مع موسى الهادي:
تسلّم الهادي مقاليدَ الخلافة وهو في غضارة العمر فقد كان عمره 23 سنة، وقيل: 26 سنة، وكان سادراً في الطيش والغرور، متمادياً في الإثم والفجور، يشرب الخمر ويجاهر بالفسوق.
وقد أسرف في سفك دماء العلويّين، فأنزل بهم الظلم الصارم، وقد أجمع رأيه على التنكيل بالإمام موسى (عليه السلام)، إلاّ أنّ الله تعالى استجاب لدعاء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وقصم ظهره قبل أن يقوم بذلك.
ولم تذكر المصادر التاريخيّة أنّ الهادي استدعى الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى بغداد كما هو ديدن خلفاء الجور مع أهل البيت (عليهم السّلام)، ولعلّ المدّة القصيرة التي حكم بها والتي لم تتجاوز سنةً وشهراً وخمسة عشر يوماً، لم تسمح له بممارسة هذا الأُسلوب.
هلاك الهادي بدعاء الإمام:
روى ابن طاووس بالإسناد عن أبي الوضّاح محمّد بن عبد الله النهشليّ، قال: أخبرني أبي، قال: لمّا قُتل الحسين بن عليّ صاحب فخّ، وتفرّق الناس عنه، حُمل رأسه والأسرى من أصحابه إلى موسى بن المهديّ، فلمّا بصر بهم أنشأ يقول متمثّلاً:
بني عمِّنا لا تنطقوا الشِّعرَ بعدما دفنتُم بصحراء الغميمِ القوافيا
فلسنا كمَن كنتم تُصيبون نيلَه فنَقبلَ ضَيماً أو نُحكّمَ قاضيا
ولكنّ حُكمَ السيفِ فينا مسلَّطٌ فنرضى إذا ما أصبح السيفُ راضيا
وقد ساءني ما جرّتِ الحربُ بيننا بني عمِّنا لو كان أمراً مُدانيا
فإن قُلتمُ: إنّا ظُلِمنا، فلم نكن ظَلمْنا ولكنْ قد أسأنا التَّقاضيا
ثمّ أمر برجلٍ من الأسرى فوبّخه ثمّ قتله، ثمّ صنع مِثْل ذلك بجماعة من وُلْد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأخذ من الطالبيّين وجعل ينال منهم.. إلى أن ذكر موسى بنَ جعفر (عليه السلام) فنال منه. قال: واللهِ ما خرج حسينٌ إلاّ عن أمره، ولا اتّبع إلاّ محبّتَه؛ لأنّه صاحب الوصيّة في أهل هذا البيت، قتلني الله إن أبقيتُ عليه!
فقال له أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ـ وكان جريئاً عليه: يا أمير المؤمنين، أقولُ أم أسكت ؟ فقال: قتلني الله إن عفوتُ عن موسى بنِ جعفر، ولولا ما سمعته من المهديّ، فيما أخبر به المنصور، بما كان به جعفرٌ من الفضل المبرَّز عن أهله في دينه وعلمه وفضله، وما بلغني من السفّاح فيه من تقريظه وتفضيله، لنبشتُ قبرَه وأحرقتُه بالنار إحراقاً!
فقال أبو يوسف: نساؤه طوالق، وعتقَ جميعَ ما يملك من الرقيق، وتصدّق بجميع ما يملك من المال، وحبس دوابّه، وعليه المشي إلى بيت الله الحرام، إن كان مذهب موسى بنِ جعفر الخروج، لا يذهب إليه، ولا مذهب أحدٍ من وُلْده، ولا ينبغي أن يكون هذا منهم.
ثمّ ذكر الزيّدية وما ينتحلون، وقال: وما كان بقيَ من الزيديّة إلاّ هذه العصابة، الذين كانوا قد خرجوا مع حسين بن عليّ، وقد ظفر أمير المؤمنين بهم. ولم يزل يرفق به حتّى سكن غضبه.
قال: وكتب عليّ بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بصورة الأمر، فورد الكتاب، فلمّا أصبح (عليه السلام) أحضر أهلَ بيته وشيعته، فأطْلَعهم أبو الحسن (عليه السلام) على ما ورد عليه من الخبر، وقال لهم: ما تشيرون في هذا ؟
فقالوا: نشير عليك ـ أصلحك الله ـ وعلينا معك، أن تُباعِدَ شخصَك عن هذا الجبّار، وتُغيّب شخصَك دونه؛ فإنّه لا يُؤمَن شرُّه وعاديته وغشمه، سيّما وقد توعّدك وإيّانا معك.
فتبسّم موسى (عليه السلام) ثمّ تمثل ببيت كعب بن مالك أخي بني سلمه، وهو:
زعمَتْ سَخينةُ أن ستَغلبُ ربَّها فَلَيُغْلبَنَّ مُغالِبُ iiالغُلاّبِ
ثمّ أقبل على مَن حضره من مُواليه وأهل بيته، فقال: ((ليفرخْ رَوعكم، إنّه لا يَرِد أوّلُ كتاب من العراق إلاّ بموت موسى بن المهديّ وهلاكه.
فقالوا: وما ذلك ـ أصلحك الله ؟!
فقال: سنح لي جدّي رسولُ الله صلّى الله عليه وآله في منامي، فشكوتُ إليه موسى بن المهديّ، وذكرت ما جرى منه في أهل بيته عليهم السّلام وأنا مشفقٌ من غوائله. فقال لي: لِتطبْ نفسُك يا موسى، فما جعل الله لموسى [ أي ابن المهديّ ] عليك سبيلاً. فبينما هو يحدّثني إذ أخذ بيدي وقال لي: قد أهلك اللهُ آنفاً عدوَّك، فليحسنْ لله شكرُك.
ثمّ استقبل أبو الحسن (عليه السلام) القِبلة، ورفع يديه إلى السماء يدعو، وكان خاصّته من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح أبنوس لطاف وأميال ( للكتابة )، فإذا نطق أبو الحسن (عليه السلام) بكلمة أو أفتى في نازلةٍ أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك، فسمعناه وهو يقول في دعائه: شكراً لله جلّت عظمته.. إلهي كم من عدوٍّ انتضى علَيَّ سيفَ عداوته... إلى آخر الدعاء ـ وهو دعاء طويل جليل المضامين، وهو المسمّى بدعاء ( الجو شن الصغير ).
ثمّ أقبل علينا مولانا أبو الحسن (عليه السلام) وقال: سمعتُ أبي يحدّث عن أبيه، عن جدّه أنّه سمع رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقول: اعترفوا بنعمة الله عليكم، وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم؛ فإنّ الله يحبّ الشاكرين من عباده)).
وتفرّق القوم.. فما اجتمعوا إلاّ لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى بن المهديّ، والبيعة لهارون الرشيد.
وفي ذلك يقول بعض مَن حضر موسى بن جعفر (عليه السلام) من أهل بيته، يصف تلك الدعوة وسرعة إجابتها:
وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تبتغي محلاًّ، ولم يقطع بها العبدَ قاطعُ
تمرّ وراءَ اللّيل واللّيلُ ضاربٌ بجثمانه فيه سميرٌ وهاجعُ
تَفتّحُ أبوابُ السماء ودونها إذا قرع الأبوابَ منهنّ قارعُ
إذا وردت لم يَرْددِ اللهُ وفدَها على أهلها، واللهُ راءٍ وسامعُ
وإنّي لأرجو اللهَ حتّى كأنّما أرى بجميل الظنّ ما اللهُ صانعُ
وهكذا مات الطاغية قبل أن ينال الإمامَ (عليه السلام) بسوء، وانطوت بموته صفحة سوداء من تاريخ بني العباس، وذلك في الرابع عشر من ربيع الأوّل سنة 170 هـ.
مع هارون الرشيد:
تولّى بعد الهادي أخوه هارونُ المعروف بالرشيد، ودام حكمه 23 سنة وشهرين وتسعة وعشرين يوماً، استُشهد الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد مضي 15 سنة من مُلك هارون الرشيد تقريباً، وذلك سنة 183 هـ، وقيل: سنة 186 هـ.
قال البغداديّ وابن خلِّكان: وأقام موسى الكاظم (عليه السلام) بالمدينة إلى أيّام هارون الرشيد، وتقدّم هارون منصرفاً من عُمرة شهر رمضان سن 179 هـ، فحمل موسى معه إلى بغداد، وحبسه بها إلى أن تُوفّي في محبسه.
وكانت السنون التي قضاها الإمام (عليه السلام) في عهد الرشيد أسوأَ ما مرّ به في حياته، فقد سخّر الرشيد كافّة أجهزته القمعيّة لمراقبة الإمام والنيل منه، واستدعاه أكثر من مرّة إلى بغداد في مطلع خلافته وهو حاقد عليه، وكان يضعه في سجنه ثمّ يأمر بإطلاقه بعد مدّة من الزمن، وأحياناً كان يتظاهر بإكرامه وتعظيمه؛ دجلاً ونفاقاً.
خباره (عليه السلام) مع الرشيد:
1 ـ عن عبد الرحمن بن صالح الأزديّ، قال: حجّ هارون الرشيد، فأتى قبرَ النبيّ صلّى الله عليه وآله زائراً له، وحوله قريشٌ وأوفياء القبائل، ومعه موسى بن جعفر، فلمّا انتهى إلى القبر قال: السّلام عليك يا رسول الله، يا ابنَ عمّي. افتخاراً على من حوله، فدنا موسى بن جعفر فقال: ((السّلام عليك يا أبه)). فتغيّر وجه هارون وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقّاً!
2 ـ وفي كامل الزيارات: عن عدّة من أصحابنا، عن سهل، عن عليّ بن حسّان، عن بعض أصحابنا، قال: حضرت أبا الحسن الأوّل (عليه السلام) وهارون الخليفة، وعيسى بن جعفر، وجعفر بن يحيى بالمدينة، وقد جاءوا إلى قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله.
فقال هارون لأبي الحسن (عليه السلام): تقدّم. فأبى، فتقدّم هارون فسلّم وقام ناحية. فقال عيسى بن جعفر لأبي الحسن (عليه السلام): تقدّم. فأبى، فتقدّم عيسى، فسلّم، ووقف مع هارون.
فقال جعفر لأبي الحسن (عليه السلام): تقدّم. فأبى، فتقدّم جعفر، فسلّم، ووقف مع هارون.
وتقدّم أبو الحسن (عليه السلام) فقال: (( السّلام عليك يا أبه، أسأل اللهَ الذي اصطفاك واجتباك وهداك، وهدى بك، أن يُصلّيَ عليك )).
فقال هارون لعيسى: سمعتَ ما قال ؟! قال: نعم.
قال هارون: أشهد أنّه أبوه حقّاً.
3 ـ وفي الاختصاص: عن عبد الله بن محمّد السائيّ، عن الحسن بن موسى، عن عبد الله بن محمد النهيكيّ، عن محمّد بن سابق بن طلحة الأنصاريّ، قال: كان ممّا قال هارون لأبي الحسن (عليه السلام) حين أُدخل عليه: ما هذه الدار ؟ ( مشيراً إلى دار الدنيا ) فقال (عليه السلام): ((هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: ( سَأصْرِفُ عَنْ آياتيَ الَّذينَ يَتَكَبَّرونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنوا بِها وَإنْ يَرَوْا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذوهُ سِبيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبيلَ الغَيِّ يَتَّخِذوهُ سَبيلاً )، الآية.
فقال له هارون: فدارُ مَن هي ؟ قال: هي لشيعتِنا فترة، ولغيرهم فتنة.
قال: فما بالُ صاحب الدار لا يأخذها ؟
فقال: أُخِذت منه عامرة، ولا يأخذها إلاّ معمورة.
قال: فأين شيعتك ؟ فقرأ أبو الحسن (عليه السلام): ( لَمْ يَكُنِ الَّذينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ وَالمُشْرِكينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأتِيَهُمُ البَيِّنَة ).
قال: فقال له: فنحن كفّار ؟ قال: لا، ولكنْ كما قال الله)): ( الَّذينَ بَدَّلوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ البَوارِ ).
فغضب عند ذلك هارون وغلظ عليه، فقد لقيه أبو الحسن (عليه السلام) بمثل هذه المقالة، وما رهبه، وهذا خلاف قول مَن زعم أنّه هرب منه من الخوف.
4 ـ وفي كتاب( أخبار الخلفاء ): أنّ هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر (عليه السلام): خُذ فدكاً حتّى أردَّها إليك. فيأبى، حتّى ألحّ عليه، فقال (عليه السلام): ((لا آخذها إلاّ بحدودها، قال: وما حدودها ؟ قال: إن حددتُها لم تردّها، قال: بحقّ جدّك إلاّ فعلت.
قال: أمّا الحدّ الأوّل فعَدَن. فتغيّر وجه الرشيد، وقال: إيهاً!
قال: والحدّ الثاني سمرقند. فاربدّ وجهه.
قال: والحدّ الثالث إفريقية. فاسودّ وجهه، وقال: هيه!
قال: والرابع سِيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية.
قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شيء، فتحوّلْ إلى مجلسي!
قال موسى (عليه السلام): قد أعلمتُك أنّني إن حددتُها لم تردَّها)).
فعند ذلك عزم الرشيد على قتله.
وفي رواية ابن أسباط أنّه قال: أمّا الحدّ الأوّل: فعريش مصر، والثاني: دومة الجندل، والثالث: أُحد، والرابع: سِيف البحر.
فقال: هذا كلّه! هذه الدنيا ؟!
فقال (عليه السلام): ((هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة، فأفاء الله على رسوله بلا خيل ولا ركاب، فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة عليها السّلام)).
الوشاية به (عليه السلام):
لقد كان الحقد من مقوّمات ذات الرشيد، ومن أبرز صفاته النفسيّة، فكان يحمل حقداً لكلّ شخصيّة مرموقة لها المكانة العليا في عصره، فلم يَرُقْ له ـ بأيّ حالٍ ـ أن يسمع الناسَ وهم يتحدّثون عن شخصٍ يتمتّع بمكانة عليا في المجتمع، وذلك لئلاّ يزهدَ الناس فيه، ولكي يحتكر التعاليَ والعظمة والأولويّة لنفسه ولذاته، كما هو دأب الطغاة في كلّ عصر، فقد حسد الرشيدُ البرامكةَ لمّا ذاع صيتهم، فلم يشفِ شأفة نفسه وحرارة حقده إلاّ باستئصالهم وإزالة وجودهم من الأرض.
وكان من الطبيعي أن يحقد الرشيد على الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)؛ لأنّه ألمع شخصية في عصره علماً وتقوىً وزهداً وخلقاً، فقد تناقل الناس فضائله وتحدّثت جميع الأوساط عن علمه ومواهبه، وذهب جمهورٌ غفير من المسلمين إلى إمامته وأنّه أحقُّ بمنصب الخلافة من هارون.. حتّى إنّ هارون نفسه كان يُقرّ ذلك ويقول لولده المأمون: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفته على عباده، واللهِ ـ يا بُنيّ ـ إنّه أحقّ بمقام رسول الله منّي ومن الخَلْق جميعاً، واللهِ لو نازعتَني هذا الأمر لأخذتُ الذي فيه عيناك، فإنّ المُلْك عقيم!
وقال مرّة له: يا بُنيّ، هذا وارث علم النبيّين، هذا موسى بن جعفر، إن أردتَ العلمَ الصحيح فعند هذا.
وقد أُضيف لشخصيّته الحاقدة شهوتُه للمُلك وحبّه للسلطان؛ الذي يضحّي في سبيله بجميع القيم والمقدّسات، فكيف تطيب نفسه وقد رأى الناسَ قد أجمعوا على حبّ الإمام الكاظم (عليه السلام) وتقديره!
ويضاف لذلك أيضاً أنّه كان مبغِضاً للعلويّين، وقد ورث العداءَ لهم من آبائه وسلفه الذين نكّلوا بهم، وساموهم وابلاً من العذاب، وساقوهم إلى السجون والقبور، فكان أبغضَ شيءٍ على الرشيد أن يرى عميدَ العلويّين وسيّدهم الإمامَ موسى الكاظم (عليه السلام) في دعةٍ واطمئنان دون أن ينكّل به ويودعَه السجن حتّى الموت.
وكان عمدَ فريقٌ من باعة الضمير والدِّين إلى السعي بالإمام الكاظم (عليه السلام) والوشاية به عند هارون؛ ليتزلّفوا إليه، وينالوا من حطام دنياه النّزْرَ اليسير، بدعوى أنّ الإمام تُجبى له الأموال الطائلة من شتّى ديار الإسلام، وأنّه يدعو لنفسه بالخلافة ويكتب إلى سائر الأمصار الإسلاميّة يدعوهم إلى نفسه، وما إلى ذلك من البهتان والكذب.
المواقف السياسيّة للإمام موسى الكاظم (عليه السلام)
(مؤسسة شهيد المحراب)
لقد عاصر الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) في فترة حياته الشريفة أربعةً من طواغيت زمانه وجبابرة عصره من بني العباس السفّاحين.
عاش ردحاً من الزمن معاصراً للمنصور الدوانيقي، الذي ما تورّع في إبادة أُمّة في سبيل تثبيت عرش بني العبّاس، ولمّا هلك تربّع على العرش العباسي ابنُه محمّد المهديّ، وسار على منهج سلفه في القتل وسفك دماء المسلمين، بل زاد على ما فعله أبوه، وبعد هلاكه خلفه الطاغيةُ الشابّ النزق السفّاح موسى الهادي العباسيّ، ولم يطل به المقام حتّى هلك، فخلفه أخوه الطاغية الجبّار هارون الرشيد، الذي زاد في الظلم والجور وسفك دماء المؤمنين على نهج أسلافه الطغاة الظَلَمة، حتّى قضى الإمام الكاظم (عليه السلام) مسموماً شهيداً في سجن المجرم السفّاح السنديّ بن شاهَك ( عليه وعلى أسياده لعنة الله ولعنة اللاعنين ).
وخلال هذه الفترة المتمادية من السنين، تحمّل الإمام (عليه السلام) صنوف الإرهاب السياسيّ، والفكريّ والعذاب النفسيّ والجسديّ، ما لا تتحمّله الجبال الرواسي.
وقد واجه الإمام (عليه السلام) كلّ تلكم المآسي التي تنهدّ لهولها الجبال، بعزمٍ ثابت وإرادةٍ لا تلين، وبتصميمٍ راسخ لا تزعزعه العواصف، ولا تزيله القواصف، موطّناً نفسه على مواجهة وتحمّل كلّ الصعاب التي مارسها حكّام الجور ضدّه، وضدّ العلويّين من آله، كما شمل ذلك العنت والعذاب أصحابَه البررة والموالين المنتسبين لمدرسة أهل البيت عليهم السّلام، وقد صمّم (عليه السلام) على مواجهة كلّ ما يستجدّ من جور الحكّام العباسيّين، وتابعيهم من محنٍ ومآسٍ في سبيل ترسيخ دعائم شريعة الإسلام، وما جاء به جدُّه المصطفى (صلوات الله عليه وآله)، حتّى ظهور المنقذ الأعظم للبشرية، وحتّى يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين.
اتّخذ الإمام الكاظم (عليه السلام) موقف المعارض في التعامل مع السلطة الحاكمة وأجهزتها، فقد كان يبدي التحفّظات في ممارسة أيّ عمل للنظام الحاكم، وكان يندّد بمواقف بعض المتملّقين للحكم والعاملين في أجهزته.
وتتّضح دعوته (عليه السلام) في تحريم التعاون مع الحكم في أيّ مجال من المجالات خلال حواره مع صفوان الجمّال، فقد روى الكشّيّ عن حمدَوَيه قال: حدّثني محمّد بن إسماعيل الرازيّ، قال: حدّثني الحسن بن عليّ بن فضّال، قال: حدّثني صفوان بن مهران الجمّال، قال: دخلت على أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) فقال لي: ((يا صفوان، إنّ كلّ شيءٍ منك حَسَن جميل ما خلا شيئاً واحداً، قلت: جُعلت فداك، أيّ شيء ؟
قال: إكراؤُك جِمالَك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ قلت: واللهِ ما أكريتُه أشَراً ولا بَطَراً ولا للصيد ولا للّهو، ولكنّي أكريتُه لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاّه، ولكن أبعثُ معه غلماني.
فقال لي: يا صفوان، أيقع إكراؤك عليهم ؟ قلت: نعم، جعلت فداك. فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك ؟ قلت: نعم. قال: فمَن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وارداً النار)).
قال صفوان: فذهبتُ وبِعت جِمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني، وقال: يا صفوان، بلغني أنّك بِعتَ جِمالك ؟ قلت: نعم. فقال: لِمَ ؟ قلت: أنا شيخ كبير، وإنّ الغلمان لا يَفُون بالأعمال. فقال: هيهات هيهات! إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار موسى بن جعفر. قلت: مالي ولموسى بن جعفر. فقال: دَعْ هذا عنك، فو اللهِ لولا حُسن صُحبتك لَقتلتُك.
وثمّة موقف آخر أعرب فيه الإمام الكاظم (عليه السلام) عن نقمته، وسخطه الشديدين على حكومة هارون، ودعوته إلى حرمة التعاون معهم بأيّ شكلٍ كان، وقد منع (عليه السلام) الركونَ إليهم مستشهداً بقوله تعالى: ( وَلا تَرْكَنوا إلى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ )، وقد حرّم على المسلمين الميل إليهم، وأكّد على ضرورة مقاطعتهم، حتّى لو كان ذلك مستلزماً التخلّي عن بعض المصالح الشخصيّة، كما حذّر أصحابه من الدخول في أجهزة الدولة، أو قبول أيّ وظيفة من وظائفها، أو الانضمام إلى أجهزتها، ويتّضح ذلك في موقفه من زياد بن أبي سلمه، قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام)، فقال لي: ((يا زياد، إنّك لتعمل عمل السلطان ؟ قال: قلت: أجل. قال لي: ولِمَ ؟
قلت: أنا رجل لي مروّة وعلَيَّ عيال، وليس وراء ظهري شيء. فقال لي: يا زياد، لأن أسقطَ من حالق فأتقطّع قطعةً قطع، أحبُّ إليّ من أن أتولّى لأحدٍ منهم عملاً، أو أطأ بساطَ رجلٍ منهم، إلاّ لماذا ؟ قلت: لا أدري، جعلت فداك.
قال: إلاّ لتفريج كربةٍ عن مؤمن، أو فكّ أسْره أو قضاء دَينه. يا زياد، إنّ أهون ما يصنع الله بمن تولّى لهم عملاً أن يضرب عليه سُرادقَ مِن نار إلى أن يفرغ اللهُ من حساب الخلائق.
يا زياد، فإن وُلّيتَ شيئاً من أعمالهم، فأحسِنْ إلى إخوانك، فواحدة بواحدة، واللهُ من وراء ذلك.
يا زياد، أيّما رجل منكم تولّى لأحدٍ منهم ثمّ ساوى بينكم وبينهم، فقولوا له: أنت منتحلٌ كذّاب.
يا زياد، إذا ذكرتَ مقدرتك على الناس، فاذكرْ مقدرةَ الله عليك غداً، ونفادَ ما أتيتَ إليهم عنهم، وبقاءَ ما أتيتَ إليهم عليك)).
وقد استثنى الإمام الكاظم (عليه السلام) ـ ولمصالح خاصّة ـ أحدَ أصحابه الكبار أن يتولّى منصب الوزارة أيّام هارون ومِن قبلها منصبَ أيّام المهديّ، ألا وهو عليّ بن يقطين، وقد تقدّم إلى الإمام (عليه السلام) مرّاتٍ عديدةً يطلب منه الإذن في ترك منصبه والاستقالة منه، فنهاه (عليه السلام) عن ذلك.
ففي كتاب ( قضاء حقوق المؤمنين ) لأبي عليّ بن طاهر، قال: استأذن عليُّ بن يقطين مولايَ الكاظمَ (عليه السلام) في ترك عمل السلطان، فلم يأذن له، وقال:(( لا تفعل، فإنّ لنا بك أُنساً، ولإخوانك بك عزّاً، وعسى أن يَجبرَ بك كَسْراً، ويكسرَ بك نائرةَ المخالفين عن أوليائه.
يا عليّ، كفّارةُ أعمالكم الإحسانُ إلى إخوانكم، اضمنْ لي واحدةً وأضمن لك ثلاثة، إضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلاّ قضيتَ حاجتَه، وأكرمتَه، وأضمن لك أن لا يظلَّك سقفُ سجن أبداً، ولا ينالَك حدُّ سيف أبداً، ولا يدخلَ الفَقرُ بيتَك أبداً.
يا عليّ، مَن سرّ مؤمناً فبالله بدأ، وبالنبيّ صلّى الله عليه وآله ثنّى، وبنا ثلّث)).
وفي الكافي والتهذيب بالإسناد عن إبراهيم بن أبي محمود، عن عليّ بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): ما تقول في أعمال هؤلاء ؟ قال: ((إن كنتَ لابدّ فاعلاً فاتّقِ أموالَ الشيعة)). قال: فأخبرني عليٌّ أنّه كان يَجْبيها من الشيعة علانيةً، ويردّها عليهم في السرّ.
وفي قرب الإسناد، بالإسناد عن عليّ بن يقطين: أنّه كتب إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام): إنّ قلبي ممّا أنا عليه من عمل السلطان ـ وكان وزيراً لهارون ـ فإن أذِنتَ لي ـ جعلني الله فداك ـ هربتُ منه. فرجع الجواب: ((لا آذنُ لك بالخروج من عملهم، واتّقِ الله،)).
وموقف عليّ بن يقطين في طلب الإذن يتأتّى من تفهّمه لموقف الإمام (عليه السلام) من السلطة ودعوته إلى مقاطعتها، أمّا موقف الإمام (عليه السلام) فينطلق من مصالح خاصّة ذكرها في حديثه الأول..
وحرب المقاطعة، ومعارضة الإمام الكاظم (عليه السلام) الصارمة التي التزمها وألزم بها أصحابه وندّد على المخالفين لمضمونها، كانت تهدف إلى إضعاف الروابط العمليّة بين السلطان والرعيّة، وبذلك يفقد السلطان مؤهّلاتِ إقامة دولته، وتركيز بناء حُكمه، وتتهيّأ الأرضية لإنهاء تماسك أجهزة الحكم، وشلِّ حركتها من الداخل، وهو أمضى سلاح يواجهه الحاكمُ الظالم، فحين تمتنع الطاقات عن عطائها للحكم، وتكفّ الجماعة يدها عن العمل له وحماية مكاسبه، تتقلّص قدرتُه ويتداعى بناء أجهزته الظالمة.
إنّ مقاطعة الحكم التي اعتمدها الإمام (عليه السلام) في حربه الباردة ضدّ الحكم، كانت ثورةً عمليّة ضدّ النظام ذاتَ أبعاد سياسيّة عميقة، وكان نجاحها يتوقّف على نسبة الدعم الذي تقوم به الأُمّة في مقاطعتها العمليّة ضدّ الحكْم القائم وفق التكليف المرسوم لها من قِبَل الإمام (عليه السلام)، غير أنّ افتقاد الأُمّة لمقوّمات المقاطعة والركون إلى الحكّام الظَلَمة لأجل مصالحها الذاتية، فوّت الفرصة، وقلّص من آثار المعارضة.
ولم يكن الإمام الكاظم (عليه السلام) بما يملك من علمٍ خاصٍّ ومعرفةٍ بالواقع العامّ لمختلف فئات الأُمّة ـ بعيداً عن رؤيا النتائج الواقعيّة لهذا التحرّك، ولكنّه (عليه السلام) أراد أن يقدّم للأُمّة الأطروحة العمليّة في مواجهة الظلم ومقاومة نفوذه، بما يتّفق وظروف تلك المرحلة، وبما ينسجم مع مسؤوليّاته الرساليّة في النُّصح للأُمّة وتسديدها عند اشتباه الحقّ والتباس معالم الهدى والصلاح، وعلى الأُمّة بعد هذا أن تختار لنفسها المصيرَ الذي تشاء، فإمّا الاستجابة والعمل.. وبذلك تنتصر لرسالتها وحقّها في الحياة الكريمة، وإمّا الرضا والخنوع للواقع المعاش.. وبذلك تكون قد فرضت على نفسها أن تعيش بعيداً عن رسالتها تحت ظلّ القمع والظلم والإرهاب.
موقف السلطة من الإمام (عليه السلام):
لقد عانى الإمام الكاظم (عليه السلام) من تجاوزات الحكم وتصرّفاته الحاقدة، ولم يكن ثمّة ما يبرّر كلّ تلك التجاوزات والتصرّفات سوى قلق رؤوس السلطة، وأزلامهم من وجود الإمام نفسه بما يتمتّع به من سموّ شخصيّته العلمية والروحية الفذّة، التي تمتاز بالنزاهة والأصالة، وعمق الإيمان في مختلف الأوساط العامّة.
وقد حاول الرشيد ـ بما يمتلك من مخطّط تصفويّ ـ أن يفتعل الأعذار والمبرّرات للوقيعة بالإمام والتخلّص منه؛ حتّى لا يواجه الأُمّة بالجريمة دون أن يكون لها مقدّماتها، وكان الإمام (عليه السلام) يتصدّى لمحاولات التصفية بالصبر وكظم الغيظ.
لقد استُدعي الإمامُ (عليه السلام) ـ ولأكثر من مرّة ـ إلى بغداد في زمان المهديّ العبّاسيّ، ومِن بعده في زمان الرشيد، وذلك لتقليص نفوذه في الأُمّة وعزلِه بعيداً عن وجدانها وتفكيرها.
فحينما يشعر الآخرون بالرقابة تُفرَض على الإمام بقوّة، والملاحقة تستمرّ بعنف، لا يسعهمّ ـ انسجاماً مع حبّ السلامة والعافية ـ إلاّ أن يقلّصوا من ارتباطهم به ويَحدّوا من ممارساتهم العادية معه (عليه السلام).
ولم يكن الرشيد ليجهل موقف الإمام الكاظم (عليه السلام) وتركَه طلبَ الرئاسة، بل لقد صرّح الرشيد مرّةً ببراءة الإمام عن كلّ ما يُرمى به من قِبل الوشاة، حيث قال: الناس يحملوني على موسى بن جعفر، وهو بريء ممّا يُرمى به. ولكنّها عقدته من النجاحِ الهائل الذي لقيه الإمام (عليه السلام)، وتأثّر الناس بسيرته الصالحة في مختلف أوساط الأُمّة، ومحبّتهِ التي عمرت قلوبَ الناس، وصلابته في موقف الحقّ، وتفوقه بالعلم ومكارم الأخلاق، كلُّ ذلك جعل منه (عليه السلام) في نظر الرأي العامّ المسلم البديلَ المتعيَّن لعناصر الخلافة الظالمة. أضِفْ إلى ذلك أنّ مقاطعة الإمام الكاظم (عليه السلام) في التعاون مع الحكم وعدم التعاطف مع مواقفه المشبوهة، كلّ ذلك جعل الإمام (عليه السلام) في تصوّرات الرشيد وسابقيه منافساً خطيراً وخصماً عنيداً دون أن تبدو منه (عليه السلام) أيُّ بادرة ظاهرة تصطدم مع هيكل الحكم.
وفيما يلي نستعرض مواقف الحكّام الذين عاصرهم، وما جرى له معهم:
مع المنصور:
لقد دامت فترة تولّي الإمام الكاظم (عليه السلام) الإمامةَ في عهد المنصور نحو عشر سنوات، شاهد قبلها موقفَ المنصور مع أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) الذي اتّخذ من النظام الحاكم موقفاً معارضاً، ورغم ذلك فقد تعرّض مراراً لتحدّيات المنصور وتهديده له بالقتل تارةً وبالحبس أُخرى، وكان يراقبه من خلال عيونه وجواسيسه، حتّى اضطُرّ الإمام الصادق (عليه السلام) إلى التستّر بالنصّ على الإمام بعده إلاّ إلى خُلّص أصحابه، وأوصاهم بالحذر والكتمان من جواسيس المنصور وزبانيته، بل وأوصى الإمام (عليه السلام) من بعده إلى خمسة أشخاص ـ وقيل إلى ثلاثة أشخاص ـ حذراً على الإمام الذي بعده وعلى شيعته.
وشاهد الإمام الكاظم (عليه السلام) أيضاً بني عمّه من الحسنيّين وما حلّ بهم من الرزايا والنكبات، ظلماً وعدواناً وقتلاً وتشريداً. هكذا استقبل الإمامُ الكاظم (عليه السلام) إمامتَه في عهد المنصور العباسيّ، فانطوت نفسه الزكيّة على الحزن العميق والأسى المرير، وتجرّع مرارةَ تلك الأحداث القاسية محتسباً كاظماً للغيظ.
لقد كان الإمام الكاظم (عليه السلام) يقدّر حراجة الموقف الذي مرّ به وهو في مقتبل إمامته، فكان (عليه السلام) حريصاً على التزام جانب الحذر والكتمان إلاّ من خاصّته وخُلّص أصحابه، ولم ينضمّ إلى الثوّار من العلويّين لعلمه بفشل حركتهم وعدم نجاحها، وكان (عليه السلام) يتّقي شرَّ العباسيّين ولا يسمح لشيعته ومُريديه الاتّصالَ به بشكل علنيّ، حتّى إنّ الرواة من خلّص أصحابه كانوا يكنّون عنه بالعبد الصالح، والعالِم، والسيّد، والرجل، وأبي إبراهيم.. وغير ذلك؛ حذراً وتوقّياً من فتك السلطة.
ورغم أنّ الإمام (عليه السلام) قد اتّخذ كافّة الاحتياطات الكفيلة بأن تَقِيَه وأصحابَه من شرّ الحكّام الظلمة من القتل والحبس والتشريد في زمان المنصور، إلاّ أنّ عيون المنصور كانت تراقبه بدقّة وتحصي عليه وعلى أصحابه أنفاسهم، ففي حديث هشام بن سالم الذي تحيّر في الاهتداء إلى الإمام بعد الصادق (عليه السلام)، فلمّا دُلّ على الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك، إنّ أخاك عبد الله يزعم أنّه الإمام من بعد أبيه ؟ فقال: ((عبد الله، يريد أن لا يُعبَدَ الله! قال: قلت: جُعلت فداك، فمَن لنا مِن بعده ؟ فقال: إن شاء الله أن يهديَك هداك. قلت: جعلت فداك، فأنت هو ؟ قال: لا أقول ذلك. قال: فقلت في نفسي: إنّي لم أعرف طريق المسألة، ثمّ قلت له: جعلت فداك، أعليك إمام ؟ قال: لا.
قال: فدخلني شيء لا يعلمه إلاّ الله تعالى؛ إعظاماً له وهيبة، ثمّ قلت له: جعلت فداك، أسألك عمّا كنت أسأل أباك ؟ قال: سَل تُخبَرْ، ولا تُذِع، فإن أذعتَ فهو الذَّبْح!.))
وهكذا، فإنّ انقطاع الإمام واعتصامه في بيته ومزاولته أعمالَه الخاصّة واعتزاله الناسَ إلاّ خواصَّ أصحابه، جعل المنصورَ لا يراه خطراً على عرشه، فكفّ عنه الأذى والمكروه حيناً، سيّما وأنّ بعض الشيعة كانوا قد التفّوا حول أخيه عبد الله الأفطح، وبعضهم قد رجع إلى القول بإمامة أخيه إسماعيل المتوفّى في حياة أبيه (عليه السلام)، وقد بدت نتائج احتياطات الإمام الكاظم (عليه السلام) واضحةً خلال حُكم المنصور، الذي سام العلويّين أشَدّ أنواع التعذيب والجور والسجن والقتل، ورغم ذلك فإنّه لم يتعرّض للإمام بالاستدعاء إلى بغداد ـ مثلاً ـ كما كان يستدعي أباه الصادقَ (عليه السلام) ويتهدّده بالقتل، ولا تعرّض (عليه السلام) للحبس مِن قِبله كما تعرّض له في أيّام المهديّ والرشيد بعد أن اشتهر أمرُه وذاع صِيته وتوسّعت قاعدته والتفّتْ حوله جماهيرُ الشيعة ورجع إليه من شذّ منهم إلى غيره.
ولولا تلك التدابير التي اتّخذها الإمام وأبوه (عليهما السّلام) لكان مصيره القتلَ على يد المنصور الجائر، ويتّضح ذلك من خلال رسالة المنصور إلى واليه على المدينة محمّد بن سليمان حين أخبره بوفاة الصادق (عليه السلام) والتي يقول فيها: إن كان أوصى إلى رجلٍ بعينه فقدّمْه واضربْ عنُقَه، وعاد الجواب: قد أوصى إلى خمسة أحدُهم أبو جعفر المنصور، ومحمّد بن سليمان، وعبد الله وموسى وحميدة. فقال المنصور: ما إلى قتل هؤلاءِ سبيل!
ولعلّ هذه الوصيّة هي التي ساهمت أيضاً إلى حدٍّ ما في بقاء الإمام الكاظم (عليه السلام) بعيداً عن مخالب المنصور العباسيّ، ولو إلى حين.
أخباره (عليه السلام) مع المنصور:
1 ـ روى ابن شهر آشوب أنّه حُكِي أنّ المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز، وقبضِ ما يُحمَل إليه، فقال (عليه السلام): ((إنّي قد فتّشت الأخبار عن جَدّي رسولِ الله صلّى الله عليه وآله فلم أجد لهذا العيد خبراً، وإنّه سنّة للفرس ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أن نُحييَ ما محاه الإسلام.
فقال المنصور: إنّما نفعل هذا سياسيةً للجند، فسألتك بالله العظيم إلاّ جلست. فجلس ودخلت عليه الملوك والأُمراء والأجناد يُهنّونه، ويحملون إليه الهدايا والتحف وعلى رأسه خادم المنصور يُحصي ما يُحمَل.
فدخل في آخر الناس رجلٌ شيخٌ كبير السنّ، فقال له: يا ابن بنت رسول الله، إنّني رجل صُعلوك لا مال لي، أُتحفك بثلاثة أبيات قالها جَدّي في جدّك الحسين بن عليّ (عليه السلام):
عجبتُ لمصقولٍ علاك فَرَندُه يومَ الهياج وقد علاك غبارُ
ولأسهمٍ نفذتْك دون حرائر يدعون جَدّك والدموع غزارُ
ألاّ تقضقضتِ السِّهام وعاقَها عن جسمك الإجلالُ والإكبارُ!
قال (عليه السلام): قَبِلت هديّتَك، إجلس بارك الله فيك. ورفع رأسه إلى الخادم، وقال: امضِ إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به. فمضى الخادم وعاد وهو يقول: كلّها هبة منّي له يفعل به ما أراد. فقال موسى (عليه السلام) للشيخ: اقبض جميع هذا المال فهو هبة منّي لك)).
2 ـ رواية الطبري: بالإسناد عن عمر بن زيد، قال: سمعت أبا الحسن يقول:(( لا يشهد أبو جعفر [ المنصور ] بالناس موسماً بعد السنة)). وكان حَجَّ في تلك السنة، فذهب عمر فخبّر أنّه يموت في تلك السنة.
وقد حج المنصور في حكمه مرّتين، وفي الثالثة أُصيب بإسهالٍ شديد، فهلك قبل أن يصل مكّة في بئر ميمون، وذلك سنة 158 هـ، لستٍّ خلون من ذي الحجّة، وانطوت بموته صفحة حافلة بالظلم والجور والآثام والموبقات.
المهدي بعد أبيه المنصور:
تولّى بعد المنصور ولدُه المهديّ عشر سنين وشهراً وستّة عشر يوماً، ولم يتعرّض المهدي في بداية حكمه للإمام الكاظم (عليه السلام) بمكروهٍ ولم ينله بسوءٍ، مكتفياً بوضع الرقابة الشديدة عليه. ولمّا رجع أكثر المنحرفين عن الإمام إلى القول بإمامته، والتفّ حوله الرواة والعلماء، فاشتهر أمره وذاع صيته، عمد المهديّ إلى استدعائه إلى بغداد فحبسه، قاصداً التنكيل به وقتلَه، لكنّ إرادة الله كانت تحول دون ذلك، فأطلق سراحه بعد أن رأى برهان ربّه، والظاهر من الروايات أنّه سجنه أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة كان ينجو (عليه السلام) بإرادة الله تعالى.
أخباره (عليه السلام) مع المهدي:
1 ـ عن أبي خالد: الزُّباليّ، قال: قدم على أبو الحسن الكاظم (عليه السلام) ( زبالة )، ومعه جماعة من أصحاب المهديّ بعثهم في إشخاصه إليه إلى العراق من المدينة، ذلك في القدمة الأُولى على المهديّ، فأتيتُه وسلّمت عليه، فسُر برؤيتي، وأوصاني بشراء حوائج له وتعبيتها عندي، فرآني غير منبسطٍ وأنا مفكّر منقبض، فقال: ((ما لي أراك منقبضاً ؟! فقلت: وكيف لا، ورأيتك سائراً وأنت تصير إلى هذا الطاغية ولا آمن عليك منه! فقال: يا أبا خالد، ليس عليّ منه بأس، فإذا كان في شهر كذا من يوم الفلاني فانتظرني آخر النهار مع دخول الليل، فإنّي أُوافيك إن شاء الله تعالى.
قال أبو خالد: فما كان لي همّ إلاّ إحصاءَ تلك الشهور والأيّام إلى ذلك اليوم الذي وعدني المَأْتى فيه، فخرجت وانتظرته إلى أن غربتِ الشمس فلم أرَ أحداً، فداخلني الشكّ في أمره، فلمّا كان دخول الليل، فبينما أنا كذلك، فإذا بسوادٍ قد أقبل من ناحية العراق، فإذا هو على بغلةٍ أمام القِطار، فسلّمت وسُررت بمقدمه وتخلّصه، فقال لي: داخلَك الشكُّ يا أبا خالد! فقلت: الحمد لله الذي خلّصك من هذا الطاغية، فقال: يا أبا خالد، إنّ لهم إليّ دعوةً لا أتخلّص منها)).
2 ـ وعن الفضل بن الربيع، عن أبيه، أنّه لمّا حبس المهديُّ موسى بنَ جعفر، رأى المهديّ في النوم عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول: يا محمّد! ( فَهَلْ عَسَيْتُم إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدوا في الأرْضِ وَتقطّعوا أرْحامَكُمْ ).
قال الربيع: فأرسل إليّ ليلاً، فراعني ذلك، فجئته، فإذا هو يقرأ هذه الآية، وقال: علَيَّ بموسى بن جعفر. فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا أبا الحسن، إنّي رأيت أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب في النوم يقرأ علَيَّ كذا، فتُؤمنني أن تخرج عليّ أو على أحدٍ من ولدي ؟ فقال:(( واللهِ لا فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني)). قال: صدقت. يا ربيع، أعطِه ثلاثة آلاف دينار ورُدَّه إلى أهله إلى المدينة.
قال الربيع: فأحكمت أمره ليلاً، فما أصبح إلاّ وهو في الطريق خوف العوائق.
3 ـ وعن ابن شهر آشوب، قال: لمّا بُويع محمّد المهديّ، دعا حُمَيدَ بن قَحْطَبة نصفَ اللّيل، وقال: إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهرُ من الشمس، وحالك عندي موقوف. فقال: أُفدّيك بالمال والنفس. فقال: هذا لسائر الناس.
قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد. فلم يُجِبه المهديّ. فقال: أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدِّين. فقال: لله دَرُّك! فعاهَدَه على ذلك، وأمره بقتل الإمام الكاظم (عليه السلام) في السَّحَر بغتةً، فنام المهديّ فرأى في منامه عليّاً (عليه السلام) يشير إليه ويقرأ: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدوا في الأرْضِ وَتُقطّعوا أرْحامَكُمْ )، فانتبه مذعوراً، ونهى حُمَيداً عمّا أمره، وأكرم الكاظم (عليه السلام) ووصله.
4 ـ وعن عليّ بن يقطين، قال: سأل المهديّ أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر، هل هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجلّ ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهيَ عنها ولا يعرفون التحريم لها! فقال له أبو الحسن (عليه السلام):(( بل هي محرّمة في كتاب الله عز ّوجلّ يا أمير المؤمنين. فقال له: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله يا أبا الحسن ؟ فقال: قولُ الله عز ّوجلّ: ( قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالإثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ )، فأمّا قوله: ( ما ظَهَرَ مِنْها ) يعني الزنا المُعلَن ونصبَ الرايات التي كانت ترفعها الفواجرُ للفواحش في الجاهليّة، وأمّا قوله عز ّوجلّ: ( وَما بَطَنَ ) يعني ما نكح من الآباء؛ لأنّ الناس كانوا قبل أن يُبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله إذا كان للرجل زوجةٌ ومات عنها تزوّجها ابنُه مِن بعده، إذا لم تكن أُمَّه، فحرّم الله عز ّوجلّ ذلك.
وأمّا الإثم، فإنّها الخمرة بعينها، وقد قال الله عز ّوجلّ في موضع آخر: ( يَسألونك عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِر قُلْ فيهِما إثْمُ كَبيرٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ )، فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمرة والميسِر، وإثمهما أكبر كما قال الله تعالى)).
قال: فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين، هذه واللهِ فتوى هاشميّة!
قال: قلت له: صدقتَ واللهِ يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلمُ منكم أهلَ البيت. قال: فو اللهِ ما صبر المهديّ ( إلاّ ) أن قال لي: صدقتَ يا رافضيّ!.
5 ـ وعن الحسن بن علي بن النعمان، قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام، بقيَتْ دارٌ في تربيع المسجد، فطلبها من أصحابها فامتنعوا، فسأل عن ذلك الفقهاء، فكلٌّ قال له أنّه لا ينبغي أن يُدخِل شيئاً في المسجد الحرام غصباً، فقال له عليّ بن يقطين: يا أمير المؤمنين، لو كتبتَ إلى موسى بن جعفر لأخبرَك بوجه الأمر في ذلك.
فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بنَ جعفر عن دارٍ أردنا أن نُدخلها في المسجد الحرام، فامتنع علينا صاحبها، فكيف المخرج من ذلك ؟ فقال الوالي ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبو الحسن (عليه السلام): ((ولابدّ من الجواب في هذا ؟ فقال له: الأمر لابدّ منه. فقال له: اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم، إن كانتِ الكعبةُ هي النازلةُ بالناس فالناس أولى بفِنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفِناء الكعبة فالكعبة أولى بفِنائها )). فلمّا أتى الكتابُ إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله، ثمّ أمر بهدم الدار، فأتى أهلُ الدار أبا الحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب لهم إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم، فكتب إليه أن أرضِخْ لهم شيئاً، فأرضاهم.
6 ـ وعن عليّ بن أسباط، قال: لمّا ورد أبو الحسن موسى (عليه السلام) على المهديّ العباسيّ رآه يردّ المظالم، فقال:(( يا أمير المؤمنين، ما بالُ مَظلمتنا لا تُرَدّ ؟! فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه صلّى الله عليه وآله فدكَ وما والاها، لم يُوجف عليه بخيلٍ ولا ركاب، فأنزل الله على نبيّه صلّى الله عليه وآله: ( وَآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ )، فلم يدرِ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله مَن هم، فراجع في ذلك جبرائيل وراجع جبرائيل ربَّه، فأوحى الله إليه: أنِ أدفع فدكَ إلى فاطمة (عليها السّلام).
فدعاها رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال لها: يا فاطمة، إنّ الله أمرني أن أدفع إليكِ فدك. فقالت: قد قَبِلتُ يا رسول الله مِن الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فلمّا وَليَ أبو بكر أخرج عنها وكلاءها، فأتتْه فسألته أن يَرُدّها عليها. فقال لها: ائْتِيني بأسود أو أحمر يشهد بذلك.
فجاءت بأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأُمّ أيمن، فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرّض، فخرجت والكتابُ معها، فلقيَها عمرُ بن الخطّاب، فقال: ما هذا معك يا بنت محمّد ؟ قالت: كتابٌ كتَبَه لي ابنُ أبي قُحافة. قال: أرِينيه. فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه، ثمّ تفل فيه ومحاه وخرّقه.
فقال لها: هذا لم يُوجِف عليه أبوكِ بخيلٍ ولا ركاب، فضَعي الحبالَ في رقابنا.
فقال المهديّ العباسيّ: يا أبا الحسن، حُدَّها لي. فقال: حدٌّ منها جبلُ أُحد وحدٌّ، منها عريش مصر، وحدٌّ منها سِيف البحر ( أي ساحله )، وحدٌّ منها دومة الجندل.
فقال له: كلُّ هذا ؟! قال: نعم، يا أمير المؤمنين، هذا كلُّه، إنّ هذا كلّه ممّا لم يُوجِف أهلُه على رسول الله صلّى الله عليه وآله بخيلٍ ولا ركاب)). فقال: كثيرٌ! وأنظرُ فيه.
ومات المهديّ في 22 محرّم سنة 169 هـ، وبويع بعده لولده موسى الهادي العبّاسيّ.