العلم والحكمة والرحمة
إنّ هذا العالَم بأسره، بما فيه من نُظم ثابتة وقوانين مُحكَمة، يدلّ دِلالةً صريحةً على أنّ صانعه مُدرِك حكيم عليم، خلاّقٌ رحيم. وإنّ آلاف الكتب في العلوم الطبيعية والإنسانيّة تدلّ أيضاً دلالةً واضحةً على سعة علم الصانع وإتقان الخالق القادر، المبدع العظيم تبارك وتعالى سبحانه جَلَّ وعلا، « قُلْ لَو كانَ البحرُ مِداداً لكلماتِ ربّي لَنَفِدَ البحرُ قبلَ أن تَنفَدَ كلماتُ ربّي ولَو جِئْنا بِمِثْلِه مَدداً » [ سورة الكهف:109 ]، « ولَو أنّ ما في الأرضِ مِن شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُدُّه مِن بَعدِه سبعةُ أبحُرٍ ما نَفِدَت كلماتُ اللهِ إنّ اللهَ عزيزٌ حكيم » [ سورة لقمان:27 ].
فلا يُعقَل ـ بعد هذه المقدّمة ـ أنّ الله تبارك وتعالى يخلق الخَلق ثمّ يتركهم يعملون في حياتهم كيفما اتّفق، يتخبّطون ويعبثون ويُفسدون في الأرض، بل خلَقَهم جلّ وعلا برحمته لرحمته، وتكفّل لهم بهدايتهم، وجعَلَ لذلك مقدّماتٍ وموجباتٍ ومستلزماتٍ ومقتضيات. وكان من عدل الله تعالى ولطفه في الوقت ذاته أن يُلهِمَ البشر طريقَيِ الخير والشرّ، وقد فعل، وهو القائل عزّ مِن قائل: « إِنّا هَدَيناهُ السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كَفُوراً » [ الإنسان:3 ]، « وهَدَيناه النَّجْدَين » [ البلد:10 ]، وبذلك يكون الامتحان والاختبار، « فَمَن يعملْ مِثْقالَ ذَرّةٍ خيراً يَرَه * ومَن يَعملْ مِثقالَ ذرّةٍ شرّاً يَرَه » [ سورة الزلزلة:7 ـ 8 ]، ذلك على علمٍ من الإنسان واختيار، فقد أَلهِم أوّلاً، وعُلِّم ثانياً، فهو يميّز الأمور وبذلك يُختبَر ويُبتلى ولا عذر له إذا جنى وارتكب المعاصي، وقد قال تعالى: « ونَفْسٍ وما سَوّاها * فأَلهَمَها فُجُورَها وتَقواها * قَد أفلَحَ مَن زكّاها * وقَد خابَ مَن دَسّاها » [ سورة الشمس:7 ـ 10 ).
فالإنسان عالِمٌ بالخير والشرّ بصورةٍ فطريّة، ولكنّه ممتحنٌ بالشهوات والنزوات، فأرسل الله تعالى أنبياءَه ورسله ليقوّموا أعوجاجه، وليربّوه على اتّباع الطريق المؤدّي إلى مرضاة الله عزّوجلّ ليكون أعلى منزلةً من الملائكة من خلال الإيمان الراسخ والتقوى والأخلاق الفاضلة وتطبيق أحكام الدين ومبادئه.
الضرورة اللاّزمة
إنّ نظرةً سريعةً إلى الاختلاف الحاصل في القوانين البشريّة الوضعيّة وتناقضها وتغيّرها، بل وتحيّرها في كثيرٍ من الأحيان، تجعلنا نتيقّن أنّ الإنسان ناقص، بل مِلاكه الضعف والجهل ومصيره الخُسر، إلاّ إذا لجأ إلى الله تعالى واهتدى بهداه واتّجه إليه اتّجاهاً صحيحاً، وذلك لا يتسنّى له إلاّ بإرشاد النبيّين والمرسلين، الذين يبعثهم الله تعالى مِن خلال كتبٍ وشرائع محكمةٍ حكيمة، تلبّي حاجات البشر وتأخذ بأيديهم إلى الصلاح والفلاح، وتجنّبهم ما يُوقعهم في الضلال والفساد والعذاب.
أجل.. لهذا بُعث الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، وبهم يكون اكتمال البشر بصورةٍ تدريجيّة في عوالم النفس؛ ذلك لأنّ الإنسان بروحه ونفسه وضميره، لا بعضلاته وملابسه وأثاثه وأمواله، ولأنّ الغاية الأسمى من وجوده في هذه المرحلة الدنيويّة هي عبادة الله تبارك وتعالى عن علمٍ وهدىً وبصيرة، وذلك يكون من خلال التكامل في العقل والنفس والروح، بواسطة تطهير الروح وأداء الوظائف الشرعيّة والأخلاقيّة. وهذا هو الذي نهض بتعليمه أنبياء الله ورسله، ضمن مناهج إلهيّة حكيمة، وسُننٍ نبويّة كريمة، جاءت على أكمل وجه وأتمّ صورة وأدقّ شريعة في رسالة الإسلام التي بُعث بها سيّد الرسل محمّدٌ المصطفى الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
وقد قال تعالى: « هُوَ الَّذي بَعَثَ في الأُميّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتْلُو عَلَيهِم آياتِهِ ويُزكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكتابَ والحكمةَ وإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبين » [ الجمعة:2 ]. وكان صلّى الله عليه وآله عَلَّمهم كلَّ ضروريٍّ في الحياة، وكلَّ خيرٍ ينفعُهم هنا وما بعدَ الحياة، وهَداهم إلى ما يُسعِدهم، وما فيه عزّتًُهم، وبيّن لهم كلَّ ما يُنْجيهم، وحذّرهم عن كلِّ ما يُرْديهم، وعرّفهم الحلال والحرام، وشرائع الإسلام، وأصول الدين وفروعه، والأخلاق الفاضلة العليا، وآداب المعاشرة، والسنن الزاكية، وهذّب خصالهم وطباعهم، ورقّق مشاعرهم، ووجّه إلى الألفة والمحبّة والرأفة عواطفهم، ونقّى ضمائرهم.
ثمّ بعد ذلك، وخلال ذلك، لم يطلب منهم أجراً على جهوده وأتعابه الكريمة تلك، وألطافه العظمى تلك، إلاّ أن يَحفظوه في أهل بيته، من خلال المودّة. فطُوبى لمَن كانت غنيمتُه إيماناً بالله وكتبه ورسله وملائكته، وتقوىً واتّقاءً من المُوبِقات والآثام والذنوب، وعملاً بالشريعة الإلهيّة والسنن النبويّة المطهّرة، وأخلاقاً تُطيّب القلوب والنفوس، وولاية ومودّةً لآل الله وأحبّته وأعزّته وأكرمِ الخَلق عليه: محمّدٍ وآل محمّد، صلواتُ الله تبارك وتعالى عليه وعليهم من الأوّلين والآخِرين، ومن الآنَ إلى قيام يوم الدِّين.