• العقل والعلم استدعيا أن يكون مِن بعد النبيّ وصيّ، وإلاّ ضاعت الجهود، وارتدّ الناس في حيرتهم، وذهب كلٌّ وفق هواه إلى رأيٍ وطريق، وتشتّتت الأمّة. إنّ العقل يقول: العمل الحكيم ما كان كاملاً تامّاً نافعاً على المدى، والدين الإلهي يملأ جميع الفراغات، ويجيب على جميع الأسئلة ويحلّ جميع المشكلات، ويقضي جميع الحوائج والمتطلّبات والضرورات، فكيف يترك النبيّ أمّتَه دون أن يودعها وصيّاً يحفظ جهوده ورسالته، ويبيّن مقاصد شريعته وسُنّته ؟! هذا ما لا يقبله العقل.
أمّا العلم، لا سيّما علم التاريخ والأديان، فإنّه نقل لنا أن لم يرحل نبيّ ولا رسول إلاّ كان له مِن بعده وصيّ، أثبت ذلك المسعودي في كتابٍ سمّاه (إثبات الوصيّة)، وروى أهل السنّة في مسلّمات أخبارهم أنّ بعض اليهود الذين أسلموا على يد رسول الله صلّى الله عليه وآله سألوه عن وصيّه، لأنّ مِن مسلَّمات الأديان الوصاية بعد النبوّة.. مثال ذلك قول نعثل للنبيّ صلّى الله عليه وآله بعد أن أجابه على أسئلته:
ـ صدقت، فأخبِرْني عن وصيّك مَن هو ؟ فما مِن نبيٍّ إلاّ وله وصيّ، وإنّ نبيَّنا موسى بنَ عمرانَ أوصى إلى يُوشَعَ بنِ نون، فأجابه النبيّ صلّى الله عليه وآله بقوله:
ـ «إنّ وصيّي عليُّ بن أبي طالب، وبعده سبطايَ الحسنُ والحسين، تتلوه تسعة أئمّةٍ مِن صُلب الحسين» (فرائد السمطين للجويني الشافعي 132:3 / ح 431 ـ بسنده عن مجاهد عن ابن عبّاس، وعن الفرائد: ينابيع المودّة لذوي القُربى للشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ المذهب 282:3 / ح 1 ـ الباب السادس والسبعون ).
ومثال آخر ما ورد من سؤال جندل بن جُنادة اليهودي بعد أن أسلم وقال: لله الحمد أسلمتُ وهداني بك ـ يا رسولَ الله ـ. ثمّ لم يكتفِ بذلك، بل عاد يطلب أمراً، حيث قال:
ـ أخبِرْني يا رسولَ الله عن أوصيائك مِن بعدك لأتمسَّكَ بهم. فأجابه رسول الله قائلاً:
ـ «أوصيائي الاثنا عشر... أوّلُهم سيّد الأوصياء أبو الأئمّة عليّ، ثمّ ابناه الحسن والحسين، فاستمسِكْ بهم ولا يَغُرَّنَّك جهلُ الجاهلين..»، فقال جندل:
ـ وجَدْناه في التوراة وفي كتب الأنبياء عليهم السلام: إيليا وشبراً وشبيراً، فهذه أسماء: عليٍّ والحسن والحسين، فمَن بعد الحسين ؟ وما أساميهم ؟
فعدّدهم له رسول الله صلّى الله عليه وآله بالأسماء والألقاب، من زين العابدين، إلى الإمام المهديّ صلوات الله عليهم أجمعين. (ينابيع المودّة 283:3 ـ 285 / ح 2 ـ عن: المناقب بإسناده عن واثلة بن الأسقع بن قرخاب، عن الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري.
فالعلم أخبر أنّ الوصاية أمرٌ ثابت، وسُنّة إلهية واقعة في جميع النبوّات والرسالات، وفي خصوص بعثة المصطفى صلّى الله عليه وآله جاءت واضحةً صريحة حين سأل بعض الصحابة مَن الوصي، ومن الخليفة، ومَن يكون بعد رسول الله، لعلمهم أنّ الأمّة ستكون في خطرٍ عظيمٍ إذا لم يكن بعد النبيّ وصيّ، حيث ستعمّ الفوضى، وتضطرب أمور الناس، وتظهر النزاعات والشقاقات، فلابدّ من شيءٍ يتثبّت عليه الناس، وهو النصّ القرآني ـ وقد جاء في آيات ـ، والنصّ المحمّدي ـ وقد جاء في عشرات، بل مئات الأحاديث والروايات: منها صريحة بكلمة وصيّ أو وصيّي وخليفة أو خليفتي، ووارثي، والهادي من بعدي.. ومنها بالمعنى بما أشار رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى مقامات الإمام عليّ عليه السلام ما يستدعي إمرتَه وخلافته لما ذكر النبيّ له من: خصائص وملكات، ومناقب وفضائل وامتيازات، ومواهب وعلامات، هذا منها ننقله بأمانةٍ عن كتب علماء أهل السنّة:
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «عليٌّ أصلي» (الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 63:3 / ح 4176، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي الشافعي 273:9 ـ قال: رواه الطبراني. الجامع الصغير للحافظ السيوطي الشافعي 176:2 / ح 5590، ينابيع المودّة 96:2 / ح 230 ـ الباب 56، كنز العمّال للمتّقي الهندي 602:11 / خ 32908، طبقات المحدّثين بأصبهان لابن حيّان الأنصاري 434:1 / الرقم 68 ).
• وقال صلّى الله عليه وآله: «عليٌّ منّي وأنا منه، ولا يقضي عنّي دَيني إلاّ أنا أو عليّ» (فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 594:2 / ح 1010 و 1023، سنن الترمذي 636:5/ ح 3719، السنن الكبرى للنَّسائي 45:5 / ح 8147 و ح 8146 هكذا: إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ مِن بعدي» كذلك في: فضائل الصحابة 605:2 / ح 1035 و 620 / ح 1060، وفي ح 1008 «رجلاً منّي»).
• وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «ما مِن نبيٍّ إلاّ وله نظيرٌ في أُمّته، وعليٌّ نظيري» (ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى لمحبّ الدين الطبري الشافعي:64 ـ قال: أخرجه أبو الحسن الخلعي. ورواه الديلمي في: الفردوس 40:4 / ح 6124، والذهبي الشافعي في: ميزان الاعتدال 261:11 / ح 467، وابن حجر المكّي الشافعي في: لسان الميزان 221:1 / ح 688، والقندوزي الحنفي في: ينابيع المودّة 240:2 / ح 674 ـ الباب 56 ).
• وأخرج المحبّ الطبري عن عبدالله بن الحرث قال: قلت لعليّ: أخبرني بأفضل منزلتك من رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: «نعم، بينا أنا نائم عنده وهو يصلّي، فلمّا فرغ من صلاته قال: يا عليّ، ما سألتُ اللهَ عزّوجلّ من الخير شيئاً إلاّ سألتُ لك مِثلَه، ولا استعذتُ اللهَ من الشرّ إلاّ استعذتُ لك مِثلَه» (ذخائر العقبى:61 ـ قال: أخرجه الإمام المحاملي ).
• وعن أمّ عطية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله بعث عليّاً في سريّة، قالت: فرأيتُه رافعاً يديه وهو يقول: «اَللهمَّ لا تُمتْني حتّى تُريَني عليّاً» (فضائل الصحابة 609:2 / ح 1039، سنن الترمذي 307:5 / ح 3820، المعجم الأوسط للطبراني 216:3 / ح 2453، ذخائر العقبى 94، أُسد الغابة لابن الأثير 26:4، الرياض النضرة للمحبّ الطبري 193:2، كفاية الطالب للگنجي الشافعي:134 ـ الباب 27، مناقب الإمام عليّ عليه السلام لابن المغازلي الشافعي:122 / ح 160، تاريخ مدينة دمشق ـ ترجمة الإمام عليّ عليه السلام لابن عساكر الدمشقي الشافعي 358:2 ـ 359 / ح 766 ـ 767).
• وعن واثلة بن الأصقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «الأمناء عند الله ثلاثة: جَبرئيل، وأنا وعليّ» (الفردوس 120:1 / ح 406، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 8:12).
ـ وعن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له: « يا أنس، أوّل مَن يدخل عليك مِن هذا الباب أميرُالمؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغُرّ المحجّلين». قال أنس: قلت اللهمّ اجعلْه رجلاً من الأنصار. وكتمتُه، إذ جاء عليّ، فقال: «مَن هذا يا أنس ؟!»، فقلت: عليّ. فقام مستبشراً فاعتنقه، ثمّ جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق عليٍّ بوجهه، قال عليّ: «يا رسول الله، لقد رأيتك صنعتَ شيئاً ما صنعتَ بي مِن قبل!»، قال: «وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي، وتُسمعهم صوتي، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي» (حلية الأولياء لأبي نعيم 63:1 ـ 64، قال: رواه جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن أنس نحوه).
• وروى الطبراني بإسناده عن ابن عبّاس، قال: كنّا نتحدّث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله عَهِد إلى عليٍّ سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره. (المعجم الصغير 69:2، تاريخ أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني 225:2، طبقات المحدّثين بأصبهان لابن حيّان الأنصاري 262:2، مجمع الزوائد 113:9، كفاية الطالب:291 ـ الباب 73).
ـ وروى الديلمي عن سلمان الفارسي مرفوعاً، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «صاحبُ سرّي عليّ بن أبي طالب» (الفردوس 403:2 / ح 3793، ينابيع المودّة 239:2 / ح 668 ـ الباب 56 ).
ـ وروى النسائي بإسناده عن عليّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له: «أمّا أنت يا عليّ فصَفِيّي وأميني» (السنن الكبرى 128:5 / ح 8458).
• وأراد وهب بن حمزة يوماً أن يتنقّص من شأن عليٍّ صلوات الله عليه، فنهاه رسول الله صلّى الله عليه وآله قائلاً له: «لا تقلْ هذا! فهو أَولى الناس بكم بعدي» ( المعجم الكبير 135:22 / ح 360، مجمع الزوائد 109:9، فيض القدير للمناوي الشافعي 357:4 ).
• وروى أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس بن مالك، قال: قلنا لسلمان: سَلِ النبيَّ مَن وصيُّه ؟ فقال له سلمان: يا رسول الله، مَن وصيُّك ؟ قال:
ـ «يا سلمان، مَن كان وصيَّ موسى ؟»، قال سلمان: يُوشَع بن نون، قال:
ـ «فإنّ وصيّي ووارثي، يقضي دَيني ويُنجز موعودي: عليُّ بن أبي طالب» (فضائل الصحابة 615:2 / ح 1052).
• وروى الطبراني بإسناده عن سلمان أيضاً أنّه قال: قلتُ لرسول الله صلّى الله عليه وآله:
ـ يا رسول الله، لكلِّ نبيٍّ وصيّ، فمَن وصيُّك ؟ فسكت عنّي، فلما كان بعد أن رآني قال: ـ «يا سلمان»، فأسرعتُ إليه، قلت: لبّيك، قال:
ـ «تعلم مَن وصيُّ موسى ؟!»، قلت: نعم، يُوشَع بن نون، قال:
ـ «لِمَ ؟!»، قلت: لأنّه كان أعلمَهم، قال:
ـ «فإنّ وصيّي وموضَع سرّي، وخيرَ مَن أترك بعدي، ويُنجز عِدَتي ويقضي دَيني: عليُّ بن أبي طالب» ( المعجم الكبير 221:6 / ح 6063، مجمع الزوائد 113:9 ـ 114).
• وروى نُعَيم بن حمّاد في (الفتن)، والطبراني في (المعجم الأوسط) بإسنادهما عن عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام أنّه قال: «قلت: يا رسول الله، المهديُّ منّا ـ أئمّةَ الهدى ـ أم مِن غيرنا ؟ قال:
ـ «بل منّا، بنا يُختَم الدين كما بنا فُتح، وبنا يُستنقَذون من ضلالة الشرك، وبنا يؤلِّف اللهُ بين قلوبهم في الدين بعد عداوة الفتنة كما ألّف الله بين قلوبهم ودينهم بعد عداوة الشرك» (الفتن 370:1، المعجم الأوسط 136:1 / ح 157، البيان للشافعي:125 ـ الباب 11، عقد الدرر للمقدسي الشافعي:46 ـ الباب 1، البرهان للمتقي الهندي:91 ـ الباب 2، شرح نهج البلاغة ج 9 / الخطبة 147، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي:297 ـ 298 / الفصل 12، نور الأبصار للشبلنجي الشافعي:188، إسعاف الراغبين لابن الصبّان المصري الشافعي: 145، ينابيع المودّة 392:2 / ح 33 ـ الباب 94).
• فيما أخرج علي الهمداني في (مودّة القربى:30)، والقندوزي في (ينابيع المودّة 318:2 / ح 915 ـ الباب 56 و 292:3 / ح 11 ـ الباب 77)عن ابن عباس مرفوعاً إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «إنّ الله فتح هذا الدينَ بعليّ، وإذا مات عليٌّ فسد الدين، ولا يُصلحه إلاّ المهدي!».
• وعن عبدالله بن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
ـ «يفتخر يومَ القيامة آدمُ بابنهِ شيث، وأفتخر أنا بعليّ بن أبي طالب» ( فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين، للجويني الشافعي 232:1 / ح 180).
• وروى الطبراني في ( المعجم الأوسط 152:1 / ح 190) عن أبي هريرة وجابر بن عبدالله الأنصاري، قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«عليُّ بن أبي طالبٍ صاحب حوضي يوم القيامة، فيه أكوابٌ كعدد النجوم، وسَعةُ حوضي ما بين الجابية إلى صنعاء».
هذا غَيض مِن فَيض، مما روته كتبُ أهل السنّة في فضائل أميرالمؤمنين عليٍّ عليه السلام، من مجلّدات وفصولٍ وأبواب ذكرت خصائصه وفرائده دون الصحابة جميعاً، ما ميّزته عنهم وفضّلته عليهم، وقدّمَتْه وأولَتْه ما لم يكن لسواه ولا يجوز لهم، فالخلافة ليست رهنَ آراء الناس وأمزجتهم ونزعاتهم، ولا تأتي بالانتخابات والترشيحات، فهذا يكون في النُّظُم الوضعيّة، لا الأصول الدينيّة، وإنّما النبوّات والوصايات والخلافة تكون بالتعيين الإلهيّ، وبأمرٍ من الله تعالى وتبليغٍ من رسوله، وكم مِن آيةٍ نزلت في ولاية الإمام عليٍّ عليه السلام فَهِمها وفسّرها علماء المسلمين فيه سلام الله عليه على ضوء ما ورد من أحاديث بيانية لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وكم نقل الرواة عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم من النصوص النورانيّة المباركة في فضائل عليٍّ وأفضليّاته، وفي تبليغه بولايته وإمامته، ما ملأ كتب الحديث ومجاميعه.. وقد عرضنا قليلاً من كثير، ونزراً من وفير.
بقيَ أن نسأل، أو نتساءل: ماذا يُراد من رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ بعد كلّ هذا ـ أن يقول أكثر مِن هذا؛ لتفهم الأمّة: أنّ عليّاً هو الأفضل مِن بينِ جميع صحابته، وأنّه الأَولى مِن بعده بخلافته ؟!