يا دارَ عاتكةٍ على الدَّهناءِ
لكِ لا لغيرِكِ لوعتي وبكائي(1)
إن أوحَشَت منكِ الربوعُ فكم زَهَت
بِبدورِ حُسنٍ في دُجى الظَّلماءِ
وإنِ انمَحَت منكِ الرسومُ فلم يَزَلْ
لكِ منزلٌ في القلبِ والأحشاءِ
وغدا ثراكِ القَفْرَ داءَ قلوبِنا
ولَطالما أمسى شفاءَ الدَّاءِ
لا تُسعدِينَ إذا بَكِيتِ تَوجُّعاً
للظاعنين، ولا تَعِينَ نِدائي(2)
لَهفي لآلِ محمّدٍ لَهفاً بهِ
يُذكي لهيبَ النارِ في أحشائي(3)
السابقون.. فليس يُدرَك شَأْوُهم
يومَ الفَخارِ بِحَلبةِ العلياءِ(4)
والضاربون على السِّماكِ قِبابَهم
والواطِئونَ لِهامةِ الجَوزاءِ(5)
عَجَباً لِمَن أجرُ الرسالةِ وُدُّهُم
يُرمَون بالشَّنْآنِ والبغضاءِ!
* * *
أَفدي الحسينَ مُشرَّداً تَنحو بهِ
نحوَ العراقِ مَخافةُ الأعداءِ
حتّى أناخ بكربلاءَ، وإنّما
كانت منازلَ كُربةٍ وبلاءِ!
رامَ الدعيُّ ابنُ الدعيِّ مَذلّةً
مِنهُ، فلاذَ بِعِزّةٍ وإباءِ
هيهاتَ أن تُعطي الدنيّةَ نفسُهُ
خوفَ المَنيّةِ أو رجاءَ بقاءِ
وهو الذي أعراقُه ضَرَبت إلى
خيرِ الجدودِ وأشرفِ الآباءِ
فرعٌ تَفَرّعَ بينَ بَضعةِ أحمدٍ
ووصيِّه مِن هاشمِ البطحاءِ
هيهاتَ أن يَخشى المنيّةَ وهو لِلْـ
ـكَرّارِ حيدرةٍ مِن الأبناءِ
* * *
فَسَطا كصَقْرٍ شَدّ في سِربِ القَطا
أو كالغَضَنفَرِ في قطيعِ الشّاءِ
خِلْواً مِن الأنصارِ غيرَ مهنّدٍ
ماضي الغِرارِ وصَعدةٍ سمراءِ(6)
ريّانَ مِن وِردِ الدماءِ حُسامُهُ
وفؤادُه ظامٍ لِوِردِ الماءِ
لو بارزوه.. وإنّهم عددَ الحصى
طُرّاً لأورَدَهم حِياضَ فَناءِ
فَهْو ابنُ حيدرةَ البطينِ الأنزعِ الْـ
ـمُفْني الأُلوفَ بِحومةِ الهيجاءِ(7)
مَنعوه مِن ماءِ الفراتِ ووُردِهِ
وأبُوه ساقي الحوضِ يومَ جَزاءِ
حتّى قضى ظمأً كمَا اشتَهَتِ العِدى
بأكُفِّ لا صِيدٍ ولا أكْفاءِ
ومضى بِغُصّتِه غريباً نائياً
عن دارِه، بأبي الغريبَ النّائي
متوسِّداً وجهَ الصعيدٍِ مُجرَّداً
يُكسى ثيابَ جلالةٍ وبهاءِ(8)
تَطَأُ الصواهلُ جسمَه، وعلى القَنا
مِن رأسِه المرفوعِ بدرُ سماءِ(9)
قتلَتْه آلُ أُميّةٍ فشَفَت بهِ
غَيظَ النفوسِ وكامنَ الشحناءِ
ثاراتُ بدرٍ أُدرِكَت في كربلا
لِبني أُميّةَ مِن بَني الزهراءِ
وتُساق بينَهمُ عقائلُ أحمدٍ
ـ يا لَلإبا ـ في السَّبْيِ سَوقَ إماءِ!(10)
* * *
يا أُمّةً باعت بضائعَ دِينِها
يومَ الطفوف بخيبةٍ وشَقاءِ
خانت عهودَ محمّدٍ في آلِهِ
مِن بعدِهِ، وجَزَته شرَّ جَزاءِ
* * *
يا آلَ أحمدَ لا يَخيبُ مُوحِّدٌ
متمسّكٌ منكم بحبلِ وَلاءِ
هل تشفعون غداً لعبدٍ مذنبٍ
أمسى ثقيلَ الوِزرِ والأعباءِ ؟!(11)
إن فاتَني مِن نصرِكم ما فاتَني
وأطالَ فيكم لوعتي وبكائي
بصارمِ مِقوَلٍ
يمضي فيُخرِس فَلأنصُرنَّكمُ ألسُنَ البُلغاءِ(12)
ولأرثينَّكمُ
على طولِ المدى
بقصائدٍ أعيَت على الشعراءِ(13)(14)
السيّد محسن الأمين
***********************************
الهوامش:
1. الدَّهناء: الفلاة، الصحراء.
2. الظاعنين: الراحلين.
3. يُذكي: يُوقد.
4. شَأوهم: همّتهم.
5. السِّماك: كوكبٌ نيّر. الجوزاء: برجٌ في السماء.
6. الغِرار: حدّ السيف. الصَّعدة: الرمح المستوي.
7. حومة الهيجاء: ساحة القتال.
8. الصعيد: ما ارتفع من الأرض.
9. الصواهل: الخيل المصوِّتة.
10. العقائل: النساء المكرَّمات. الإماء: الجواري.
11. الوِزر: الذنب.
12. صارمُ مِقول: شديد القول، ويريد مُحكم الشِّعر.
13. أعيَت: امتَنَعت.
14. من كتاب: الدرّ النضيد في مراثي السبط الشهيد، جمع: السيّد محسن الأمين: 9 ـ 11.