب كراهية الصوم في السفر.
71 ـ نوادر الراونديّ 25 ـ 26.
72 ـ سورة الأعراف: 32.
73 ـ سنن الدارميّ 36:2 ـ كتاب المناسك.
74 ـ الجامع لأحكام القرآن، للقرطبيّ 388:2.
75 ـ سورة الحجرات: 16.
76 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ 235:19.
77 ـ الكافي 54:1 حديث 1 ـ باب البدع.
78 ـ الكافي 335:2 حديث 3 ـ باب اتّباع الهوى.
79 ـ سورة ص: 26.
80 ـ سورة محمّد صلّى الله عليه وآله:33.
81 ـ سورة النساء: 80.
82 ـ سورة النساء: 59.
83 ـ الصواعق المحرقة، لابن حجر 135. كنز العمّال 68:1/خ 958. الدرّ المنثور 60:2.. وغيرها.
84 ـ بصائر الدرجات، للصفّار القمّي 318 ـ الباب 14حديث 1. الاختصاص، للشيخ المفيد 280.
85 ـ بحار الأنوار 92:2 عن بصائر الدرجات، ورجال الكشّيّ، للشيخ الطوسيّ.
86 ـ سورة فُصّلت: 41 ، 42.
87 ـ سورة النجم: 2 ـ