البكاءُ في المَصادر المُعتبرة
البكاء : أحد أقسام الشعائر الحسينيّة ، ولأهمّيّته عقدَ المرحوم الشيخ المجلسي (قدِّس سرّه) ـ في كتابه بحار الأنوار ـ باباً خاصّاً للبكاء على مصيبة سيّد الشهداء (1) ، وقد جمعَ في ذلك الباب ما يزيد على الخميس طريق أو رواية ، و أيضاً عقدَ باباً آخر ، و هو باب (ثواب مَن أنشدَ في الحسين عليه السلام شِعراً).
وقد عقدَ الشيخ الحرّ العاملي بدوره في كتاب وسائل الشيعة ، كتاب المزار ، آخر كتاب الحجّ (2) ، باباً جمعَ فيه بالتحديد عشرين رواية أو طريق في ثواب البكاء ، وهناك أبواب أُخرى ذَكرها صاحب الوسائل تقرب من أربعين باباً (في أبواب المزار) ، اشتملت على أقسام عديدة في الحثّ على الشعائر الحسينيّة ، من قبيل : زيارته (عليه السلام) ، و إقامة المأتم عليه ، والبكاء ، و إنشاء الشِعر وإنشاده وغيرها.
و هذه الروايات ـ التي جَمعها صاحب الوسائل في باب 66 ـ ليست هي الروايات الوحيدة التي وردت في البكاء ، بل الأبواب الأخرى أيضاً متضمّنة لذلك ، حيث فيها روايات عديدة متعرّضة لأمور أخرى ، ثُمّ تُعرّج على البكاء بنحوٍ أو بآخر. وكمحاولة لجمع الروايات في هذا الباب فهي تقرب من خمسمائة رواية (3).
أمّا كتاب مُستدرك الوسائل للمحقّق الشيخ النوري (قدِّس سرّه) ، فقد نقلَ في أبواب المزار (4) روايات تطرّقت لموضوع البكاء بطرق عديدة ، سواء كانت تحت عنوان البكاء مباشرة ، أو تحت عناوين أخرى أيضاً واردة لمناسبة أو أخرى ، إلاّ أنّها تتعرّض للبكاء.
و من الكتب التي تطرّقت لهذا البحث : كتاب كامل الزيارات لابن قولويه ، شيخ الطائفة في عصره (جعفر بن محمد القمّي) المعروف ، و هو أستاذ الشيخ المفيد ،
والكتاب مشهور بين علماء الطائفة.
والمجاميع المتأخّرة و إن كانت تُبوّب هذه الأبواب ، إلاّ أنّ المتتبّع لها وللكتب القديمة يجد ـ مثلاً ـ رواية عُثر عليها في بعض الكتب المتأخّرة الثقافيّة ، منقولة عن كتاب محاسن البرقي ، لم يوردها صاحب الوسائل ولا المستدرك ، ونقلها البرقي في باب الأطعمة والأشربة ، عند ذِكر الطعام الذي يُقدّم للسجّاد (عليه السلام) ، وهي مرتبطة بالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام).
فتقصّي الكتب المتقدّمة والمتأخّرة ومراجعتها أمر لازم ، وقد مرّ بنا أنّ في كتاب أمالي الصدوق (قدِّس سرّه) عُقدت عدّة مجالس ـ أو أمالي ـ في المقتل قد يُطلق عليه مقتل الصدوق ، ولو اقتُطع هذا الجزء و أُبرز ككتاب مستقلّ بحيث يكون باسم (مقتل الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه)) ، لكان مصدراً معتمداً في هذا الباب أيضاً.
البكاءُ ذَروة الشَعائر الحسينيّة
يعتبر البكاء من عمدة أقسام الشعائر الحسينيّة ـ كما في كلمات الفقهاء والمحقّقين والمؤرّخين ـ بل نستطيع أن نسمّيه الشريان الدموي للعديد من الأقسام في الشعائر الحسينيّة ، مثلاً : انظر إلى الخطابة ، أو إلى الشعر ، أو النثر ، أو الرثاء ، أو التمثيل ـ الشبيه ـ أو انظر إلى اللطم والعزاء ، أو لبس السواد ؛ فإنّ كلّ هذه الظواهر المختلفة من الشعائر الحسينيّة ، حينما تريد أن تتألّق و تحلِّق و تبلغ ذروتها تصل إلى حدّ البكاء ، فالبكاء حينما جعلناه قسماً من أقسام الشعائر الحسينيّة ، فإنّه في الحقيقة هو ليس قسماً مقابل الأقسام الأخرى ، بل ربّما جعله بعضهم مَقسماً لأقسام الشعائر الحسينيّة ، و إن كان المَقسم للشعائر الحسينيّة هو ما ذكرناه في الجهة الأولى من تحديد الماهيّة الحقيقيّة للشعائر الحسينيّة ، بلحاظ أنّها شعيرة وعلامة على معنىً سامٍ و حقيقة خالدة.
و هذا الاهتمام الكبير بالبكاء ، إنّما نشأ من توصية الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة (عليهم السلام) ، من خلال الحثّ الأكيد والتوجيه الشديد إليه ، لذا اعتدّ به علماء الإماميّة ـ سواء المحدّثون ، أو المؤرّخون ، أو الفقهاء ـ في فتاواهم المتعلّقة بالشعائر الحسينيّة ، حيث يبرز البكاء عندهم كأنّه العمود في خيمة الشعائر الحسينيّة ، و ما ذهبَ إليه فقهاء الإماميّة أو بقيّة أصناف علماء الإماميّة ليس هو فقط كفتاوى مسلّمة ؛ و إنّما هو ما تشير إليه الأبواب العديدة الواردة في الشعائر الحسينيّة ، و هو : أنّ البكاء هو عمدة ولُباب الشعائر الحسينيّة ، وليس فقط قسماً من أقسام الشعائر الحسينيّة ، بل هو لبّ الشعائر الحسينيّة وأهمّها (5).
وكما ذكرنا أنّ الروايات التي تحثّ على البكاء و تبيّن فضيلته ، ليست هي فقط تلك الأبواب التي عُقدت تحت عنوان (فضل البكاء وثواب البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)) ، بل كلّ الأبواب التي وردت حوله تشير بأدنى مناسبة للبكاء ، إمّا بلفظ البكاء ، أو بما يرادفها ، أو يلازمها وبإشارات مختلفة ، حتّى أنّ بعض المتتبّعين
ممّن له باع واسع في هذا التحقيق ، ذَكر أنّه وردَ في ما يلازم و يرادف البكاء ما يقرب من خمسين لفظة حول الشعائر الحسينيّة ، مثل : اللطم ، أو اللّدم ، القلق ، الهلع ، الجزع ، البكاء ، النوح ، الندبة ، الصيحة ، الصرخة ، الحزن ، التفجّع ، التألّم ، و غيرها.
و أيضاً هناك إشارات أخرى في كيفيّة التركيز على البكاء ، و إنّه من عمدة أبواب الشعائر الحسينيّة كذلك ما ذُكر في تاريخ الحسين (عليه السلام) ـ التاريخ الروائي ـ مضافاً لكتب التاريخ المختلفة ، و كثير منها عن طريق مصادر العامّة ، مثل : خيارات ابن عساكر ، و تاريخ الخطيب البغدادي و غيرها ، و كلّها تَذكر البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام) ، حتّى الأنبياء قد بكوه قبل ولادته ، بل قبل ولادة النبي الخاتم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
و تذكر أبواب عديدة في هذا السياق ، مثل : بكاء أنواع المخلوقات ، و يبيّن مجموع الروايات في الأبواب العديدة جزع وبكاء الخلقة بأكملها على مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام).
فقضيّة كون البكاء هو العمدة في الشعائر الحسينيّة يكاد يكون أمراً واضحاً ، ولربّما يُدقّق في التعبير بأن يُقال : بأنّ البكاء هو جوهر و روح الشعائر الحسينيّة ، و بحسب الأدلّة الواردة فإنّنا لو كنّا نجمد على ظاهر الأدلّة ، لرأينا أنّ للبكاء مكانةً و أهميّة يتفرّد بها من بين أقسام الشعائر الحسينيّة الأخرى ، فالبكاء كالجوهر والروح لأقسام الشعائر الحسينيّة ، و كأنّما إلغاء البكاء عن الشعيرة الحسينيّة هو عبارة عن تخليته عن جوهره ، و مسخ لتلك الشعائر عن حقيقتها.
الجَزعُ في الشعائر الحُسينيّة
الجزع : هو غير الحزن و غير البكاء ، إذ إنّ الجزع في اللغة هو شدّة الحزن و عدم التصبّر ، أو هو نوع من إبداء التفجّع الشديد ، بشقّ الجيب ، و نتف الشعر ، و ضرب الرأس ، و خمش الوجوه ، أو الصراخ الشديد ، و هذه كلّها تعبيرات عن معنى الجزع باللازم ، وإلاّ فإنّ معنى الجزع : هو إظهار المرء للألم الشديد عند الحزن بصخب و تفاعل ساخن ، هذا هو الجزع.
و وردت روايات في ذلك ، وقد عَثرنا على ما يزيد على عشرين رواية واردة في الجزع فقط ، وعدّة من أسانيدها صحيحة منها:
1 ـ ما رويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (كلّ الجزع والبكاء مكروه ، ما خَلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)(6).
2 ـ و ما نقله صاحب الوسائل عن جعفر بن قولويه في المزار ، بسنده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : (إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور)(7).
3 ـ وعن مسمع بن عبد الملك ، قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) في حديث : (أمَا تَذكر ما صُنع به (يعنى بالحسين (عليه السلام)؟
قلتُ : بلى.
قال : أتجزع؟
قلت : إي والله ، وأستعبر بذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك علي ، فأمتنع من الطعام حتى يتبيّن ذلك من وجهي.
فقال : رَحم الله دَمعتك ، أمَا إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا ، والذين يفرحون لفرحنا ، و يحزنون لحُزننا ، أمَا إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ...)(8).
4 ـ نُقل في الوسائل عن مصباح الشيخ الطوسي ، بسنده عن علقمة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، في حديث زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء من قرب و بعد ، قال: (ثُمّ ليندُب الحسين (عليه السلام) و يبكيه و يأمر مَن في داره ممّن لا يتّقيه بالبكاء عليه ، ويُقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه ، وليُعزّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين (عليه السلام) ...)(9).
5 ـ ما نقله صاحب مستدرك الوسائل عن نهج البلاغة ، قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) على قبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ساعة دُفن : (إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك)(10).
6 ـ وفي صحيحة معاوية بن وهب نقلاً عن باب المزار في الوسائل ، دعا الصادق (عليه السلام) بهذا التعبير : (... فارحَم تلك الوجوه التي قد غيّرتها الشمس ، و ارحَم تلك الخدود التي تقلّبت على حُفرة أبي عبد الله (عليه السلام) ، و ارحَم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا ، و ارحَم تلك القلوب التي جَزعت و احترقت لنا ، و ارحَم الصرخة التي كانت لنا ...)(11).
فالروايات طرقها عديدة وصحيحة ، و بعضها موثّق ، فإذاً الجزع هو إشارة من إشارات البكاء.
و نظير هذا التعدّد في الطرق لهذه الطائفة من الروايات نجده في الكتب الأربعة أيضاً ، في كتاب التهذيب للشيخ الطوسي ، وكتاب الفقيه للشيخ الصدوق ، و كتاب الكافي للشيخ الكليني التي هي من أهمّ مصادرنا.
فالحاصل : أنّ البكاء في الشعائر الحسينيّة ـ حسب ما ترسمه النظرة الأوّليّة العابرة للروايات المتواترة حول الشعائر الحسينيّة ، و إقامتها في المصادر الروائيّة العديدة ـ فضلاً عن التاريخيّة ـ الروايات ترسم للناظر والمتتبّع رسماً أوّليّاً بديهيّاً فطرياً ـ هو جوهر الشعائر ، و هو جوهر ذكرى نهضة الحسين (عليه السلام) ، هذا كبحث إجمالي أوّلي من جهة أقوال علماء الإماميّة ، و من جهة نفس الروايات.
و أيضاً ، كنظرة أوّليّة في الروايات أو في فتاوي العلماء ، يظهر أنّ الحزن لا ينقضي إلاّ بظهور الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، والأخذ بثأر الدماء التي أُريقت في كربلاء مع الحسين (عليه السلام) ، وتطبيق أهداف الأئمّة (عليهم السلام) ، و بذلك نصل إلى صلاح البشريّة و انتشار القسط والعدل ، و تحقيق أغراض و أهداف مسيرة الأنبياء ، و هذا نوع من الثأر الشريف المنشود لدم الحسين (عليه السلام).
إذاً ، الذي يظهر حول بحث البكاء من كلمات علماء الإماميّة ـ من : فقهاء ، و متكلّمين ، و مفسّرين ، و محدّثين ، و مؤرّخين ، و من الروايات أيضاً ـ أمران:
1 ـ كون البكاء الدعامة الأصليّة في الشعائر الحسينيّة.
2 ـ استمرار البكاء وتأبيده إلى يوم الثأر ، وقبل الخوض في تفاصيل ظاهرة البكاء يجب الالتفات إلى جانب مهمّ جدّاً.
حقيقةُ البكاء
إنّ البكاء مادّة حيويّة للبحث في عدّة علوم ، مثل : علم النفس ، والاجتماع ، والأخلاق ، والفلسفة ، و علم التمدّن ، والحضارة ، قد شغل حيّزاً في اهتمام العلوم الإسلاميّة ، و بمحاولة لمعرفة حقيقة البكاء نقول : إنّه فعل من أفعال النفس الجانحيّة لا الجارحيّة ، و هنا تظهر تساؤلات على السطح منها : أين تصدر النفس البكاء ، وكيف تصدره ، و متى ؟ هل البكاء فعلٌ سلبي أم إيجابي ، باعتبار أنّ أفعال النفس الجانحيّة أو الجارحيّة لا تتّصف بلونٍ ما بذاتها ؛ و إنّما تتّصف بلحاظ الغايات ، فيا ترى كيف هو البكاء في لونه الذاتي ؟ فلابدّ من تحليله موضوعيّاً ماهويّاً تحليلاً عقليّاً كاملاً لنرى ما هي أجوبة هذه الأسئلة؟
ولأجل ذلك ، يجب الالتفات إلى ما ذكرنا في جهات سابقة في الفصل الأوّل من الشعائر الدينيّة العامّة : و هو وجود أجنحة مختلفة في النفس قد جهّزها الله عزّ وجل بها ، ولا ريب أنّ أحد أبواب معرفة الله سبحانه ناشئ من معرفة النفس ،
فقد وردَ في الأثر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : (مَن عَرف نفسه فقد عَرفَ ربّه)(12) ، وورد كذلك عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (أعرفكم بنفسه ، أعرفكم بربّه)(13) ، الذي يعرف نفسه سوف يعرف نقاط الضعف من نقاط القوّة فيها ، و من ثَمّ لا تُزعزعه دواهي الدهر ، فمعرفة النفس لها فوائد عديدة في سبيل الاتّصاف بالأخلاق ، وفي بناء شخصيّة الإنسان ، والنفس فيها أجنحة عديدة ، وأحد أجنحة النفس مشجّرات القوى الإدراكيّة ، وهي على نوعين : الإدراكات الحصوليّة ، والإدراكات الحضوريّة.
الإدراكات الحصوليّة : هي قوّة الحس ، و قوّة المخيّلة (الخيال) ، و قوّة الوهم ، ثُمّ قوّة العقل.
الإدراكات الحضوريّة : هي إدراكات عيانيّة للأشياء في نشآت أخرى غير النشأة المادّيّة الحسّيّة.
القوّة الإدراكيّة والقوّة العمليّة
على كلّ حال ، هناك أيضاً جناح آخر في النفس هو : جناح القوّة العمليّة ، أو ما يسمّى بالقوّة العمّالة ، مثل : القوى العضليّة ، والقوى الشهويّة ، والغرائز المختلفة في النفس ، و قوّة العقل العملي ، هذه القوى سمتها المهمّة المميِّزة لها عن الجناح الأول ـ أو الأجنحة الأخرى ـ أنّها باعثة و محرّكة في النفس.
فلدينا جناحان من الأجنحة العديدة في النفس ، أو جهتان:
الأوّل : الجهةُ الإدراكيّة.
الثاني : الجهةُ العمليّة.
طبعاً الجناح الذي هو في الجهة العمليّة هو المحرِّك والباعث ، لكنّه ليس بكلّ درجاته خالياً من الإدراك ، كلاّ ، بل هو في بعض درجاته مزيج و مختلط بالإدراك ، مثل : قوّة العقل العملي ، وخاصيّة قوّة العقل العملي هو الإدراك مع كونه محرّكاً أيضاً.
مثلاً : يَدرك الإنسان حُسن فضيلة معيّنة ويتشوّق إليها ، فيمارسها و يعزم عليها ويوطّن نفسه على تطبيقها ، أو ربّما ـ بدل أن يتشوّق إلى فضيلة ما ـ يستنكر رذيلة ما و ينفر منها ، و يشحن نفسه بالنفرة منها ، فتراه ينقطع في سلوكه العملي عن تلك الرذيلة ، و هلمّ جرّاً.
فعلى كلّ حال ، العقل العملي حيث إنّه محرِّك عملي ، إلاّ أنّ جنبة الإدراك تتوفّر فيه أيضاً ، هذا من جهة.
و من جهةٍ أخرى : لابدّ من امتزاج هاتين القوّتين العمليّة والإدراكيّة في النفس الإنسانيّة ، فافتراض وجود إنسان له جانب إدراكي فقط ، أو له جانب عملي فقط مخالف للفطرة الإنسانيّة ، و بعبارة أخرى : فأنت تريد بافتراضك هذا أن تجعله إنساناً له جانب عمّالي فقط دون جانب إدراكي أو بالعكس ، لكنّ مثل هذا الشخص ليس من الحقيقة الإنسانيّة بشيء ، بل الحقيقة الإنسانيّة فَطرها الله عزّ وجل على مزيج من القوى العمليّة والقوى الإدراكيّة ، فمن المحال وجود حقيقة إنسانيّة تتمحّض في إدراك المعلومات فحسب ، بل لابدّ أن تجد فيها جناحاً آخر وجنبة أخرى ، و هي جنبة عمّاليّة ، كذلك من المحال أن ترى إنساناً فيه جنبة عمّاليّة فقط ـ كالحيوانات ـ، بل جملة من الحيوانات تكون الجنبة الإدراكيّة خفيفة فيها ، لكنّ الجنبة العمّاليّة فيها بارزة و ظاهرة.
وقد وزّع الله عزّ وجل الصفات العمليّة في الحيوانات بشكلٍ عجيب ، مثلاً : الحرص تجده في النمل (14) ، والوفاء تراه في حيوان آخر ، والغيرة على الأنثى في حيوان ، و انعدام الغيرة في حيوان ، كأنّ هذه الصفات العمليّة وزِّعت على كثير من أقسام الحيوانات عبرةً للإنسان ، والفطرة الإنسانيّة تختلف عن الفطرة الحيوانيّة التي تكمن فيها الجنبة العمليّة فقط ، و إن كان هناك صفات عمليّة (فضيليّة) موزّعة و موجودة لدى الحيوانات من اللطائف ، و مَن يتتبّع حياة بعض الحيوانات سوف يلاحظ في كلّ حيوان صفة معيّنة ، و هذا مورد للاعتبار ، حيث يقال : الإنسان يُحشر حسب صفته ، و هذه الأشكال من الحيوانات الموجودة هي نموذج وأمثال للصفات المختلفة ، فإن كانت صفات الإنسان رذيليّة ـ لا سامح الله ـ فإنّه سوف يُحشر بحسبها.
فليست الفطرة الإنسانيّة تحتوي على جانب إدراكي محض ، ولا على جانب عملي محض ، بل هما جناحات ممتزجان لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر ، ولا يُفصل بينهما في حاقّ النفس البشريّة ، و إذا وجدنا بعض الناس فيه طغيان جنبة إدراكيّة على جنبة عمليّة ، أو طغيان جنبة عمليّة على جنبة إدراكيّة ، فهذا نوع من الاختلال و عدم التوازن والتكامل فيه.
مثلاً : الحسد ، أو الشهوة ، هما من جنبة إدراك المخيّلة التي هي النافذة العظمى للشيطان في الإنسان ، التي يدخل من خلالها ، حيث يُري الشيطان الصور للإنسان من بعيد ، يُريه صورة لفعل أو لشيء ، ثُمّ يشوّقه نحو ذلك الفعل (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي...)(15) ، فبتوسّط نفس الدعوة من بعيد يُري الصورة في عالَم النفس ، ثُمّ يُغري الإنسان فيتشوّق و يتحرّك نحوها ، فالإنسان إذا عزفَ و انصرف عن هذا الإغراء ينقطع سلطان الشيطان عنه ، أمّا مع رغبة النفس و تركيزها و انجذابها ؛ فإنّ الشيطان سوف يستولي عليه ، و هذا قد يكون تفسير الحديث المعروف عن النبي (صلَّى الله عليه وآله و سلَّم) : (إنّ الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم)(16).
و باعتبار أنّ هذه النوافذ الإدراكيّة لا يضبطها الإنسان ولا يحرسها بحراسة جيّدة ، و إنّه يُطلِق عنانها من دون مراقبة النفس ؛ فإنّ الشيطان سيخترق النفس من خلالها و ينفذ إلى أعماقها.
فالفطرة الإنسانيّة ذات جنبتين لا يمكن تفكيك إحداهما عن الأخرى.
و نواصل بعض الأمثلة لكي نكون على بصيرة من هذا البحث ، حتّى نصل إلى حقيقة النكات الفلسفيّة والعقليّة.
مثلاً : يروِّج البعض في بعض الأبحاث الفكريّة والثقافيّة الحديثة أنّ التقديس والقدسيّة والتعظيم هي نوع من الحجاب أمام التحرّر الثقافي والانفتاح الفكري ، لذا لابدّ من إزالة هذا الحاجب والوقوف في وجه أشكال التقديس والاحترام والتعظيم.
و هذا يندرج ويجري في نفس المسار في بحث البكاء أيضاً ، فما مدى صحّة هذه المقولة يا ترى؟
للإجابة عن ذلك ـ ولتمحيص حقيقة هذه المزاعم والدعاوى ـ لابدّ من معرفة ماهيّة القدسيّة ، و إنّها فعل أيّ قوّة من قوى النفس ، و أيّ جناح من أجنحة النفس؟
مثلاً ، قيل : إنّ التشكيك نبراس و معلم للحريّة الفكريّة وللأسلوب الفكري والتحقيقي ، و إنّه ديدن العلم ، هل هذا صحيح بقول مطلق أم فيه تفصيل ؟ التشكيك أيضاً عمليّة فكريّة تمارسها بعض القوى الإدراكيّة ، فهل هذا الفعل ـ كفعل نفساني ـ هو فعلٌ سليم دوماً أم لا؟
إذاً ، يجب أن ندرس أفعال النفس بدقّة كي لا نقع في الخطأ ولا في المغالطات ، ولا في الالتباسات ، و علينا أن نتعرّف على مجال ممارسة النفس لها ، و مواطن عدم الممارسة ، كذلك البكاء فعل من أفعال النفس ، و كذلك التقديس والتعظيم والإذعان والمتابعة النفسيّة كلّها من أفعال النفس ، و ترتبط بالقضايا الإدراكيّة والاعتقاديّة والفكريّة والسلوكيّة ، وهي برنامج يتعلّق بسير الإنسان في معاشه وحياته ، فمتى يا ترى تمارسه النفس بصحّة ، و متى تمارسه النفس خطأً؟
كذلك التشكيك ، أو التساؤل ، أو التنقيب فعل من أفعال النفس ، فمتى تمارسه النفس بشكل صحيح ، و متى تمارسه النفس خطأً ؟ هل يجب أن يقف الإنسان دوماً في منطقة التشكيك والتساؤل ؟ أم ينبغي عليه أن يتجاوز ذلك ؟ كلّ هذه الأبحاث و نحوها ممّا ترتبط بمباحث دينيّة حسّاسة و خطيرة ، فلابدّ من الوقفة العلميّة عندها ؛ لإنعام النظر فيها.
ثوابتٌ عن ظاهرة التقديس كيف يمارس الإنسان عمليّة التقديس بشكل صحيح ؟ التقديس والقدسيّة : عبارة عن الإذعان ، و حينما يذعن الإنسان لشيء و يتصوّر أنّه حقيقة فإنّه يُبدي المتابعة أو الخضوع له ، فالتقديس : عبارة عن خضوع النفس عمليّاً و متابعة القوى العمليّة في النفس لأمرٍ أذعنت النفس له و تصوّرت أنّه حقيقة ، فمن ثَمّ يظهر لنا متى يكون التقديس صحيحاً و متى يكون خاطئاً.
فإن كان ما أذعنت له النفس حقيقة من سنخ الواقع ، فالتقديس صحيح ، و إصرار النفس عليه ممدوح ، و تعظيمها لتلك المعلومة الحقيقة راجح و صحيح ؛ لأنّ المفروض أنّها من نفس الواقع ، و رفع اليد عنها يعني ارتطام النفس و دفعها في سلسلة الجهل ، مثل العالِم التجريبي إذا وصل إلى حقيقة معيّنة ، ثُمّ يرفع اليد عنها ولا يعتمد عليها ، أو لا يستفيد منها فيكون ذلك ضياعاً للحقيقة.
نعم ، التقديس والقدسيّة إن كانت لأمر مخالف للواقع أو للحقيقة ، أو كانت نابعة عن تصوّر و تخيّل رسمتهُ المخيّلة بعيداً عن الواقع ، كانت خاطئة.
فإذاً ، التقديس ـ بشكل مختصر ـ: هو عبارة عن متابعة النفس لمَا أذعنت له و تصوّرت أنّه حقيقة ، فإن كان حقيقة واقعاً ، و مبتنياً على مقدّمات و أدلّة يقينيّة مُنتجة ، فيكون هذا التقديس صحيحاً و راجحاً ، ولكن لابدّ أن يوضع حريم
حوله ؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل الذي أوصلك إلى مثل هذا بعد عناء و جهد ، إذا لم تعمل به يكون ابتعاداً عن الواقع و إغراقاً في الجهالات والظلمات ، وهذه حقيقة متّبعة في جميع العلوم التجريبيّة والعلوم المرتبطة بالنشآت و علوم العقيدة و غيرها.
فإذا كان التقديس ناتجاً من إدراك حقيقة ، فهو حالة طبيعيّة في النفس ، و يبدأ التقديس من أرفع درجة من درجات القوى العمليّة في النفس ، و هو العقل العملي ، فيتابع العقل النظري فيما أدركه من حقيقة ، و أمّا لو كان التقديس نتيجة لإدراك تخيّلي أو ظنّي أو و همي أو غير مُبرهن و غير ثابت ، كان التقديس نوعاً من التقليد.
فعلى كلّ حال ، إطلاق وصف التقليد أو الإتّباع الأعمى على التقديس مطلقاً أمرٌ فيه مغالطة ، حيث تبيّن أنّ ليس كلّ تقديس هو تقليد ، بل حقيقة التقديس هي تعظيم للحقائق فيما إذا كان وليداً و تابعاً لإدراك حقيقة ما ، نعم ، لو كان التقديس أو المتابعة أو الإخبات والخضوع في الجناح العملي في النفس نتيجة لإدراك تخيّلي أو وهمي ، كانت حقيقة هذا التقديس اتّباعاً أعمى و تقليداً خاطئاً ، إذاً ليس من الصحيح ذمّ التقديس في نفسه مطلقاً.
بل لو انعكس التقديس إلى حالة الرفض الدائم في الجانب العملي للنفس ، و هو ما قد يسمّى بالتشكيك ، إذا كان رفضاً دائماً فسيكون حالة مرضيّة في النفس وليس حالة صحّيّة في بعض أقسامه ، حيث إنّ الجناح الإدراكي في النفس إذا أدركَ حقيقةً ما ولم يتابعه الجناح العملي ، ولم تُتابعه القوى العمليّة التجريبيّة أو غير التجريبيّة ، إذا لم تحصل المتابعة بين الجناح العملي والجناح الإدراكي ،
ستكون هذه حالة مرضيّة في النفس ؛ لأنّها تُدرك الحقائق ولكن لا تنتفع بها ولا تستفيد منها ، و إصرار النفس على الرفض والإباء عن متابعة الحقائق يؤدّي إلى تضييع الحقيقة والتفريط بها.
كما يُفسّر المحقّق الأصفهاني الآية الكريمة (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)(17) : أنّهم في البداية قد يكون هناك لديهم إيقان مع الجحود ، لكن في النهاية والمآل فإنّ هذا الإيقان يذهب كشيء و وجود شريف ثمين ، يذهب و تفتقده النفس بسبب عدم متابعة الجانب العملي للجانب الإدراكي (18) ، ولعلّ إليه الإشارة الأخرى في قوله تعالى : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)(19).
وكما أنّ الجانب العملي في النفس يتأثّر بالجانب الإدراكي ؛ فإنّ الجانب الإدراكي في النفس كذلك يتأثّر بدوره بالجانب العملي ، و أمراض الجانب العملي في النفس تُسبّب أمراضاً في الجانب الإدراكي أيضاً ، و كذلك الحال في أمراض القوى الإدراكيّة : كالوسوسة ، أو سرعة الجزم (القطّاعيّة) ، أو غلبة الوهم والتخيّل على التعقّل ، حيث لا يستطيع أن يدرك المعاني العقليّة نتيجة السجن الذهني في القضايا الخياليّة والوهميّة.
فهناك أمراض في الجانب الإدراكي ، كما أنّ هناك أمراضاً تقابلها في الجانب العملي إضافة للصفات الصحيحة في الجانب العمليّ ، و مثال من أمثلة أمراض الجانب العملي : دوام الإباء في الجانب العملي للنفس ، أو دوام الإخبات والخضوع لكلّ مقولة ولأيّ دعوى ، فهذه تعتبر حالة غير صحيحة و غير سليمة.
و هذه الأمراض في الجانب العملي لها أسماء أيضاً ، مثل : التقليد العام الأعمى ، أو بالعكس الرفض الدائم التي هي حالة السفسطة ، فالحالة السفسطائيّة الدائمة المطلقة هي حالة مرضيّة في الجانب العمليّ في النفس ، وحالة التقليد الأعمى هي أيضاً حالة مرضيّة و مذمومة عند العقلاء ، و إليها و إلى غيرها من الأمراض يشير إليها القرآن الكريم و تشير الأحاديث النبويّة ، وقد تعرّض لها أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمن خُطبه الشريفة في نهج البلاغة ، مثل : (حُبّك الشيء يُعمي ويُصمّ)(20).
هذه حالات الجانب العملي ، فإذا اشتدّت المحبّة فإنّها توجب ظلامة و حاجباً في الجانب الإدراكي ، و شدّة البغض كذلك قد توجب التأثّر والستر في الجانب الإدراكي.
لا بمعنى أن لا تشتدّ محبّة الإنسان لمَن أمره الله بمحبّته ، إذ إنّ الله سبحانه أمر بمحبّة نفسه ، و أمرَ بمحبّة رسوله وأهل بيته (عليهم السلام) ، أو لا تشتدّ عداوته لمَن أمرَ الله سبحانه بعداوته ، وليس المعنى أنّ زيادة المحبّة المأمور بها تكون خاطئة ، أو الكراهة والبغض المأمور بها كذلك ، ليس المراد ذلك ، ولسنا وراء ما يطرحه العِلمانيّون أو ما يسمى بالعولَمة ، أي الحياديّة في كلّ شيء ، و إنّ المدار الأول والأخير هو نفسي و نفسي فقط ، كطرق العولَمة المطروحة حديثاً ـ في الثقافات العالميّة ـ ليس هذا هو المقصود.
وليس الاتّزان هو : عدم المحبّة في موردها (التي أمرَ بها الشارع والعقل) ، أو عدم العداوة الشديدة في موردها الذي بيّنه الشارع ، بل الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يدرك أمراً ، ينبغي له عدم جعل المحبّة مؤثّرة في كيفيّة الإدراك ، حتّى لو كانت محبّة في موردها ، و كذلك الأمر في العداوة الشديدة ، فضلاً عمّا لو كانت ليست في محلّها ؛ و إنّما ينبغي جعل موازين الإدراك على ما هي عليه ، و جعل موازين الحركات والأفعال في النفس على ما هي عليه ، هذا هو المنطق القرآني والتوجيه النبوي والعلوي.
المنطقُ الشرعي و ظاهرة البكاء
إنّ المنطق الذي يطرحه القرآن ـ والسُنّة المعصوميّة النبويّة والمعصوميّة العلويّة في نهج البلاغة ـ منطق ليس أُحاديّاً ولا تمايليّاً إلى طرف معيّن.
انظر مثلاً إلى المنطق الأرسطي الذي يضع موازين معيّنة على فرض صحّتها ـ كلّها أو بعضها ـ في جانب من جوانب الإدراكات ، و هو فقط الإدراك الحصولي ، و على بعض تقاديره ليس كلّ الإدراكات ، أمّا الإدراك العياني فإنّه لا يضع له ميزاناً ، أو الإدراك الحصولي من تقادير أخرى قد لا يضع لها ميزاناً.
أو أنّك ترى مثلاً المنطق الرياضي يضع موازين من جانب آخر ، أو ترى المنطق النفسي الحديث المتداول أو المنطق الوضعي ، و مدارس منطقيّة كثيرة كلّها تتناول جانباً معيّناً و تهمل الجوانب الأخرى ، و مع ذلك فإنّ تلك الجوانب المتناولة قد تكون غير مستوعِبة لوضع الموازين فيها.
أمّا المنطق الشرعي : فإنّك ترى خلاف ذلك ، المنطق الشرعي يتناول موازين القوى العمليّة و يتناول موازين القوى الإدراكيّة ، و على صعيد الإدراك العياني والإدراك الحصولي ، و هلمّ جرّاً ، يعني أنّه يتناول الموازين في أجنحة النفس العديدة ، و ينظر في كيفيّة ملائمة هذه الأجنحة في النفس مع بعضها البعض ، و هذا ممّا لا تتناوله مدرسة منطقيّة بشريّة إلى الآن ، هذا هو المنطق الشرعي أو المنطق الذي تُقدّمه المعرفة الدينيّة.
إنّه منطق الإنسان المتكامل في كلّ أجنحة النفس ، و هو أيضاً يُحدّد العلاقة بين أجنحة النفس بعضها البعض ، وإلاّ فأيّ منطق تراه يُحدّثك أنّ الحبّ والبغض يُعمي و يصمّ (21) ، أو يتناول قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (إذا أقبَلَت الدنيا على أحدٍ أعارتهُ محاسن غيره ، و إذا أدبَرت عنه سلبتهُ محاسن نفسه)(22) و مثل هذه التعبيرات ، و هذه أمور منحصرة في منطق الأطروحة الدينيّة.
التشكيكُ سلاح ذو حدّين
فالإباء المطلق حالة مرضيّة في النفس في الجانب العملي ، والتشكيك أو التساؤل في منطق المعرفة الدينيّة وفي المنطق العقلي البشري ؛ إنّما هو قنطرة لكي يراجع الإنسان حسابات الأدلّة التي يعقد عليها إيمانه ، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة في أيّ مجال من المجالات ، وفي أيّ علم من العلوم المرتبطة بالنشأة الدنيويّة ، أو المرتبطة بالنشآت الأخرى ، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة التي إمّا أن تكون مطابقة أو غير مطابقة.
لا أن يبقى في الإنسان منطقة التساؤل أبد الدهر ، فليس التساؤل إلاّ محرّكاً وآلة للفحص وطاقة للبحث ، وليس الفحص إلاّ طريق للوصول للحقيقة ، ولو وقف الإنسان دائماً في منطقة التساؤل من دون أن يتحرّك ، فهذه تعتبر حالة مرضيّة في النفس وليست حالة صحيّة ؛ إنّما التساؤل يُعتبر بوّابة لأجل الفحص ، لأجل التنقيب ، لأجل التحرّي للوصول إلى الحقائق ، وإلاّ فإنّنا لو اقتصرنا على الوقوف دوماً في منطقة التساؤل والتشكيك لمَا اكتُشف شيء في العلوم القديمة والحديثة ، فليست هذه حالة صحّيّة ، أمّا إذا كان التشكيك بمعنى التساؤل ، ثُمّ يأتي بعده التحرّي والتنقيب ـ الذي يستتبع الجزم والتصميم على ضوء المعطيات البرهانيّة اليقينيّة ـ كانت الحالة حالة سليمة وصحيّة للنفس ، أمّا أن نقف في دوّامة التساؤل والإباء والرفض فهذه حالة جهالة وليست حالة علميّة ولا صحيحة.
و الذي يعيش بشكل دائم حالة سفسطائيّة وتشكيكيّة سيؤدّي به ذلك إلى القضاء على الفطرة علماً و عملاً ، إدراكاً وتطبيقاً ، وليس فيه نوع من التقدّم بل سوف يتحجّر المرء على نفسه ، ولو كان الأمر كذلك لمَا وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات ، هذا كمثال في العلوم التجريبيّة ، فكيف في العلوم الإنسانيّة الأخرى.
فالشكّ والحيرة حينئذٍ يُشكّلان داعياً وباعثاً للتساؤل الذي يستعقبه تحرّك و فحص و تنقيب و تحقيق ، حتّى يحصل الجزم والوصول إلى النتائج.
والإنسان ـ ضمن الفحص والتحقيق والسير ـ ربّما يسير و يفحص و تنتابه حالة مرضيّة أخرى غير السفسطة ، وقد تكون مقابلة لها ، وهي حالة بُطأ اليقين لديه ، أو سرعة اليقين لديه ، وكلاهما من الحالات المرضيّة في الإدراك ، والمفروض أنّ الحالة الصحّيّة المتّزنة هي أنّه إذا رأى النتائج مُقنعة للنفس بشكل قطعي ، و بمعزل عن ميوله الشخصيّة و قناعاته الخاصّة ، فإذا كانت النتائج بنفسها موزونة و منتجة ، فاللازم أن يُسلّم و يُذعن و يقرّ بها.
فقيمة الشكّ إذاً من جهة الفحص والوصول إلى النتائج ، أمّا إذا كان الشكّ محطّة دائمة فيصبح صورة سلبيّة وصفة مذمومة ،
وكما يقال : فإنّ العلوم خزائن مفتاحها السؤال (23).
و من ثَمّ ذهبَ الفقهاء وعلماء الكلام إلى أنّ مَن اعتقدَ عقائد الحق لا عن دليل ، فهو و إن كان من الناجين ـ إن شاء الله ـ إلاّ أنّه قد ارتكب معصية ؛ لأنّه لم يعتقد ذلك عن دليل و برهان ، إذ إنّ العلم بالحقائق عن دليل واجب ، و إن كانت النجاة مرهونة بصرف اعتقاد الحقّ ولو كان عن تقليد (24).
فالاعتقاد والاعتناق عن تقليدٍ ـ بدون تفكير و تدبّر ـ لا يُعتبر اعتقاداً تامّاً ؛ لأنّه يكون في معرض الحرمان والزوال ، بخلاف الاعتناق والاعتقاد عن دليل و برهان وحجّة ، فإنّه يظلّ دائماً متمسّكاً بتلك العقيدة ، ثابت القدم على أركانها.
حصيلةُ المطاف : هذان نموذجان بشكل مختصر عن التقديس والتشكيك ، أين موضعهما من أفعال النفس ، و متى يصبحان حالة مرضيّة ، أو حالة سليمة في جهاز الوجود للنفس.
أمّا البكاء : فعلينا التعرّف أنّ حكم الفعل من قِبل أيّ جناح من أجنحة النفس يصدر ، و هل له ارتباط مع جناح آخر للنفس ؟ و هل هو صحيح وسليم مطلقاً ؟ أو قد يكون حالة مرضيّة؟
تعريفُ البكاء
يُعرّف اللغويّون البكاء : بخروج الدمع حزناً وتأثّراً (25) ، و هذا التعبير إنّما هو باللازم للمعنى الحقيقي ، أمّا علماء الأخلاق والحكماء فقالوا : إنّ البكاء هو حالة انفعال في الجناح العملي للنفس ، و هو ما يسمّى بتأثّر الضمير والوجدان في الإنسان ، سواء خرج الدمع أم لا ، مع الصيحة أو بدونها.
والمقصود بالضمير والوجدان : هو تأثّر الجانب العملي الذي فيه مزيج إدراكي ؛ (لأنّا أشرنا إلى أنّ الجناح العملي في النفس في بعض درجاته و إن كان عمليّاً ، إلاّ أنّه ممزوج بالإدراك ، أي فيه جنبة إدراكيّة ، يعني ليست جنبة عمليّة بحتة) نظير قوّة العقل العملي ، نظير الشوق ، إذ لابدّ من إدراكٍ ما ، ثُمّ يستتبعه العمل ، و نظير الغضب ، و ما شابه ذلك. على كلّ حال ، فبعض الدرجات العمليّة هي موجودة بالإدراك.
البكاء : فعل ناتج وناشئ من القوى النفسيّة الموجودة ، وهو عبارة عن حالة انكسار ، أو تأثّر ، أو انفعال ـ تعبيرات مختلفة ـ في الجانب العملي نتيجة لإدراك ما ، و ذاك الإدراك هو إدراك لحرمان ما ؛ لأنّ الكمال لم يستتمّ لدى الإنسان حتّى ينفعل تشوّقاً إليه ، فقد يكون البكاء عن تشوّق ، وقد يكون عن حزن لفقد حقّ من الحقوق ، وقد يكون مزيجاً من الحزن والشوق ، و هكذا.
المهمّ أنّه نوع من الانفعال في الجانب العملي في النفس نتيجة لإدراك ما ، و هذا الإدراك هو فقدٌ لشيء ما ، سواء في صورة الحزن ، أو في صورة الشوق ، و إلاّ لو كان الإنسان حاصلاً على ذلك الشيء فإنّه لا يتشوّق إليه ، هذا تعريف إجمالي من الحكماء أو علماء الأخلاق للبكاء.
و أمّا حكم البكاء ـ بأنّه على الإطلاق حالة سليمة في النفس ، أم هو حالة مرضيّة ، أو على التفصيل ـ فلابدّ هنا من التفصيل ؛ لأنّ البكاء يتّبع معنىً ما ، هذا الانفعال في الجانب العملي يتّبع معنىً معيّن ، فإن كان المعنى الذي يتّبعه الانفعال النفسي بحيث يكون الانفعال عنه ايجابيّاً ، و ذلك المعنى هو معنىً حقيقي و صادق إن كان ناشئاً عن معنىً صادق و حقيقة صادقة ، والتأثّر كان إيجابيّاً ، فيكون حالة صحيحة في النفس ، و أمّا إن كان المعنى الموجود معنىً غير صادق ، أو كان صادقاً لكنّ التأثّر به غير ملائم ، فسوف يكون سلبيّاً.
مثلاً إذا كان إنسان يبكي لفقد كمال معيّن : كعِلم معيّن ، أو احترام معيّن ، أو قدرة معيّنة ـ ماليّة أو غير ماليّة ـ بكى لفقدها ، فإدراك هذا الفقد حقيقي وليس كاذباً ، حيث أدرك أنّه فاقد للكمال ، والمفروض أنّ كماليّة ذلك الشيء واقعيّة ، فإنّ تأثّره بهذا الفقدان أيضاً شيء إيجابي ؛ لأنّ المفروض أنّه يتأثّر كي يستعدّ للحركة ، ولزيادة شدّة حركة النفس و طاقتها وانشدادها باتّجاه ذلك الكمال ، ولزيادة السعي نحو تحصيل ذلك الكمال ، و على عكس المقولة المعترضة على ظاهرة البكاء بأنّه يُعدّ مفرّغاً للطاقة ، بل هو يزيد سعرات الطاقة و يسرّع حركة النفس نحو تحصيل ذلك الكمال ، نعم ، هو مفرّغ للحصر النفسي ـ كما يعبّر به علماء النفس ـ لا أنّه يوجب تخفيف تشوّق النفس نحو المطلوب و نحو المتشوّق إليه.
أمّا لو فقدَ الإنسان شيئاً ، وكان ذلك الشيء موجوداً عند صديقه ، و بكى لأجل إزالة الشيء عن صديقه و حصوله عنده ، فهذا نوع من الحسد طبعاً ، إن كانت المعلومة صادقة ، وهي فقد ذلك الكمال ، ولكن تأثّره موجّه باتّجاه أن يسعى لإزالة كمال عن الآخرين ، ولا ريب أنّ هذا التأثّر سلبي وليس تأثّراً ايجابيّاً ، فتارة تكون المعلومة صادقة ولكنّ التأثّر خاطئ.
أو أنّ الإنسان قد يفقد أعزّ أحبّته فيتأثّر و هو جيّد ، لكن إذا اشتدّ البكاء أو تحوّل إلى حالة من السخط والجزع والاعتراض على الله سبحانه أو..، فهذا المظهر يكون خاطئاً ، و إن كانت المعلومة صادقة ؛ لأنّ تأثّره وِجّه بتوجيه خاطئ ، ولغاية معيّنة ، و إنّ أيّ فعل عملي ترتكبه النفس ، كأي فعل إدراكي ترتكبه النفس دائماً يكون لغاية ، فلابدّ أن نلاحظ العلّة ، و نلاحظ العِلل الفرعيّة ، والعلّة الغائيّة ، كما في العلّة الماديّة والصوريّة.
فحينئذٍ ، إذا كان البكاء منطلقاً ومتولّداً من معلومة حقيقيّة ، فيكون صحيحاً ، و إذا كان تأثّره موجّهاً إلى غاية كماليّة هادفة ، فإنّه أيضاً يكون إيجابيّاً و سليماً.
بخلاف البكاء الذي يكون لأجل غاية سلبيّة ، و بخلافة ما إذا كان مع الصبر والتحمّل.
والبكاء إنّما يحصل للتأثّر ولبيان المحبّة التي كانت بين الباكي و بين المفقود مثلاً ، الذي لأجله حصل البكاء ، فيعتبر هذا نوع من الصلة للميّت ، كما قال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حينما فقدَ ابنه إبراهيم : (تدمعُ العين ، و يحزنُ القلب ، ولا أقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون)(26) ، وفي رواية أخرى قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (لو عاشَ إبراهيم لكان نبيّاً)(27) هذا نوع من إظهار المحبّة والرحمة.
فالفعل الذي يصدره الجناح العملي للنفس تأثّراً بالجانب الإدراكي في النفس يُشترط فيه أمران لكي يكون إيجابيّاً:
أحدهما : أن يكون منطلقاً من إدراك صادق و معلومة حقيقيّة.
الثاني : أن تكون غايته غاية هادفة و إيجابيّة.
و إذا اختلّ أحد هذين الشرطين يكون البكاء سلبيّاً.
هذا ما قرّره العلماء في البحوث العقليّة والحكميّة والأخلاقيّة وفي علم النفس ، على نحو الإجمال ، حول موضوع البكاء.
في علم النفس و علم الاجتماع الحديث يذكرون في بعض تعريفاتهم : أنّ البكاء تنفيس عن الضغط ؛ لأنّ الإنسان قد تتكدّس عليه ضغوط ، فتنشأ منها حالة البكاء لدى الإنسان ، و يكون بكاؤه نوعاً من التنفيس والتخفيف ، هذه هي كلماتهم بغضّ النظر عن تصويبها أو تخطئتها أو مقارنتها مع ما ذُكر في علوم أُخرى (28).
ففي علم النفس الحديث ـ السيكولوجيا ـ ثبتَ بأنّ الذي تلمّ به فادحة و مصيبة و يتّخذ البكاء كوسيلة لتهدئته والتخفيف عنه ، يكون أبعد من غيره في احتمال وقوعه في الاختلال الروحي ، حيث يكون لديه اتّزان روحي في الحوادث والمصائب ، و إنّ نفسه تسلم و تطهر و تتخلّص من العقد ، بخلاف الذي يمتنع عن البكاء و يتجلّد ، حيث تنشأ لديه نوع من العُقد والاعتقادات الخاطئة ، أو تتكوّن لديه و ساوس و أحقاد على البشريّة ، و ربّما تصيّره وحشاً على مَن حوله أو على بيئته بسبب تلك الاعتقادات الخاطئة.
فالبكاء يولِّد نوع من الاتّزان الروحي و وقاية عن الاختلال الروحي في النفس ، و يُحصّنها من ابتلائها بالعُقد.
و تَذكر إحصائيّات في هذا الصدد أنّ مَن يمارس البكاء ـ سيّما النساء ـ يَسلم عادة من الأمراض النفسيّة أو العُقد ، أو من تلك الحالات التي تكون قريبة من الكآبة والتمرّد على المجتمع.
طبعاً هذه الضمائم نسبيّة ، والجانب العاطفي عند المرأة أكثر من الجانب العاطفي عند الرجل ، و من ثَمّ فإنّ مقابلة الرجل للصدمات أكثر من المرأة ، و لذا جَعل الدين الإسلامي الرجل هو القيّم ، و جعلَ بعهدته الجانب الإداري والتنفيذي ؛ لأنّه أشدّ و أصلب.
ولكن نفس هذا التحليل جُعل إشكالاً و عاد انتقاداً على ظاهرة البكاء ، بتقريب أنّ البكاء يُنفّس عن الإنسان الحالة الضاغطة ، فهو يُقلّل سعرة الحركة .
والعمل ؛ لأنّه يُنفّس و يهدّئ ، فيبرد الإنسان ويبقى على حالة اتّزانه ، فمن ثَمّ يكون البكاء سلبيّاً في بعض الموارد.
مثلاً : إذا وقعَ الظلم على الإنسان فهو ينفّس عن نفسه بالبكاء ، و بذلك يرجع إلى الحالة الطبيعيّة و يفقد السعرة والطاقة والباعث نحو التصدّي والمقابلة لذلك الفعل الموجّه ضدّه ، و يتقاعس عن أخذ حقّه ، و هو أثر سلبي . وفي الجواب نقول : إنّ البكاء ينفّس عن الحالة الضاغطة ، لا أنّه يُقلّل السعرة و يُخمد الهمّة لاسترجاع الحقّ ، بل على العكس ؛ لأنّ المفروض أنّ البكاء لابدّ أن يوجّه إلى غاية معيّنة ، مثل : أنّ المظلوم يبكي لفقد حقّ من حقوقه و فقد ما هو كمال له ، و هذا و إن نفّس عن نفسه من جهة الضغط المتراكم عليه نتيجة ذلك الفقدان ، لكن لا زال البكاء يزيد المظلوم تشوّقاً إلى ذلك الكمال والحقّ المطلوب ، فلا يكون نوعاً من تقليل السعرة والإرادة لإرجاع حقّه ، فإذا كان أحد الناس فاقداً لشيء و بكى لفقده ، فإنّنا نرى بالوجدان والعيان أنّه يزداد إرادة و تصميماً من ناحية ، و طاقةً و عملاً من ناحية أخرى نحو تحصيل ذلك المفقود منه ، و إنّ بكاءه لا يُعيقه ولا يمنع حركته بتاتاً ، فالإشكال بأنّ البكاء هو نوع من الممانعة نحو الحركة للكمال على إطلاقه غير صحيح و غير سديد.
و ما ذكرهُ علماء النفس أو علماء الاجتماع الحديث ، لا يتضارب مع ما نقوله : من أنّ البكاء على تفصيل بلحاظ اجتماع الشرطين (1) يكون ايجابيّاً ، و مع فقد أحدهما يكون سلبيّاً ، أمّا أنّ البكاء هو حالة انقهاريّة و انهزاميّة للنفس فهي مقولة غير سليمة على إطلاقها.
و من عمدة البحث أن نرى الرؤية الشرعيّة حول حقيقة البكاء ، هل يرى الشارع أنّ البكاء حالة سلبيّة أم ايجابيّة ؟ و على التفصيل فهل يكون بتوفّر الشرطين السابقين ايجابيّاً و إلاّ كان سلبيّاً كما ذَكر الحكماء و علماء الأخلاق.
ولابدّ من استعراض الآيات القرآنيّة العديدة والروايات الواردة في هذا الموضوع ، و من ثَمّ نبدأ في تحليل تفصيلي لأجوبة بقيّة الإشكالات السبعة.
و ما تقدّم من الشرطين في إيجابيّته : هو مورد توافق العلوم العقليّة والإنسانيّة التقليديّة القديمة في البشريّة ، والعلوم النفسيّة والإنسانيّة الحديثة (من : علم النفس ، و علم الاجتماع ، و علم السيكولوجيا) وهي تتوافق تقريباً على مثل هذا التقسيم للبكاء.
و علماء الاجتماع يلاحظون ظاهرة مفارقة بين بلدان الشرق ـ سيّما الشرق الأوسط ـ و بين بلاد الغرب ، و يشاهدون أنّ في الشرق ظاهرة و فور من العاطفة والأحاسيس ، و إنّ كثيراً من الفضائل الأخلاقيّة التي هي من سنخ القوى العقليّة في النفس ، سواء كانت تلك الفضائل العقليّة عملاً محضاً ، أو كانت مزيجاً من جهات إدراكيّة علميّة ، يلاحظون و يرون بأنّ نظم العاطفة ونظم الوجدان الموجود في الشرق ـ لا سيّما الشرق الأوسط ـ أقوى بمراتب بما لا يقاس منه في الغرب ، وكأنّما الغرب فقط قوالب إدراكيّة ، طبيعة الإنسيّة البشريّة الموجودة هناك كأنّها تقتصر على قوالب إدراكيّة قد فُرِّغت من الجانب العاطفي والجانب الروحي.
و من ثَمّ نجد الإحصائيّات تشير ـ في مجالات عديدة ـ إلى بروز الأمراض الروحيّة والعُقد وتَفكّك الأُسرة ، إلى غير ذلك ممّا هو مرتبط بجانب العاطفة والوجدان والروح والخلق المتعلّق بالجانب العملي.
فهناك فارق شاسع جدّاً بين بلاد الشرق (الأوسط) وبلاد الغرب ، بين أولئك الذين يتّخذون نمطاً من الحياة المادّيّة و الذين يتّخذون نمطاً من الحياة الروحيّة ، ولو كانوا على غير دين الإسلام من بلاد الشرق : كالهنود والبوذيّين وما شابه ذلك ، وقد أضحى هؤلاء ـ في الآونة الأخيرة ـ يتخوّفون من الغزو الثقافي الغربي والأمريكي ، الذي يكاد يهدّد الثوابت الروحيّة والعاطفيّة لديهم.
والقوانين المدنيّة إنّما وجِدت لأجل سلامة المحيط الاجتماعي ، و هو ـ مع قلّة الحريّات في المجتمعات الشرقيّة و تخلّف القانون الوضعي ـ يُعدّ في الشرق أسلم منه من الغرب.
والسرّ في ذلك : هو أنّ الإنسان في زوايا نفسه و درجات روحه لا يقتصر على جناح الإدراك ، و هو ليس مجرّد علبة كمبيوتريّة تُزقّ بالمعلومات ، الإنسان يحتوي على جناح عملي أيضاً ، بل الجناح الإدراكي ليس يقتصر على قنوات إدراك ، بل فيه إدراكات روحيّة و ما يسمّى بالحاسّة السادسة ، وهي غير الإدراكات الحصوليّة التي هي من قبيل المفاهيم ، والإدراكات الباطنيّة التي هي في أعماق الروح يُعبّر عنها الحكماء القدماء بالقلب والسرّ والخفي والأخفى ، يعني الدرجات ، فضلاً عن الجناح العملي في النفس ، فكثير من أجنحة النفس ليست إدراكاً محضاً ، والجناح الإدراكي الفوقاني (1) هو غير جناح الإدراك التحتاني (2) الذي ذَكرنا له درجات ، وهي : الوهم ، الخيال ، العقل النظري.
الجناح الإدراكي الفوقاني في النفس هو : القلب ، السرّ ، الخفي ، الأخفى ، أو ما يسمّى بأعماق الباطن في النفس ، أعماق النفس الباطنة ـ في الفلسفة الحديثة ـ ليس صرف إدراك محض ، بل فيه جذب و قطع ، وصل ونفرة ، انقباض وانبساط ، إقبال و إدبار.
هذه حالات غامضة روحيّة تناولتها الشريعة والفلسفة القديمة والحديثة والعرفان بالتحليل والدراسة ، فهذه حالات ليست حالات إدراكيّة جافّة فقط ، كذلك الجانب العملي في النفس : الغضب ، الشهوة ، الغرائز المختلفة ، قوّة العقل العملي ، الإرادة ، الصبر ، الشجاعة ، العفّة ، هي كلّها من أفعال النفس التي يتكفّل بها دائماً الجانب العملي في النفس وليس الجانب الإدراكي النازل ، فالجانب العملي ـ سواء النازل (32) ، أو العملي الفوقاني (33) ـ في الإدراك الفوقاني ، هو من الجوانب العمليّة في النفس وليس إدراكات جافّة محضة.
فلو ألقى المتحدّثون على الناس عشرات المحاضرات ، والعديد من الأفكار من دون تطعيمها بعاطفة صادقة ومن دون إثارة عمليّة للأفكار ، لم تحصل الفائدة المرجوّة لذلك ! بل النتيجة : قوالب جافّة ، و سوف لن تصل هذه البرامج الفكريّة المحضة في تأثيرها إلى البرامج العمليّة ، ولن يؤثّر ذلك بالمجتمع في طريق إصلاحه ، مع أنّ الغاية من البرامج الفكريّة هو الإقدام العملي في شرائح المجتمع.
و هذا نظير ما يقوله القائل في شأن المرحليّة الفكريّة والفكر من دون تطعيمه بعاطفة صادقة ، وقد شرحنا العاطفة الصادقة حينما تطرّقنا في البحث عن البكاء الصادق.
حيث إنّ البكاء الصادق هو أحد الحالات والظواهر العاطفيّة الصادقة كالتقديس ، باعتبار أنّ تحقّق الإدراك الصادق يحصل بمتابعة غاية صادقة و صحيحة ، فتنشأ العاطفة الصادقة ، أي تكون العاطفة ترجماناً عمليّاً للفكرة.
و أمّا تزريق : المستمع ، أو القارئ ، أو المُشاهد بأفكار و معلومات من دون أن تستثير فيه الجانب العملي والعاطفي ؛ فإنّه سيُخفق في التأثير عليه ، ولن ينجح في إرشاده إلى الصلاح ، سواء في التربية المدرسيّة ، أو الاجتماعيّة ، أو الدينيّة ، أو الحسينيّة ، و مثل تلك الطريقة لن تصلحه ولن تستثيره ، بل المفروض هو : أن تشحذ همّة إرادته حيث توجد عنده إرادة عازمة حازمة ، لكي يبدأ بتغيير مسيره.
بينما البكاء يختصر الطريق ، البكاء أو العواطف الصادقة تختصر الطريق أمام آلاف المحاضرات والأفكار ، و إنّ فكرة جامعة لمادّة غنيّة بالأفكار مقرونة بإثارة عاطفيّة صادقة نابعة من هذه الفكرة الإجماليّة الجامعة الصحيحة ، رُبّما تقلب الإنسان رأساً على عقب ، فيتبدّل وضعه ، و تتغيّر بيئته السلبيّة ، و ينقلب فجأة إلى العزم للمضي نحو الفضائل ، و ينشأ ذلك من الإثارة العاطفيّة الصادقة ، إذ المفروض أنّ الإثارة العاطفية الصادقة رسالة ، مُستمعها (المُرسل إليه) هو الجانب العملي في النفس ، والجانب العاطفي في النفس ، المنفعل والمتقبّل لها هو الجانب العاطفي في النفس ، فإذا كان المشتري والسامع والمنفّذ لها هو الجانب العملي في النفس ، فهذا اختصار للطريق ، و بعبارةٍ أخرى ، فإنّ معيّة الفكر مع العاطفة أو مع الجانب العملي في النفس ضرورة لا يمكن التفريط بها للوصول إلى الإرشاد والإصلاح الاجتماعي ، أو الفردي ، أو التربية السليمة والكمال المنشود.
و من ثَمّ حصلَ الفارق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة ، فمن الخطورة بمكان أن ننحو نحو سلبيّات الغرب ، بخلاف إيجابيّات الغرب ـ من التقدّم العلمي والتكنولوجي ـ فإنّه لابدّ من الأخذ بهما.
أمّا أن نكون مَجمعاً للروافد السلبيّة المنتشرة والشائعة في مجتمعاتهم ، فهذا مرفوض من الأساس ؛ لأنّ حقيقة الفطرة الإنسانيّة مزدوجة من جانبين ، بل قيادة النفس إنّما هي بالإرادة ، والإرادة صفة عَمليّة ، و الذي يوجدها و يولِّدها و يثيرها و يحرّكها هو جانب العاطفة ـ العاطفة الصادقة ـ أو جانب العقل العملي الصادق الوليد للجانب الإدراكي.
فإذا فقدَ الإنسان إرادته ، فإنّه سوف يفقد كلّ شيء في شخصيّته ، فالإرادة ـ التي هي أثمن شيء في الوجود ، وهي الصفة التي امتاز بها الإنسان عن بقيّة المخلوقات ـ لابدّ من تطعيمها بعاطفة صادقة ، فحينئذٍ من الجناية على المجتمع والفكر والحقيقة بمكان أن نُسمّي الفكر الجاف ، أو نسمّي عدم التفاعل الصادق مع الحقائق والجمود في قبال الحقائق ، نسمّيه نوع اعتدال ، أو نوع تقدّم ، أو حالة حضاريّة ، بل هي حالة تخلّف تقودها جاهليّة الغرب ، و هم يعانون منها الآن ، ونحن بالتبع نجترّها ، نجترّ فضلاتهم بعناوين برّاقة زائفة و أثواب جميلة خادعة ، و نتنازل عن المفاهيم والعناوين الصادرة عن تراثنا.
هذه لقطة أخيرة من حقيقة البكاء ، و هي : أنّ البكاء و أخواته من الأفعال العاطفيّة النفسيّة إذا كان ضمن الصور الإيجابيّة ، فهو من كمالات النفس و من كمالات المجتمع والبشريّة ، التي تحتاج إليها لتصل إلى رُقيّها المنشود.
و أمثلة المفردات العاطفيّة : التشكيك ، والتقديس ، والبكاء.
و نذكر الآن مفردة أخرى ، وفعلاً عمليّاً آخر يثار و هو : وصف شخص بأنّه عاطفي وانتقاده ؛ لأنّه يتأثّر بالخبر مباشرة سلباً أو إيجاباً ، و إنّ الشخص السوي والسليم : هو الذي إذا رأى صورة صادقة لا يتأثّر بها ولا يتحمّس لها ، و إذا رأى صورة باطلة لا يتنفّر منها ولا يرفضها ، و بعبارة أخرى : غلق باب العقل العملي ، وقد عرفتَ أنّ العقل العملي من فطرة الله سبحانه ، و إنّ الغاية منه قيادة حركة نورانيّة في النفس ، بحيث ينفّرها عن المنكر والنقص والمساوئ ، و يجذبها نحو الخير والكمال والفضائل ، فهو حبل ربّاني نوراني و هداية و رحمة إلهيّة.
هذه الفطرة التي أنعمَ بها الباري عزّ وجل على الإنسان ، لماذا نطمسها ؟ ولماذا نقول : بأنّ العاطفة في الإنسان تعتبر حالة شاذّة ! العاطفة ليست بجميع صورها خاطئة ، العاطفة ترجمان عملي صادق حقيقي طبيعي للإنسان إذا كان ناتجاً عن معلومة صادقة ، أو تأثّر بالنفرة والإنكار من معلومة كاذبة ، كيف تُلغى العاطفة من وجود الإنسان ، كيف تُهمل من وجود المجتمع ، اللهمّ إلاّ أن نَصْبوا إلى مجتمع مفكّك عن العاطفة والأخلاق ، كالمجتمع الغربي الذي يسبح في بحر الرذائل و يتخبّط في أدنى مستوى من الانحطاط.
التناسبُ الطردي بين المعلومة والعاطفة
نعم ، الجدير بالذكر : أنّ كلّ معلومة لها حجم مقدّر من العاطفة في علم السيكولوجيا ، إذا زاد التفاعل معها عن حجمها كان إفراطاً ، و إذا نقص عن حجمها كان تفريطاً ، و هذا مقرّر في تعاليمنا الدينيّة ، مثلاً : على الإنسان أن لا يتعدّى بالغيرة على غيرة الله في محرّماته ، فإذا جعلَ الله لشارب الخمر حدّاً معيّناً ، فيجب أن لا تشتدّ الغيرة فيُحدّ أكثر من حدّ الله سبحانه ، فإنكار المنكر اليسير يختلف عن المنكر المتوسط والمنكر الشديد الذي يصل إلى حدّ الكبيرة ، والكبائر أيضاً لها درجات ، فالزائد يكون إفراطاً وليس في محلّه ، و هناك ترابط ، فكلّ معلومة لها حجم عاطفي معيّن لابدّ أن يتولّد منها ، و عدم تولّده يعني مسخ الفطرة الإنسانيّة عمّا هي عليه ؛ لأنّ المفروض أنّ المُدركة لابدّ أن تُترجَم على الصعيد العملي ، ولو لم تُترجَم فلا فائدة من الإدراك ، و هذا هو الفرق بين النفس و بين الكمبيوتر ، و بينها و بين الكتب ، و بينها و بين مجرّد المعلومات.
فالفكرة والمعلومة كما هي خطيرة جدّاً ، و كذلك العاطفة والمقولة العاطفيّة الصحيحة خطيرة جدّاً أيضاً ، و خطورتها إيجابيّة أيضاً ، سواء في النفس ، أو في الإنسان ، أو في المجتمع ، و كما أنّنا لا يمكننا إلغاء الأفكار فكذلك لا يمكننا إلغاء العاطفة الناتجة من تلك الأفكار ، و تبديل العلم إلى الجهل مساوق لإلغاء و تعطيل العمل ، و قوام العمل بالزخم الروحي والقوّة العاطفيّة الصادقة التي تقوم بها النفس ، من البكاء والتقديس والتأثّر.
وهذا المنحى المادّي ، أو اللاروحي ، أو اللاخلقي ، ينتشر في الأوساط الفكريّة العلمانيّة والأوساط الإسلاميّة المتأثّرة بالعلمانيّة تدريجيّاً ، و هو أمر بالغ الخطورة.
هذا مُجمل البحث التخصّصي في موضوعات ظاهرة البكاء ، حيث ألقينا الضوء على البكاء من ناحية تخصصيّة بغضّ النظر عن الفقه ، و بغضّ النظر عن روايات الشريعة الواردة في خصوص البكاء على الحسين (عليه السلام) ، بغضّ النظر عن ذلك كلّه ، وفي الواقع فإنّ الشريعة لا تتناول البكاء فقط ، بل تتناول كثيراً من الأفعال العمليّة التي تقوم بها النفس و تمارسها ولكن وفق شروط و ضوابط معيّنة.
البكاءُ في القرآن الكريم
1 ـ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(34) ، فالقرآن يُثني على ظاهرة البكاء التي تنشأ من درك الحقيقة ، أي أنّه يمدح التأثّر والتحسّس العاطفي الذي يكون البكاء مظهراً من مظاهره ، وقسماً من أقسامه ، يمدحه القرآن ويصفه بأنّه : تأثّر صادق و مطلوب و طبيعي و فطري و كمالي إذا نتج من معلومة حقيقيّة (وَإِذَا سَمِعُوا ... تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) ، و هنا إشارة لنفس الشرطين اللذين ذكرناهما باعتبار أنّه تأثّر من المعلومة الحقيقيّة.
2 ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)(35) ، فيمدحهم القرآن على تأثّرهم ، هذا التأثّر هو على نحو الانفعال البكائي نتيجة التشوّق للمشاركة في فعل الخير من الجهاد والإنفاق ، هذا التأثّر يمدحه القرآن ويصفه بأنّه : فعل إيجابي و كمالي.
3 ـ (قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأذقَان سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ للأذقَان يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)(36).
مَدحهم لأجل البكاء والتأثّر ، ولو كانوا يستمعون فقط لمَا أُنزل من الوحي ولا يبكون ، فلن يكون لديهم خشوع ، والخشوع ـ الذي هو ذروة الحالات النفسيّة العمليّة ـ هو في الواقع حالة عمليّة ، ليس من الجناح العملي النازل ، بل من الجناح العملي الصاعد ، حيث مرّ بنا أنّه من أجنحة النفس الذي هو : القلب ، السرّ ، الخفيّ ، الأخفى.
فالخشوع : هو فعل من أفعال القلب وليس فعلاً من أفعال الغرائز ، وليس فعلاً من أفعال العقل العملي ، وليس فعلاً من أفعال الشهوة ، وليس من أفعال الحس ولا من الإدراك الحصولي ؛ إنّما هو فعل من أفعال إدراك الباطن العلوي في النفس و هو القلب ، فلولا البكاء لمَا حصل ذلك الفعل العلوي للنفس (وَيَخِرُّونَ للأذقان يَبْكُونَ) ؛ لأنّه ناتج من معلومة صادقة وغاية صادقة ، و هو الفرار من الذنوب والتشوّق إلى النشآت الأبديّة الخالدة ، و هذا التشوّق والتأثّر يمدحه القرآن ، و هو سير نفساني ، و سير حقيقي في النشآت الأبديّة الخالدة ، يمدحه القرآن الكريم و إن لم ندركه نحن الآن ، و سيُكشف لنا الغطاء ـ إن شاء الله ـ فندرك أنّ هذا السير النفساني هو سير في تلك النشآت وكمال فيها.
4 ـ (وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ...) تَذكر هذه الآية الأنبياء والصفة البارزة لكلّ نبيّ منهم ، إلى أن تقول : (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(37) ، فالأنبياء هم الأمثولة المحتذى بها والأنموذج المقتدى للبشريّة ، و هم المَثل السامي للبشريّة ، والقرآن الكريم يمدحهم بأنّ لهم تأثّراً عاطفيّاً يظهر بشكل البكاء.
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ) على نحو القضيّة الحقيقيّة ، أي : كلّما تُليت آيات الرحمان ـ ولو على مرّ الدهور ـ فهناك فئة ممّن هداهم الله سبحانه و اجتباهم يتأثّرون بها فيخرّون للسجود و يبكون (إِذَا تُتْلَى ... خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا).
5 ـ عندما أُخبر يعقوب بأنّ ابنه الثاني أيضاً قد أُخذ منه ، قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ (38) تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(39) يعني : ما أمارسه هو فعل من الأفعال الراجحة ، و يعقوب نبيّ من أنبياء الله عزّ وجل ، والقرآن يُخلّد ذكره و يُخلّد فعله لنا ، و يُعطينا قدوة نموذجيّة و أمثولة للاقتداء به في هذا التفاعل العاطفي ، هذا البكاء والتشوّق لنبيّ آخر هو من أبنائه ليس تشوّقاً إلى كمالٍ زائل ؛ و إنّما هو تشوّق لنبوّة نبيّ آخر ، فالغاية سامية ، والتأثّر لأجل صلة الرحم.
بكاؤه استمرّ طيلة غياب يوسف ، وأدّى إلى بياض عينيه (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) يعني : عَميت ، اشتدّ به البكاء إلى درجة العمى ، فالبكاء كان باختياره ، فإذا كان النبي يتشوّق و يبكي إلى هذا الحد ، وقد كان ضمن مَن وَصفهم الله عزّ وجل (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ...)(40) ، فيعقوب ضمن هؤلاء الأئمّة ، و مع ذلك يتشوّق إلى نبي مثله ، فكيف إذا تشوّق غير النبي و غير المعصوم إلى المعصوم ، و هل يكون تشوّقه أو بكاؤه ـ لو وصلَ به الأمر إلى الإضرار بالعين ـ فعلاً محرّماً ، هذا بحث آخر سيأتي في جهة الضرر الحاصل بسبب الشعائر.
فهذا نوع من السلوك والخُلق النبويّ الذي سطّره لنا القرآن الكريم بُغية الاحتذاء به و اتّباعه ، حيث يقول في آخر السورة : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(41) ، و بهدف التأسّي من هذه النماذج (42).
حينئذٍ ، هذا الفعل من يعقوب (عليه السلام) أورده الباري سبحانه في هذه السورة لأجل أن يُحتذى به ، و هو فعل كمالي وليس فعلاً مذموماً أو فيه منقصة ، و آية
(فَارْتَدَّ بَصِيراً) تدلّ على أنّه أُصيبَ بالعمى ، تصل الدرجة لنبي من الأنبياء أنّه مارسَ البكاء بهذه الشدّة ، فكيف يمكن أن يكون الفعل سلبيّاً ، بل فعله ايجابي ، و لذلك ضربهُ الله سبحانه أنموذجاً يُحتذى به.
6 ـ (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ)(43) ، فيها زجر و نهي عن الضحك ، و عن الإمساك عن البكاء.
فما تُطالبنا به هذه الآيات الكريمة هو : البكاء المتوفّر فيه الشرطان السابقان : و هو انطلاقه و تولّده من معلومة حقّانيّة ، و اندراجه تحت غاية كماليّة ، مثل هكذا بكاء يمتدحه القرآن أشدّ مدح.
ـ في الجانب الآخر هناك آيات تنهى عن الفرح المذموم ، مثل:
سورة هود : 10 (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).
هذه الآيات تذمّ الفرح (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)(44) ، والفرح الذي يكون منشأه حَدث دنيويّ يذمّه القرآن أشدّ الذم ، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(45) يعني بما عند الله بالآخرة ، يُخصّص الفرح الممدوح بما يكون في سياق النشأة الأخرويّة ، كما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فَرحاً : بقدوم جعفر ، أم بفتح خيبر)(46).
نعم ، هذه في سلسلة النشأة الأخرويّة ، و أمّا ما لا يصبّ في سبيل النشأة الأخرويّة فيذمّه القرآن أشدّ ذم ، و يُخصّص شطراً كبيراً منه بذمّ الفرح إلاّ ما كان قد تعلّق بالتشوّق إلى الجانب الأخروي.
و أمّا الخشية والخشوع ـ اللذان هما صفتان وفعلان نفسيّان قريبا الأفق من البكاء ـ فهما صنفان يتلازمان و يتزامنان مع البكاء ، والآيات المادحة لذلك كثيرة جدّاً (47).
الخشية ، أو الخشوع والإشفاق : حالات نفسيّة من أفعال الجانب العملي في النفس ، و تكون مقرونة بالبكاء ، بل في أكثر الأحيان ناشئة منه ، ولا تنفكّ غالباً عنه ، و إذا كان ما هو ناتج عن البكاء مُستحبّاً و راجحاً و مرغوباً فيه في الشريعة ، فالسبب (وهو البكاء) أيضاً مرغّب فيه من قِبل الشريعة أيضاً.
لذا فإنّ البكاء من خشية الله يُعدّ من أعظم العبادات ، حتّى أنّه وردت روايات عديدة في أنّ البكاء في الصلاة من أفضل أعمالها. فنظرة الشريعة ـ من خلال الآيات والروايات ـ تدلّ على أنّ البكاء المتوفّر فيه هذان الشرطان : هو من الأفعال الكماليّة النفسانيّة و من الفطرة المستقيمة للبشر ، والقرآن يمدح هذه الحالة في أنبيائه ورسله ، ويضرب لنا في ذلك أُمثولة و قدوة نتأسّى بها حتّى في الحزن ، فنظرة الآيات القرآنية ـ و قبل أربعة عشر قرناً ـ تُقرّر و تُثبت ما توصّلت إليه البحوث العقليّة والعلوم الحديثة : من أنّ البكاء ليس سلبيّاً على إطلاقه ، بل أغلب و أكثر أفراده إيجابيّةً.
بعضُ الأدلّة الواردة في البكاء
أمّا الروايات الواردة في الحثّ على البكاء ، والمدح والثناء للباكين ، فمنها:
1 ـ بكاء النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عمّه حمزة ، وحثّه وترغيبه البكاء عليه ، و يظهر ذلك من عدّة أدلّة تاريخيّة ، منها:
أ) قال ابن الأثير و غيره : لمّا رأى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حمزة قتيلاً بكى ، فلمّا رأى ما مُثّل به شهقَ (48).
ب) و ذكرَ الواقدي : أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يومئذٍٍ (49) إذا بكت صفية يبكي ، و إذا نَشجت ينشج . قال : و جَعلت فاطمة تبكي ، فلمّا بكت بكى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)(50).
ج) روى ابن مسعود ، قال : (ما رأينا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) باكياً قط أشدّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب لمّا قُتل ـ إلى أن قال ـ و وضعه في القبر ، ثُمّ وقف (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على جنازته و انتحبَ حتّى نشغ (51) من البكاء...)(52).
د) ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في ص : 40 من الجزء الثاني من مسنده : من أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لمّا رجعَ من أُحد ، جَعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتل من أزواجهنّ ، قال : فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (ولكنّ حمزة لا بواكي له ، قال: ثُمّ نام ، فانتبهَ وهنّ يبكين ، قال : فهنّ اليوم إذا يبكينَ يندُبن حمزة).
ـ وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي ، قال : لم تبكِ امرأةٌ من الأنصار على ميّت ـ بعد قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (لكنّ حمزة لا بواكي له) ـ إلاّ بدأنَ بالبكاء على حمزة (53).
2 ـ بكاءُ النبي جعفر بن أبي طالب وحثّ النساء بالبكاء عليه:
فقد أخرجَ المزّي في تهذيب الكمال عن مغازي الواقدي ، بسنده عن أم جعفر بنت محمّد بن جعفر ، عن جدّتها أسماء بنت عميس ، قالت : أصبحتُ في اليوم الذي أُصيبَ فيه جعفر و أصحابه ، فأتاني رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقد هيّأتُ أربعين منّاً من أُدُم ، و عجنتُ عجيني ، و أخذتُ بَنيّ ، و غسلتُ وجوههم ، ودهنتُهم ، فدخلَ عليّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال : (يا أسماء ، أين بنو جعفر؟ فجئتُ به إليهم فضمّهم وشمّهم ، ثُمّ ذَرفت عيناه فبكى ، فقلت : أي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلّه بَلغك عن جعفر شيء ، فقال : نعم ، قُتل اليوم.
فقالت : فقمتُ أصيح و اجتمعَ إليّ النساء.
قالت : فجعلَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول : يا أسماء ، لا تقولي هَجراً ولا تضربي صدراً ، قالت : فخرجَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى دخلَ على ابنته فاطمة ، و هي تقول : و اعمّاه.
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : على مِثل جعفر فلتبكِ الباكية.
ثُمّ قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : اصنَعوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغلوا عن أنفسهم اليوم)(54).
3 ـ بكاءُ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على ولده إبراهيم : ما أخرجه البخاري في صحيحه ، قال فيه:
ثُمّ دخلنا عليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) و إبراهيم يجود بنفسه ، فجُعلت عينا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تذرفان.
فقال له عبد الرحمان بن عوف : و أنت يا رسول الله؟
فقال : (يا بن عوف ، إنّها رحمة ، ثُمّ أتبعها بأخرى.
فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلاّ ما يُرضي ربّنا ، و إنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)(55).
و بكى كذلك على عثمان بن مظعون ، وسعد بن معاذ ، و زيد بن حارثة (56).
4 ـ ما وردَ في خطبة الأمير (عليه السلام) في وصف المتّقين ، و شدّة انفعال همام إلى حدّ الموت ، فصُعق همام صعقةً كانت نفسه فيها ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (أمَا و الله لقد كنتُ أخافها عليه ، ثُمّ قال : هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ، فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين (57) ، فقال : ويحك إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه ولا يتجاوزه ، فمهلاً لا تعُد لمثلها فإنّما نفثَ الشيطان على لسانك)(58).
5 ـ و ما ذكرهُ الأمير (عليه السلام) عندما غارت خيل معاوية على الأنبار ، و قُتل حسّان بن حسّان البكري ، فكان (عليه السلام) متأثّراً و متذمّراً ، و هو يستنهض الناس في الكوفة للقتال ضدّ معاوية ، فكان يقول (عليه السلام) : (ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فينتزع حِجلها وقلائدها و رُعثها ، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام ، ثُمّ انصرفوا وافِرين ، ما نال رجلاً منهم كلم ولا أُريقَ لهم دمٌ ، فلو أنّ امرءاً مسلماً ماتَ بعد هذا أسفاً ، ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً)(59).
فهو (عليه السلام) يصف شدّة الانفعال من جهة الغيرة (60) (الغيرة : هي أيضاً صفة نفسانيّة ، عاطفيّة ، منطلقة ووليدة من إدراك معلومة حقيقيّة ، ولأجل غاية حقيقيّة ، وهي الذبّ عن حريم الدين ، و حريم المسلمين ، والدفاع عن شرف وكرامة المؤمن).
إذاً ، الجامع بين الخشية والخشوع والأسى والحزن هو شدّة الانفعال ، و هو من المعاني الحقيقيّة ، هذه الشدّة لا يعتبرها الإمام إفراطاً ، ولا مغالاة ، مثلَ ما وقع من النبي يعقوب (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) ، أو كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (بل كان به عندي جديراً) ، حيث يصفها بأنّها فعلٌ كمالي.
6 ـ و أيضاً ، في زيارة الناحية التي نَقلها صاحب البحار ، وهي منسوبة للإمام الحجّة (عليه السلام) : (فلأندُبنّك صباحاً و مساءً ، ولأبكينّ عليك بدلَ الدموع دَماً حسرةً عليك و تأسّفاً و تحسّراً على ما دَهاك)(61) ، فهذا نوع من شدّة الانفعال التي هي ليست بمذمومة بل ممدوحة و مطلوبة.
7 ـ أيضاً في القصيدة التي ألقاها دعبل الخزاعي في محضر الرضا (عليه السلام):
أفاطم لو خِلت الحسين مجدّلاً وقد مات عطشاناً بشــطّ فرات
إذاً للطمت الخدّ فاطم عنـده و أجريت دمع العين في الوَجنات (62)
فَعلا صُراخ حرم الإمام (عليه السلام) من وراء الستر ، ولطمنَ الخدود ، و بكى الإمام الرضا (عليه السلام) حتّى أُغميَ عليه مرّتين من شدّة الانفعال والتأثّر.
8 ـ ما يُذكر في التاريخ من إغماء أمير المؤمنين (عليه السلام) مراراً من خشية الله في صلاة الليل ، وهي مسندة في تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) في المصادر المختلفة ، و نفس الحالة ثابتة أيضاً لباقي الأئمّة (عليهم السلام).
9 ـ ما ذكرهُ صاحب كامل الزيارات ابن قولويه (63) ، و نقله صاحب البحار أيضاً من كامل الزيارات نفس الرواية (64) الواردة في بكاء السجّاد (عليه السلام) و قول مولىً له : جُعلت فداك يا بن رسول الله ، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال (عليه السلام) : (إنّما أشكو بثّي و حُزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون ، إنّي لم أذكُر مصرع بني فاطمة إلاّ خَنقتني العبرة).
ـ وفي رواية أخرى : أمَا آنَ لحُزنك أن ينقضي؟!
فقال له : (ويحكَ ، إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً ، فغيّبَ الله واحداً منهم ، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه ، واحدودبَ ظهره من الغمّ ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا ، و أنا نظرتُ إلى أبي و أخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي ، فكيف ينقضي حزني)(65).
ـ و ذكرَ صاحب حُلية الأولياء : أنّه (عليه السلام) بكى حتّى خيفَ على عينيه (66).
10 ـ ما ذكرهُ الصدوق في عِلل الشرائع (67) ، من العلّة التي من أجلها جَعل الله عزّ وجل موسى خادماً لشعيب (عليهما السلام) وهي : لكثرة بكاء النبي شعيب من خشية الله حتّى عميَ مرتين أو ثلاث ، يُعمى ويردّ الله عليه بصره ، ثُمّ يبكي بشدّة و يردّ الله عليه بصره ، حيث وردَ في هذه الرواية عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قال : (بكى شُعيب (عليه السلام) من حُبّ الله عزّ وجل حتّى عَمي ، فردّ الله عزّ وجل عليه بصره ، ثُمّ بكى حتّى عَمي فردّ الله عليه بصره ، ثُمّ بكى حتّى عميَ فردّ الله عليه بصره ، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه : يا شعيب ، إلى متى يكون هذا أبداً منك ، إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك ، و إن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبَحتك ، قال : إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيتُ خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك ، ولكن عُقد حبّك على قلبي ، فلستُ أصبر أو أراك ، فأوحى الله جلّ جلاله إليه : أمَا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدِمك كليمي موسى بن عمران)(68).
11 ـ فِعل الرباب زوجة الإمام الحسين (عليه السلام) ، فإنّها من شدّة التأثّر لم تستظلّ تحت السقف (69) عاماً كاملاً إلى أن توفّيت ، وكان ذلك بمسمع و بمرأى من السجّاد (عليه السلام) ، أي مع تقرير المعصوم على هذا الفعل ، فيكون نوعاً من التصحيح والإمضاء له.
و هناك موارد عديدة غير ذلك تُصوّر شدّة الانفعال ، و تدلّ على رجحان البكاء ، والجامع بين هذه الموارد والصور المتعدّدة للتفاعل العاطفي هو شدّة التأثّر للإدراكات الحقيقيّة ، ولعلّ المتتبّع يجمع أكثر من هذه الموارد بكثير.
حينئذٍ يظهر أنّ البكاء والتأثّر العاطفي من معلومة حقيقيّة و إدراك حقيقي هو لأجل غاية حقيقيّة ، و هذه من خاصّيّة النوع الإنساني و خاصّيّة الفطرة الإنسانيّة ، و من دون ذلك سوف يفقد الإنسان إنسانيّته و يكون حاله حال الجمادات ، و يكون أدون من العجماوات ، حيث أثبتَ القرآن الكريم أنّ للسماء و الأرض بكاءً ، كما في سورة الدخان (70) ، روى الفريقان تحقّق هذا الأمر في شهادة الحسين (عليه السلام) ، مثل : ابن عساكر في تاريخه في ترجمة سيّد الشهداء (عليه السلام) ، حيث ذكرَ جملة من الروايات المُسندة في ذلك عن مشاهدة الدم تحت الأحجار و فوق الحيطان و غير ذلك.
أوجهُ الاعتراض على ظاهرة البكاء والجواب عليها
نذكر بعد ذلك ما يُثار حول ظاهرة البكاء من انتقادات و إشكالات و نتعرّض للجواب عنها بالتفصيل تباعاً ، فهناك عدّة نظريات و آراء مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوه عديدة.
الوجه الأوّل : أنّ أدلة و روايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل ، مثل : (إنّ مَن بكى و دَمعت عيناه بقدر جَناح ذُبابة ، غُفر له كلّ ذنوبه) فهذه الروايات ـ بتعبيرهم ـ مضمونها إسرائيلي ، شبيه لمَا لدى النصارى من أنّ المسيح قُتل لتُغفر ذنوب أمّته ، فهذه الروايات فيها ما يشابه هذا المضمون ، أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل ليُكفّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة ، فهي ـ بزعم هؤلاء ـ إغراء بالذنوب و إغراء للمعاصي ، فلا يمكن العمل بهذه الروايات ؛ لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكرة المسيحيّة واليهوديّة ، فحينئذٍ مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها ، وهو مضمون دخيل كما عبّروا ، وهذا الوجه ـ في الحقيقة ـ يتألّف من أمرين:
الأول : ضعفُ سند هذه الروايات.
الثاني : ضعفُ المضمون ؛ لاشتماله على هذا الإغراء الباطل.
الجواب : أمّا ضعفُ السند ، فقد ذكرنا سابقاً أنّ كتاب بحار الأنوار يتضمّن باب ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) ، و يحتوي على خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء ، و هذه الروايات الخمسون ، ممّا جَمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جَمعها صاحب الوسائل و غير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى ، فكيف نردّ هذه الروايات ؟ و بأيّ ميزان دِرائيّ و رجالي نُشكّك بها ؟ فالقول بضعف السند لهذه الروايات ناتج من ضعف الانتباه أو ضعف الحيطة العلميّة ؛ لأنّه بأدنى تصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة تحصل القناعة واليقين بوجود أسانيد كثيرة جدّاً ، منها : الصحيح ، والموثّق ، والمُعتبر ، فضلاً عن كونها تصل إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر.
و أمّا المضمون ، فقد طعنَ عليه غير واحد ، حيث قالوا : إنّ ذِكر الثواب في البكاء على الحسين (عليه السلام) ، فيه إغراء للناس لارتكاب الذنوب والاتّكاء على البكاء ، و يستشهدون على ذلك : بكون كثير من العوامّ يرتكبون المعاصي ويشاركون في نفس الوقت مشاركة فعّالة في الشعائر الحسينيّة و يخدمون و يحضرون المجالس و يبكون ، و اتّكالاً على هذه المشاركة و تذرّعاً بهذا البكاء فإنّهم يرتكبون ما يروق لهم من المعاصي ، فبالتالي يصبح مضمون هذه الشعائر باطلاً.
الجواب عن هذا الإشكال : إنّ مثل هذا المضمون موجود في موارد عديدة في الشريعة ، و هي موارد مسلّمة ، مثلاً : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(71) ، فهل هذا إغراء بالصغائر ، أو : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(72) ، هل هذا إغراء بكلّ المعاصي غير الشِّرك؟!
يُضاف إلى ذلك ، روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله ، منها:
عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (مَن خرجَ من عينيه مثل الذُباب من الدمع من خشية الله ، آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر)(73).
و قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته ، حرّم الله ديباجة وجهه على النار)(74) فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب ؟! و كذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم و غيرها من الثواب العظيم ، و غفران الذنوب ، بل يمكن الردّ على الإشكال في هذه الموارد بوجوه عديدة:
أوّلاً : الترغيب في نفس العمل ، لا أنّه إغراء بالمنافرات والمضادّات.
ثانياً : فتح باب التوبة و عدم اليأس.
ثالثاً : إنّ البكاء من خشية الله ؛ إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنب ، وليس من باب العلّة التامّة ، أي أنّ هناك أموراً و شرائط أخرى لابدّ من توفّرها مع المقتضي ، من قبيل : عدم الإصرار على الصغائر ، والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية و غير ذلك ، فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات و توفّر المقتضي فتحصل العلّة التامّة للتكفير أو للمغفرة ، لذلك نقول : إنّ هذه الأمور هي من باب المقتضي وليست من باب العلّة التامّة. و رابعاً : في آية (إِنْ تَجْتَنِبُوا...) المقصود تكفير الذنوب السابقة وليس الآتية في المستقبل ، و الذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفّق إلى مثل هذا التكفير والغفران ، و هذا نظير ما وردَ في باب الحج : أنّ مَن حجّ يقال له بعد رجوعه استأنفَ العمل (75) ، أو أنّه يرجع كما ولدتهُ أمّه ، و يُغفر لمَا سبقَ من ذنوبه ، فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب ، بل المقصود : أنّ هذه مقتضيات ، لا أنّها تُحدّد المصير النهائي والعاقبة النهائيّة.
وقد ورد في مضمون بعض الروايات : مَن مات على الولاية ، يَشفع و يُشفّع (76) ، لكن مَن يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان يرتكب الذنوب والكبائر ، فليست ولاية أهل البيت مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي.
إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُسبّب فقدان أغلى جوهرة و أعظم حبل للنجاة ، و هو العقيدة ، و يؤدّي إلى ضياع الإيمان ، حيث قال تعإلى : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)(77) ، حيث إنّ مجموع الدين يُعتبر كتلة واحدة ، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى ، و إذا كان تمام الأدلّة الدينيّة يشير إلى أنّ ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة ـ والعياذ بالله ـ فليس فيها جانب إغراء ، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة ، وهي : أنّها تُخلّص الإنسان و تنقذه من حضيض المعاصي والرذائل ، و تعرج به إلى سموّ الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم.
فإنّ التفاعل العاطفي مع أحداث عاشوراء ليس يُنفّر من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقط ، بل هو أيضاً ينفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها ، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر حالة تأنيب الضمير لذلك ، فهو يُجسّد في نفسه الصراع والجهاد ، فإذا عَرضت له أشكال من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة ، و ينشأ في روحه جانب تأنيب الضمير ، فهذا نوع من الانجذاب القلبي والعزم الإرادي نحو الصراط المستقيم.
وليس مفاد الروايات : أنّ مَن بكى على الحسين فلهُ الضمان في حسن العاقبة ، وله النتيجة النهائيّة في الصلاح والفلاح ، ليس مفادها ذلك ؛ إنّما مفاد الروايات : مَن بكى على الحسين غُفرت له ذنوبه ، مثل أثر فريضة الحجّ ، و غفران الذنوب مشروط ـ كما يقال ـ بالموافاة ، والموافاة : اصطلاح كلامي و روائي ، أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة ، و إلاّ فمعَ سوء العاقبة ـ والعياذ بالله ـ ترجع عليه السيئات و تُحبط الحسنات ولا تُكتب له.
فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي ، وليست هي كعقيدة النصارى بأنّ المسيح قد قُتل ليُغفر للنصارى جميعاً ، حتّى وإن عملوا المعاصي والكبائر و أنواع الظلم والعدوان ، ولا كعقيدة اليهود الذين قالوا إنّ عزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه.
وإلاّ لأُشكلَ علينا أنّ قرآننا توجد فيه إسرائيليّات ، فمنطق الآية : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ...) يختلف عن ذاك المنطق الذي ينادي به النصارى ، أولئك يقولون : نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحسنى ، فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده؟
مضمون أن يُغفر له ولو كان كزبد البحر ، مخالفٌ غير ذلك المعنى أصلاً ، بل فيه نوع من إدانة المذنبين ، إضافةً إلى فتح باب الأمل و عدم القنوط و عدم اليأس ، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات ، ولا يقع في طريق المعاصي و يتخبّط في الذنوب.
الوجهُ الثاني : سلّمنا بكون هذه الروايات المشتملة على البكاء تامّة سنداً و متناً و مضموناً ، لكن مضمونها غير أبدي ، وليس بدائم ، مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمّة (عليهم السلام) ، وهي فترة وحقبة التقيّة ، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم و إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) هو البكاء ، أمّا في يومنا هذا ، فالشيعة ـ و لله الحمد ـ يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة ، فليست هذه الوسيلة صحيحة.
كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها هو : حصول غرض معيّن ، و هو إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) ، أو التولّي لأهل البيت ، و إظهار الاستنكار والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم ، باعتبار أنّ الظرف كان ظرف تقيّة ، كانت الأفواه مكمّمة ، و كانت النفوس في معرض الخطر من الظالم ، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك ، أمّا في أيّامنا هذه ـ وقد زال الخوف ـ فهذا ليس بالأسلوب الصحيح.
أمّا الآن فقد انتفت الغاية منها ، فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة ، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة.
الجواب : فنقول : أمّا كونه أحد الغايات للبكاء فتام ، لكن ليس هو تمام غاية البكاء ، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة ، هذا أوّلاً ، و ثانياً : ما الموجب لكون هذه الغاية غير قابلة للتحقّق ، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق ؛ لأنّ البكاء نوع من السلوك التربوي لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين و من غير المسلمين ، و إلاّ لو حاولت ـ إظهار النفرة لظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة ـ بمجرد كلمات فكريّة أو إدراكيّة يكون الأسلوب غير ناجح و غير نافع ، وقد يُسبِّب ردّة فعل سلبيّة عندهم ، أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة ، و أنجح علاجاً لهداية الآخرين ، لمَا مرّ من أنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نَمطين جِبلييّن : نَظري إدراكي ، و عَملي انفعالي.
والغاية ليست منحصرة في ذلك ، بل هناك عِلل كثيرة ـ كما سنقرأ من الروايات في ختام بحث البكاء ـ و حصر علّة البكاء بهذه العلّة غير صحيح.
اعتراض : أمّا ما يقال : بأنّ الحسين (عليه السلام) قد منعَ الفواطم أو العقائل من شقّ الجيوب ، و خَمش الوجوه ، و نهاهنّ عن البكاء ، فهذا النهي في الواقع مُغيّى
و مُعلّل ، عندما أخبرَ الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب ، لطمَت وجهها و صاحت و بكت ، فقال لها الحسين (عليه السلام) : (مَهلاً لا تُشمِتي القوم بنا)(78).
حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى ؛ لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسي في معسكر الحسين (عليه السلام) ، أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام) ، أو إخماد الوَلولة وكَبت شِدّة الحُزن فهي نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين (عليه السلام) ، وحدٌّ من وصول ظلامته إلى أسماع العالَم بأسره ، وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصلَ صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالَم ، و أنجحَ نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليها السلام) و خطبها ، و خُطب السجّاد (عليه السلام) في المواضع المختلفة من مشاهد السبي لأهل البيت (عليهم السلام)(79).
والسرّ واضح ؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى ، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة ، بل هو ظرف حزم الأمور وقوّة الجَنان ، و محاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام).
الجواب : ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة انفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معيّن ، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما.
و أصلاً ؛ فإنّ التفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفي من جهة ، و بين الإحساس والإدراك لأمرٍ ما من جهةٍ أخرى غير ممكن ، بل البكاء ـ كما بيّنا فيما سبق موضوعاً وحكماً ، سواءً بالحكم العقلي أو النقلي ـ هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة ، و شدّة التأثّر بها ، و شدّة الإذعان والمتابعة لها ، فلو أنّ الإنسان ذكرَ معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها ، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها ، ولم يُرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة ، بخلاف ما لو تأثّر بها بأيّ نوع من التأثّر ، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة.
و من غير الممكن أن توجد ظاهر البكاء في الجناح العملي في النفس و كفعل نفساني ، من دون أن يكون هناك إدراك ما ، فكيف إذا كان إدراك حرمان ذروة التكامل في المعصوم ، و شدّة الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة ، و من ثَمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمثل الأعلى ، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة و ينفعل بدرجة عالية ، هذا أدنى ما يمكن أن يتصوّر.
و هذا التفاعل : إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم ؛ و إنّما التأثّر به والقرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل ، ويُعتبر نفرة عن الرذائل.
فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء (عليه السلام) ، والبراءة من أعدائه و مناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت (عليهم السلام).
و هذه أقلّ حصيلة يمكن أن تُتصوّر في البكاء ، حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً ، و هو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به ، حيث يولِّد الانجذاب نحو الفضائل ، والنفرة والارتداع عن الرذائل ، و هل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا ؟ و هل الغاية في نشر الدين و تبليغ الرسالة إلاّ انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به إلى سموّ الفضائل.
هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء ، فهو نوع من المجاوبة والتفاعل لا الجمود والخمول ، ولا الحياديّة السلبيّة.
فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وتُعرض عليه رذيلةً ، فيظلّ مرتاباً متردّداً ، ومتربّصاً في نفسه لا يحسم الموقف : (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ)(80) ، فيضلّ يعيش فترة حياديّة مع نفسه ، لا هو ينجذب للفضائل ، ولا يتأثّر بالرذائل ، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص ، و هذه حالة التربّص قد ذمّها القرآن الكريم ، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق و علم السير والسلوك ؛ لأنّ نفس التوقّف هو تسافل و دركات ، أمّا الانجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم.
فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والإذعان ، وبالتالي التبعيّة.
بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل ، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة ، وشتّان بين الحالتين!
أضف إلى ذلك : أنّ في البكاء نوعاً من التولّي ، حيث إنّ البكاء يدلّ على فإذاً ، ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط و تدبير و حزم ، وليس من الصحيح إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف ، فمن ثَمّ فإنّ أمره (عليه السلام) مختصّ بذلك الظرف ، و هو نوع من التدبير والحكمة منه (عليه السلام) ، ولابدّ من لمّ الشَمل و جمع الشِتات للأرامل واليتامى ، و إنّ ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة.
خلاصة القول : في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة : أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعي ، هو أنّ هناك شرطان لرجحان البكاء هما : أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقي ، و أن يكون لغاية حقيقيّة و هادفة إيجابيّة ، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب ، و هو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة ، و خَلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّي والفعلي مع الحقيقة.
و بعبارةٍ أخرى : أنّ إعطاء السامع ، أو القارئ ، أو المُشاهد ، أو المُوالي فكرة إدراكيّة بحتة غير مثمر بمفرده ، و إنّ البكاء بمنزلة إمضاء مُحرّك للسير على تلك الفكرة ، أو ما يعبّر عنه : بحصول إرادة جدّيّة عازمة فعليّة للمعنى.
فالبكاء إذا ولّدَ حضور الفكرة ، العِبرة إذا تعقّبت العَبرة حينئذٍ يكون نوع من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة. و يُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي و إيمانه و اختياره لمسيرة تلك العِبرة.
الوجهُ الثالث : الذي يُذكر للنقض على البكاء : أن لو سلّمنا أنّنا قَبلنا بأمر البكاء في الجملة ، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنوي ، أو راتب شهري ، أو أسبوعي بشكلٍ دائم يولِّد حالة و انطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت (عليهم السلام) ، بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغون ، و إنّهم يحملون العُقد ، و استمرارهم بالبكاء و اجترارهم له يدلّ على أنّهم عَديمي الأمل فهذه ظاهرة سلبيّة انهزاميّة تكشف عن عُقد روحيّة ، و كبت نفسي دَفين ، فبدل أن يَقدموا على أعمال و برامج و مراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على مَن ظلمهم ، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع ، و هذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة ، هي حالة توجِد خَللاً في الاتّزان الروحي (كما في علم النفس وعلم الاجتماع) ، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحي ؛ و إنّما حالة اختلال فكري لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل ، بل نحن عديمو الأمل ، لدينا حالة كبت ، و هذه الأوصاف هي أوصاف مَرضيّة وليست أوصاف روحيّة سليمة.
فحينئذٍ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مرضيّة بإجماع العلوم الإنسانيّة التجريبيّة الحديثة ، ولمّا كانت هذه الظاهرة المرضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة ، فمن اللازم الابتعاد عنها و نبذها جانباً.
فملخّص الاعتراض في هذا الوجه الثالث : هو كون البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسيّة ، و هو يوجِب انعكاس حالة مرضيّة روحيّة لأفراد المذهب و أبناء الطائفة.
الجواب : فنقول : على ضوء ما ذكرنا سابقاً من كلمات علماء النفس والاجتماع والفلسفة : بأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لابدّ لها من التأثّر والتفاعل ، أمّا التي لا تتأثّر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة ، إذ فيها جناح واحد فقط و هو جناح الإدراك ، أمّا جناح العمل فإنّه مُنعدم فيها ، كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة.
فعلى عكس زعم المُعترض ، تكون هذه حالة صحيحة و سليمة وليست حالة مرضيّة ، ولا حالة عُقد ، بل ذكرنا أنّ العُقد إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للانفعال ، يعني أنّ الذي لا ينفعل ، و الذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه و الذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدَمات إلى أن تصبح عُقد و تناقضات ، و إلى أن تنفجر يوماً ما ، و ربّما تظهر لديه حالات شاذّة من قبيل : سوء الظن بالآخرين ، أو اتّخاذ موقف العَداء لجميع مَن حوله.
والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة ـ بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم ـ نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس ، فالذي لا يُبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة ، ولا تظهر أشكالها عليه ، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد و أكوام من العُقد ، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب العاطفة ، والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ و متولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقي.
فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلابدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان.
لذلك نجد أنّ المنطق القرآني والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة ، كلّها تُقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن يتمّ ترجيح جانبٍ للنفس دون جانب آخر.
فإذاً ، المنطق المتعادل والمتوازن هو كون نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة.
الوجهُ الرابع : أنّ البكاء ظاهرة تُنافي الصبر المرغوب فيه ، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجل ، كما في سورة البقرة (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (81) فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل و مُناقض للاستعانة بالله سبحانه.
الجواب : أمّا الجواب لمَا قيل من وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة كما في الآية الشريفة : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(82).
فنقول : كيف يتّفق هذا مع بكاء يعقوب على يوسف حتّى ابيضّت عيناه ، هل هذا خلاف الصبر ؟ أو بكاء السجّاد على أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام) والأوامر التي بَلغت حدّ التواتر ، الواردة في ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) إلى ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بل في بعضها إلى يوم القيامة.
فهل يتنافى ذلك كلّه مع الصبر ؟ كلاّ.
وقد وردَ عن الصادق (عليه السلام) : (إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) ؛ فإنّه فيه مأجور)(83) ، هذا ليس استثناءً متّصلاً ، بل هو استثناء منقطع ؛ لأنّ الجزع نوع اعتراض على تقدير الله و يُعتبر حالة من الانهيار والتذمّر والانكسار ، أمّا في الجزع على الحسين فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره ، بل هو ـ بالعكس ـ نوع من الاعتراض على ما فعله أعداء الله ، ولا يُعدّ انهياراً أو انكساراً ، بل هو ذروة الإرادة للتخلّق والاتّصاف بالفضائل ، وشَحذ الهِمم للانتقام من الظالمين ، والاستعداد لنصرة أئمّة الدين والتهيئة لظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).
فقد يقال : أليس الحالة التي يندب إليها الشرع والقرآن عند المصيبة هي الصبر و قول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، فلا موضع للبكاء ، بل البكاء يخالف الخُلق القرآني والتوصية الشرعيّة في ذلك ، و نرى أنّ القرآن حين يستعرض لنا بأنّ الصبر هو الموقف الإيجابي عند البلاء والمصيبة ، وفي نفس الوقت يستعرض لنا القرآن أمثولة نموذجيّة وهي : نبيّ الله يعقوب ، يستعرض فعله بمديح وثناء لا انتقاصَ فيه ، مضافاً إلى ما وردَ عن الصادق (عليه السلام). ينحلّ هذا التضاد البدوي بأدنى تأمّل ؛ و ذلك بالبحث عن سبب كراهة الجزع ، أو عن سبب إيجابيّة الصبر في المصائب ، باعتبار أنّ الجزع مردّه إلى كراهة قضاء الله و قدره ، و مآله إلى الانهيار أو الانكسار مثلاً ، ولا ريبَ هذا أمر سلبيّ و غير إيجابي ؛ لأنّه من الضعف و عدم الصمود والطيش ، و عدم رباطة الجأش ، و عدم الرضا بقضاء الله سبحانه و تعإلى وقدره ، أو مردّه إلى الاعتراض على الله ـ والعياذ بالله ـ أو كراهة ما قضى الله سبحانه ، ولذلك لو كان الصبر في موضع آخر لمَا كان الصبر ممدوحاً ، مثلاً : صبر المسلمين مقابل كيد الكافرين ليس موضع صبر ؛ لأنّ اللازم عليهم الردّ و حفظ عزّتهم لو كان لهم عدد وعدّة و مع توفّر الشروط الموضوعيّة للقتال ، كما في تعبير الآيات القرآنية مثل : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (84).
فالصبر ثمّة ليس في محلّه ، و مثله تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : (رَوّوا السيوف من الدماء ، تَرووا من الماء)(85) ، و (ما غُزي قومٌ في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا)(86) ، فيتبيّن أنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد ، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً ، وإلاّ قد يكون خلاف ذلك ، فمن ثَمّ قد يكون إيجابيّاً و سلبيّاً فلابدّ أن يُقسّم الصبر إلى : مذموم ، و محمود.
و مثلُ ما في قول النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي (عليه السلام) : (أبشِر فإنّ الشهادة من وراءك ، فكيف صبرك إذاً ، فقلتُ : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر..)(87).
أي هذا موضع إبراز الشكر لله ، لا موضع السكوت والتحمّل والصبر ، نعم ، هو مقابل اصطدام البليّة يكون صبراً ، أمّا في مقابل تقدير الله ، ليس عليك فقط أن تصبر ، بل عليك الشكر والرضا بقضائه و قدره.
فالصبر درجة ، أمّا الشكر لله سبحانه والرضا بقضائه و قدره فهو أرقى و أسمى.
الصبر وتحمّل المصيبة يمثّل درجة ، أمّا الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه و بحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى ، فتكون مورداً للرضا وللشكر ، و هذه الحالة لا تُنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة ، كذلك في موارد التشوّق إلى ذكر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، حيث وردَ على لسان الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم يَعدّون خسران و فقدان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مصيبة عُظمى ، و تعبيرهم (عليهم السلام) : (لم يُصب أحد فيما يُصاب ، كما يُصاب بفقد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى يوم القيامة ، فهي أعظم مصيبة).
إذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه و قدره ، فهذا صحيح وفي محلّه ، لكن ليس معنى ذلك استلزامه عدم إبراز الأحاسيس ، و عدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الانجذاب للنبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، بل ههنا عدم إظهار ذلك غير محمود ، الإظهار هو نوع من الفضيلة زائدة على الصبر ، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر.
وفي مصحّحة معاوية بن وهب : (كلّ الجَزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام))(88).
وفي رواية علي بن أبي حمزة : (إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور)(89).
وفي صحيح معاوية بن وهب الآخر ، المروي بعدّة طُرق عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (و ارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا ، و ارحَم تلك القلوب التي جَزعت و احترَقت لنا ، و ارحَم الصرخة التي كانت لنا)(90).
الجَزع : بمعنى الانكسار ، ولكنّه هنا ليس انكساراً ، وليس بجزع بحقيقته ، نعم ، جزع من ظلم الأعداء و جزع من رذائل الأداء ، و هذا جزع محمود وليس جزعاً مذموماً ، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء (عليه السلام) ، كما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة ، قالت : لمّا مات إبراهيم بكى النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى جَرت دموعه على لحيته ، فقيل : يا رسول الله ، تنهى عن البكاء و أنت تبكي؟!
فقال : (ليس هذا بكاء ؛ وإنّما هذه رحمة ، و مَن لا يَرحم لا يُرحم)(91).
والسرّ في ذلك : هو أنّ أيّ فضيلة من الفضائل التي هي مربوطة بالخلق الإلهي ، أو بالآداب الإلهيّة ، أو بكلمات الله ، كنماذج مجسّمة في المعصومين (عليهم السلام) ، فعدم التفاعل الشديد معها و مع هذا الخلق ومع تلك الآداب ، يُعتبر أمراً غير محمود بل مذموماً ، فلابدّ من الانجذاب والتولّي والمتابعة والمودّة لهم ، و هذا التشوّق ليس بالمذموم بل محمود و حسن ، ليس هو من الجزع المذموم ، والتشكّي ليس فيه اعتراض على الله ، بل هو اعتراض واستنكار على الظلم والظالمين و نبذ للرذيلة و أصحابها ، كما في جواب العقيلة (عليها السلام) حينما دخلت في الكوفة إلى مجلس عبيد الله بن زياد ، و توجّه إليها وقال : كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ و بأهل بيتكِ ، قالت : (ما رأيتُ إلاّ جميلاً)(92).
في حين أنّها تُبدي استنكارها من عُظم الفجيعة ، وقد أحاطتها هالة من الحُزن والأسى.
الوجهُ الخامس : أنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة ، وفي البكاء يسبِّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته (عليه الصلاة والسلام) ، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة ، بل هي حالة هيجان و اضطراب نفسي ، و هذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة ، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو : الاتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته (عليه السلام) ، والاقتباس من أنوار سيرته ، وليس حصول حالة هيجان عاطفي وحماسي فقط من دون تدبّر و رَويّة.
فإذاً ، سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة ، والحال أنّ المطلوب من الشعائر : هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة ، و أخذ العِبر والعِظات التي ضحّى سيّد الشهداء (عليه السلام) من أجلها ، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك ، فبدلَ استلهام الدروس والعِبر تُستبدل بحالة عاطفيّة!
و ربّما ترجع هذه الإشكالات بعضها إلى البعض الآخر ، و إن اختلفت عناوينها.
و بعبارةٍ أخرى : أنّ التمادي في البكاء يُسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر ، فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابي مع أغراض و غايات الشعائر الحسينيّة ، و إنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها و تفريغها عن مضمونها.
فالبكاء : صِرف تأثّر عاطفي من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة ، أو من دون إدراك أغراض و غايات و أهداف النهضة الحسينيّة.
الحبّ ، و هل التولّي إلاّ الحبّ ؟ و هل هناك مصداق للحبّ أوضح و أصدق من البكاء على مصابهم ؟ والحُزن لحزنهم ؟ والنفرة من أعدائهم ؟ و بعبارةٍ أخرى : لو لم يكن للبكاء إلاّ هذا القدر من الفائدة لكفى ، فهو نوع من المحافظة على جذور و أسس رُكني العقيدة المقدّسة الشريفة ، ألا وهما التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائه و أعدائهم.
نعم ، لابدّ فيه من إعطاء حقّ جانب الإدراك ، مثل : لابُدّية إعطاء جانب العاطفة حقّها ، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر ، كما يظهر من الروايات أنّ هناك دعوة إلى البكاء ، كذلك هناك و رايات للتدبّر والتأسي بأفعالهم (عليهم السلام) والاقتداء بسيرتهم : (... ألا و إنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ، ويستضيء بنور علمه...)(93) ، هذا ضمن مضامين متواترة من الآيات والروايات ، التي لا يتمّ الاقتداء والتأسّي إلاّ بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر بها.
و مع ذلك ، فإنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل ـ سواء في نثر ، أو شعر ، أو خطابة ـ لا يمكن فرضه إلاّ مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها ، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة ، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعِبرة ولو بنحو الإجمال ؛ لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دوماً معلولة لجانب إدراكي.
الوجهُ السادس : البكاء في الواقع يُستخدم كسلاح ضدّ النفس ، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضدّ العدو ، أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العملي والبرنامج التطبيقي ، بينما هذه الشحنة التي امتلأ بها واختزنَ بها إذا فرّغها عن طريق البكاء ، فكأنّما وجّه الصَدمة إلى داخل أعماق نفسه بدل أن يستفيد من تلك الصدمة ، أو المصيبة ، أو البليّة ، أو المدافعة ، كشحنة مختزنة و طاقة مكبوتة يمكن أن يستفيد منها في المضيّ قِدماً نحو البرامج الهادفة و نحو السلوك العمليّ البنّاء ، فإذا أفرغها عن طريق البكاء ، فحينئذٍ يكون قد ضيّع تلك الشحنة ولم يستفد منها في سبيل تحقيق هدفه ، بل سوف تترك هذه الشحنة آثارها السلبيّة على نفسه ، فإنّ شعور المظلوم المُفعم بالعدوان عليه سوف يجد له طريقاً لتنفيسه بشكل سلبي ، و سوف تضيع هذه الطاقة الكامنة للانتصار للمظلوم ، و إعادة الحقّ إلى أهله.
و يأتي هذا المُستشكل ـ في الإشكال السادس ـ بشواهد عديدة ، مثلاً : لمّا أُصيبت قريش و نُكبت في معركة بدر فإنّهم منعوا البكاء في مكّة ، وقالوا : يجب أن لا يبكي أحد ، و ظلّت شحنة المصيبة مختزنة حتّى وقعت الحرب الثانية (معركة أُحد) ، حيث قاموا بتفريغ تلك الشحنة و تمّ لهم النصر ، هذا شاهد على جدوى تأخّر امتصاص الصدمة إلى وقت آخر.
كما يمكن العثور على شواهد عديدة في تاريخ الأمم ، أنّهم إذا أُصيبوا بمصيبة أو بليّة أو فجيعة ؛ فإنّهم لا يفرّغون ذلك بتوسّط البكاء ، بل يُفرغوها عن طريق العمل المُبرمج والمدروس والهادف.
وبعبارةٍ مختصرة : فإنّ البكاء سلاح ضدّ النفس والمفروض أن يكون سلاحاً ضدّ الأعداء ، و هو نوع من تفريغ سعرة الطاقة الكامنة في النفس.
الجواب : و هذا الإشكال قد ذكرنا له أمثلة نقضيّة ، وهو : أنّ مَن يفقد شيئاً يتشوّق إليه ، فإذا بكى يزداد حرصاً و طلباً و إرادةً للوصول إلى ذلك المفقود ، لا أن تخفّ الطاقة المحرّكة نحو ذلك المفقود.
و أمّا كونه سلاحاً ضدّ النفس ، فهذا غير صحيح ، نعم ، مَن يبكي بداعي الاعتراض على أمر الله سبحانه ـ لا سمحَ الله ـ و يجزع و ييأس من روح الله ولا يُسلّم بما يُكتب له في حياته ، فهذا نوع من الجَزع الممقوت ، و نوع من الانكسار والانهيار ، و هذا خُلف الفرض الذي نفرضه في البكاء على الحسين (عليه السلام).
حيث إنّ في البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام) نوع من الانجذاب والتشوّق للفضائل والكمالات ، ليس فيه نوع من اليأس ، أو الحرمان ، أو التشاؤم ، وفي الروايات بيان ترتّب الفضل والثواب على هذه الظاهرة ، مثل : (إذا أُصِبتم بمصاب ميّت ، فاذكروا مصابَكم لفقدكم لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، لم يُصب أحد بشيء بأعظم ممّا أُصيبَ بحِرمانه بفقدان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم))(94).
فالروايات تؤكّد : أنّك إذا أُصِبت بمصيبة ، عليكَ أن توظِّف هذه الطاقة العاطفيّة في الانجذاب إليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) و إليهم (عليهم السلام) ، فتنتشل نفسك من الحسرة ، فالذي يُصاب بمصاب ما ، ثُمّ يَعقد مجلساً لندبة مصاب سيّد الشهداء (عليه السلام) و يبكي يثاب على ذلك ؛ لأنّه قد نقلَ نفسه من حالة انهياريّة يائسة إلى حالة مِلؤها العمل ، و مِلؤها الانجذاب إلى الفضائل والنفرة من الرذائل ، بل قد انتشلَ نفسه من مسير خاطئ إلى مسير سليم.
هذا هو الفرق الدقيق بين الحالتين : البكاء الممدوح للحصول على الفضائل والنفرة من الرذائل و هو فعلٌ كمالي ، أمّا البكاء على الرذائل فهو مذموم ، يعني لو بكى المرء ـ لأجل خسارة ماليّة ـ بكاءً شديداً ، و إذا تحوّل البكاء إلى نحو من الاعتراض على الله ـ لا سمحَ الله ـ يكون مذموماً بل من الكبائر.
بخلاف ما إذا كان البكاء على الفضائل من حيث هي فضائل ، كما هي الفضائل المجسّدة في وجوداتهم (عليهم السلام) والرذائل المجسّمة في أعدائهم ، فإنّه نوع من الانفتاح والرجاء و بداية التصميم على الاقتداء و عدم التشاؤم ، و نوع من تدّفق الروح والأمل في السير النفسي.
فالإشكاليّة على ظاهرة البكاء تدور ضمن هذه الوجوه الستّة ، وهي مجمل الانتقاد والمعارضة لهذه الظاهرة وقد سَردنا أجوبة هذه الوجوه تباعاً.
نظرةٌ حول روايات البكاء
و من باب التيمّن والتبرّك نذكر بعض الروايات الواردة في البكاء (95) ، كنهاية للبحث في هذه الجهة السادسة في المقام الثاني للكتاب.
وقد ذكرنا سابقاً أنّ أبواب المزار التي تربو على أربعين باباً ، عَقدها صاحب الوسائل في زيارة الحسين (عليه السلام) ، والبكاء عليه و رثائه ، و إنّها بشكل أو بآخر تتعرّض للبكاء ، كذلك الأبواب العديدة التي ذكرها المرحوم المجلسي في تاريخ الحسين (عليه السلام)(96) ، أو في جزء كتاب المزار من البحار (97) ، كلّها تشير إلى جهة البكاء ، و سنتعرّض لبعضها.
الرواية الأولى (98) : السند : أحمد بن محمد البرقي (المعروف بابن خالد البرقي) ـ في المحاسن ـ عن يعقوب بن يزيد (من الثقاة الأجلاّء الكبار) ، عن محمّد بن أبي عمير (هو من أصحاب الإجماع) عن بكر بن محمّد الأزدي (ثقة ؛ لأنّه هو الذي يروي عنه محمّد بن أبي عمير) ، عن الفضيل بن يسار (من الفقهاء وأصحاب الإجماع في الطائفة) ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (99) قال : (مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو مِثل جناح الذُبابة ، غفرَ الله ذُنوبه ولو كانت مِثل زَبَد البحر)(100) ، هذه الرواية صحيحة السند ، و ذكرنا أنّه لا إيهام في مضمون الرواية ، و إنّ مؤدّاها ليس كمؤدّى صكوك الغفران النصرانيّة المسيحيّة التي تقول : افعل ما شئت إلى يوم القيامة فإنّك ـ و إن ساءت عاقبتك ـ سيُغفر لك بقتل المسيح ، فإنّه قد تسبَّب بقتله تكفير ذنوب أتباعه ، و هذه عقيدة باطلة.
و من البديهي بين المسلمين : أنّ التوبة توجِب محو الذنوب ، لكن من دون كون التوبة تُغري للوقوع في المعاصي ، و من الأمور المسلّمة بين المسلمين : أنّ التوبة بابها مفتوح حتّى تبلغ النفس التّراقي ، من دون استلزامها للإغراء ، كما لا إغراء في نصوص التوبة القرآنيّة والروائيّة ؛ لأنّها تنضمّ إلى مفاد آخر و هو : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ) (101).
فما هو الضمان أن يعيش أبد الدهر ، أو يعيش أكثر عمره في المعصية والفجور والتجرّي على الله سبحانه ثُمّ يوفّق للتوبة ، وليس هناك من ضمان بأنّه سيتوب ، إذ قد يفاجأه الموت قبل التوبة.
أضف إلى ذلك لساناً آخراً من الآيات الكريمة : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً) (102) ، هذه الآية ليست خطاباً فقط لمَن لم يتب من الذين اجترحوا السيئات ، إذ إنّ اجتراح السيئة و إن كان يعقبه التوبة بعد ذلك ، و كانت التوبة تمحو السيئات ، لكن لا يتساوى ذلك التائب مَحياً و مماتاً و جزاءً مع مَن كان طول عمره على الطاعة ، والآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ...) ، لم تقيّد بأنّهم لم يتوبوا ، (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا) ، لا يستوون ، و كذلك في دعاء كميل (103) مثيل لمضمون هذه الآية الكريمة.
باب التوبة مفتوح حتّى آخر لحظة من لحظات العمر ، لكن ليس في التوبة إغراء على المعصية ؛ لأنّه لابدّ من جمع ألسِنة الشرع و تعاليم الشرع حتّى يتعرّف الإنسان على مراد و مغزى الشارع ، إذاً هذه الرواية تامّة الدلالة صحيحة و عالية الإسناد.
و وجه المضمون هو : أنّ الانجذاب لهم (عليهم السلام) هو ابتعاد عن الرذائل ، و عن حضيض الدركات والمهلكات ، والعلو بالنفس إلى أوج الفضائل و ذروة المكارم ، و من ثَمّ تُغفر ذنوب المنجذب ولو كانت مثل زَبد البحر.
الرواية الثانية : عن عبد الله بن جعفر الحِميري (الفقيه المعروف في الطائفة ، صاحب قرب الإسناد ، وكانت حياته في الغيبة الصغرى) ، عن أحمد بن إسحاق الأشعري (المعروف الجليل ، من عمدة الطائفة الذي تشرّف برؤية الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، و هو من أبلغ الشيعة بنيابة النائب الأول) ، عن بكر بن محمّد (نفسه بكر بن محمّد الأزدي الذي مرّ سابقاً ، و يروي عنه أحمد بن إسحاق ؛ لأنه عمّر طويلاً كما ذكرَ النجاشي) ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (تجلسون و تتحدّثون ، فقال : نعم ، فقال (عليه السلام) : إنّ تلك المجالس أُحبّها ، فأحيوا أمرَنا ، رَحمَ الله مَن أحيا أمرَنا ، يا فضيل ، مَن ذَكرَنا أو ذُكِرنا عنده ، ففاضَت عيناه ولو بِمثل جناحِ الذباب ، غفرَ الله ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر)(104).
و مضمون هذه الرواية عين مضمون الرواية الأولى ، وللرواية طريقان ، ولها تتمّة زيادةً عن رواية محاسن البرقي ، ولها طريق ثالث أيضاً صحيح السند ، بنقل الصدوق عن محمّد بن الحسن بن الوليد (شيخ الصدوق ، ومن عظماء الطائفة) ، عن الصفّار (محمّد بن الحسن الصفّار) ، عن أحمد بن إسحاق ، عن بكر بن محمّد مثله.
فهذه الرواية التي وردت بلفظ : (كمثل جناح الذباب) مرويّة بثلاثة طرق من أعالي الإسناد.
الروايةُ الثالثة : رواية صحيحة السند ، ولها ثلاثة طرق أيضاً ، أحسن طرقها , الطريق الذي يرويه علي بن إبراهيم في تفسيره ، عن أبيه إبراهيم ابن هاشم ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم (105) ، عن أبي جعفر (عليه السلام).
و هناك طريق لابن قولويه أيضاً.
و على كلّ حال يكفينا طريق علي بن إبراهيم ، و هو صحيح ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : (كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول : أيّما مؤمنٍ دَمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتّى تسيل على خدّيه ، بوّأه الله غُرفاً يسكن فيها أحقاباً ، و أيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فيما مسّنا من الأذى من عدوّنا (106) بوّأه الله مبوّأ صِدق ، و أيّما مؤمنٍ مسّه أذىً فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدِّه فيما أوذيَ فينا ، صرفَ الله عنه وجه الأذى ، و آمنه يوم القيامة من سخطه والنار)(107).
الروايةُ الرابعة : دأبَ صاحب الوسائل أن يتعرّض في أوائل كلّ باب للطرق ، والروايات الصحيحة الإسناد ، ثُمّ للموثّقة ، ثُمّ الضِعاف ، ثُمّ لروايات العامّة أيضاً.
و هذه الرواية من الروايات المعروفة المشهورة ، و سَندها معتبر ، و هو كما يلي :
الصدوق عن محمّد بن علي ماجيلويه (وقد وثّقه غير واحد من متأخّري الرجاليّين ، و من الأجلاّء ، وكان له نسبة مع البرقي ، و من رواة و محدّثي قم) ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم صاحب التفسير المشهور ، عن أبيه إبراهيم (108) بن هاشم (الثقة) عن الريّان بن شبيب (ثقة أيضاً) ، فالرواية صحيحة السند (109).
عن الرضا (عليه السلام) ، أنّه قال : (يا بن شبيب ، إن كنتَ باكياً لشيءٍ فابكِ للحسين بن عليّ (عليه السلام) ، فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش ، و قُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ، ما لهم في الأرض شبيه ، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ، (و هناك روايات عديدة بهذا المضمون : أنّ سائر المخلوقات ، من السماوات والأرضين والجبال والكائنات بكت الحسين (عليه السلام) ، و بكاء السماء والأرض والحجر والمدر مرويّ بما يزيد على عشر طرق في كتاب تاريخ دمشق للحاكم ابن عساكر ، و طرق أخرى عامّيّة ، فضلاً عن الطرق الخاصّة ، و فضلاً عمّا نستفيده من الآية الشريفة في سورة الدخان ، (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)(110) ، فلا يوجد في القرآن : ما أكلت السماء ، أو ما نامت السماء ، الفعل إذا نُفي عن شيء دلّ على أنّه من شأنه أن يفعل ذلك ، فالآية لا تنفي الشأنيّة بل هي تثبت الشأنيّة و تنفي وقوع الفعل ، فالسماء من شأنها البكاء ، وقد بكت مع بقيّة المخلوقات على سيّد الشهداء (عليه السلام).
وقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ... ، إلى أن قال (عليه السلام) : يا بن شبيب ، إن بكيتَ على الحسين (عليه السلام) حتّى تسيل دموعك على خدّيك غفرَ الله لك كلّ ذنبٍ أذنبتهُ ، صغيراً كان أو كبيراً ، قليلاً كان أو كثيراً ، يا بن شبيب ، إن سرّك أن تلقى الله عزّ وجل ولا ذنبَ عليك فزُر الحسين (عليه السلام) ، يا بن شبيب ، إن سرّك أن تسكن الغُرف المبنيّة بالجنّة مع النبيّ وآله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، فالعَن (111) قَتَلة الحسين (عليه السلام)...
يا بن شبيب ، إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمَن استشهدَ مع الحسين (عليه السلام) ، فقُل متى ذَكرته : يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً (112) ، يا بن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجِنان ، فاحزَن لحُزننا ، و افرح لفرحنا ، و عليك بولايتنا ، فلو أنّ رجلاً أحبّ حجراً لحشره الله معه يوم القيامة (113)).
هذه بعض الروايات ذكرناها للقارئ الكريم من باب التيمّن والتبرّك ، والتي تدلّ على فضيلة واستحباب البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام).
مهما عظُم لا يصل إلى أهميّة النفس ، لا سيّما أنّهم لم يقيّدوا المال بكونه خطيراً.
وقد نُسبَ إلى الأكثر التمسّك بعموم (مَن قُتل دون ماله فهو شهيد ..) ، والعموم يتناوله كما هو الصحيح ، لكن ليس من باب تزاحم حفظ المال وحفظ النفس ، فالنفس هي المعيّنة للحفظ ، والواجب حفظها ، بل يُعاقب إذا لم يحفظها ، ولا يمكن جعلهُ في عداد الشهداء.
بل هو من باب الدوران بين حفظ النفس أو حفظ الفضيلة : وهي الإباء ، و عدم الذلّ والخنوع ، و هو نمط من إنكار المنكر ، لذلك فإنّ مَن قُتل دون ذلك فهو شهيد ، و هذا الفرق يوقفنا على فتاوى الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أنّه مَن قُتل في سبيل إنكار منكر ، أو في طريق أمرٍ بمعروف (بتفصيل مذكور في محلّه من جهة نوع المنكر و نوع المعروف و درجتهما) لا يُعدّ مخالفاً شرعاً ، فالضرر إذا ترتّب في الجملة على هذا الواجب ، لا يعني أنّ ما فعله كان غير سائغ و غير جائزٍ ؛ لمَا قرّرنا وبيّنا ، أنّ مشهور الفقهاء على أنّ قاعدة (لا ضرر) ، رافعة من باب التزاحم ، وليس من باب التخصيص ، فهي رافعة للتنجيز والعزيمة ، لا أنّها رافعة لشرعيّة الحكم من أساسه.
و هذا فرع آخر ، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرناه على نحو الإجمال.
هذا هو الشاهد الأول لقاعدة معرضيّة الهلكة في سبيل الفضيلة.
الشاهدُ الثاني : ما سيأتي في الوجه الثاني (114) ، من ورود جملة من الروايات المعتبرة في أبواب المزار المعتضدة بسيرة الطائفة في عصر الأئمّة (عليهم السلام) ، الدالّة على ندب زيارة الحسين (عليه السلام) والحثّ على ذلك ، ولو في ظروف الخوف على النفس ، أو العرض ، أو المال ، وقد استظهر منها جملة من الأعلام عموم جواز الإقدام مع الخوف والرجحان في مطلق أفراد الشعائر الحسينيّة ، و سيأتي تقرير ذلك.
الشاهدُ الثالث : المصادر التي ذكرناها في البحث الروائي للبكاء ، أوّلها قصّة يعقوب في سورة يوسف : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)(115).
فواضح من الآيات : أنّ النبي يعقوب (عليه السلام) حَزنَ حُزناً شديداً ، و هو فضيلة التشوّق من نبي لآخر لا إلى جهة النبوّة فقط ، و إلاّ فإنّ بقيّة أولاد يعقوب بنون أيضاً ؛ و إنّما من جهة تشوّق النبي لنبي آخر ، وحُبّ في الجمال المجسَّم في ذلك النبي الآخر ، فإيقاع النبي يعقوب نفسه في الحُزن ـ مع أنّه حينما اشتدّ به الحزن والأسى انتقده الآخرون حتّى أهله و بنوه ، ولكن في تصوّرهم الخاطئ ، أنّ هذا الفعل يؤدّي به إلى أن يكون حَرَضاً أو يكون من الهالكين (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) وفي البكاء الشديد والحزن المستمر ـ معرضيّة تؤدّي إلى الحَرض أو إلى الهلاك ، و بعد ذلك حصلَ بياض العينين فعلاً ، وقد عَميت العين ، و مع ذلك يُقرّر القرآن قول يعقوب ، و هو قول نبي من الأنبياء أنّ هذا أمرٌ فضيلي ، وليس بأمر مذموم.
والحاصل : أنّ إيقاع النبي يعقوب نفسه في هذه المعرضيّة ليس فيه أيّة حريجة ، بل بالعكس كان ذلك منه فضيلة ، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) ،
و من ثَمّ أعطى يوسف (عليه السلام) قميصه لأخوته كي يسلّموه لأبيهم ليرتدّ بصيراً ، فهذا فعلُ نبيٍّ مقرّر من الشريعة الإسلاميّة ، وليس فعلاً منسوخاً ، بل فعلٌ مقرّر عُدّ قدوة لنا ، كما قال تعالى في ذيل سورة يوسف : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(116) ، و من ثَمّ استشهدَ به السجّاد (عليه السلام) ، و هذا الشاهد مطابق تقريباً لنفس الفرض الذي نريد الوصول له ، و هو : أنّ البكاء نوع من الفضيلة.
نفس بكاء يعقوب على يوسف فيه تدليل على عظمة النبوّة في خصوص يوسف ، و عظمة النبوّة بصورة عامّة ، وليكون نوعاً من التنبيه والإشارة للأسباط من بني يعقوب على مقام النبوّة ، ثُمّ لينتشر في نَسل بني إسرائيل.
فإلقاء النبي يعقوب نفسه في مُعرضيّة التلف ، أو تعريضه لأشرف وأكرم عضو من أعضاء الإنسان ـ و هو العين ـ للتلف أوضح دليل على المطلوب.
و نظيره ما ذكرناه عن النبي شعيب مُسنداً في كتاب عِلل الشرائع (117) ، أنّه بكى من خشية الله فعميت عينه ، ثُمّ ردّ الله عليه بصره ، ثُمّ بكى من خشية الله ، فعميت ، ثُمّ ردّ الله عليه بصره ، (مع التسليم بأنّ البكاء الشديد هو في معرضيّة العَمى للعين) و هذا فعل نبي من أنبياء الله عزّ وجل.
و نظير ذلك منقول عن أبي ذر : أنّ أباذر عميَ في آخر حياته لطول سجوده ، و هذا الفعل قد أثّر أيضاً في ترجمة عديد من الأصحاب في عهد الأئمّة (عليهم السلام) .
________________________________________
(1)في ج 44 : باب 34 في تاريخ الحسين (عليه السلام) ، باب ثواب البكاء على مصيبته (عليه السلام).
(2) كتاب الحج : باب 66.
(3) المصادر التي يعتمد عليها صاحب الوسائل ، والمصادر التي يعتمد عليها العلاّمة المجلسي ، بينهما عموم و خصوص من وجه ؛ باعتبار أنّ المرحوم المجلسي لم يُكثر من النقل من الكتب الأربعة حفاظاً على بقاء شهرة الكتب الأربعة ، ولكي لا تُستبدل الكتب الأربعة بالبحار ، فإنّه ـ تقديساً لهذه الكتب ـ لم ينقل عنها الكثير ؛ و إنّما نقلَ من كتب أخرى ، بينما صاحب الوسائل كان نقله أكثر شيء من الكتب الأربعة ، ثُمّ في المرحلة الثانية على كتب أخرى.
و لذا يوصي بعض أكابر العلماء بمراجعة الدورة الفقهيّة الموجودة في بحار الأنوار والمختصّة بالفروع ، والتي هي تبدأ من ج 80 (من البحار) إلى ج 100 ، حيث إنّ هذه الروايات في البحار مصادرها تختلف غالباً ـ من أوّل كتاب الطهارة إلى الديّات ـ عن الروايات الموجودة في الوسائل ، و إن كان بينها اشتراك.
(4) مستدرك الوسائل 10 : 181.
هناك نظرة وهي : أنّ كلّ ما في المستدرك من طُرق فهي ضعيفة ، و هذه نظرة خاطئة ؛ لأنّ المستدرك يعتمد على الروايات التي فاتت صاحب الوسائل والموجودة في مصادر مختلفة مثل : قرب الإسناد ، و محاسن البرقي ، و كتب الصدوق ، كعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ، و معاني الأخبار والأمالي ، وعِلل الشرائع و غيرها ، هذه الروايات من هذه الكتب أكثرها مُسندة وليست مرسلة ولا مقطوعة.
(5) مثلاً وردت عناوين عديدة فيما يتعلّق بتاريخ الإمام الحسين (عليه السلام) في كتاب البحار ، أو في الكتب الروائيّة المتعدّدة التي أشرنا إليها.
كما في : مزار الوسائل ، و مزار المستدرك ، وفي كامل الزيارات ، وكتب الشيخ الصدوق التي خُصّصت للروايات الواردة في قضيّة الحسين (عليه السلام) ، مثل : مقتل الصدوق ضمن عدّة مجالس وردت في أمالي الصدوق ، وعِلل البكاء في عِلل الصدوق و غيره ، حتّى كتاب محاسن البرقي ، و كتاب قرب الإسناد ، وقد جُمعت كثير من الروايات في نفس عنوان الباب حول الحسين (عليه السلام) ، إلاّ أنّها كلّها تردّد عنواناً معيّناً بألفاظ مختلفة و هو البكاء.
(6) وسائل الشيعة : 14 : 505 ، باب استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) ؛ بحار الأنوار : 44 : 280 / ح9 عن الصادق (عليه السلام) : (كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام)).
(7) وسائل الشيعة 14 : 506.
(8) وسائل الشيعة 14 : 507 ؛ 10 : 396.
(9) وسائل الشيعة 14 : 509.
(10) مستدرك الوسائل 2 : 445.
(11) وسائل الشيعة 14 : 411 ـ باب 37 من أبواب المزار ، نقلاً عن الكافي 4 : 583.
(12) بحار الأنوار 2 : 32 : 33 ؛ مصباح الشريعة (المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)) : 13.
(13)الاقتصاد (الشيخ الطوسي) : 14 ؛ روضة الواعظين (الفتال النيسابوري) : 20.
(14) راجع توحيد المفضّل : القسم الخاص لبيان أسرار و عجائب الحيوانات ـ بحار الأنوار 3 : 90.
(15) إبراهيم : 22.
(16) مستدرك الوسائل 16 : 220.
وفي الكافي 2 : 440 ، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : (يا ربّ سلّطتَ عليّ الشيطان وأجريتهُ منّي مجرى الدم ..).
(17) النمل : 14.
(18) آخر بحث الانسداد في كتاب نهاية الدراية للشيخ الأصفهاني.
(19)الروم : 10.
(20) رسائل المرتضى (الشريف الرضي) 2 : 216.
(21) عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (حبّك للشيء يُعمي و يُصمّ) بحار الأنوار 77 : 166 / ح 2.
(22) بحار الأنوار 75 : 357 / ح 17 عن نهج البلاغة ـ رسائل المرتضى 2 : 216.
(23)قال الخليل : العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها ، نهج البلاغة 20 : باب 486 : 247.
(24)مثلاً : مَن يتّبع هذه الحقيقة عن تقليد وهي : أنّ الكهرباء قاتلة ؛ فإنّه سوف ينجو من الكهرباء و إن كان اعتقاده عن تقليد و بدون دليل ، ولكن لو عَلم بأنّ الكهرباء قاتلة عن طريق الدليل لمَا كان في معرض الشكّ ؛ لأنّ الذي يبني على أنّ الكهرباء قاتلة من دون دليل ، قد يكون في معرض الوقوع في هلكة الكهرباء ؛ لأنّه قد يشكّكه أحد ، فالإذعان بالحقائق ـ ولو عن تقليد ـ أمر له فائدته ، لكن ليس كمَن يعتقد و يذعن بالحقائق عن دليل و برهان.
(25)) قال الجوهري : البكاء يُمدّ و يُقصر ، فإذا مددتَ أردت الصوت الذي يكون مع البكاء ، و إذا قصرتَ أردت الدموع و خروجها.
(26)بحار الأنوار 16 : 235 / ح 35.
(27) بحار الأنوار 22 : 458 / ح 4.
(28) وجود ظاهرة اجتماعيّة وهي : أنّ مَن يُصاب بحادثة أو مصيبة يحاول أن يتّخذ مجالس تعزية بالإجارة ، (و علماء النفس والسيكولوجيا في أوروبا يوصون بذلك) بأن يُستأجر جماعة ، و يتباكون معه للتنفيس عن الضغط الذي حلّ بصاحب المصيبة ، و هو نوع من الحالة الصحّيّة لمَن ألّمت به المصيبة والفادحة .
(29) ذكرنا الشرطين ص : 274 من هذا الكتاب.
(30) جناح الإدراك الفوقاني : هو الإدراكات الحضوريّة الوجدانيّة.
(31) جناح الإدراك التحتاني : هو الإدراكات الحصوليّة بتوسّط القوى الفكريّة.
(32)الجانب العملي النازل مثل : الغضب ، والشهوة ، والغرائز المختلفة.
(33) الجانب العملي الفوقاني : هو إدراك حضوري مزيج مع العمل.
(34) المائدة : 82 ـ 83.
(35) التوبة : 91 ـ 92.
(36)الإسراء : 107 ـ 109.
(37) مريم : 58.
(38) لا تفتأ ، لا تنقطع.
(39) يوسف : 83 ـ 86.
(40) الأنبياء : 73.
(41) يوسف : 111.
(42)وكما قال الزمخشري مخاطباً الأشاعرة مع أنّه من العامّة ، في ذيل الآية (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) (يوسف : 24) : قاتَلهم الله ، عمدوا إلى سورة ضربها الله مثلاً للبشريّة إلى يوم القيامة ؛ احتذاءً لعفّة النبي يوسف ، فجعلوها نقضاً على الله سبحانه في كتابه.
(43)النجم : 59 ـ 60.
(44) القصص : 76.
(45) يونس : 58.
(46) مقاتل الطالبيّين (أبو الفرج الأصفهاني) : 6 ؛ الاحتجاج (الطبرسي) 1 : 172.
(47)مثل : سورة الزمر : 23 (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ) ، الحديد : 16 ، الأنبياء : 90 ، الحشر : 21.
(48) أُسد الغابة 2 : 48.
(49) أي : يوم أحد.
(50) كما نقلَ ذلك السيّد شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد : 293.
(51)النشغ : الشهيق حتى يبلغ به الغشي.
(52)ينابيع المودّة (القندوزي) 2 : 215 ؛ شرح مسند أبي حنيفة (ملاّ علي القاري) : 526 ؛ ذخائر العقبى (أحمد بن عبد الله الطبري) : 181.
(53)عن كتاب النص والاجتهاد : 297 ؛ و هناك شواهد كثيرة على ثبوت بكاء النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، وحثّه عليه ، وقد جمعَ أكثرها السيّد عبد الحسين شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد : 297 ، فراجع.
(54)تهذيب الكمال (المزي) ج 5 : 60.
(55)صحي البخاري : كتاب الجنائز ، باب قول النبي : (إنّا بكَ لمحزونون).
(56) راجع كتاب النص والاجتهاد : 295.
(57)أي : لمَ سبّبتَ له ذلك.
(58) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبدة 2 : 160 ، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 10 : 149.
(59) نهج البلاغة 2 : 74.
(60) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (الغيرةُ من الإيمان ، والبذاء من الجفاء) ، كتاب النوادر (قطب الدين الراوندي) : 179 ؛ بحار الأنوار 103 : 250 / 44.
وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (كان إبراهيم أبي غيوراً ، و أنا أغيَر منه ، و أرغمَ الله أنف مَن لا يغارُ من المؤمنين) بحار الأنوار 103 : 248 / 33.
(61)بحار الأنوار 101 : 238 / 38.
(62) ذكرها الصدوق مسندة في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 : 263 ؛ بحار الأنوار 45 : 257 / 38.
(63)في الباب 35 .
(64)بحار الأنوار 46 : 108 / 1 .
(65) بحار 46 : 108.
(66) المصدر السابق.
(67) علل الشرائع : 1 / 74 ، 57 / باب 51.
(68)عِلل الشرائع 1 : 57.
(69) لواعج الأشجان (السيّد محسن الأمين) : 223.
(70) الدخان : 29.
(71)النساء : 31.
(72)النساء : 48.
(73)روضة الواعظين (الفتال النيسابوري) : 452.
(74) المصدر السابق.
(75)بحار الأنوار 99 : 315 / 6 ؛ و كذلك في تفسير القمّي 1 : 70 ؛ واللفظ للأخير : عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : (إنّ العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجّاً ، لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلاّ كُتب له بها حسنة ، و مُحيَ عنه سيّئة ، و رُفع له بها درجة ، فإذا وقفَ بعرفات فلو كانت له ذنوب عدد الثرى رجعَ كما ولدتهُ أُمّه ، فقال له : استأنِف العمل ..).
(76)ورد في بحار الأنوار 8 : 30 عدّة روايات بهذا المضمون منها : عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (إنّي أشفعُ يوم القيامة فأُشفّع ، و يشفع عليّ فيُشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون ، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفَع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجبوا النار).
(77) الروم : 10.
(78) اللهوف في قتلى الطفوف (السيّد ابن طاووس) : 55 ؛ بحار الأنوار 44 : 391 / 2.
(79)و هناك نهي آخر عن الحسين لسكينة بالخصوص مُغيّى أيضاً بقتله ، كما يظهر من الأبيات المنسوبة له (عليه السلام) حين توديع ابنته سكينة:
سيطولُ بعدي يا سُكينة فاعلَمي مـنكِ البكاء إذا الحِمام iiدَهاني
لا تُـحرقي قلبي بدمعك iiحسرةً مـادام مني الروح في iiجثماني
و إذا قُـتلتُ فأنتِ أولى iiبالذي تـأتينهُ يـا خـيرة iiالنِسوان
مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب) 3 : 257.
(80)الحديد : 14.
(81) البقرة : 156 ـ 157.
(82)البقرة : 156 ـ 157.
(83) بحار الأنوار 44 : 291 / 32. راجع روايات الجزع ص : 312 من هذا الكتاب.
(84)البقرة : 193.
(85)نهج البلاغة 3 : 244.
(86) نهج البلاغة 2 : 74.
(87) شرح نهج البلاغة 9 : 305.
(88)وسائل الشيعة 14 : 505 أبواب المزار ـ باب 66 استحباب البكاء لقتل الحسين و ما أصاب أهل البيت (عليهم السلام).
(89) وسائل الشيعة 14 : 507 أبواب المزار باب 66 ، ح13.
(90) وسائل الشيعة 14 : 412 أبواب المزار باب 37 ، ح7.
(91) وسائل الشيعة 3 : 282 أبواب الدفن باب 88 ، ح 8.
(92)بحار الأنوار : 45 : 116.
(93) شرح نهج البلاغة 16 : 205.
(94)الوسائل ، كتاب الجنائز ، أبواب التعزية على الميت.
(95)في باب المزار / باب 66 من كتاب وسائل الشيعة : ج 14.
(96)بحار الأنوار : ج 44.
(97) بحار الأنوار : ج 97.
(98)وسائل الشيعة 14 : 501 ـ باب 66 كتاب المزار ، باب استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) و ما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) ، و خصوصاً يوم عاشوراء و اتّخاذه يوم مصيبة و تحريم التبرّك به.
(99) الرواية صحيحة السند بدرجة عالية.
(100)وسائل الشيعة 14 : باب 66 : 501 رواية 19690.
(101)الروم : 10.
(102) الجاثية : 21.
(103)أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ).
(104) وسائل الشيعة 14 : 501.
(105)هناك سند قبله و هو : الصدوق ، عن محمّد بن موسى بن المتوكّل قد ترضّى عليه الشيخ الصدوق ، و إلاّ ليس فيه توثيق خاص ، و نحن نستحسن طريق الصدوق ، ولا حاجة لذكر ذلك الطريق في المقام.
(106) فتكون شاملة للبكاء على مصاب الزهراء (عليها السلام) ، و بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) و ذراريهم أيضاً.
(107) تفسير القمّي 2 : 291.
(108)إبراهيم بن هاشم : أوّل مَن نشرَ أحاديث الكوفيّين في قم ، روى عن ستّين رجلاً من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) من أكابر الثقاة عند المتأخّرين ، و أدمَن ابنه عليّ بن إبراهيم الرواية عنه ، و نقل الآخرين أيضاً عنه فأصبحت جلالته واضحة ولا غبار عليها.
(109)و هو في أمالي الصدوق : 112 / ح 5 ؛ وفي عيون أخبار الرضا 1 : 299.
(110) الدخان : 29.
(111) اللعن لأعداء الدين هو أحد أقسام الشعائر الدينيّة والحسينيّة ، و سيأتي التعرّض لمبحث اللعن في هذا الكتاب إن شاء الله ، فانتظر.
(112)هذه من المستحبّات الأكيدة ، وهو (عليه السلام) ، في صدد سرد أقسام الشعائر الحسينيّة.
(113) الوسائل 14 : باب 66 : 503 : رواية 9694.
(114) تقرأه ص 351 فما بعد من هذا الكتاب.
(115)يوسف : 84 ـ 85.
(116) يوسف : 111.
(117)عِلل الشرايع 1 : 74.
البكاء : أحد أقسام الشعائر الحسينيّة ، ولأهمّيّته عقدَ المرحوم الشيخ المجلسي (قدِّس سرّه) ـ في كتابه بحار الأنوار ـ باباً خاصّاً للبكاء على مصيبة سيّد الشهداء (1) ، وقد جمعَ في ذلك الباب ما يزيد على الخميس طريق أو رواية ، و أيضاً عقدَ باباً آخر ، و هو باب (ثواب مَن أنشدَ في الحسين عليه السلام شِعراً).
وقد عقدَ الشيخ الحرّ العاملي بدوره في كتاب وسائل الشيعة ، كتاب المزار ، آخر كتاب الحجّ (2) ، باباً جمعَ فيه بالتحديد عشرين رواية أو طريق في ثواب البكاء ، وهناك أبواب أُخرى ذَكرها صاحب الوسائل تقرب من أربعين باباً (في أبواب المزار) ، اشتملت على أقسام عديدة في الحثّ على الشعائر الحسينيّة ، من قبيل : زيارته (عليه السلام) ، و إقامة المأتم عليه ، والبكاء ، و إنشاء الشِعر وإنشاده وغيرها.
و هذه الروايات ـ التي جَمعها صاحب الوسائل في باب 66 ـ ليست هي الروايات الوحيدة التي وردت في البكاء ، بل الأبواب الأخرى أيضاً متضمّنة لذلك ، حيث فيها روايات عديدة متعرّضة لأمور أخرى ، ثُمّ تُعرّج على البكاء بنحوٍ أو بآخر. وكمحاولة لجمع الروايات في هذا الباب فهي تقرب من خمسمائة رواية (3).
أمّا كتاب مُستدرك الوسائل للمحقّق الشيخ النوري (قدِّس سرّه) ، فقد نقلَ في أبواب المزار (4) روايات تطرّقت لموضوع البكاء بطرق عديدة ، سواء كانت تحت عنوان البكاء مباشرة ، أو تحت عناوين أخرى أيضاً واردة لمناسبة أو أخرى ، إلاّ أنّها تتعرّض للبكاء.
و من الكتب التي تطرّقت لهذا البحث : كتاب كامل الزيارات لابن قولويه ، شيخ الطائفة في عصره (جعفر بن محمد القمّي) المعروف ، و هو أستاذ الشيخ المفيد ،
والكتاب مشهور بين علماء الطائفة.
والمجاميع المتأخّرة و إن كانت تُبوّب هذه الأبواب ، إلاّ أنّ المتتبّع لها وللكتب القديمة يجد ـ مثلاً ـ رواية عُثر عليها في بعض الكتب المتأخّرة الثقافيّة ، منقولة عن كتاب محاسن البرقي ، لم يوردها صاحب الوسائل ولا المستدرك ، ونقلها البرقي في باب الأطعمة والأشربة ، عند ذِكر الطعام الذي يُقدّم للسجّاد (عليه السلام) ، وهي مرتبطة بالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام).
فتقصّي الكتب المتقدّمة والمتأخّرة ومراجعتها أمر لازم ، وقد مرّ بنا أنّ في كتاب أمالي الصدوق (قدِّس سرّه) عُقدت عدّة مجالس ـ أو أمالي ـ في المقتل قد يُطلق عليه مقتل الصدوق ، ولو اقتُطع هذا الجزء و أُبرز ككتاب مستقلّ بحيث يكون باسم (مقتل الشيخ الصدوق (قدِّس سرّه)) ، لكان مصدراً معتمداً في هذا الباب أيضاً.
البكاءُ ذَروة الشَعائر الحسينيّة
يعتبر البكاء من عمدة أقسام الشعائر الحسينيّة ـ كما في كلمات الفقهاء والمحقّقين والمؤرّخين ـ بل نستطيع أن نسمّيه الشريان الدموي للعديد من الأقسام في الشعائر الحسينيّة ، مثلاً : انظر إلى الخطابة ، أو إلى الشعر ، أو النثر ، أو الرثاء ، أو التمثيل ـ الشبيه ـ أو انظر إلى اللطم والعزاء ، أو لبس السواد ؛ فإنّ كلّ هذه الظواهر المختلفة من الشعائر الحسينيّة ، حينما تريد أن تتألّق و تحلِّق و تبلغ ذروتها تصل إلى حدّ البكاء ، فالبكاء حينما جعلناه قسماً من أقسام الشعائر الحسينيّة ، فإنّه في الحقيقة هو ليس قسماً مقابل الأقسام الأخرى ، بل ربّما جعله بعضهم مَقسماً لأقسام الشعائر الحسينيّة ، و إن كان المَقسم للشعائر الحسينيّة هو ما ذكرناه في الجهة الأولى من تحديد الماهيّة الحقيقيّة للشعائر الحسينيّة ، بلحاظ أنّها شعيرة وعلامة على معنىً سامٍ و حقيقة خالدة.
و هذا الاهتمام الكبير بالبكاء ، إنّما نشأ من توصية الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة (عليهم السلام) ، من خلال الحثّ الأكيد والتوجيه الشديد إليه ، لذا اعتدّ به علماء الإماميّة ـ سواء المحدّثون ، أو المؤرّخون ، أو الفقهاء ـ في فتاواهم المتعلّقة بالشعائر الحسينيّة ، حيث يبرز البكاء عندهم كأنّه العمود في خيمة الشعائر الحسينيّة ، و ما ذهبَ إليه فقهاء الإماميّة أو بقيّة أصناف علماء الإماميّة ليس هو فقط كفتاوى مسلّمة ؛ و إنّما هو ما تشير إليه الأبواب العديدة الواردة في الشعائر الحسينيّة ، و هو : أنّ البكاء هو عمدة ولُباب الشعائر الحسينيّة ، وليس فقط قسماً من أقسام الشعائر الحسينيّة ، بل هو لبّ الشعائر الحسينيّة وأهمّها (5).
وكما ذكرنا أنّ الروايات التي تحثّ على البكاء و تبيّن فضيلته ، ليست هي فقط تلك الأبواب التي عُقدت تحت عنوان (فضل البكاء وثواب البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)) ، بل كلّ الأبواب التي وردت حوله تشير بأدنى مناسبة للبكاء ، إمّا بلفظ البكاء ، أو بما يرادفها ، أو يلازمها وبإشارات مختلفة ، حتّى أنّ بعض المتتبّعين
ممّن له باع واسع في هذا التحقيق ، ذَكر أنّه وردَ في ما يلازم و يرادف البكاء ما يقرب من خمسين لفظة حول الشعائر الحسينيّة ، مثل : اللطم ، أو اللّدم ، القلق ، الهلع ، الجزع ، البكاء ، النوح ، الندبة ، الصيحة ، الصرخة ، الحزن ، التفجّع ، التألّم ، و غيرها.
و أيضاً هناك إشارات أخرى في كيفيّة التركيز على البكاء ، و إنّه من عمدة أبواب الشعائر الحسينيّة كذلك ما ذُكر في تاريخ الحسين (عليه السلام) ـ التاريخ الروائي ـ مضافاً لكتب التاريخ المختلفة ، و كثير منها عن طريق مصادر العامّة ، مثل : خيارات ابن عساكر ، و تاريخ الخطيب البغدادي و غيرها ، و كلّها تَذكر البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام) ، حتّى الأنبياء قد بكوه قبل ولادته ، بل قبل ولادة النبي الخاتم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
و تذكر أبواب عديدة في هذا السياق ، مثل : بكاء أنواع المخلوقات ، و يبيّن مجموع الروايات في الأبواب العديدة جزع وبكاء الخلقة بأكملها على مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام).
فقضيّة كون البكاء هو العمدة في الشعائر الحسينيّة يكاد يكون أمراً واضحاً ، ولربّما يُدقّق في التعبير بأن يُقال : بأنّ البكاء هو جوهر و روح الشعائر الحسينيّة ، و بحسب الأدلّة الواردة فإنّنا لو كنّا نجمد على ظاهر الأدلّة ، لرأينا أنّ للبكاء مكانةً و أهميّة يتفرّد بها من بين أقسام الشعائر الحسينيّة الأخرى ، فالبكاء كالجوهر والروح لأقسام الشعائر الحسينيّة ، و كأنّما إلغاء البكاء عن الشعيرة الحسينيّة هو عبارة عن تخليته عن جوهره ، و مسخ لتلك الشعائر عن حقيقتها.
الجَزعُ في الشعائر الحُسينيّة
الجزع : هو غير الحزن و غير البكاء ، إذ إنّ الجزع في اللغة هو شدّة الحزن و عدم التصبّر ، أو هو نوع من إبداء التفجّع الشديد ، بشقّ الجيب ، و نتف الشعر ، و ضرب الرأس ، و خمش الوجوه ، أو الصراخ الشديد ، و هذه كلّها تعبيرات عن معنى الجزع باللازم ، وإلاّ فإنّ معنى الجزع : هو إظهار المرء للألم الشديد عند الحزن بصخب و تفاعل ساخن ، هذا هو الجزع.
و وردت روايات في ذلك ، وقد عَثرنا على ما يزيد على عشرين رواية واردة في الجزع فقط ، وعدّة من أسانيدها صحيحة منها:
1 ـ ما رويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (كلّ الجزع والبكاء مكروه ، ما خَلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)(6).
2 ـ و ما نقله صاحب الوسائل عن جعفر بن قولويه في المزار ، بسنده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : (إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور)(7).
3 ـ وعن مسمع بن عبد الملك ، قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) في حديث : (أمَا تَذكر ما صُنع به (يعنى بالحسين (عليه السلام)؟
قلتُ : بلى.
قال : أتجزع؟
قلت : إي والله ، وأستعبر بذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك علي ، فأمتنع من الطعام حتى يتبيّن ذلك من وجهي.
فقال : رَحم الله دَمعتك ، أمَا إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا ، والذين يفرحون لفرحنا ، و يحزنون لحُزننا ، أمَا إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ...)(8).
4 ـ نُقل في الوسائل عن مصباح الشيخ الطوسي ، بسنده عن علقمة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، في حديث زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء من قرب و بعد ، قال: (ثُمّ ليندُب الحسين (عليه السلام) و يبكيه و يأمر مَن في داره ممّن لا يتّقيه بالبكاء عليه ، ويُقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه ، وليُعزّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين (عليه السلام) ...)(9).
5 ـ ما نقله صاحب مستدرك الوسائل عن نهج البلاغة ، قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) على قبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ساعة دُفن : (إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك)(10).
6 ـ وفي صحيحة معاوية بن وهب نقلاً عن باب المزار في الوسائل ، دعا الصادق (عليه السلام) بهذا التعبير : (... فارحَم تلك الوجوه التي قد غيّرتها الشمس ، و ارحَم تلك الخدود التي تقلّبت على حُفرة أبي عبد الله (عليه السلام) ، و ارحَم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا ، و ارحَم تلك القلوب التي جَزعت و احترقت لنا ، و ارحَم الصرخة التي كانت لنا ...)(11).
فالروايات طرقها عديدة وصحيحة ، و بعضها موثّق ، فإذاً الجزع هو إشارة من إشارات البكاء.
و نظير هذا التعدّد في الطرق لهذه الطائفة من الروايات نجده في الكتب الأربعة أيضاً ، في كتاب التهذيب للشيخ الطوسي ، وكتاب الفقيه للشيخ الصدوق ، و كتاب الكافي للشيخ الكليني التي هي من أهمّ مصادرنا.
فالحاصل : أنّ البكاء في الشعائر الحسينيّة ـ حسب ما ترسمه النظرة الأوّليّة العابرة للروايات المتواترة حول الشعائر الحسينيّة ، و إقامتها في المصادر الروائيّة العديدة ـ فضلاً عن التاريخيّة ـ الروايات ترسم للناظر والمتتبّع رسماً أوّليّاً بديهيّاً فطرياً ـ هو جوهر الشعائر ، و هو جوهر ذكرى نهضة الحسين (عليه السلام) ، هذا كبحث إجمالي أوّلي من جهة أقوال علماء الإماميّة ، و من جهة نفس الروايات.
و أيضاً ، كنظرة أوّليّة في الروايات أو في فتاوي العلماء ، يظهر أنّ الحزن لا ينقضي إلاّ بظهور الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، والأخذ بثأر الدماء التي أُريقت في كربلاء مع الحسين (عليه السلام) ، وتطبيق أهداف الأئمّة (عليهم السلام) ، و بذلك نصل إلى صلاح البشريّة و انتشار القسط والعدل ، و تحقيق أغراض و أهداف مسيرة الأنبياء ، و هذا نوع من الثأر الشريف المنشود لدم الحسين (عليه السلام).
إذاً ، الذي يظهر حول بحث البكاء من كلمات علماء الإماميّة ـ من : فقهاء ، و متكلّمين ، و مفسّرين ، و محدّثين ، و مؤرّخين ، و من الروايات أيضاً ـ أمران:
1 ـ كون البكاء الدعامة الأصليّة في الشعائر الحسينيّة.
2 ـ استمرار البكاء وتأبيده إلى يوم الثأر ، وقبل الخوض في تفاصيل ظاهرة البكاء يجب الالتفات إلى جانب مهمّ جدّاً.
حقيقةُ البكاء
إنّ البكاء مادّة حيويّة للبحث في عدّة علوم ، مثل : علم النفس ، والاجتماع ، والأخلاق ، والفلسفة ، و علم التمدّن ، والحضارة ، قد شغل حيّزاً في اهتمام العلوم الإسلاميّة ، و بمحاولة لمعرفة حقيقة البكاء نقول : إنّه فعل من أفعال النفس الجانحيّة لا الجارحيّة ، و هنا تظهر تساؤلات على السطح منها : أين تصدر النفس البكاء ، وكيف تصدره ، و متى ؟ هل البكاء فعلٌ سلبي أم إيجابي ، باعتبار أنّ أفعال النفس الجانحيّة أو الجارحيّة لا تتّصف بلونٍ ما بذاتها ؛ و إنّما تتّصف بلحاظ الغايات ، فيا ترى كيف هو البكاء في لونه الذاتي ؟ فلابدّ من تحليله موضوعيّاً ماهويّاً تحليلاً عقليّاً كاملاً لنرى ما هي أجوبة هذه الأسئلة؟
ولأجل ذلك ، يجب الالتفات إلى ما ذكرنا في جهات سابقة في الفصل الأوّل من الشعائر الدينيّة العامّة : و هو وجود أجنحة مختلفة في النفس قد جهّزها الله عزّ وجل بها ، ولا ريب أنّ أحد أبواب معرفة الله سبحانه ناشئ من معرفة النفس ،
فقد وردَ في الأثر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : (مَن عَرف نفسه فقد عَرفَ ربّه)(12) ، وورد كذلك عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (أعرفكم بنفسه ، أعرفكم بربّه)(13) ، الذي يعرف نفسه سوف يعرف نقاط الضعف من نقاط القوّة فيها ، و من ثَمّ لا تُزعزعه دواهي الدهر ، فمعرفة النفس لها فوائد عديدة في سبيل الاتّصاف بالأخلاق ، وفي بناء شخصيّة الإنسان ، والنفس فيها أجنحة عديدة ، وأحد أجنحة النفس مشجّرات القوى الإدراكيّة ، وهي على نوعين : الإدراكات الحصوليّة ، والإدراكات الحضوريّة.
الإدراكات الحصوليّة : هي قوّة الحس ، و قوّة المخيّلة (الخيال) ، و قوّة الوهم ، ثُمّ قوّة العقل.
الإدراكات الحضوريّة : هي إدراكات عيانيّة للأشياء في نشآت أخرى غير النشأة المادّيّة الحسّيّة.
القوّة الإدراكيّة والقوّة العمليّة
على كلّ حال ، هناك أيضاً جناح آخر في النفس هو : جناح القوّة العمليّة ، أو ما يسمّى بالقوّة العمّالة ، مثل : القوى العضليّة ، والقوى الشهويّة ، والغرائز المختلفة في النفس ، و قوّة العقل العملي ، هذه القوى سمتها المهمّة المميِّزة لها عن الجناح الأول ـ أو الأجنحة الأخرى ـ أنّها باعثة و محرّكة في النفس.
فلدينا جناحان من الأجنحة العديدة في النفس ، أو جهتان:
الأوّل : الجهةُ الإدراكيّة.
الثاني : الجهةُ العمليّة.
طبعاً الجناح الذي هو في الجهة العمليّة هو المحرِّك والباعث ، لكنّه ليس بكلّ درجاته خالياً من الإدراك ، كلاّ ، بل هو في بعض درجاته مزيج و مختلط بالإدراك ، مثل : قوّة العقل العملي ، وخاصيّة قوّة العقل العملي هو الإدراك مع كونه محرّكاً أيضاً.
مثلاً : يَدرك الإنسان حُسن فضيلة معيّنة ويتشوّق إليها ، فيمارسها و يعزم عليها ويوطّن نفسه على تطبيقها ، أو ربّما ـ بدل أن يتشوّق إلى فضيلة ما ـ يستنكر رذيلة ما و ينفر منها ، و يشحن نفسه بالنفرة منها ، فتراه ينقطع في سلوكه العملي عن تلك الرذيلة ، و هلمّ جرّاً.
فعلى كلّ حال ، العقل العملي حيث إنّه محرِّك عملي ، إلاّ أنّ جنبة الإدراك تتوفّر فيه أيضاً ، هذا من جهة.
و من جهةٍ أخرى : لابدّ من امتزاج هاتين القوّتين العمليّة والإدراكيّة في النفس الإنسانيّة ، فافتراض وجود إنسان له جانب إدراكي فقط ، أو له جانب عملي فقط مخالف للفطرة الإنسانيّة ، و بعبارة أخرى : فأنت تريد بافتراضك هذا أن تجعله إنساناً له جانب عمّالي فقط دون جانب إدراكي أو بالعكس ، لكنّ مثل هذا الشخص ليس من الحقيقة الإنسانيّة بشيء ، بل الحقيقة الإنسانيّة فَطرها الله عزّ وجل على مزيج من القوى العمليّة والقوى الإدراكيّة ، فمن المحال وجود حقيقة إنسانيّة تتمحّض في إدراك المعلومات فحسب ، بل لابدّ أن تجد فيها جناحاً آخر وجنبة أخرى ، و هي جنبة عمّاليّة ، كذلك من المحال أن ترى إنساناً فيه جنبة عمّاليّة فقط ـ كالحيوانات ـ، بل جملة من الحيوانات تكون الجنبة الإدراكيّة خفيفة فيها ، لكنّ الجنبة العمّاليّة فيها بارزة و ظاهرة.
وقد وزّع الله عزّ وجل الصفات العمليّة في الحيوانات بشكلٍ عجيب ، مثلاً : الحرص تجده في النمل (14) ، والوفاء تراه في حيوان آخر ، والغيرة على الأنثى في حيوان ، و انعدام الغيرة في حيوان ، كأنّ هذه الصفات العمليّة وزِّعت على كثير من أقسام الحيوانات عبرةً للإنسان ، والفطرة الإنسانيّة تختلف عن الفطرة الحيوانيّة التي تكمن فيها الجنبة العمليّة فقط ، و إن كان هناك صفات عمليّة (فضيليّة) موزّعة و موجودة لدى الحيوانات من اللطائف ، و مَن يتتبّع حياة بعض الحيوانات سوف يلاحظ في كلّ حيوان صفة معيّنة ، و هذا مورد للاعتبار ، حيث يقال : الإنسان يُحشر حسب صفته ، و هذه الأشكال من الحيوانات الموجودة هي نموذج وأمثال للصفات المختلفة ، فإن كانت صفات الإنسان رذيليّة ـ لا سامح الله ـ فإنّه سوف يُحشر بحسبها.
فليست الفطرة الإنسانيّة تحتوي على جانب إدراكي محض ، ولا على جانب عملي محض ، بل هما جناحات ممتزجان لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر ، ولا يُفصل بينهما في حاقّ النفس البشريّة ، و إذا وجدنا بعض الناس فيه طغيان جنبة إدراكيّة على جنبة عمليّة ، أو طغيان جنبة عمليّة على جنبة إدراكيّة ، فهذا نوع من الاختلال و عدم التوازن والتكامل فيه.
مثلاً : الحسد ، أو الشهوة ، هما من جنبة إدراك المخيّلة التي هي النافذة العظمى للشيطان في الإنسان ، التي يدخل من خلالها ، حيث يُري الشيطان الصور للإنسان من بعيد ، يُريه صورة لفعل أو لشيء ، ثُمّ يشوّقه نحو ذلك الفعل (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي...)(15) ، فبتوسّط نفس الدعوة من بعيد يُري الصورة في عالَم النفس ، ثُمّ يُغري الإنسان فيتشوّق و يتحرّك نحوها ، فالإنسان إذا عزفَ و انصرف عن هذا الإغراء ينقطع سلطان الشيطان عنه ، أمّا مع رغبة النفس و تركيزها و انجذابها ؛ فإنّ الشيطان سوف يستولي عليه ، و هذا قد يكون تفسير الحديث المعروف عن النبي (صلَّى الله عليه وآله و سلَّم) : (إنّ الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم)(16).
و باعتبار أنّ هذه النوافذ الإدراكيّة لا يضبطها الإنسان ولا يحرسها بحراسة جيّدة ، و إنّه يُطلِق عنانها من دون مراقبة النفس ؛ فإنّ الشيطان سيخترق النفس من خلالها و ينفذ إلى أعماقها.
فالفطرة الإنسانيّة ذات جنبتين لا يمكن تفكيك إحداهما عن الأخرى.
و نواصل بعض الأمثلة لكي نكون على بصيرة من هذا البحث ، حتّى نصل إلى حقيقة النكات الفلسفيّة والعقليّة.
مثلاً : يروِّج البعض في بعض الأبحاث الفكريّة والثقافيّة الحديثة أنّ التقديس والقدسيّة والتعظيم هي نوع من الحجاب أمام التحرّر الثقافي والانفتاح الفكري ، لذا لابدّ من إزالة هذا الحاجب والوقوف في وجه أشكال التقديس والاحترام والتعظيم.
و هذا يندرج ويجري في نفس المسار في بحث البكاء أيضاً ، فما مدى صحّة هذه المقولة يا ترى؟
للإجابة عن ذلك ـ ولتمحيص حقيقة هذه المزاعم والدعاوى ـ لابدّ من معرفة ماهيّة القدسيّة ، و إنّها فعل أيّ قوّة من قوى النفس ، و أيّ جناح من أجنحة النفس؟
مثلاً ، قيل : إنّ التشكيك نبراس و معلم للحريّة الفكريّة وللأسلوب الفكري والتحقيقي ، و إنّه ديدن العلم ، هل هذا صحيح بقول مطلق أم فيه تفصيل ؟ التشكيك أيضاً عمليّة فكريّة تمارسها بعض القوى الإدراكيّة ، فهل هذا الفعل ـ كفعل نفساني ـ هو فعلٌ سليم دوماً أم لا؟
إذاً ، يجب أن ندرس أفعال النفس بدقّة كي لا نقع في الخطأ ولا في المغالطات ، ولا في الالتباسات ، و علينا أن نتعرّف على مجال ممارسة النفس لها ، و مواطن عدم الممارسة ، كذلك البكاء فعل من أفعال النفس ، و كذلك التقديس والتعظيم والإذعان والمتابعة النفسيّة كلّها من أفعال النفس ، و ترتبط بالقضايا الإدراكيّة والاعتقاديّة والفكريّة والسلوكيّة ، وهي برنامج يتعلّق بسير الإنسان في معاشه وحياته ، فمتى يا ترى تمارسه النفس بصحّة ، و متى تمارسه النفس خطأً؟
كذلك التشكيك ، أو التساؤل ، أو التنقيب فعل من أفعال النفس ، فمتى تمارسه النفس بشكل صحيح ، و متى تمارسه النفس خطأً ؟ هل يجب أن يقف الإنسان دوماً في منطقة التشكيك والتساؤل ؟ أم ينبغي عليه أن يتجاوز ذلك ؟ كلّ هذه الأبحاث و نحوها ممّا ترتبط بمباحث دينيّة حسّاسة و خطيرة ، فلابدّ من الوقفة العلميّة عندها ؛ لإنعام النظر فيها.
ثوابتٌ عن ظاهرة التقديس كيف يمارس الإنسان عمليّة التقديس بشكل صحيح ؟ التقديس والقدسيّة : عبارة عن الإذعان ، و حينما يذعن الإنسان لشيء و يتصوّر أنّه حقيقة فإنّه يُبدي المتابعة أو الخضوع له ، فالتقديس : عبارة عن خضوع النفس عمليّاً و متابعة القوى العمليّة في النفس لأمرٍ أذعنت النفس له و تصوّرت أنّه حقيقة ، فمن ثَمّ يظهر لنا متى يكون التقديس صحيحاً و متى يكون خاطئاً.
فإن كان ما أذعنت له النفس حقيقة من سنخ الواقع ، فالتقديس صحيح ، و إصرار النفس عليه ممدوح ، و تعظيمها لتلك المعلومة الحقيقة راجح و صحيح ؛ لأنّ المفروض أنّها من نفس الواقع ، و رفع اليد عنها يعني ارتطام النفس و دفعها في سلسلة الجهل ، مثل العالِم التجريبي إذا وصل إلى حقيقة معيّنة ، ثُمّ يرفع اليد عنها ولا يعتمد عليها ، أو لا يستفيد منها فيكون ذلك ضياعاً للحقيقة.
نعم ، التقديس والقدسيّة إن كانت لأمر مخالف للواقع أو للحقيقة ، أو كانت نابعة عن تصوّر و تخيّل رسمتهُ المخيّلة بعيداً عن الواقع ، كانت خاطئة.
فإذاً ، التقديس ـ بشكل مختصر ـ: هو عبارة عن متابعة النفس لمَا أذعنت له و تصوّرت أنّه حقيقة ، فإن كان حقيقة واقعاً ، و مبتنياً على مقدّمات و أدلّة يقينيّة مُنتجة ، فيكون هذا التقديس صحيحاً و راجحاً ، ولكن لابدّ أن يوضع حريم
حوله ؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل الذي أوصلك إلى مثل هذا بعد عناء و جهد ، إذا لم تعمل به يكون ابتعاداً عن الواقع و إغراقاً في الجهالات والظلمات ، وهذه حقيقة متّبعة في جميع العلوم التجريبيّة والعلوم المرتبطة بالنشآت و علوم العقيدة و غيرها.
فإذا كان التقديس ناتجاً من إدراك حقيقة ، فهو حالة طبيعيّة في النفس ، و يبدأ التقديس من أرفع درجة من درجات القوى العمليّة في النفس ، و هو العقل العملي ، فيتابع العقل النظري فيما أدركه من حقيقة ، و أمّا لو كان التقديس نتيجة لإدراك تخيّلي أو ظنّي أو و همي أو غير مُبرهن و غير ثابت ، كان التقديس نوعاً من التقليد.
فعلى كلّ حال ، إطلاق وصف التقليد أو الإتّباع الأعمى على التقديس مطلقاً أمرٌ فيه مغالطة ، حيث تبيّن أنّ ليس كلّ تقديس هو تقليد ، بل حقيقة التقديس هي تعظيم للحقائق فيما إذا كان وليداً و تابعاً لإدراك حقيقة ما ، نعم ، لو كان التقديس أو المتابعة أو الإخبات والخضوع في الجناح العملي في النفس نتيجة لإدراك تخيّلي أو وهمي ، كانت حقيقة هذا التقديس اتّباعاً أعمى و تقليداً خاطئاً ، إذاً ليس من الصحيح ذمّ التقديس في نفسه مطلقاً.
بل لو انعكس التقديس إلى حالة الرفض الدائم في الجانب العملي للنفس ، و هو ما قد يسمّى بالتشكيك ، إذا كان رفضاً دائماً فسيكون حالة مرضيّة في النفس وليس حالة صحّيّة في بعض أقسامه ، حيث إنّ الجناح الإدراكي في النفس إذا أدركَ حقيقةً ما ولم يتابعه الجناح العملي ، ولم تُتابعه القوى العمليّة التجريبيّة أو غير التجريبيّة ، إذا لم تحصل المتابعة بين الجناح العملي والجناح الإدراكي ،
ستكون هذه حالة مرضيّة في النفس ؛ لأنّها تُدرك الحقائق ولكن لا تنتفع بها ولا تستفيد منها ، و إصرار النفس على الرفض والإباء عن متابعة الحقائق يؤدّي إلى تضييع الحقيقة والتفريط بها.
كما يُفسّر المحقّق الأصفهاني الآية الكريمة (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)(17) : أنّهم في البداية قد يكون هناك لديهم إيقان مع الجحود ، لكن في النهاية والمآل فإنّ هذا الإيقان يذهب كشيء و وجود شريف ثمين ، يذهب و تفتقده النفس بسبب عدم متابعة الجانب العملي للجانب الإدراكي (18) ، ولعلّ إليه الإشارة الأخرى في قوله تعالى : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)(19).
وكما أنّ الجانب العملي في النفس يتأثّر بالجانب الإدراكي ؛ فإنّ الجانب الإدراكي في النفس كذلك يتأثّر بدوره بالجانب العملي ، و أمراض الجانب العملي في النفس تُسبّب أمراضاً في الجانب الإدراكي أيضاً ، و كذلك الحال في أمراض القوى الإدراكيّة : كالوسوسة ، أو سرعة الجزم (القطّاعيّة) ، أو غلبة الوهم والتخيّل على التعقّل ، حيث لا يستطيع أن يدرك المعاني العقليّة نتيجة السجن الذهني في القضايا الخياليّة والوهميّة.
فهناك أمراض في الجانب الإدراكي ، كما أنّ هناك أمراضاً تقابلها في الجانب العملي إضافة للصفات الصحيحة في الجانب العمليّ ، و مثال من أمثلة أمراض الجانب العملي : دوام الإباء في الجانب العملي للنفس ، أو دوام الإخبات والخضوع لكلّ مقولة ولأيّ دعوى ، فهذه تعتبر حالة غير صحيحة و غير سليمة.
و هذه الأمراض في الجانب العملي لها أسماء أيضاً ، مثل : التقليد العام الأعمى ، أو بالعكس الرفض الدائم التي هي حالة السفسطة ، فالحالة السفسطائيّة الدائمة المطلقة هي حالة مرضيّة في الجانب العمليّ في النفس ، وحالة التقليد الأعمى هي أيضاً حالة مرضيّة و مذمومة عند العقلاء ، و إليها و إلى غيرها من الأمراض يشير إليها القرآن الكريم و تشير الأحاديث النبويّة ، وقد تعرّض لها أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمن خُطبه الشريفة في نهج البلاغة ، مثل : (حُبّك الشيء يُعمي ويُصمّ)(20).
هذه حالات الجانب العملي ، فإذا اشتدّت المحبّة فإنّها توجب ظلامة و حاجباً في الجانب الإدراكي ، و شدّة البغض كذلك قد توجب التأثّر والستر في الجانب الإدراكي.
لا بمعنى أن لا تشتدّ محبّة الإنسان لمَن أمره الله بمحبّته ، إذ إنّ الله سبحانه أمر بمحبّة نفسه ، و أمرَ بمحبّة رسوله وأهل بيته (عليهم السلام) ، أو لا تشتدّ عداوته لمَن أمرَ الله سبحانه بعداوته ، وليس المعنى أنّ زيادة المحبّة المأمور بها تكون خاطئة ، أو الكراهة والبغض المأمور بها كذلك ، ليس المراد ذلك ، ولسنا وراء ما يطرحه العِلمانيّون أو ما يسمى بالعولَمة ، أي الحياديّة في كلّ شيء ، و إنّ المدار الأول والأخير هو نفسي و نفسي فقط ، كطرق العولَمة المطروحة حديثاً ـ في الثقافات العالميّة ـ ليس هذا هو المقصود.
وليس الاتّزان هو : عدم المحبّة في موردها (التي أمرَ بها الشارع والعقل) ، أو عدم العداوة الشديدة في موردها الذي بيّنه الشارع ، بل الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يدرك أمراً ، ينبغي له عدم جعل المحبّة مؤثّرة في كيفيّة الإدراك ، حتّى لو كانت محبّة في موردها ، و كذلك الأمر في العداوة الشديدة ، فضلاً عمّا لو كانت ليست في محلّها ؛ و إنّما ينبغي جعل موازين الإدراك على ما هي عليه ، و جعل موازين الحركات والأفعال في النفس على ما هي عليه ، هذا هو المنطق القرآني والتوجيه النبوي والعلوي.
المنطقُ الشرعي و ظاهرة البكاء
إنّ المنطق الذي يطرحه القرآن ـ والسُنّة المعصوميّة النبويّة والمعصوميّة العلويّة في نهج البلاغة ـ منطق ليس أُحاديّاً ولا تمايليّاً إلى طرف معيّن.
انظر مثلاً إلى المنطق الأرسطي الذي يضع موازين معيّنة على فرض صحّتها ـ كلّها أو بعضها ـ في جانب من جوانب الإدراكات ، و هو فقط الإدراك الحصولي ، و على بعض تقاديره ليس كلّ الإدراكات ، أمّا الإدراك العياني فإنّه لا يضع له ميزاناً ، أو الإدراك الحصولي من تقادير أخرى قد لا يضع لها ميزاناً.
أو أنّك ترى مثلاً المنطق الرياضي يضع موازين من جانب آخر ، أو ترى المنطق النفسي الحديث المتداول أو المنطق الوضعي ، و مدارس منطقيّة كثيرة كلّها تتناول جانباً معيّناً و تهمل الجوانب الأخرى ، و مع ذلك فإنّ تلك الجوانب المتناولة قد تكون غير مستوعِبة لوضع الموازين فيها.
أمّا المنطق الشرعي : فإنّك ترى خلاف ذلك ، المنطق الشرعي يتناول موازين القوى العمليّة و يتناول موازين القوى الإدراكيّة ، و على صعيد الإدراك العياني والإدراك الحصولي ، و هلمّ جرّاً ، يعني أنّه يتناول الموازين في أجنحة النفس العديدة ، و ينظر في كيفيّة ملائمة هذه الأجنحة في النفس مع بعضها البعض ، و هذا ممّا لا تتناوله مدرسة منطقيّة بشريّة إلى الآن ، هذا هو المنطق الشرعي أو المنطق الذي تُقدّمه المعرفة الدينيّة.
إنّه منطق الإنسان المتكامل في كلّ أجنحة النفس ، و هو أيضاً يُحدّد العلاقة بين أجنحة النفس بعضها البعض ، وإلاّ فأيّ منطق تراه يُحدّثك أنّ الحبّ والبغض يُعمي و يصمّ (21) ، أو يتناول قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (إذا أقبَلَت الدنيا على أحدٍ أعارتهُ محاسن غيره ، و إذا أدبَرت عنه سلبتهُ محاسن نفسه)(22) و مثل هذه التعبيرات ، و هذه أمور منحصرة في منطق الأطروحة الدينيّة.
التشكيكُ سلاح ذو حدّين
فالإباء المطلق حالة مرضيّة في النفس في الجانب العملي ، والتشكيك أو التساؤل في منطق المعرفة الدينيّة وفي المنطق العقلي البشري ؛ إنّما هو قنطرة لكي يراجع الإنسان حسابات الأدلّة التي يعقد عليها إيمانه ، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة في أيّ مجال من المجالات ، وفي أيّ علم من العلوم المرتبطة بالنشأة الدنيويّة ، أو المرتبطة بالنشآت الأخرى ، ثُمّ بعد ذلك يتوصّل إلى الحقيقة التي إمّا أن تكون مطابقة أو غير مطابقة.
لا أن يبقى في الإنسان منطقة التساؤل أبد الدهر ، فليس التساؤل إلاّ محرّكاً وآلة للفحص وطاقة للبحث ، وليس الفحص إلاّ طريق للوصول للحقيقة ، ولو وقف الإنسان دائماً في منطقة التساؤل من دون أن يتحرّك ، فهذه تعتبر حالة مرضيّة في النفس وليست حالة صحيّة ؛ إنّما التساؤل يُعتبر بوّابة لأجل الفحص ، لأجل التنقيب ، لأجل التحرّي للوصول إلى الحقائق ، وإلاّ فإنّنا لو اقتصرنا على الوقوف دوماً في منطقة التساؤل والتشكيك لمَا اكتُشف شيء في العلوم القديمة والحديثة ، فليست هذه حالة صحّيّة ، أمّا إذا كان التشكيك بمعنى التساؤل ، ثُمّ يأتي بعده التحرّي والتنقيب ـ الذي يستتبع الجزم والتصميم على ضوء المعطيات البرهانيّة اليقينيّة ـ كانت الحالة حالة سليمة وصحيّة للنفس ، أمّا أن نقف في دوّامة التساؤل والإباء والرفض فهذه حالة جهالة وليست حالة علميّة ولا صحيحة.
و الذي يعيش بشكل دائم حالة سفسطائيّة وتشكيكيّة سيؤدّي به ذلك إلى القضاء على الفطرة علماً و عملاً ، إدراكاً وتطبيقاً ، وليس فيه نوع من التقدّم بل سوف يتحجّر المرء على نفسه ، ولو كان الأمر كذلك لمَا وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات ، هذا كمثال في العلوم التجريبيّة ، فكيف في العلوم الإنسانيّة الأخرى.
فالشكّ والحيرة حينئذٍ يُشكّلان داعياً وباعثاً للتساؤل الذي يستعقبه تحرّك و فحص و تنقيب و تحقيق ، حتّى يحصل الجزم والوصول إلى النتائج.
والإنسان ـ ضمن الفحص والتحقيق والسير ـ ربّما يسير و يفحص و تنتابه حالة مرضيّة أخرى غير السفسطة ، وقد تكون مقابلة لها ، وهي حالة بُطأ اليقين لديه ، أو سرعة اليقين لديه ، وكلاهما من الحالات المرضيّة في الإدراك ، والمفروض أنّ الحالة الصحّيّة المتّزنة هي أنّه إذا رأى النتائج مُقنعة للنفس بشكل قطعي ، و بمعزل عن ميوله الشخصيّة و قناعاته الخاصّة ، فإذا كانت النتائج بنفسها موزونة و منتجة ، فاللازم أن يُسلّم و يُذعن و يقرّ بها.
فقيمة الشكّ إذاً من جهة الفحص والوصول إلى النتائج ، أمّا إذا كان الشكّ محطّة دائمة فيصبح صورة سلبيّة وصفة مذمومة ،
وكما يقال : فإنّ العلوم خزائن مفتاحها السؤال (23).
و من ثَمّ ذهبَ الفقهاء وعلماء الكلام إلى أنّ مَن اعتقدَ عقائد الحق لا عن دليل ، فهو و إن كان من الناجين ـ إن شاء الله ـ إلاّ أنّه قد ارتكب معصية ؛ لأنّه لم يعتقد ذلك عن دليل و برهان ، إذ إنّ العلم بالحقائق عن دليل واجب ، و إن كانت النجاة مرهونة بصرف اعتقاد الحقّ ولو كان عن تقليد (24).
فالاعتقاد والاعتناق عن تقليدٍ ـ بدون تفكير و تدبّر ـ لا يُعتبر اعتقاداً تامّاً ؛ لأنّه يكون في معرض الحرمان والزوال ، بخلاف الاعتناق والاعتقاد عن دليل و برهان وحجّة ، فإنّه يظلّ دائماً متمسّكاً بتلك العقيدة ، ثابت القدم على أركانها.
حصيلةُ المطاف : هذان نموذجان بشكل مختصر عن التقديس والتشكيك ، أين موضعهما من أفعال النفس ، و متى يصبحان حالة مرضيّة ، أو حالة سليمة في جهاز الوجود للنفس.
أمّا البكاء : فعلينا التعرّف أنّ حكم الفعل من قِبل أيّ جناح من أجنحة النفس يصدر ، و هل له ارتباط مع جناح آخر للنفس ؟ و هل هو صحيح وسليم مطلقاً ؟ أو قد يكون حالة مرضيّة؟
تعريفُ البكاء
يُعرّف اللغويّون البكاء : بخروج الدمع حزناً وتأثّراً (25) ، و هذا التعبير إنّما هو باللازم للمعنى الحقيقي ، أمّا علماء الأخلاق والحكماء فقالوا : إنّ البكاء هو حالة انفعال في الجناح العملي للنفس ، و هو ما يسمّى بتأثّر الضمير والوجدان في الإنسان ، سواء خرج الدمع أم لا ، مع الصيحة أو بدونها.
والمقصود بالضمير والوجدان : هو تأثّر الجانب العملي الذي فيه مزيج إدراكي ؛ (لأنّا أشرنا إلى أنّ الجناح العملي في النفس في بعض درجاته و إن كان عمليّاً ، إلاّ أنّه ممزوج بالإدراك ، أي فيه جنبة إدراكيّة ، يعني ليست جنبة عمليّة بحتة) نظير قوّة العقل العملي ، نظير الشوق ، إذ لابدّ من إدراكٍ ما ، ثُمّ يستتبعه العمل ، و نظير الغضب ، و ما شابه ذلك. على كلّ حال ، فبعض الدرجات العمليّة هي موجودة بالإدراك.
البكاء : فعل ناتج وناشئ من القوى النفسيّة الموجودة ، وهو عبارة عن حالة انكسار ، أو تأثّر ، أو انفعال ـ تعبيرات مختلفة ـ في الجانب العملي نتيجة لإدراك ما ، و ذاك الإدراك هو إدراك لحرمان ما ؛ لأنّ الكمال لم يستتمّ لدى الإنسان حتّى ينفعل تشوّقاً إليه ، فقد يكون البكاء عن تشوّق ، وقد يكون عن حزن لفقد حقّ من الحقوق ، وقد يكون مزيجاً من الحزن والشوق ، و هكذا.
المهمّ أنّه نوع من الانفعال في الجانب العملي في النفس نتيجة لإدراك ما ، و هذا الإدراك هو فقدٌ لشيء ما ، سواء في صورة الحزن ، أو في صورة الشوق ، و إلاّ لو كان الإنسان حاصلاً على ذلك الشيء فإنّه لا يتشوّق إليه ، هذا تعريف إجمالي من الحكماء أو علماء الأخلاق للبكاء.
و أمّا حكم البكاء ـ بأنّه على الإطلاق حالة سليمة في النفس ، أم هو حالة مرضيّة ، أو على التفصيل ـ فلابدّ هنا من التفصيل ؛ لأنّ البكاء يتّبع معنىً ما ، هذا الانفعال في الجانب العملي يتّبع معنىً معيّن ، فإن كان المعنى الذي يتّبعه الانفعال النفسي بحيث يكون الانفعال عنه ايجابيّاً ، و ذلك المعنى هو معنىً حقيقي و صادق إن كان ناشئاً عن معنىً صادق و حقيقة صادقة ، والتأثّر كان إيجابيّاً ، فيكون حالة صحيحة في النفس ، و أمّا إن كان المعنى الموجود معنىً غير صادق ، أو كان صادقاً لكنّ التأثّر به غير ملائم ، فسوف يكون سلبيّاً.
مثلاً إذا كان إنسان يبكي لفقد كمال معيّن : كعِلم معيّن ، أو احترام معيّن ، أو قدرة معيّنة ـ ماليّة أو غير ماليّة ـ بكى لفقدها ، فإدراك هذا الفقد حقيقي وليس كاذباً ، حيث أدرك أنّه فاقد للكمال ، والمفروض أنّ كماليّة ذلك الشيء واقعيّة ، فإنّ تأثّره بهذا الفقدان أيضاً شيء إيجابي ؛ لأنّ المفروض أنّه يتأثّر كي يستعدّ للحركة ، ولزيادة شدّة حركة النفس و طاقتها وانشدادها باتّجاه ذلك الكمال ، ولزيادة السعي نحو تحصيل ذلك الكمال ، و على عكس المقولة المعترضة على ظاهرة البكاء بأنّه يُعدّ مفرّغاً للطاقة ، بل هو يزيد سعرات الطاقة و يسرّع حركة النفس نحو تحصيل ذلك الكمال ، نعم ، هو مفرّغ للحصر النفسي ـ كما يعبّر به علماء النفس ـ لا أنّه يوجب تخفيف تشوّق النفس نحو المطلوب و نحو المتشوّق إليه.
أمّا لو فقدَ الإنسان شيئاً ، وكان ذلك الشيء موجوداً عند صديقه ، و بكى لأجل إزالة الشيء عن صديقه و حصوله عنده ، فهذا نوع من الحسد طبعاً ، إن كانت المعلومة صادقة ، وهي فقد ذلك الكمال ، ولكن تأثّره موجّه باتّجاه أن يسعى لإزالة كمال عن الآخرين ، ولا ريب أنّ هذا التأثّر سلبي وليس تأثّراً ايجابيّاً ، فتارة تكون المعلومة صادقة ولكنّ التأثّر خاطئ.
أو أنّ الإنسان قد يفقد أعزّ أحبّته فيتأثّر و هو جيّد ، لكن إذا اشتدّ البكاء أو تحوّل إلى حالة من السخط والجزع والاعتراض على الله سبحانه أو..، فهذا المظهر يكون خاطئاً ، و إن كانت المعلومة صادقة ؛ لأنّ تأثّره وِجّه بتوجيه خاطئ ، ولغاية معيّنة ، و إنّ أيّ فعل عملي ترتكبه النفس ، كأي فعل إدراكي ترتكبه النفس دائماً يكون لغاية ، فلابدّ أن نلاحظ العلّة ، و نلاحظ العِلل الفرعيّة ، والعلّة الغائيّة ، كما في العلّة الماديّة والصوريّة.
فحينئذٍ ، إذا كان البكاء منطلقاً ومتولّداً من معلومة حقيقيّة ، فيكون صحيحاً ، و إذا كان تأثّره موجّهاً إلى غاية كماليّة هادفة ، فإنّه أيضاً يكون إيجابيّاً و سليماً.
بخلاف البكاء الذي يكون لأجل غاية سلبيّة ، و بخلافة ما إذا كان مع الصبر والتحمّل.
والبكاء إنّما يحصل للتأثّر ولبيان المحبّة التي كانت بين الباكي و بين المفقود مثلاً ، الذي لأجله حصل البكاء ، فيعتبر هذا نوع من الصلة للميّت ، كما قال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حينما فقدَ ابنه إبراهيم : (تدمعُ العين ، و يحزنُ القلب ، ولا أقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون)(26) ، وفي رواية أخرى قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (لو عاشَ إبراهيم لكان نبيّاً)(27) هذا نوع من إظهار المحبّة والرحمة.
فالفعل الذي يصدره الجناح العملي للنفس تأثّراً بالجانب الإدراكي في النفس يُشترط فيه أمران لكي يكون إيجابيّاً:
أحدهما : أن يكون منطلقاً من إدراك صادق و معلومة حقيقيّة.
الثاني : أن تكون غايته غاية هادفة و إيجابيّة.
و إذا اختلّ أحد هذين الشرطين يكون البكاء سلبيّاً.
هذا ما قرّره العلماء في البحوث العقليّة والحكميّة والأخلاقيّة وفي علم النفس ، على نحو الإجمال ، حول موضوع البكاء.
في علم النفس و علم الاجتماع الحديث يذكرون في بعض تعريفاتهم : أنّ البكاء تنفيس عن الضغط ؛ لأنّ الإنسان قد تتكدّس عليه ضغوط ، فتنشأ منها حالة البكاء لدى الإنسان ، و يكون بكاؤه نوعاً من التنفيس والتخفيف ، هذه هي كلماتهم بغضّ النظر عن تصويبها أو تخطئتها أو مقارنتها مع ما ذُكر في علوم أُخرى (28).
ففي علم النفس الحديث ـ السيكولوجيا ـ ثبتَ بأنّ الذي تلمّ به فادحة و مصيبة و يتّخذ البكاء كوسيلة لتهدئته والتخفيف عنه ، يكون أبعد من غيره في احتمال وقوعه في الاختلال الروحي ، حيث يكون لديه اتّزان روحي في الحوادث والمصائب ، و إنّ نفسه تسلم و تطهر و تتخلّص من العقد ، بخلاف الذي يمتنع عن البكاء و يتجلّد ، حيث تنشأ لديه نوع من العُقد والاعتقادات الخاطئة ، أو تتكوّن لديه و ساوس و أحقاد على البشريّة ، و ربّما تصيّره وحشاً على مَن حوله أو على بيئته بسبب تلك الاعتقادات الخاطئة.
فالبكاء يولِّد نوع من الاتّزان الروحي و وقاية عن الاختلال الروحي في النفس ، و يُحصّنها من ابتلائها بالعُقد.
و تَذكر إحصائيّات في هذا الصدد أنّ مَن يمارس البكاء ـ سيّما النساء ـ يَسلم عادة من الأمراض النفسيّة أو العُقد ، أو من تلك الحالات التي تكون قريبة من الكآبة والتمرّد على المجتمع.
طبعاً هذه الضمائم نسبيّة ، والجانب العاطفي عند المرأة أكثر من الجانب العاطفي عند الرجل ، و من ثَمّ فإنّ مقابلة الرجل للصدمات أكثر من المرأة ، و لذا جَعل الدين الإسلامي الرجل هو القيّم ، و جعلَ بعهدته الجانب الإداري والتنفيذي ؛ لأنّه أشدّ و أصلب.
ولكن نفس هذا التحليل جُعل إشكالاً و عاد انتقاداً على ظاهرة البكاء ، بتقريب أنّ البكاء يُنفّس عن الإنسان الحالة الضاغطة ، فهو يُقلّل سعرة الحركة .
والعمل ؛ لأنّه يُنفّس و يهدّئ ، فيبرد الإنسان ويبقى على حالة اتّزانه ، فمن ثَمّ يكون البكاء سلبيّاً في بعض الموارد.
مثلاً : إذا وقعَ الظلم على الإنسان فهو ينفّس عن نفسه بالبكاء ، و بذلك يرجع إلى الحالة الطبيعيّة و يفقد السعرة والطاقة والباعث نحو التصدّي والمقابلة لذلك الفعل الموجّه ضدّه ، و يتقاعس عن أخذ حقّه ، و هو أثر سلبي . وفي الجواب نقول : إنّ البكاء ينفّس عن الحالة الضاغطة ، لا أنّه يُقلّل السعرة و يُخمد الهمّة لاسترجاع الحقّ ، بل على العكس ؛ لأنّ المفروض أنّ البكاء لابدّ أن يوجّه إلى غاية معيّنة ، مثل : أنّ المظلوم يبكي لفقد حقّ من حقوقه و فقد ما هو كمال له ، و هذا و إن نفّس عن نفسه من جهة الضغط المتراكم عليه نتيجة ذلك الفقدان ، لكن لا زال البكاء يزيد المظلوم تشوّقاً إلى ذلك الكمال والحقّ المطلوب ، فلا يكون نوعاً من تقليل السعرة والإرادة لإرجاع حقّه ، فإذا كان أحد الناس فاقداً لشيء و بكى لفقده ، فإنّنا نرى بالوجدان والعيان أنّه يزداد إرادة و تصميماً من ناحية ، و طاقةً و عملاً من ناحية أخرى نحو تحصيل ذلك المفقود منه ، و إنّ بكاءه لا يُعيقه ولا يمنع حركته بتاتاً ، فالإشكال بأنّ البكاء هو نوع من الممانعة نحو الحركة للكمال على إطلاقه غير صحيح و غير سديد.
و ما ذكرهُ علماء النفس أو علماء الاجتماع الحديث ، لا يتضارب مع ما نقوله : من أنّ البكاء على تفصيل بلحاظ اجتماع الشرطين (1) يكون ايجابيّاً ، و مع فقد أحدهما يكون سلبيّاً ، أمّا أنّ البكاء هو حالة انقهاريّة و انهزاميّة للنفس فهي مقولة غير سليمة على إطلاقها.
و من عمدة البحث أن نرى الرؤية الشرعيّة حول حقيقة البكاء ، هل يرى الشارع أنّ البكاء حالة سلبيّة أم ايجابيّة ؟ و على التفصيل فهل يكون بتوفّر الشرطين السابقين ايجابيّاً و إلاّ كان سلبيّاً كما ذَكر الحكماء و علماء الأخلاق.
ولابدّ من استعراض الآيات القرآنيّة العديدة والروايات الواردة في هذا الموضوع ، و من ثَمّ نبدأ في تحليل تفصيلي لأجوبة بقيّة الإشكالات السبعة.
و ما تقدّم من الشرطين في إيجابيّته : هو مورد توافق العلوم العقليّة والإنسانيّة التقليديّة القديمة في البشريّة ، والعلوم النفسيّة والإنسانيّة الحديثة (من : علم النفس ، و علم الاجتماع ، و علم السيكولوجيا) وهي تتوافق تقريباً على مثل هذا التقسيم للبكاء.
و علماء الاجتماع يلاحظون ظاهرة مفارقة بين بلدان الشرق ـ سيّما الشرق الأوسط ـ و بين بلاد الغرب ، و يشاهدون أنّ في الشرق ظاهرة و فور من العاطفة والأحاسيس ، و إنّ كثيراً من الفضائل الأخلاقيّة التي هي من سنخ القوى العقليّة في النفس ، سواء كانت تلك الفضائل العقليّة عملاً محضاً ، أو كانت مزيجاً من جهات إدراكيّة علميّة ، يلاحظون و يرون بأنّ نظم العاطفة ونظم الوجدان الموجود في الشرق ـ لا سيّما الشرق الأوسط ـ أقوى بمراتب بما لا يقاس منه في الغرب ، وكأنّما الغرب فقط قوالب إدراكيّة ، طبيعة الإنسيّة البشريّة الموجودة هناك كأنّها تقتصر على قوالب إدراكيّة قد فُرِّغت من الجانب العاطفي والجانب الروحي.
و من ثَمّ نجد الإحصائيّات تشير ـ في مجالات عديدة ـ إلى بروز الأمراض الروحيّة والعُقد وتَفكّك الأُسرة ، إلى غير ذلك ممّا هو مرتبط بجانب العاطفة والوجدان والروح والخلق المتعلّق بالجانب العملي.
فهناك فارق شاسع جدّاً بين بلاد الشرق (الأوسط) وبلاد الغرب ، بين أولئك الذين يتّخذون نمطاً من الحياة المادّيّة و الذين يتّخذون نمطاً من الحياة الروحيّة ، ولو كانوا على غير دين الإسلام من بلاد الشرق : كالهنود والبوذيّين وما شابه ذلك ، وقد أضحى هؤلاء ـ في الآونة الأخيرة ـ يتخوّفون من الغزو الثقافي الغربي والأمريكي ، الذي يكاد يهدّد الثوابت الروحيّة والعاطفيّة لديهم.
والقوانين المدنيّة إنّما وجِدت لأجل سلامة المحيط الاجتماعي ، و هو ـ مع قلّة الحريّات في المجتمعات الشرقيّة و تخلّف القانون الوضعي ـ يُعدّ في الشرق أسلم منه من الغرب.
والسرّ في ذلك : هو أنّ الإنسان في زوايا نفسه و درجات روحه لا يقتصر على جناح الإدراك ، و هو ليس مجرّد علبة كمبيوتريّة تُزقّ بالمعلومات ، الإنسان يحتوي على جناح عملي أيضاً ، بل الجناح الإدراكي ليس يقتصر على قنوات إدراك ، بل فيه إدراكات روحيّة و ما يسمّى بالحاسّة السادسة ، وهي غير الإدراكات الحصوليّة التي هي من قبيل المفاهيم ، والإدراكات الباطنيّة التي هي في أعماق الروح يُعبّر عنها الحكماء القدماء بالقلب والسرّ والخفي والأخفى ، يعني الدرجات ، فضلاً عن الجناح العملي في النفس ، فكثير من أجنحة النفس ليست إدراكاً محضاً ، والجناح الإدراكي الفوقاني (1) هو غير جناح الإدراك التحتاني (2) الذي ذَكرنا له درجات ، وهي : الوهم ، الخيال ، العقل النظري.
الجناح الإدراكي الفوقاني في النفس هو : القلب ، السرّ ، الخفي ، الأخفى ، أو ما يسمّى بأعماق الباطن في النفس ، أعماق النفس الباطنة ـ في الفلسفة الحديثة ـ ليس صرف إدراك محض ، بل فيه جذب و قطع ، وصل ونفرة ، انقباض وانبساط ، إقبال و إدبار.
هذه حالات غامضة روحيّة تناولتها الشريعة والفلسفة القديمة والحديثة والعرفان بالتحليل والدراسة ، فهذه حالات ليست حالات إدراكيّة جافّة فقط ، كذلك الجانب العملي في النفس : الغضب ، الشهوة ، الغرائز المختلفة ، قوّة العقل العملي ، الإرادة ، الصبر ، الشجاعة ، العفّة ، هي كلّها من أفعال النفس التي يتكفّل بها دائماً الجانب العملي في النفس وليس الجانب الإدراكي النازل ، فالجانب العملي ـ سواء النازل (32) ، أو العملي الفوقاني (33) ـ في الإدراك الفوقاني ، هو من الجوانب العمليّة في النفس وليس إدراكات جافّة محضة.
فلو ألقى المتحدّثون على الناس عشرات المحاضرات ، والعديد من الأفكار من دون تطعيمها بعاطفة صادقة ومن دون إثارة عمليّة للأفكار ، لم تحصل الفائدة المرجوّة لذلك ! بل النتيجة : قوالب جافّة ، و سوف لن تصل هذه البرامج الفكريّة المحضة في تأثيرها إلى البرامج العمليّة ، ولن يؤثّر ذلك بالمجتمع في طريق إصلاحه ، مع أنّ الغاية من البرامج الفكريّة هو الإقدام العملي في شرائح المجتمع.
و هذا نظير ما يقوله القائل في شأن المرحليّة الفكريّة والفكر من دون تطعيمه بعاطفة صادقة ، وقد شرحنا العاطفة الصادقة حينما تطرّقنا في البحث عن البكاء الصادق.
حيث إنّ البكاء الصادق هو أحد الحالات والظواهر العاطفيّة الصادقة كالتقديس ، باعتبار أنّ تحقّق الإدراك الصادق يحصل بمتابعة غاية صادقة و صحيحة ، فتنشأ العاطفة الصادقة ، أي تكون العاطفة ترجماناً عمليّاً للفكرة.
و أمّا تزريق : المستمع ، أو القارئ ، أو المُشاهد بأفكار و معلومات من دون أن تستثير فيه الجانب العملي والعاطفي ؛ فإنّه سيُخفق في التأثير عليه ، ولن ينجح في إرشاده إلى الصلاح ، سواء في التربية المدرسيّة ، أو الاجتماعيّة ، أو الدينيّة ، أو الحسينيّة ، و مثل تلك الطريقة لن تصلحه ولن تستثيره ، بل المفروض هو : أن تشحذ همّة إرادته حيث توجد عنده إرادة عازمة حازمة ، لكي يبدأ بتغيير مسيره.
بينما البكاء يختصر الطريق ، البكاء أو العواطف الصادقة تختصر الطريق أمام آلاف المحاضرات والأفكار ، و إنّ فكرة جامعة لمادّة غنيّة بالأفكار مقرونة بإثارة عاطفيّة صادقة نابعة من هذه الفكرة الإجماليّة الجامعة الصحيحة ، رُبّما تقلب الإنسان رأساً على عقب ، فيتبدّل وضعه ، و تتغيّر بيئته السلبيّة ، و ينقلب فجأة إلى العزم للمضي نحو الفضائل ، و ينشأ ذلك من الإثارة العاطفيّة الصادقة ، إذ المفروض أنّ الإثارة العاطفية الصادقة رسالة ، مُستمعها (المُرسل إليه) هو الجانب العملي في النفس ، والجانب العاطفي في النفس ، المنفعل والمتقبّل لها هو الجانب العاطفي في النفس ، فإذا كان المشتري والسامع والمنفّذ لها هو الجانب العملي في النفس ، فهذا اختصار للطريق ، و بعبارةٍ أخرى ، فإنّ معيّة الفكر مع العاطفة أو مع الجانب العملي في النفس ضرورة لا يمكن التفريط بها للوصول إلى الإرشاد والإصلاح الاجتماعي ، أو الفردي ، أو التربية السليمة والكمال المنشود.
و من ثَمّ حصلَ الفارق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة ، فمن الخطورة بمكان أن ننحو نحو سلبيّات الغرب ، بخلاف إيجابيّات الغرب ـ من التقدّم العلمي والتكنولوجي ـ فإنّه لابدّ من الأخذ بهما.
أمّا أن نكون مَجمعاً للروافد السلبيّة المنتشرة والشائعة في مجتمعاتهم ، فهذا مرفوض من الأساس ؛ لأنّ حقيقة الفطرة الإنسانيّة مزدوجة من جانبين ، بل قيادة النفس إنّما هي بالإرادة ، والإرادة صفة عَمليّة ، و الذي يوجدها و يولِّدها و يثيرها و يحرّكها هو جانب العاطفة ـ العاطفة الصادقة ـ أو جانب العقل العملي الصادق الوليد للجانب الإدراكي.
فإذا فقدَ الإنسان إرادته ، فإنّه سوف يفقد كلّ شيء في شخصيّته ، فالإرادة ـ التي هي أثمن شيء في الوجود ، وهي الصفة التي امتاز بها الإنسان عن بقيّة المخلوقات ـ لابدّ من تطعيمها بعاطفة صادقة ، فحينئذٍ من الجناية على المجتمع والفكر والحقيقة بمكان أن نُسمّي الفكر الجاف ، أو نسمّي عدم التفاعل الصادق مع الحقائق والجمود في قبال الحقائق ، نسمّيه نوع اعتدال ، أو نوع تقدّم ، أو حالة حضاريّة ، بل هي حالة تخلّف تقودها جاهليّة الغرب ، و هم يعانون منها الآن ، ونحن بالتبع نجترّها ، نجترّ فضلاتهم بعناوين برّاقة زائفة و أثواب جميلة خادعة ، و نتنازل عن المفاهيم والعناوين الصادرة عن تراثنا.
هذه لقطة أخيرة من حقيقة البكاء ، و هي : أنّ البكاء و أخواته من الأفعال العاطفيّة النفسيّة إذا كان ضمن الصور الإيجابيّة ، فهو من كمالات النفس و من كمالات المجتمع والبشريّة ، التي تحتاج إليها لتصل إلى رُقيّها المنشود.
و أمثلة المفردات العاطفيّة : التشكيك ، والتقديس ، والبكاء.
و نذكر الآن مفردة أخرى ، وفعلاً عمليّاً آخر يثار و هو : وصف شخص بأنّه عاطفي وانتقاده ؛ لأنّه يتأثّر بالخبر مباشرة سلباً أو إيجاباً ، و إنّ الشخص السوي والسليم : هو الذي إذا رأى صورة صادقة لا يتأثّر بها ولا يتحمّس لها ، و إذا رأى صورة باطلة لا يتنفّر منها ولا يرفضها ، و بعبارة أخرى : غلق باب العقل العملي ، وقد عرفتَ أنّ العقل العملي من فطرة الله سبحانه ، و إنّ الغاية منه قيادة حركة نورانيّة في النفس ، بحيث ينفّرها عن المنكر والنقص والمساوئ ، و يجذبها نحو الخير والكمال والفضائل ، فهو حبل ربّاني نوراني و هداية و رحمة إلهيّة.
هذه الفطرة التي أنعمَ بها الباري عزّ وجل على الإنسان ، لماذا نطمسها ؟ ولماذا نقول : بأنّ العاطفة في الإنسان تعتبر حالة شاذّة ! العاطفة ليست بجميع صورها خاطئة ، العاطفة ترجمان عملي صادق حقيقي طبيعي للإنسان إذا كان ناتجاً عن معلومة صادقة ، أو تأثّر بالنفرة والإنكار من معلومة كاذبة ، كيف تُلغى العاطفة من وجود الإنسان ، كيف تُهمل من وجود المجتمع ، اللهمّ إلاّ أن نَصْبوا إلى مجتمع مفكّك عن العاطفة والأخلاق ، كالمجتمع الغربي الذي يسبح في بحر الرذائل و يتخبّط في أدنى مستوى من الانحطاط.
التناسبُ الطردي بين المعلومة والعاطفة
نعم ، الجدير بالذكر : أنّ كلّ معلومة لها حجم مقدّر من العاطفة في علم السيكولوجيا ، إذا زاد التفاعل معها عن حجمها كان إفراطاً ، و إذا نقص عن حجمها كان تفريطاً ، و هذا مقرّر في تعاليمنا الدينيّة ، مثلاً : على الإنسان أن لا يتعدّى بالغيرة على غيرة الله في محرّماته ، فإذا جعلَ الله لشارب الخمر حدّاً معيّناً ، فيجب أن لا تشتدّ الغيرة فيُحدّ أكثر من حدّ الله سبحانه ، فإنكار المنكر اليسير يختلف عن المنكر المتوسط والمنكر الشديد الذي يصل إلى حدّ الكبيرة ، والكبائر أيضاً لها درجات ، فالزائد يكون إفراطاً وليس في محلّه ، و هناك ترابط ، فكلّ معلومة لها حجم عاطفي معيّن لابدّ أن يتولّد منها ، و عدم تولّده يعني مسخ الفطرة الإنسانيّة عمّا هي عليه ؛ لأنّ المفروض أنّ المُدركة لابدّ أن تُترجَم على الصعيد العملي ، ولو لم تُترجَم فلا فائدة من الإدراك ، و هذا هو الفرق بين النفس و بين الكمبيوتر ، و بينها و بين الكتب ، و بينها و بين مجرّد المعلومات.
فالفكرة والمعلومة كما هي خطيرة جدّاً ، و كذلك العاطفة والمقولة العاطفيّة الصحيحة خطيرة جدّاً أيضاً ، و خطورتها إيجابيّة أيضاً ، سواء في النفس ، أو في الإنسان ، أو في المجتمع ، و كما أنّنا لا يمكننا إلغاء الأفكار فكذلك لا يمكننا إلغاء العاطفة الناتجة من تلك الأفكار ، و تبديل العلم إلى الجهل مساوق لإلغاء و تعطيل العمل ، و قوام العمل بالزخم الروحي والقوّة العاطفيّة الصادقة التي تقوم بها النفس ، من البكاء والتقديس والتأثّر.
وهذا المنحى المادّي ، أو اللاروحي ، أو اللاخلقي ، ينتشر في الأوساط الفكريّة العلمانيّة والأوساط الإسلاميّة المتأثّرة بالعلمانيّة تدريجيّاً ، و هو أمر بالغ الخطورة.
هذا مُجمل البحث التخصّصي في موضوعات ظاهرة البكاء ، حيث ألقينا الضوء على البكاء من ناحية تخصصيّة بغضّ النظر عن الفقه ، و بغضّ النظر عن روايات الشريعة الواردة في خصوص البكاء على الحسين (عليه السلام) ، بغضّ النظر عن ذلك كلّه ، وفي الواقع فإنّ الشريعة لا تتناول البكاء فقط ، بل تتناول كثيراً من الأفعال العمليّة التي تقوم بها النفس و تمارسها ولكن وفق شروط و ضوابط معيّنة.
البكاءُ في القرآن الكريم
1 ـ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(34) ، فالقرآن يُثني على ظاهرة البكاء التي تنشأ من درك الحقيقة ، أي أنّه يمدح التأثّر والتحسّس العاطفي الذي يكون البكاء مظهراً من مظاهره ، وقسماً من أقسامه ، يمدحه القرآن ويصفه بأنّه : تأثّر صادق و مطلوب و طبيعي و فطري و كمالي إذا نتج من معلومة حقيقيّة (وَإِذَا سَمِعُوا ... تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) ، و هنا إشارة لنفس الشرطين اللذين ذكرناهما باعتبار أنّه تأثّر من المعلومة الحقيقيّة.
2 ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)(35) ، فيمدحهم القرآن على تأثّرهم ، هذا التأثّر هو على نحو الانفعال البكائي نتيجة التشوّق للمشاركة في فعل الخير من الجهاد والإنفاق ، هذا التأثّر يمدحه القرآن ويصفه بأنّه : فعل إيجابي و كمالي.
3 ـ (قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأذقَان سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ للأذقَان يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)(36).
مَدحهم لأجل البكاء والتأثّر ، ولو كانوا يستمعون فقط لمَا أُنزل من الوحي ولا يبكون ، فلن يكون لديهم خشوع ، والخشوع ـ الذي هو ذروة الحالات النفسيّة العمليّة ـ هو في الواقع حالة عمليّة ، ليس من الجناح العملي النازل ، بل من الجناح العملي الصاعد ، حيث مرّ بنا أنّه من أجنحة النفس الذي هو : القلب ، السرّ ، الخفيّ ، الأخفى.
فالخشوع : هو فعل من أفعال القلب وليس فعلاً من أفعال الغرائز ، وليس فعلاً من أفعال العقل العملي ، وليس فعلاً من أفعال الشهوة ، وليس من أفعال الحس ولا من الإدراك الحصولي ؛ إنّما هو فعل من أفعال إدراك الباطن العلوي في النفس و هو القلب ، فلولا البكاء لمَا حصل ذلك الفعل العلوي للنفس (وَيَخِرُّونَ للأذقان يَبْكُونَ) ؛ لأنّه ناتج من معلومة صادقة وغاية صادقة ، و هو الفرار من الذنوب والتشوّق إلى النشآت الأبديّة الخالدة ، و هذا التشوّق والتأثّر يمدحه القرآن ، و هو سير نفساني ، و سير حقيقي في النشآت الأبديّة الخالدة ، يمدحه القرآن الكريم و إن لم ندركه نحن الآن ، و سيُكشف لنا الغطاء ـ إن شاء الله ـ فندرك أنّ هذا السير النفساني هو سير في تلك النشآت وكمال فيها.
4 ـ (وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ...) تَذكر هذه الآية الأنبياء والصفة البارزة لكلّ نبيّ منهم ، إلى أن تقول : (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(37) ، فالأنبياء هم الأمثولة المحتذى بها والأنموذج المقتدى للبشريّة ، و هم المَثل السامي للبشريّة ، والقرآن الكريم يمدحهم بأنّ لهم تأثّراً عاطفيّاً يظهر بشكل البكاء.
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ) على نحو القضيّة الحقيقيّة ، أي : كلّما تُليت آيات الرحمان ـ ولو على مرّ الدهور ـ فهناك فئة ممّن هداهم الله سبحانه و اجتباهم يتأثّرون بها فيخرّون للسجود و يبكون (إِذَا تُتْلَى ... خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا).
5 ـ عندما أُخبر يعقوب بأنّ ابنه الثاني أيضاً قد أُخذ منه ، قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ (38) تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(39) يعني : ما أمارسه هو فعل من الأفعال الراجحة ، و يعقوب نبيّ من أنبياء الله عزّ وجل ، والقرآن يُخلّد ذكره و يُخلّد فعله لنا ، و يُعطينا قدوة نموذجيّة و أمثولة للاقتداء به في هذا التفاعل العاطفي ، هذا البكاء والتشوّق لنبيّ آخر هو من أبنائه ليس تشوّقاً إلى كمالٍ زائل ؛ و إنّما هو تشوّق لنبوّة نبيّ آخر ، فالغاية سامية ، والتأثّر لأجل صلة الرحم.
بكاؤه استمرّ طيلة غياب يوسف ، وأدّى إلى بياض عينيه (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) يعني : عَميت ، اشتدّ به البكاء إلى درجة العمى ، فالبكاء كان باختياره ، فإذا كان النبي يتشوّق و يبكي إلى هذا الحد ، وقد كان ضمن مَن وَصفهم الله عزّ وجل (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ...)(40) ، فيعقوب ضمن هؤلاء الأئمّة ، و مع ذلك يتشوّق إلى نبي مثله ، فكيف إذا تشوّق غير النبي و غير المعصوم إلى المعصوم ، و هل يكون تشوّقه أو بكاؤه ـ لو وصلَ به الأمر إلى الإضرار بالعين ـ فعلاً محرّماً ، هذا بحث آخر سيأتي في جهة الضرر الحاصل بسبب الشعائر.
فهذا نوع من السلوك والخُلق النبويّ الذي سطّره لنا القرآن الكريم بُغية الاحتذاء به و اتّباعه ، حيث يقول في آخر السورة : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(41) ، و بهدف التأسّي من هذه النماذج (42).
حينئذٍ ، هذا الفعل من يعقوب (عليه السلام) أورده الباري سبحانه في هذه السورة لأجل أن يُحتذى به ، و هو فعل كمالي وليس فعلاً مذموماً أو فيه منقصة ، و آية
(فَارْتَدَّ بَصِيراً) تدلّ على أنّه أُصيبَ بالعمى ، تصل الدرجة لنبي من الأنبياء أنّه مارسَ البكاء بهذه الشدّة ، فكيف يمكن أن يكون الفعل سلبيّاً ، بل فعله ايجابي ، و لذلك ضربهُ الله سبحانه أنموذجاً يُحتذى به.
6 ـ (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ)(43) ، فيها زجر و نهي عن الضحك ، و عن الإمساك عن البكاء.
فما تُطالبنا به هذه الآيات الكريمة هو : البكاء المتوفّر فيه الشرطان السابقان : و هو انطلاقه و تولّده من معلومة حقّانيّة ، و اندراجه تحت غاية كماليّة ، مثل هكذا بكاء يمتدحه القرآن أشدّ مدح.
ـ في الجانب الآخر هناك آيات تنهى عن الفرح المذموم ، مثل:
سورة هود : 10 (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).
هذه الآيات تذمّ الفرح (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)(44) ، والفرح الذي يكون منشأه حَدث دنيويّ يذمّه القرآن أشدّ الذم ، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(45) يعني بما عند الله بالآخرة ، يُخصّص الفرح الممدوح بما يكون في سياق النشأة الأخرويّة ، كما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فَرحاً : بقدوم جعفر ، أم بفتح خيبر)(46).
نعم ، هذه في سلسلة النشأة الأخرويّة ، و أمّا ما لا يصبّ في سبيل النشأة الأخرويّة فيذمّه القرآن أشدّ ذم ، و يُخصّص شطراً كبيراً منه بذمّ الفرح إلاّ ما كان قد تعلّق بالتشوّق إلى الجانب الأخروي.
و أمّا الخشية والخشوع ـ اللذان هما صفتان وفعلان نفسيّان قريبا الأفق من البكاء ـ فهما صنفان يتلازمان و يتزامنان مع البكاء ، والآيات المادحة لذلك كثيرة جدّاً (47).
الخشية ، أو الخشوع والإشفاق : حالات نفسيّة من أفعال الجانب العملي في النفس ، و تكون مقرونة بالبكاء ، بل في أكثر الأحيان ناشئة منه ، ولا تنفكّ غالباً عنه ، و إذا كان ما هو ناتج عن البكاء مُستحبّاً و راجحاً و مرغوباً فيه في الشريعة ، فالسبب (وهو البكاء) أيضاً مرغّب فيه من قِبل الشريعة أيضاً.
لذا فإنّ البكاء من خشية الله يُعدّ من أعظم العبادات ، حتّى أنّه وردت روايات عديدة في أنّ البكاء في الصلاة من أفضل أعمالها. فنظرة الشريعة ـ من خلال الآيات والروايات ـ تدلّ على أنّ البكاء المتوفّر فيه هذان الشرطان : هو من الأفعال الكماليّة النفسانيّة و من الفطرة المستقيمة للبشر ، والقرآن يمدح هذه الحالة في أنبيائه ورسله ، ويضرب لنا في ذلك أُمثولة و قدوة نتأسّى بها حتّى في الحزن ، فنظرة الآيات القرآنية ـ و قبل أربعة عشر قرناً ـ تُقرّر و تُثبت ما توصّلت إليه البحوث العقليّة والعلوم الحديثة : من أنّ البكاء ليس سلبيّاً على إطلاقه ، بل أغلب و أكثر أفراده إيجابيّةً.
بعضُ الأدلّة الواردة في البكاء
أمّا الروايات الواردة في الحثّ على البكاء ، والمدح والثناء للباكين ، فمنها:
1 ـ بكاء النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عمّه حمزة ، وحثّه وترغيبه البكاء عليه ، و يظهر ذلك من عدّة أدلّة تاريخيّة ، منها:
أ) قال ابن الأثير و غيره : لمّا رأى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حمزة قتيلاً بكى ، فلمّا رأى ما مُثّل به شهقَ (48).
ب) و ذكرَ الواقدي : أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يومئذٍٍ (49) إذا بكت صفية يبكي ، و إذا نَشجت ينشج . قال : و جَعلت فاطمة تبكي ، فلمّا بكت بكى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)(50).
ج) روى ابن مسعود ، قال : (ما رأينا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) باكياً قط أشدّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب لمّا قُتل ـ إلى أن قال ـ و وضعه في القبر ، ثُمّ وقف (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على جنازته و انتحبَ حتّى نشغ (51) من البكاء...)(52).
د) ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في ص : 40 من الجزء الثاني من مسنده : من أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لمّا رجعَ من أُحد ، جَعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتل من أزواجهنّ ، قال : فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (ولكنّ حمزة لا بواكي له ، قال: ثُمّ نام ، فانتبهَ وهنّ يبكين ، قال : فهنّ اليوم إذا يبكينَ يندُبن حمزة).
ـ وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي ، قال : لم تبكِ امرأةٌ من الأنصار على ميّت ـ بعد قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (لكنّ حمزة لا بواكي له) ـ إلاّ بدأنَ بالبكاء على حمزة (53).
2 ـ بكاءُ النبي جعفر بن أبي طالب وحثّ النساء بالبكاء عليه:
فقد أخرجَ المزّي في تهذيب الكمال عن مغازي الواقدي ، بسنده عن أم جعفر بنت محمّد بن جعفر ، عن جدّتها أسماء بنت عميس ، قالت : أصبحتُ في اليوم الذي أُصيبَ فيه جعفر و أصحابه ، فأتاني رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقد هيّأتُ أربعين منّاً من أُدُم ، و عجنتُ عجيني ، و أخذتُ بَنيّ ، و غسلتُ وجوههم ، ودهنتُهم ، فدخلَ عليّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال : (يا أسماء ، أين بنو جعفر؟ فجئتُ به إليهم فضمّهم وشمّهم ، ثُمّ ذَرفت عيناه فبكى ، فقلت : أي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلّه بَلغك عن جعفر شيء ، فقال : نعم ، قُتل اليوم.
فقالت : فقمتُ أصيح و اجتمعَ إليّ النساء.
قالت : فجعلَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول : يا أسماء ، لا تقولي هَجراً ولا تضربي صدراً ، قالت : فخرجَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى دخلَ على ابنته فاطمة ، و هي تقول : و اعمّاه.
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : على مِثل جعفر فلتبكِ الباكية.
ثُمّ قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : اصنَعوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغلوا عن أنفسهم اليوم)(54).
3 ـ بكاءُ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على ولده إبراهيم : ما أخرجه البخاري في صحيحه ، قال فيه:
ثُمّ دخلنا عليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) و إبراهيم يجود بنفسه ، فجُعلت عينا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تذرفان.
فقال له عبد الرحمان بن عوف : و أنت يا رسول الله؟
فقال : (يا بن عوف ، إنّها رحمة ، ثُمّ أتبعها بأخرى.
فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلاّ ما يُرضي ربّنا ، و إنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)(55).
و بكى كذلك على عثمان بن مظعون ، وسعد بن معاذ ، و زيد بن حارثة (56).
4 ـ ما وردَ في خطبة الأمير (عليه السلام) في وصف المتّقين ، و شدّة انفعال همام إلى حدّ الموت ، فصُعق همام صعقةً كانت نفسه فيها ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (أمَا و الله لقد كنتُ أخافها عليه ، ثُمّ قال : هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ، فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين (57) ، فقال : ويحك إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه ولا يتجاوزه ، فمهلاً لا تعُد لمثلها فإنّما نفثَ الشيطان على لسانك)(58).
5 ـ و ما ذكرهُ الأمير (عليه السلام) عندما غارت خيل معاوية على الأنبار ، و قُتل حسّان بن حسّان البكري ، فكان (عليه السلام) متأثّراً و متذمّراً ، و هو يستنهض الناس في الكوفة للقتال ضدّ معاوية ، فكان يقول (عليه السلام) : (ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فينتزع حِجلها وقلائدها و رُعثها ، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام ، ثُمّ انصرفوا وافِرين ، ما نال رجلاً منهم كلم ولا أُريقَ لهم دمٌ ، فلو أنّ امرءاً مسلماً ماتَ بعد هذا أسفاً ، ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً)(59).
فهو (عليه السلام) يصف شدّة الانفعال من جهة الغيرة (60) (الغيرة : هي أيضاً صفة نفسانيّة ، عاطفيّة ، منطلقة ووليدة من إدراك معلومة حقيقيّة ، ولأجل غاية حقيقيّة ، وهي الذبّ عن حريم الدين ، و حريم المسلمين ، والدفاع عن شرف وكرامة المؤمن).
إذاً ، الجامع بين الخشية والخشوع والأسى والحزن هو شدّة الانفعال ، و هو من المعاني الحقيقيّة ، هذه الشدّة لا يعتبرها الإمام إفراطاً ، ولا مغالاة ، مثلَ ما وقع من النبي يعقوب (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) ، أو كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (بل كان به عندي جديراً) ، حيث يصفها بأنّها فعلٌ كمالي.
6 ـ و أيضاً ، في زيارة الناحية التي نَقلها صاحب البحار ، وهي منسوبة للإمام الحجّة (عليه السلام) : (فلأندُبنّك صباحاً و مساءً ، ولأبكينّ عليك بدلَ الدموع دَماً حسرةً عليك و تأسّفاً و تحسّراً على ما دَهاك)(61) ، فهذا نوع من شدّة الانفعال التي هي ليست بمذمومة بل ممدوحة و مطلوبة.
7 ـ أيضاً في القصيدة التي ألقاها دعبل الخزاعي في محضر الرضا (عليه السلام):
أفاطم لو خِلت الحسين مجدّلاً وقد مات عطشاناً بشــطّ فرات
إذاً للطمت الخدّ فاطم عنـده و أجريت دمع العين في الوَجنات (62)
فَعلا صُراخ حرم الإمام (عليه السلام) من وراء الستر ، ولطمنَ الخدود ، و بكى الإمام الرضا (عليه السلام) حتّى أُغميَ عليه مرّتين من شدّة الانفعال والتأثّر.
8 ـ ما يُذكر في التاريخ من إغماء أمير المؤمنين (عليه السلام) مراراً من خشية الله في صلاة الليل ، وهي مسندة في تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) في المصادر المختلفة ، و نفس الحالة ثابتة أيضاً لباقي الأئمّة (عليهم السلام).
9 ـ ما ذكرهُ صاحب كامل الزيارات ابن قولويه (63) ، و نقله صاحب البحار أيضاً من كامل الزيارات نفس الرواية (64) الواردة في بكاء السجّاد (عليه السلام) و قول مولىً له : جُعلت فداك يا بن رسول الله ، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال (عليه السلام) : (إنّما أشكو بثّي و حُزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون ، إنّي لم أذكُر مصرع بني فاطمة إلاّ خَنقتني العبرة).
ـ وفي رواية أخرى : أمَا آنَ لحُزنك أن ينقضي؟!
فقال له : (ويحكَ ، إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً ، فغيّبَ الله واحداً منهم ، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه ، واحدودبَ ظهره من الغمّ ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا ، و أنا نظرتُ إلى أبي و أخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي ، فكيف ينقضي حزني)(65).
ـ و ذكرَ صاحب حُلية الأولياء : أنّه (عليه السلام) بكى حتّى خيفَ على عينيه (66).
10 ـ ما ذكرهُ الصدوق في عِلل الشرائع (67) ، من العلّة التي من أجلها جَعل الله عزّ وجل موسى خادماً لشعيب (عليهما السلام) وهي : لكثرة بكاء النبي شعيب من خشية الله حتّى عميَ مرتين أو ثلاث ، يُعمى ويردّ الله عليه بصره ، ثُمّ يبكي بشدّة و يردّ الله عليه بصره ، حيث وردَ في هذه الرواية عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه قال : (بكى شُعيب (عليه السلام) من حُبّ الله عزّ وجل حتّى عَمي ، فردّ الله عزّ وجل عليه بصره ، ثُمّ بكى حتّى عَمي فردّ الله عليه بصره ، ثُمّ بكى حتّى عميَ فردّ الله عليه بصره ، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه : يا شعيب ، إلى متى يكون هذا أبداً منك ، إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك ، و إن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبَحتك ، قال : إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيتُ خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك ، ولكن عُقد حبّك على قلبي ، فلستُ أصبر أو أراك ، فأوحى الله جلّ جلاله إليه : أمَا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدِمك كليمي موسى بن عمران)(68).
11 ـ فِعل الرباب زوجة الإمام الحسين (عليه السلام) ، فإنّها من شدّة التأثّر لم تستظلّ تحت السقف (69) عاماً كاملاً إلى أن توفّيت ، وكان ذلك بمسمع و بمرأى من السجّاد (عليه السلام) ، أي مع تقرير المعصوم على هذا الفعل ، فيكون نوعاً من التصحيح والإمضاء له.
و هناك موارد عديدة غير ذلك تُصوّر شدّة الانفعال ، و تدلّ على رجحان البكاء ، والجامع بين هذه الموارد والصور المتعدّدة للتفاعل العاطفي هو شدّة التأثّر للإدراكات الحقيقيّة ، ولعلّ المتتبّع يجمع أكثر من هذه الموارد بكثير.
حينئذٍ يظهر أنّ البكاء والتأثّر العاطفي من معلومة حقيقيّة و إدراك حقيقي هو لأجل غاية حقيقيّة ، و هذه من خاصّيّة النوع الإنساني و خاصّيّة الفطرة الإنسانيّة ، و من دون ذلك سوف يفقد الإنسان إنسانيّته و يكون حاله حال الجمادات ، و يكون أدون من العجماوات ، حيث أثبتَ القرآن الكريم أنّ للسماء و الأرض بكاءً ، كما في سورة الدخان (70) ، روى الفريقان تحقّق هذا الأمر في شهادة الحسين (عليه السلام) ، مثل : ابن عساكر في تاريخه في ترجمة سيّد الشهداء (عليه السلام) ، حيث ذكرَ جملة من الروايات المُسندة في ذلك عن مشاهدة الدم تحت الأحجار و فوق الحيطان و غير ذلك.
أوجهُ الاعتراض على ظاهرة البكاء والجواب عليها
نذكر بعد ذلك ما يُثار حول ظاهرة البكاء من انتقادات و إشكالات و نتعرّض للجواب عنها بالتفصيل تباعاً ، فهناك عدّة نظريات و آراء مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوه عديدة.
الوجه الأوّل : أنّ أدلة و روايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل ، مثل : (إنّ مَن بكى و دَمعت عيناه بقدر جَناح ذُبابة ، غُفر له كلّ ذنوبه) فهذه الروايات ـ بتعبيرهم ـ مضمونها إسرائيلي ، شبيه لمَا لدى النصارى من أنّ المسيح قُتل لتُغفر ذنوب أمّته ، فهذه الروايات فيها ما يشابه هذا المضمون ، أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل ليُكفّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة ، فهي ـ بزعم هؤلاء ـ إغراء بالذنوب و إغراء للمعاصي ، فلا يمكن العمل بهذه الروايات ؛ لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكرة المسيحيّة واليهوديّة ، فحينئذٍ مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها ، وهو مضمون دخيل كما عبّروا ، وهذا الوجه ـ في الحقيقة ـ يتألّف من أمرين:
الأول : ضعفُ سند هذه الروايات.
الثاني : ضعفُ المضمون ؛ لاشتماله على هذا الإغراء الباطل.
الجواب : أمّا ضعفُ السند ، فقد ذكرنا سابقاً أنّ كتاب بحار الأنوار يتضمّن باب ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) ، و يحتوي على خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء ، و هذه الروايات الخمسون ، ممّا جَمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جَمعها صاحب الوسائل و غير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى ، فكيف نردّ هذه الروايات ؟ و بأيّ ميزان دِرائيّ و رجالي نُشكّك بها ؟ فالقول بضعف السند لهذه الروايات ناتج من ضعف الانتباه أو ضعف الحيطة العلميّة ؛ لأنّه بأدنى تصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة تحصل القناعة واليقين بوجود أسانيد كثيرة جدّاً ، منها : الصحيح ، والموثّق ، والمُعتبر ، فضلاً عن كونها تصل إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر.
و أمّا المضمون ، فقد طعنَ عليه غير واحد ، حيث قالوا : إنّ ذِكر الثواب في البكاء على الحسين (عليه السلام) ، فيه إغراء للناس لارتكاب الذنوب والاتّكاء على البكاء ، و يستشهدون على ذلك : بكون كثير من العوامّ يرتكبون المعاصي ويشاركون في نفس الوقت مشاركة فعّالة في الشعائر الحسينيّة و يخدمون و يحضرون المجالس و يبكون ، و اتّكالاً على هذه المشاركة و تذرّعاً بهذا البكاء فإنّهم يرتكبون ما يروق لهم من المعاصي ، فبالتالي يصبح مضمون هذه الشعائر باطلاً.
الجواب عن هذا الإشكال : إنّ مثل هذا المضمون موجود في موارد عديدة في الشريعة ، و هي موارد مسلّمة ، مثلاً : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(71) ، فهل هذا إغراء بالصغائر ، أو : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(72) ، هل هذا إغراء بكلّ المعاصي غير الشِّرك؟!
يُضاف إلى ذلك ، روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله ، منها:
عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (مَن خرجَ من عينيه مثل الذُباب من الدمع من خشية الله ، آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر)(73).
و قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته ، حرّم الله ديباجة وجهه على النار)(74) فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب ؟! و كذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم و غيرها من الثواب العظيم ، و غفران الذنوب ، بل يمكن الردّ على الإشكال في هذه الموارد بوجوه عديدة:
أوّلاً : الترغيب في نفس العمل ، لا أنّه إغراء بالمنافرات والمضادّات.
ثانياً : فتح باب التوبة و عدم اليأس.
ثالثاً : إنّ البكاء من خشية الله ؛ إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنب ، وليس من باب العلّة التامّة ، أي أنّ هناك أموراً و شرائط أخرى لابدّ من توفّرها مع المقتضي ، من قبيل : عدم الإصرار على الصغائر ، والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية و غير ذلك ، فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات و توفّر المقتضي فتحصل العلّة التامّة للتكفير أو للمغفرة ، لذلك نقول : إنّ هذه الأمور هي من باب المقتضي وليست من باب العلّة التامّة. و رابعاً : في آية (إِنْ تَجْتَنِبُوا...) المقصود تكفير الذنوب السابقة وليس الآتية في المستقبل ، و الذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفّق إلى مثل هذا التكفير والغفران ، و هذا نظير ما وردَ في باب الحج : أنّ مَن حجّ يقال له بعد رجوعه استأنفَ العمل (75) ، أو أنّه يرجع كما ولدتهُ أمّه ، و يُغفر لمَا سبقَ من ذنوبه ، فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب ، بل المقصود : أنّ هذه مقتضيات ، لا أنّها تُحدّد المصير النهائي والعاقبة النهائيّة.
وقد ورد في مضمون بعض الروايات : مَن مات على الولاية ، يَشفع و يُشفّع (76) ، لكن مَن يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان يرتكب الذنوب والكبائر ، فليست ولاية أهل البيت مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي.
إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُسبّب فقدان أغلى جوهرة و أعظم حبل للنجاة ، و هو العقيدة ، و يؤدّي إلى ضياع الإيمان ، حيث قال تعإلى : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)(77) ، حيث إنّ مجموع الدين يُعتبر كتلة واحدة ، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى ، و إذا كان تمام الأدلّة الدينيّة يشير إلى أنّ ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة ـ والعياذ بالله ـ فليس فيها جانب إغراء ، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة ، وهي : أنّها تُخلّص الإنسان و تنقذه من حضيض المعاصي والرذائل ، و تعرج به إلى سموّ الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم.
فإنّ التفاعل العاطفي مع أحداث عاشوراء ليس يُنفّر من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقط ، بل هو أيضاً ينفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها ، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر حالة تأنيب الضمير لذلك ، فهو يُجسّد في نفسه الصراع والجهاد ، فإذا عَرضت له أشكال من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة ، و ينشأ في روحه جانب تأنيب الضمير ، فهذا نوع من الانجذاب القلبي والعزم الإرادي نحو الصراط المستقيم.
وليس مفاد الروايات : أنّ مَن بكى على الحسين فلهُ الضمان في حسن العاقبة ، وله النتيجة النهائيّة في الصلاح والفلاح ، ليس مفادها ذلك ؛ إنّما مفاد الروايات : مَن بكى على الحسين غُفرت له ذنوبه ، مثل أثر فريضة الحجّ ، و غفران الذنوب مشروط ـ كما يقال ـ بالموافاة ، والموافاة : اصطلاح كلامي و روائي ، أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة ، و إلاّ فمعَ سوء العاقبة ـ والعياذ بالله ـ ترجع عليه السيئات و تُحبط الحسنات ولا تُكتب له.
فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي ، وليست هي كعقيدة النصارى بأنّ المسيح قد قُتل ليُغفر للنصارى جميعاً ، حتّى وإن عملوا المعاصي والكبائر و أنواع الظلم والعدوان ، ولا كعقيدة اليهود الذين قالوا إنّ عزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه.
وإلاّ لأُشكلَ علينا أنّ قرآننا توجد فيه إسرائيليّات ، فمنطق الآية : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ...) يختلف عن ذاك المنطق الذي ينادي به النصارى ، أولئك يقولون : نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحسنى ، فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده؟
مضمون أن يُغفر له ولو كان كزبد البحر ، مخالفٌ غير ذلك المعنى أصلاً ، بل فيه نوع من إدانة المذنبين ، إضافةً إلى فتح باب الأمل و عدم القنوط و عدم اليأس ، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات ، ولا يقع في طريق المعاصي و يتخبّط في الذنوب.
الوجهُ الثاني : سلّمنا بكون هذه الروايات المشتملة على البكاء تامّة سنداً و متناً و مضموناً ، لكن مضمونها غير أبدي ، وليس بدائم ، مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمّة (عليهم السلام) ، وهي فترة وحقبة التقيّة ، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم و إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) هو البكاء ، أمّا في يومنا هذا ، فالشيعة ـ و لله الحمد ـ يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة ، فليست هذه الوسيلة صحيحة.
كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها هو : حصول غرض معيّن ، و هو إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) ، أو التولّي لأهل البيت ، و إظهار الاستنكار والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم ، باعتبار أنّ الظرف كان ظرف تقيّة ، كانت الأفواه مكمّمة ، و كانت النفوس في معرض الخطر من الظالم ، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك ، أمّا في أيّامنا هذه ـ وقد زال الخوف ـ فهذا ليس بالأسلوب الصحيح.
أمّا الآن فقد انتفت الغاية منها ، فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة ، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة.
الجواب : فنقول : أمّا كونه أحد الغايات للبكاء فتام ، لكن ليس هو تمام غاية البكاء ، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة ، هذا أوّلاً ، و ثانياً : ما الموجب لكون هذه الغاية غير قابلة للتحقّق ، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق ؛ لأنّ البكاء نوع من السلوك التربوي لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين و من غير المسلمين ، و إلاّ لو حاولت ـ إظهار النفرة لظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة ـ بمجرد كلمات فكريّة أو إدراكيّة يكون الأسلوب غير ناجح و غير نافع ، وقد يُسبِّب ردّة فعل سلبيّة عندهم ، أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة ، و أنجح علاجاً لهداية الآخرين ، لمَا مرّ من أنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نَمطين جِبلييّن : نَظري إدراكي ، و عَملي انفعالي.
والغاية ليست منحصرة في ذلك ، بل هناك عِلل كثيرة ـ كما سنقرأ من الروايات في ختام بحث البكاء ـ و حصر علّة البكاء بهذه العلّة غير صحيح.
اعتراض : أمّا ما يقال : بأنّ الحسين (عليه السلام) قد منعَ الفواطم أو العقائل من شقّ الجيوب ، و خَمش الوجوه ، و نهاهنّ عن البكاء ، فهذا النهي في الواقع مُغيّى
و مُعلّل ، عندما أخبرَ الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب ، لطمَت وجهها و صاحت و بكت ، فقال لها الحسين (عليه السلام) : (مَهلاً لا تُشمِتي القوم بنا)(78).
حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى ؛ لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسي في معسكر الحسين (عليه السلام) ، أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام) ، أو إخماد الوَلولة وكَبت شِدّة الحُزن فهي نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين (عليه السلام) ، وحدٌّ من وصول ظلامته إلى أسماع العالَم بأسره ، وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصلَ صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالَم ، و أنجحَ نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليها السلام) و خطبها ، و خُطب السجّاد (عليه السلام) في المواضع المختلفة من مشاهد السبي لأهل البيت (عليهم السلام)(79).
والسرّ واضح ؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى ، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة ، بل هو ظرف حزم الأمور وقوّة الجَنان ، و محاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام).
الجواب : ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة انفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معيّن ، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما.
و أصلاً ؛ فإنّ التفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفي من جهة ، و بين الإحساس والإدراك لأمرٍ ما من جهةٍ أخرى غير ممكن ، بل البكاء ـ كما بيّنا فيما سبق موضوعاً وحكماً ، سواءً بالحكم العقلي أو النقلي ـ هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة ، و شدّة التأثّر بها ، و شدّة الإذعان والمتابعة لها ، فلو أنّ الإنسان ذكرَ معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها ، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها ، ولم يُرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة ، بخلاف ما لو تأثّر بها بأيّ نوع من التأثّر ، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة.
و من غير الممكن أن توجد ظاهر البكاء في الجناح العملي في النفس و كفعل نفساني ، من دون أن يكون هناك إدراك ما ، فكيف إذا كان إدراك حرمان ذروة التكامل في المعصوم ، و شدّة الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة ، و من ثَمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمثل الأعلى ، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة و ينفعل بدرجة عالية ، هذا أدنى ما يمكن أن يتصوّر.
و هذا التفاعل : إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم ؛ و إنّما التأثّر به والقرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل ، ويُعتبر نفرة عن الرذائل.
فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء (عليه السلام) ، والبراءة من أعدائه و مناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت (عليهم السلام).
و هذه أقلّ حصيلة يمكن أن تُتصوّر في البكاء ، حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً ، و هو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به ، حيث يولِّد الانجذاب نحو الفضائل ، والنفرة والارتداع عن الرذائل ، و هل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا ؟ و هل الغاية في نشر الدين و تبليغ الرسالة إلاّ انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به إلى سموّ الفضائل.
هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء ، فهو نوع من المجاوبة والتفاعل لا الجمود والخمول ، ولا الحياديّة السلبيّة.
فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وتُعرض عليه رذيلةً ، فيظلّ مرتاباً متردّداً ، ومتربّصاً في نفسه لا يحسم الموقف : (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ)(80) ، فيضلّ يعيش فترة حياديّة مع نفسه ، لا هو ينجذب للفضائل ، ولا يتأثّر بالرذائل ، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص ، و هذه حالة التربّص قد ذمّها القرآن الكريم ، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق و علم السير والسلوك ؛ لأنّ نفس التوقّف هو تسافل و دركات ، أمّا الانجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم.
فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والإذعان ، وبالتالي التبعيّة.
بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل ، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة ، وشتّان بين الحالتين!
أضف إلى ذلك : أنّ في البكاء نوعاً من التولّي ، حيث إنّ البكاء يدلّ على فإذاً ، ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط و تدبير و حزم ، وليس من الصحيح إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف ، فمن ثَمّ فإنّ أمره (عليه السلام) مختصّ بذلك الظرف ، و هو نوع من التدبير والحكمة منه (عليه السلام) ، ولابدّ من لمّ الشَمل و جمع الشِتات للأرامل واليتامى ، و إنّ ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة.
خلاصة القول : في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة : أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعي ، هو أنّ هناك شرطان لرجحان البكاء هما : أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقي ، و أن يكون لغاية حقيقيّة و هادفة إيجابيّة ، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب ، و هو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة ، و خَلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّي والفعلي مع الحقيقة.
و بعبارةٍ أخرى : أنّ إعطاء السامع ، أو القارئ ، أو المُشاهد ، أو المُوالي فكرة إدراكيّة بحتة غير مثمر بمفرده ، و إنّ البكاء بمنزلة إمضاء مُحرّك للسير على تلك الفكرة ، أو ما يعبّر عنه : بحصول إرادة جدّيّة عازمة فعليّة للمعنى.
فالبكاء إذا ولّدَ حضور الفكرة ، العِبرة إذا تعقّبت العَبرة حينئذٍ يكون نوع من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة. و يُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي و إيمانه و اختياره لمسيرة تلك العِبرة.
الوجهُ الثالث : الذي يُذكر للنقض على البكاء : أن لو سلّمنا أنّنا قَبلنا بأمر البكاء في الجملة ، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنوي ، أو راتب شهري ، أو أسبوعي بشكلٍ دائم يولِّد حالة و انطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت (عليهم السلام) ، بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغون ، و إنّهم يحملون العُقد ، و استمرارهم بالبكاء و اجترارهم له يدلّ على أنّهم عَديمي الأمل فهذه ظاهرة سلبيّة انهزاميّة تكشف عن عُقد روحيّة ، و كبت نفسي دَفين ، فبدل أن يَقدموا على أعمال و برامج و مراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على مَن ظلمهم ، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع ، و هذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة ، هي حالة توجِد خَللاً في الاتّزان الروحي (كما في علم النفس وعلم الاجتماع) ، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحي ؛ و إنّما حالة اختلال فكري لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل ، بل نحن عديمو الأمل ، لدينا حالة كبت ، و هذه الأوصاف هي أوصاف مَرضيّة وليست أوصاف روحيّة سليمة.
فحينئذٍ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مرضيّة بإجماع العلوم الإنسانيّة التجريبيّة الحديثة ، ولمّا كانت هذه الظاهرة المرضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة ، فمن اللازم الابتعاد عنها و نبذها جانباً.
فملخّص الاعتراض في هذا الوجه الثالث : هو كون البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسيّة ، و هو يوجِب انعكاس حالة مرضيّة روحيّة لأفراد المذهب و أبناء الطائفة.
الجواب : فنقول : على ضوء ما ذكرنا سابقاً من كلمات علماء النفس والاجتماع والفلسفة : بأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لابدّ لها من التأثّر والتفاعل ، أمّا التي لا تتأثّر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة ، إذ فيها جناح واحد فقط و هو جناح الإدراك ، أمّا جناح العمل فإنّه مُنعدم فيها ، كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة.
فعلى عكس زعم المُعترض ، تكون هذه حالة صحيحة و سليمة وليست حالة مرضيّة ، ولا حالة عُقد ، بل ذكرنا أنّ العُقد إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للانفعال ، يعني أنّ الذي لا ينفعل ، و الذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه و الذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدَمات إلى أن تصبح عُقد و تناقضات ، و إلى أن تنفجر يوماً ما ، و ربّما تظهر لديه حالات شاذّة من قبيل : سوء الظن بالآخرين ، أو اتّخاذ موقف العَداء لجميع مَن حوله.
والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة ـ بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم ـ نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس ، فالذي لا يُبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة ، ولا تظهر أشكالها عليه ، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد و أكوام من العُقد ، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب العاطفة ، والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ و متولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقي.
فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلابدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان.
لذلك نجد أنّ المنطق القرآني والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة ، كلّها تُقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن يتمّ ترجيح جانبٍ للنفس دون جانب آخر.
فإذاً ، المنطق المتعادل والمتوازن هو كون نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة.
الوجهُ الرابع : أنّ البكاء ظاهرة تُنافي الصبر المرغوب فيه ، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجل ، كما في سورة البقرة (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (81) فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل و مُناقض للاستعانة بالله سبحانه.
الجواب : أمّا الجواب لمَا قيل من وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة كما في الآية الشريفة : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(82).
فنقول : كيف يتّفق هذا مع بكاء يعقوب على يوسف حتّى ابيضّت عيناه ، هل هذا خلاف الصبر ؟ أو بكاء السجّاد على أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام) والأوامر التي بَلغت حدّ التواتر ، الواردة في ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) إلى ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بل في بعضها إلى يوم القيامة.
فهل يتنافى ذلك كلّه مع الصبر ؟ كلاّ.
وقد وردَ عن الصادق (عليه السلام) : (إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) ؛ فإنّه فيه مأجور)(83) ، هذا ليس استثناءً متّصلاً ، بل هو استثناء منقطع ؛ لأنّ الجزع نوع اعتراض على تقدير الله و يُعتبر حالة من الانهيار والتذمّر والانكسار ، أمّا في الجزع على الحسين فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره ، بل هو ـ بالعكس ـ نوع من الاعتراض على ما فعله أعداء الله ، ولا يُعدّ انهياراً أو انكساراً ، بل هو ذروة الإرادة للتخلّق والاتّصاف بالفضائل ، وشَحذ الهِمم للانتقام من الظالمين ، والاستعداد لنصرة أئمّة الدين والتهيئة لظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).
فقد يقال : أليس الحالة التي يندب إليها الشرع والقرآن عند المصيبة هي الصبر و قول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، فلا موضع للبكاء ، بل البكاء يخالف الخُلق القرآني والتوصية الشرعيّة في ذلك ، و نرى أنّ القرآن حين يستعرض لنا بأنّ الصبر هو الموقف الإيجابي عند البلاء والمصيبة ، وفي نفس الوقت يستعرض لنا القرآن أمثولة نموذجيّة وهي : نبيّ الله يعقوب ، يستعرض فعله بمديح وثناء لا انتقاصَ فيه ، مضافاً إلى ما وردَ عن الصادق (عليه السلام). ينحلّ هذا التضاد البدوي بأدنى تأمّل ؛ و ذلك بالبحث عن سبب كراهة الجزع ، أو عن سبب إيجابيّة الصبر في المصائب ، باعتبار أنّ الجزع مردّه إلى كراهة قضاء الله و قدره ، و مآله إلى الانهيار أو الانكسار مثلاً ، ولا ريبَ هذا أمر سلبيّ و غير إيجابي ؛ لأنّه من الضعف و عدم الصمود والطيش ، و عدم رباطة الجأش ، و عدم الرضا بقضاء الله سبحانه و تعإلى وقدره ، أو مردّه إلى الاعتراض على الله ـ والعياذ بالله ـ أو كراهة ما قضى الله سبحانه ، ولذلك لو كان الصبر في موضع آخر لمَا كان الصبر ممدوحاً ، مثلاً : صبر المسلمين مقابل كيد الكافرين ليس موضع صبر ؛ لأنّ اللازم عليهم الردّ و حفظ عزّتهم لو كان لهم عدد وعدّة و مع توفّر الشروط الموضوعيّة للقتال ، كما في تعبير الآيات القرآنية مثل : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (84).
فالصبر ثمّة ليس في محلّه ، و مثله تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : (رَوّوا السيوف من الدماء ، تَرووا من الماء)(85) ، و (ما غُزي قومٌ في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا)(86) ، فيتبيّن أنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد ، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً ، وإلاّ قد يكون خلاف ذلك ، فمن ثَمّ قد يكون إيجابيّاً و سلبيّاً فلابدّ أن يُقسّم الصبر إلى : مذموم ، و محمود.
و مثلُ ما في قول النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي (عليه السلام) : (أبشِر فإنّ الشهادة من وراءك ، فكيف صبرك إذاً ، فقلتُ : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر..)(87).
أي هذا موضع إبراز الشكر لله ، لا موضع السكوت والتحمّل والصبر ، نعم ، هو مقابل اصطدام البليّة يكون صبراً ، أمّا في مقابل تقدير الله ، ليس عليك فقط أن تصبر ، بل عليك الشكر والرضا بقضائه و قدره.
فالصبر درجة ، أمّا الشكر لله سبحانه والرضا بقضائه و قدره فهو أرقى و أسمى.
الصبر وتحمّل المصيبة يمثّل درجة ، أمّا الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه و بحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى ، فتكون مورداً للرضا وللشكر ، و هذه الحالة لا تُنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة ، كذلك في موارد التشوّق إلى ذكر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، حيث وردَ على لسان الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم يَعدّون خسران و فقدان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مصيبة عُظمى ، و تعبيرهم (عليهم السلام) : (لم يُصب أحد فيما يُصاب ، كما يُصاب بفقد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى يوم القيامة ، فهي أعظم مصيبة).
إذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه و قدره ، فهذا صحيح وفي محلّه ، لكن ليس معنى ذلك استلزامه عدم إبراز الأحاسيس ، و عدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الانجذاب للنبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، بل ههنا عدم إظهار ذلك غير محمود ، الإظهار هو نوع من الفضيلة زائدة على الصبر ، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر.
وفي مصحّحة معاوية بن وهب : (كلّ الجَزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام))(88).
وفي رواية علي بن أبي حمزة : (إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور)(89).
وفي صحيح معاوية بن وهب الآخر ، المروي بعدّة طُرق عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (و ارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا ، و ارحَم تلك القلوب التي جَزعت و احترَقت لنا ، و ارحَم الصرخة التي كانت لنا)(90).
الجَزع : بمعنى الانكسار ، ولكنّه هنا ليس انكساراً ، وليس بجزع بحقيقته ، نعم ، جزع من ظلم الأعداء و جزع من رذائل الأداء ، و هذا جزع محمود وليس جزعاً مذموماً ، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء (عليه السلام) ، كما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة ، قالت : لمّا مات إبراهيم بكى النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى جَرت دموعه على لحيته ، فقيل : يا رسول الله ، تنهى عن البكاء و أنت تبكي؟!
فقال : (ليس هذا بكاء ؛ وإنّما هذه رحمة ، و مَن لا يَرحم لا يُرحم)(91).
والسرّ في ذلك : هو أنّ أيّ فضيلة من الفضائل التي هي مربوطة بالخلق الإلهي ، أو بالآداب الإلهيّة ، أو بكلمات الله ، كنماذج مجسّمة في المعصومين (عليهم السلام) ، فعدم التفاعل الشديد معها و مع هذا الخلق ومع تلك الآداب ، يُعتبر أمراً غير محمود بل مذموماً ، فلابدّ من الانجذاب والتولّي والمتابعة والمودّة لهم ، و هذا التشوّق ليس بالمذموم بل محمود و حسن ، ليس هو من الجزع المذموم ، والتشكّي ليس فيه اعتراض على الله ، بل هو اعتراض واستنكار على الظلم والظالمين و نبذ للرذيلة و أصحابها ، كما في جواب العقيلة (عليها السلام) حينما دخلت في الكوفة إلى مجلس عبيد الله بن زياد ، و توجّه إليها وقال : كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ و بأهل بيتكِ ، قالت : (ما رأيتُ إلاّ جميلاً)(92).
في حين أنّها تُبدي استنكارها من عُظم الفجيعة ، وقد أحاطتها هالة من الحُزن والأسى.
الوجهُ الخامس : أنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة ، وفي البكاء يسبِّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته (عليه الصلاة والسلام) ، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة ، بل هي حالة هيجان و اضطراب نفسي ، و هذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة ، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو : الاتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته (عليه السلام) ، والاقتباس من أنوار سيرته ، وليس حصول حالة هيجان عاطفي وحماسي فقط من دون تدبّر و رَويّة.
فإذاً ، سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة ، والحال أنّ المطلوب من الشعائر : هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة ، و أخذ العِبر والعِظات التي ضحّى سيّد الشهداء (عليه السلام) من أجلها ، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك ، فبدلَ استلهام الدروس والعِبر تُستبدل بحالة عاطفيّة!
و ربّما ترجع هذه الإشكالات بعضها إلى البعض الآخر ، و إن اختلفت عناوينها.
و بعبارةٍ أخرى : أنّ التمادي في البكاء يُسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر ، فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابي مع أغراض و غايات الشعائر الحسينيّة ، و إنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها و تفريغها عن مضمونها.
فالبكاء : صِرف تأثّر عاطفي من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة ، أو من دون إدراك أغراض و غايات و أهداف النهضة الحسينيّة.
الحبّ ، و هل التولّي إلاّ الحبّ ؟ و هل هناك مصداق للحبّ أوضح و أصدق من البكاء على مصابهم ؟ والحُزن لحزنهم ؟ والنفرة من أعدائهم ؟ و بعبارةٍ أخرى : لو لم يكن للبكاء إلاّ هذا القدر من الفائدة لكفى ، فهو نوع من المحافظة على جذور و أسس رُكني العقيدة المقدّسة الشريفة ، ألا وهما التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائه و أعدائهم.
نعم ، لابدّ فيه من إعطاء حقّ جانب الإدراك ، مثل : لابُدّية إعطاء جانب العاطفة حقّها ، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر ، كما يظهر من الروايات أنّ هناك دعوة إلى البكاء ، كذلك هناك و رايات للتدبّر والتأسي بأفعالهم (عليهم السلام) والاقتداء بسيرتهم : (... ألا و إنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ، ويستضيء بنور علمه...)(93) ، هذا ضمن مضامين متواترة من الآيات والروايات ، التي لا يتمّ الاقتداء والتأسّي إلاّ بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر بها.
و مع ذلك ، فإنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل ـ سواء في نثر ، أو شعر ، أو خطابة ـ لا يمكن فرضه إلاّ مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها ، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة ، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعِبرة ولو بنحو الإجمال ؛ لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دوماً معلولة لجانب إدراكي.
الوجهُ السادس : البكاء في الواقع يُستخدم كسلاح ضدّ النفس ، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضدّ العدو ، أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العملي والبرنامج التطبيقي ، بينما هذه الشحنة التي امتلأ بها واختزنَ بها إذا فرّغها عن طريق البكاء ، فكأنّما وجّه الصَدمة إلى داخل أعماق نفسه بدل أن يستفيد من تلك الصدمة ، أو المصيبة ، أو البليّة ، أو المدافعة ، كشحنة مختزنة و طاقة مكبوتة يمكن أن يستفيد منها في المضيّ قِدماً نحو البرامج الهادفة و نحو السلوك العمليّ البنّاء ، فإذا أفرغها عن طريق البكاء ، فحينئذٍ يكون قد ضيّع تلك الشحنة ولم يستفد منها في سبيل تحقيق هدفه ، بل سوف تترك هذه الشحنة آثارها السلبيّة على نفسه ، فإنّ شعور المظلوم المُفعم بالعدوان عليه سوف يجد له طريقاً لتنفيسه بشكل سلبي ، و سوف تضيع هذه الطاقة الكامنة للانتصار للمظلوم ، و إعادة الحقّ إلى أهله.
و يأتي هذا المُستشكل ـ في الإشكال السادس ـ بشواهد عديدة ، مثلاً : لمّا أُصيبت قريش و نُكبت في معركة بدر فإنّهم منعوا البكاء في مكّة ، وقالوا : يجب أن لا يبكي أحد ، و ظلّت شحنة المصيبة مختزنة حتّى وقعت الحرب الثانية (معركة أُحد) ، حيث قاموا بتفريغ تلك الشحنة و تمّ لهم النصر ، هذا شاهد على جدوى تأخّر امتصاص الصدمة إلى وقت آخر.
كما يمكن العثور على شواهد عديدة في تاريخ الأمم ، أنّهم إذا أُصيبوا بمصيبة أو بليّة أو فجيعة ؛ فإنّهم لا يفرّغون ذلك بتوسّط البكاء ، بل يُفرغوها عن طريق العمل المُبرمج والمدروس والهادف.
وبعبارةٍ مختصرة : فإنّ البكاء سلاح ضدّ النفس والمفروض أن يكون سلاحاً ضدّ الأعداء ، و هو نوع من تفريغ سعرة الطاقة الكامنة في النفس.
الجواب : و هذا الإشكال قد ذكرنا له أمثلة نقضيّة ، وهو : أنّ مَن يفقد شيئاً يتشوّق إليه ، فإذا بكى يزداد حرصاً و طلباً و إرادةً للوصول إلى ذلك المفقود ، لا أن تخفّ الطاقة المحرّكة نحو ذلك المفقود.
و أمّا كونه سلاحاً ضدّ النفس ، فهذا غير صحيح ، نعم ، مَن يبكي بداعي الاعتراض على أمر الله سبحانه ـ لا سمحَ الله ـ و يجزع و ييأس من روح الله ولا يُسلّم بما يُكتب له في حياته ، فهذا نوع من الجَزع الممقوت ، و نوع من الانكسار والانهيار ، و هذا خُلف الفرض الذي نفرضه في البكاء على الحسين (عليه السلام).
حيث إنّ في البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام) نوع من الانجذاب والتشوّق للفضائل والكمالات ، ليس فيه نوع من اليأس ، أو الحرمان ، أو التشاؤم ، وفي الروايات بيان ترتّب الفضل والثواب على هذه الظاهرة ، مثل : (إذا أُصِبتم بمصاب ميّت ، فاذكروا مصابَكم لفقدكم لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، لم يُصب أحد بشيء بأعظم ممّا أُصيبَ بحِرمانه بفقدان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم))(94).
فالروايات تؤكّد : أنّك إذا أُصِبت بمصيبة ، عليكَ أن توظِّف هذه الطاقة العاطفيّة في الانجذاب إليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) و إليهم (عليهم السلام) ، فتنتشل نفسك من الحسرة ، فالذي يُصاب بمصاب ما ، ثُمّ يَعقد مجلساً لندبة مصاب سيّد الشهداء (عليه السلام) و يبكي يثاب على ذلك ؛ لأنّه قد نقلَ نفسه من حالة انهياريّة يائسة إلى حالة مِلؤها العمل ، و مِلؤها الانجذاب إلى الفضائل والنفرة من الرذائل ، بل قد انتشلَ نفسه من مسير خاطئ إلى مسير سليم.
هذا هو الفرق الدقيق بين الحالتين : البكاء الممدوح للحصول على الفضائل والنفرة من الرذائل و هو فعلٌ كمالي ، أمّا البكاء على الرذائل فهو مذموم ، يعني لو بكى المرء ـ لأجل خسارة ماليّة ـ بكاءً شديداً ، و إذا تحوّل البكاء إلى نحو من الاعتراض على الله ـ لا سمحَ الله ـ يكون مذموماً بل من الكبائر.
بخلاف ما إذا كان البكاء على الفضائل من حيث هي فضائل ، كما هي الفضائل المجسّدة في وجوداتهم (عليهم السلام) والرذائل المجسّمة في أعدائهم ، فإنّه نوع من الانفتاح والرجاء و بداية التصميم على الاقتداء و عدم التشاؤم ، و نوع من تدّفق الروح والأمل في السير النفسي.
فالإشكاليّة على ظاهرة البكاء تدور ضمن هذه الوجوه الستّة ، وهي مجمل الانتقاد والمعارضة لهذه الظاهرة وقد سَردنا أجوبة هذه الوجوه تباعاً.
نظرةٌ حول روايات البكاء
و من باب التيمّن والتبرّك نذكر بعض الروايات الواردة في البكاء (95) ، كنهاية للبحث في هذه الجهة السادسة في المقام الثاني للكتاب.
وقد ذكرنا سابقاً أنّ أبواب المزار التي تربو على أربعين باباً ، عَقدها صاحب الوسائل في زيارة الحسين (عليه السلام) ، والبكاء عليه و رثائه ، و إنّها بشكل أو بآخر تتعرّض للبكاء ، كذلك الأبواب العديدة التي ذكرها المرحوم المجلسي في تاريخ الحسين (عليه السلام)(96) ، أو في جزء كتاب المزار من البحار (97) ، كلّها تشير إلى جهة البكاء ، و سنتعرّض لبعضها.
الرواية الأولى (98) : السند : أحمد بن محمد البرقي (المعروف بابن خالد البرقي) ـ في المحاسن ـ عن يعقوب بن يزيد (من الثقاة الأجلاّء الكبار) ، عن محمّد بن أبي عمير (هو من أصحاب الإجماع) عن بكر بن محمّد الأزدي (ثقة ؛ لأنّه هو الذي يروي عنه محمّد بن أبي عمير) ، عن الفضيل بن يسار (من الفقهاء وأصحاب الإجماع في الطائفة) ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (99) قال : (مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو مِثل جناح الذُبابة ، غفرَ الله ذُنوبه ولو كانت مِثل زَبَد البحر)(100) ، هذه الرواية صحيحة السند ، و ذكرنا أنّه لا إيهام في مضمون الرواية ، و إنّ مؤدّاها ليس كمؤدّى صكوك الغفران النصرانيّة المسيحيّة التي تقول : افعل ما شئت إلى يوم القيامة فإنّك ـ و إن ساءت عاقبتك ـ سيُغفر لك بقتل المسيح ، فإنّه قد تسبَّب بقتله تكفير ذنوب أتباعه ، و هذه عقيدة باطلة.
و من البديهي بين المسلمين : أنّ التوبة توجِب محو الذنوب ، لكن من دون كون التوبة تُغري للوقوع في المعاصي ، و من الأمور المسلّمة بين المسلمين : أنّ التوبة بابها مفتوح حتّى تبلغ النفس التّراقي ، من دون استلزامها للإغراء ، كما لا إغراء في نصوص التوبة القرآنيّة والروائيّة ؛ لأنّها تنضمّ إلى مفاد آخر و هو : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ) (101).
فما هو الضمان أن يعيش أبد الدهر ، أو يعيش أكثر عمره في المعصية والفجور والتجرّي على الله سبحانه ثُمّ يوفّق للتوبة ، وليس هناك من ضمان بأنّه سيتوب ، إذ قد يفاجأه الموت قبل التوبة.
أضف إلى ذلك لساناً آخراً من الآيات الكريمة : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً) (102) ، هذه الآية ليست خطاباً فقط لمَن لم يتب من الذين اجترحوا السيئات ، إذ إنّ اجتراح السيئة و إن كان يعقبه التوبة بعد ذلك ، و كانت التوبة تمحو السيئات ، لكن لا يتساوى ذلك التائب مَحياً و مماتاً و جزاءً مع مَن كان طول عمره على الطاعة ، والآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ...) ، لم تقيّد بأنّهم لم يتوبوا ، (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا) ، لا يستوون ، و كذلك في دعاء كميل (103) مثيل لمضمون هذه الآية الكريمة.
باب التوبة مفتوح حتّى آخر لحظة من لحظات العمر ، لكن ليس في التوبة إغراء على المعصية ؛ لأنّه لابدّ من جمع ألسِنة الشرع و تعاليم الشرع حتّى يتعرّف الإنسان على مراد و مغزى الشارع ، إذاً هذه الرواية تامّة الدلالة صحيحة و عالية الإسناد.
و وجه المضمون هو : أنّ الانجذاب لهم (عليهم السلام) هو ابتعاد عن الرذائل ، و عن حضيض الدركات والمهلكات ، والعلو بالنفس إلى أوج الفضائل و ذروة المكارم ، و من ثَمّ تُغفر ذنوب المنجذب ولو كانت مثل زَبد البحر.
الرواية الثانية : عن عبد الله بن جعفر الحِميري (الفقيه المعروف في الطائفة ، صاحب قرب الإسناد ، وكانت حياته في الغيبة الصغرى) ، عن أحمد بن إسحاق الأشعري (المعروف الجليل ، من عمدة الطائفة الذي تشرّف برؤية الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، و هو من أبلغ الشيعة بنيابة النائب الأول) ، عن بكر بن محمّد (نفسه بكر بن محمّد الأزدي الذي مرّ سابقاً ، و يروي عنه أحمد بن إسحاق ؛ لأنه عمّر طويلاً كما ذكرَ النجاشي) ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (تجلسون و تتحدّثون ، فقال : نعم ، فقال (عليه السلام) : إنّ تلك المجالس أُحبّها ، فأحيوا أمرَنا ، رَحمَ الله مَن أحيا أمرَنا ، يا فضيل ، مَن ذَكرَنا أو ذُكِرنا عنده ، ففاضَت عيناه ولو بِمثل جناحِ الذباب ، غفرَ الله ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر)(104).
و مضمون هذه الرواية عين مضمون الرواية الأولى ، وللرواية طريقان ، ولها تتمّة زيادةً عن رواية محاسن البرقي ، ولها طريق ثالث أيضاً صحيح السند ، بنقل الصدوق عن محمّد بن الحسن بن الوليد (شيخ الصدوق ، ومن عظماء الطائفة) ، عن الصفّار (محمّد بن الحسن الصفّار) ، عن أحمد بن إسحاق ، عن بكر بن محمّد مثله.
فهذه الرواية التي وردت بلفظ : (كمثل جناح الذباب) مرويّة بثلاثة طرق من أعالي الإسناد.
الروايةُ الثالثة : رواية صحيحة السند ، ولها ثلاثة طرق أيضاً ، أحسن طرقها , الطريق الذي يرويه علي بن إبراهيم في تفسيره ، عن أبيه إبراهيم ابن هاشم ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم (105) ، عن أبي جعفر (عليه السلام).
و هناك طريق لابن قولويه أيضاً.
و على كلّ حال يكفينا طريق علي بن إبراهيم ، و هو صحيح ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : (كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول : أيّما مؤمنٍ دَمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتّى تسيل على خدّيه ، بوّأه الله غُرفاً يسكن فيها أحقاباً ، و أيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فيما مسّنا من الأذى من عدوّنا (106) بوّأه الله مبوّأ صِدق ، و أيّما مؤمنٍ مسّه أذىً فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدِّه فيما أوذيَ فينا ، صرفَ الله عنه وجه الأذى ، و آمنه يوم القيامة من سخطه والنار)(107).
الروايةُ الرابعة : دأبَ صاحب الوسائل أن يتعرّض في أوائل كلّ باب للطرق ، والروايات الصحيحة الإسناد ، ثُمّ للموثّقة ، ثُمّ الضِعاف ، ثُمّ لروايات العامّة أيضاً.
و هذه الرواية من الروايات المعروفة المشهورة ، و سَندها معتبر ، و هو كما يلي :
الصدوق عن محمّد بن علي ماجيلويه (وقد وثّقه غير واحد من متأخّري الرجاليّين ، و من الأجلاّء ، وكان له نسبة مع البرقي ، و من رواة و محدّثي قم) ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم صاحب التفسير المشهور ، عن أبيه إبراهيم (108) بن هاشم (الثقة) عن الريّان بن شبيب (ثقة أيضاً) ، فالرواية صحيحة السند (109).
عن الرضا (عليه السلام) ، أنّه قال : (يا بن شبيب ، إن كنتَ باكياً لشيءٍ فابكِ للحسين بن عليّ (عليه السلام) ، فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش ، و قُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ، ما لهم في الأرض شبيه ، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ، (و هناك روايات عديدة بهذا المضمون : أنّ سائر المخلوقات ، من السماوات والأرضين والجبال والكائنات بكت الحسين (عليه السلام) ، و بكاء السماء والأرض والحجر والمدر مرويّ بما يزيد على عشر طرق في كتاب تاريخ دمشق للحاكم ابن عساكر ، و طرق أخرى عامّيّة ، فضلاً عن الطرق الخاصّة ، و فضلاً عمّا نستفيده من الآية الشريفة في سورة الدخان ، (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)(110) ، فلا يوجد في القرآن : ما أكلت السماء ، أو ما نامت السماء ، الفعل إذا نُفي عن شيء دلّ على أنّه من شأنه أن يفعل ذلك ، فالآية لا تنفي الشأنيّة بل هي تثبت الشأنيّة و تنفي وقوع الفعل ، فالسماء من شأنها البكاء ، وقد بكت مع بقيّة المخلوقات على سيّد الشهداء (عليه السلام).
وقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ... ، إلى أن قال (عليه السلام) : يا بن شبيب ، إن بكيتَ على الحسين (عليه السلام) حتّى تسيل دموعك على خدّيك غفرَ الله لك كلّ ذنبٍ أذنبتهُ ، صغيراً كان أو كبيراً ، قليلاً كان أو كثيراً ، يا بن شبيب ، إن سرّك أن تلقى الله عزّ وجل ولا ذنبَ عليك فزُر الحسين (عليه السلام) ، يا بن شبيب ، إن سرّك أن تسكن الغُرف المبنيّة بالجنّة مع النبيّ وآله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، فالعَن (111) قَتَلة الحسين (عليه السلام)...
يا بن شبيب ، إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمَن استشهدَ مع الحسين (عليه السلام) ، فقُل متى ذَكرته : يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً (112) ، يا بن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجِنان ، فاحزَن لحُزننا ، و افرح لفرحنا ، و عليك بولايتنا ، فلو أنّ رجلاً أحبّ حجراً لحشره الله معه يوم القيامة (113)).
هذه بعض الروايات ذكرناها للقارئ الكريم من باب التيمّن والتبرّك ، والتي تدلّ على فضيلة واستحباب البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام).
مهما عظُم لا يصل إلى أهميّة النفس ، لا سيّما أنّهم لم يقيّدوا المال بكونه خطيراً.
وقد نُسبَ إلى الأكثر التمسّك بعموم (مَن قُتل دون ماله فهو شهيد ..) ، والعموم يتناوله كما هو الصحيح ، لكن ليس من باب تزاحم حفظ المال وحفظ النفس ، فالنفس هي المعيّنة للحفظ ، والواجب حفظها ، بل يُعاقب إذا لم يحفظها ، ولا يمكن جعلهُ في عداد الشهداء.
بل هو من باب الدوران بين حفظ النفس أو حفظ الفضيلة : وهي الإباء ، و عدم الذلّ والخنوع ، و هو نمط من إنكار المنكر ، لذلك فإنّ مَن قُتل دون ذلك فهو شهيد ، و هذا الفرق يوقفنا على فتاوى الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أنّه مَن قُتل في سبيل إنكار منكر ، أو في طريق أمرٍ بمعروف (بتفصيل مذكور في محلّه من جهة نوع المنكر و نوع المعروف و درجتهما) لا يُعدّ مخالفاً شرعاً ، فالضرر إذا ترتّب في الجملة على هذا الواجب ، لا يعني أنّ ما فعله كان غير سائغ و غير جائزٍ ؛ لمَا قرّرنا وبيّنا ، أنّ مشهور الفقهاء على أنّ قاعدة (لا ضرر) ، رافعة من باب التزاحم ، وليس من باب التخصيص ، فهي رافعة للتنجيز والعزيمة ، لا أنّها رافعة لشرعيّة الحكم من أساسه.
و هذا فرع آخر ، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرناه على نحو الإجمال.
هذا هو الشاهد الأول لقاعدة معرضيّة الهلكة في سبيل الفضيلة.
الشاهدُ الثاني : ما سيأتي في الوجه الثاني (114) ، من ورود جملة من الروايات المعتبرة في أبواب المزار المعتضدة بسيرة الطائفة في عصر الأئمّة (عليهم السلام) ، الدالّة على ندب زيارة الحسين (عليه السلام) والحثّ على ذلك ، ولو في ظروف الخوف على النفس ، أو العرض ، أو المال ، وقد استظهر منها جملة من الأعلام عموم جواز الإقدام مع الخوف والرجحان في مطلق أفراد الشعائر الحسينيّة ، و سيأتي تقرير ذلك.
الشاهدُ الثالث : المصادر التي ذكرناها في البحث الروائي للبكاء ، أوّلها قصّة يعقوب في سورة يوسف : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)(115).
فواضح من الآيات : أنّ النبي يعقوب (عليه السلام) حَزنَ حُزناً شديداً ، و هو فضيلة التشوّق من نبي لآخر لا إلى جهة النبوّة فقط ، و إلاّ فإنّ بقيّة أولاد يعقوب بنون أيضاً ؛ و إنّما من جهة تشوّق النبي لنبي آخر ، وحُبّ في الجمال المجسَّم في ذلك النبي الآخر ، فإيقاع النبي يعقوب نفسه في الحُزن ـ مع أنّه حينما اشتدّ به الحزن والأسى انتقده الآخرون حتّى أهله و بنوه ، ولكن في تصوّرهم الخاطئ ، أنّ هذا الفعل يؤدّي به إلى أن يكون حَرَضاً أو يكون من الهالكين (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) وفي البكاء الشديد والحزن المستمر ـ معرضيّة تؤدّي إلى الحَرض أو إلى الهلاك ، و بعد ذلك حصلَ بياض العينين فعلاً ، وقد عَميت العين ، و مع ذلك يُقرّر القرآن قول يعقوب ، و هو قول نبي من الأنبياء أنّ هذا أمرٌ فضيلي ، وليس بأمر مذموم.
والحاصل : أنّ إيقاع النبي يعقوب نفسه في هذه المعرضيّة ليس فيه أيّة حريجة ، بل بالعكس كان ذلك منه فضيلة ، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) ،
و من ثَمّ أعطى يوسف (عليه السلام) قميصه لأخوته كي يسلّموه لأبيهم ليرتدّ بصيراً ، فهذا فعلُ نبيٍّ مقرّر من الشريعة الإسلاميّة ، وليس فعلاً منسوخاً ، بل فعلٌ مقرّر عُدّ قدوة لنا ، كما قال تعالى في ذيل سورة يوسف : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(116) ، و من ثَمّ استشهدَ به السجّاد (عليه السلام) ، و هذا الشاهد مطابق تقريباً لنفس الفرض الذي نريد الوصول له ، و هو : أنّ البكاء نوع من الفضيلة.
نفس بكاء يعقوب على يوسف فيه تدليل على عظمة النبوّة في خصوص يوسف ، و عظمة النبوّة بصورة عامّة ، وليكون نوعاً من التنبيه والإشارة للأسباط من بني يعقوب على مقام النبوّة ، ثُمّ لينتشر في نَسل بني إسرائيل.
فإلقاء النبي يعقوب نفسه في مُعرضيّة التلف ، أو تعريضه لأشرف وأكرم عضو من أعضاء الإنسان ـ و هو العين ـ للتلف أوضح دليل على المطلوب.
و نظيره ما ذكرناه عن النبي شعيب مُسنداً في كتاب عِلل الشرائع (117) ، أنّه بكى من خشية الله فعميت عينه ، ثُمّ ردّ الله عليه بصره ، ثُمّ بكى من خشية الله ، فعميت ، ثُمّ ردّ الله عليه بصره ، (مع التسليم بأنّ البكاء الشديد هو في معرضيّة العَمى للعين) و هذا فعل نبي من أنبياء الله عزّ وجل.
و نظير ذلك منقول عن أبي ذر : أنّ أباذر عميَ في آخر حياته لطول سجوده ، و هذا الفعل قد أثّر أيضاً في ترجمة عديد من الأصحاب في عهد الأئمّة (عليهم السلام) .
________________________________________
(1)في ج 44 : باب 34 في تاريخ الحسين (عليه السلام) ، باب ثواب البكاء على مصيبته (عليه السلام).
(2) كتاب الحج : باب 66.
(3) المصادر التي يعتمد عليها صاحب الوسائل ، والمصادر التي يعتمد عليها العلاّمة المجلسي ، بينهما عموم و خصوص من وجه ؛ باعتبار أنّ المرحوم المجلسي لم يُكثر من النقل من الكتب الأربعة حفاظاً على بقاء شهرة الكتب الأربعة ، ولكي لا تُستبدل الكتب الأربعة بالبحار ، فإنّه ـ تقديساً لهذه الكتب ـ لم ينقل عنها الكثير ؛ و إنّما نقلَ من كتب أخرى ، بينما صاحب الوسائل كان نقله أكثر شيء من الكتب الأربعة ، ثُمّ في المرحلة الثانية على كتب أخرى.
و لذا يوصي بعض أكابر العلماء بمراجعة الدورة الفقهيّة الموجودة في بحار الأنوار والمختصّة بالفروع ، والتي هي تبدأ من ج 80 (من البحار) إلى ج 100 ، حيث إنّ هذه الروايات في البحار مصادرها تختلف غالباً ـ من أوّل كتاب الطهارة إلى الديّات ـ عن الروايات الموجودة في الوسائل ، و إن كان بينها اشتراك.
(4) مستدرك الوسائل 10 : 181.
هناك نظرة وهي : أنّ كلّ ما في المستدرك من طُرق فهي ضعيفة ، و هذه نظرة خاطئة ؛ لأنّ المستدرك يعتمد على الروايات التي فاتت صاحب الوسائل والموجودة في مصادر مختلفة مثل : قرب الإسناد ، و محاسن البرقي ، و كتب الصدوق ، كعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ، و معاني الأخبار والأمالي ، وعِلل الشرائع و غيرها ، هذه الروايات من هذه الكتب أكثرها مُسندة وليست مرسلة ولا مقطوعة.
(5) مثلاً وردت عناوين عديدة فيما يتعلّق بتاريخ الإمام الحسين (عليه السلام) في كتاب البحار ، أو في الكتب الروائيّة المتعدّدة التي أشرنا إليها.
كما في : مزار الوسائل ، و مزار المستدرك ، وفي كامل الزيارات ، وكتب الشيخ الصدوق التي خُصّصت للروايات الواردة في قضيّة الحسين (عليه السلام) ، مثل : مقتل الصدوق ضمن عدّة مجالس وردت في أمالي الصدوق ، وعِلل البكاء في عِلل الصدوق و غيره ، حتّى كتاب محاسن البرقي ، و كتاب قرب الإسناد ، وقد جُمعت كثير من الروايات في نفس عنوان الباب حول الحسين (عليه السلام) ، إلاّ أنّها كلّها تردّد عنواناً معيّناً بألفاظ مختلفة و هو البكاء.
(6) وسائل الشيعة : 14 : 505 ، باب استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) ؛ بحار الأنوار : 44 : 280 / ح9 عن الصادق (عليه السلام) : (كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام)).
(7) وسائل الشيعة 14 : 506.
(8) وسائل الشيعة 14 : 507 ؛ 10 : 396.
(9) وسائل الشيعة 14 : 509.
(10) مستدرك الوسائل 2 : 445.
(11) وسائل الشيعة 14 : 411 ـ باب 37 من أبواب المزار ، نقلاً عن الكافي 4 : 583.
(12) بحار الأنوار 2 : 32 : 33 ؛ مصباح الشريعة (المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)) : 13.
(13)الاقتصاد (الشيخ الطوسي) : 14 ؛ روضة الواعظين (الفتال النيسابوري) : 20.
(14) راجع توحيد المفضّل : القسم الخاص لبيان أسرار و عجائب الحيوانات ـ بحار الأنوار 3 : 90.
(15) إبراهيم : 22.
(16) مستدرك الوسائل 16 : 220.
وفي الكافي 2 : 440 ، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : (يا ربّ سلّطتَ عليّ الشيطان وأجريتهُ منّي مجرى الدم ..).
(17) النمل : 14.
(18) آخر بحث الانسداد في كتاب نهاية الدراية للشيخ الأصفهاني.
(19)الروم : 10.
(20) رسائل المرتضى (الشريف الرضي) 2 : 216.
(21) عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (حبّك للشيء يُعمي و يُصمّ) بحار الأنوار 77 : 166 / ح 2.
(22) بحار الأنوار 75 : 357 / ح 17 عن نهج البلاغة ـ رسائل المرتضى 2 : 216.
(23)قال الخليل : العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها ، نهج البلاغة 20 : باب 486 : 247.
(24)مثلاً : مَن يتّبع هذه الحقيقة عن تقليد وهي : أنّ الكهرباء قاتلة ؛ فإنّه سوف ينجو من الكهرباء و إن كان اعتقاده عن تقليد و بدون دليل ، ولكن لو عَلم بأنّ الكهرباء قاتلة عن طريق الدليل لمَا كان في معرض الشكّ ؛ لأنّ الذي يبني على أنّ الكهرباء قاتلة من دون دليل ، قد يكون في معرض الوقوع في هلكة الكهرباء ؛ لأنّه قد يشكّكه أحد ، فالإذعان بالحقائق ـ ولو عن تقليد ـ أمر له فائدته ، لكن ليس كمَن يعتقد و يذعن بالحقائق عن دليل و برهان.
(25)) قال الجوهري : البكاء يُمدّ و يُقصر ، فإذا مددتَ أردت الصوت الذي يكون مع البكاء ، و إذا قصرتَ أردت الدموع و خروجها.
(26)بحار الأنوار 16 : 235 / ح 35.
(27) بحار الأنوار 22 : 458 / ح 4.
(28) وجود ظاهرة اجتماعيّة وهي : أنّ مَن يُصاب بحادثة أو مصيبة يحاول أن يتّخذ مجالس تعزية بالإجارة ، (و علماء النفس والسيكولوجيا في أوروبا يوصون بذلك) بأن يُستأجر جماعة ، و يتباكون معه للتنفيس عن الضغط الذي حلّ بصاحب المصيبة ، و هو نوع من الحالة الصحّيّة لمَن ألّمت به المصيبة والفادحة .
(29) ذكرنا الشرطين ص : 274 من هذا الكتاب.
(30) جناح الإدراك الفوقاني : هو الإدراكات الحضوريّة الوجدانيّة.
(31) جناح الإدراك التحتاني : هو الإدراكات الحصوليّة بتوسّط القوى الفكريّة.
(32)الجانب العملي النازل مثل : الغضب ، والشهوة ، والغرائز المختلفة.
(33) الجانب العملي الفوقاني : هو إدراك حضوري مزيج مع العمل.
(34) المائدة : 82 ـ 83.
(35) التوبة : 91 ـ 92.
(36)الإسراء : 107 ـ 109.
(37) مريم : 58.
(38) لا تفتأ ، لا تنقطع.
(39) يوسف : 83 ـ 86.
(40) الأنبياء : 73.
(41) يوسف : 111.
(42)وكما قال الزمخشري مخاطباً الأشاعرة مع أنّه من العامّة ، في ذيل الآية (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) (يوسف : 24) : قاتَلهم الله ، عمدوا إلى سورة ضربها الله مثلاً للبشريّة إلى يوم القيامة ؛ احتذاءً لعفّة النبي يوسف ، فجعلوها نقضاً على الله سبحانه في كتابه.
(43)النجم : 59 ـ 60.
(44) القصص : 76.
(45) يونس : 58.
(46) مقاتل الطالبيّين (أبو الفرج الأصفهاني) : 6 ؛ الاحتجاج (الطبرسي) 1 : 172.
(47)مثل : سورة الزمر : 23 (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ) ، الحديد : 16 ، الأنبياء : 90 ، الحشر : 21.
(48) أُسد الغابة 2 : 48.
(49) أي : يوم أحد.
(50) كما نقلَ ذلك السيّد شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد : 293.
(51)النشغ : الشهيق حتى يبلغ به الغشي.
(52)ينابيع المودّة (القندوزي) 2 : 215 ؛ شرح مسند أبي حنيفة (ملاّ علي القاري) : 526 ؛ ذخائر العقبى (أحمد بن عبد الله الطبري) : 181.
(53)عن كتاب النص والاجتهاد : 297 ؛ و هناك شواهد كثيرة على ثبوت بكاء النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، وحثّه عليه ، وقد جمعَ أكثرها السيّد عبد الحسين شَرف الدين في كتابه النص والاجتهاد : 297 ، فراجع.
(54)تهذيب الكمال (المزي) ج 5 : 60.
(55)صحي البخاري : كتاب الجنائز ، باب قول النبي : (إنّا بكَ لمحزونون).
(56) راجع كتاب النص والاجتهاد : 295.
(57)أي : لمَ سبّبتَ له ذلك.
(58) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبدة 2 : 160 ، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 10 : 149.
(59) نهج البلاغة 2 : 74.
(60) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (الغيرةُ من الإيمان ، والبذاء من الجفاء) ، كتاب النوادر (قطب الدين الراوندي) : 179 ؛ بحار الأنوار 103 : 250 / 44.
وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (كان إبراهيم أبي غيوراً ، و أنا أغيَر منه ، و أرغمَ الله أنف مَن لا يغارُ من المؤمنين) بحار الأنوار 103 : 248 / 33.
(61)بحار الأنوار 101 : 238 / 38.
(62) ذكرها الصدوق مسندة في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 : 263 ؛ بحار الأنوار 45 : 257 / 38.
(63)في الباب 35 .
(64)بحار الأنوار 46 : 108 / 1 .
(65) بحار 46 : 108.
(66) المصدر السابق.
(67) علل الشرائع : 1 / 74 ، 57 / باب 51.
(68)عِلل الشرائع 1 : 57.
(69) لواعج الأشجان (السيّد محسن الأمين) : 223.
(70) الدخان : 29.
(71)النساء : 31.
(72)النساء : 48.
(73)روضة الواعظين (الفتال النيسابوري) : 452.
(74) المصدر السابق.
(75)بحار الأنوار 99 : 315 / 6 ؛ و كذلك في تفسير القمّي 1 : 70 ؛ واللفظ للأخير : عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : (إنّ العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجّاً ، لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلاّ كُتب له بها حسنة ، و مُحيَ عنه سيّئة ، و رُفع له بها درجة ، فإذا وقفَ بعرفات فلو كانت له ذنوب عدد الثرى رجعَ كما ولدتهُ أُمّه ، فقال له : استأنِف العمل ..).
(76)ورد في بحار الأنوار 8 : 30 عدّة روايات بهذا المضمون منها : عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (إنّي أشفعُ يوم القيامة فأُشفّع ، و يشفع عليّ فيُشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون ، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفَع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجبوا النار).
(77) الروم : 10.
(78) اللهوف في قتلى الطفوف (السيّد ابن طاووس) : 55 ؛ بحار الأنوار 44 : 391 / 2.
(79)و هناك نهي آخر عن الحسين لسكينة بالخصوص مُغيّى أيضاً بقتله ، كما يظهر من الأبيات المنسوبة له (عليه السلام) حين توديع ابنته سكينة:
سيطولُ بعدي يا سُكينة فاعلَمي مـنكِ البكاء إذا الحِمام iiدَهاني
لا تُـحرقي قلبي بدمعك iiحسرةً مـادام مني الروح في iiجثماني
و إذا قُـتلتُ فأنتِ أولى iiبالذي تـأتينهُ يـا خـيرة iiالنِسوان
مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب) 3 : 257.
(80)الحديد : 14.
(81) البقرة : 156 ـ 157.
(82)البقرة : 156 ـ 157.
(83) بحار الأنوار 44 : 291 / 32. راجع روايات الجزع ص : 312 من هذا الكتاب.
(84)البقرة : 193.
(85)نهج البلاغة 3 : 244.
(86) نهج البلاغة 2 : 74.
(87) شرح نهج البلاغة 9 : 305.
(88)وسائل الشيعة 14 : 505 أبواب المزار ـ باب 66 استحباب البكاء لقتل الحسين و ما أصاب أهل البيت (عليهم السلام).
(89) وسائل الشيعة 14 : 507 أبواب المزار باب 66 ، ح13.
(90) وسائل الشيعة 14 : 412 أبواب المزار باب 37 ، ح7.
(91) وسائل الشيعة 3 : 282 أبواب الدفن باب 88 ، ح 8.
(92)بحار الأنوار : 45 : 116.
(93) شرح نهج البلاغة 16 : 205.
(94)الوسائل ، كتاب الجنائز ، أبواب التعزية على الميت.
(95)في باب المزار / باب 66 من كتاب وسائل الشيعة : ج 14.
(96)بحار الأنوار : ج 44.
(97) بحار الأنوار : ج 97.
(98)وسائل الشيعة 14 : 501 ـ باب 66 كتاب المزار ، باب استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) و ما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) ، و خصوصاً يوم عاشوراء و اتّخاذه يوم مصيبة و تحريم التبرّك به.
(99) الرواية صحيحة السند بدرجة عالية.
(100)وسائل الشيعة 14 : باب 66 : 501 رواية 19690.
(101)الروم : 10.
(102) الجاثية : 21.
(103)أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ).
(104) وسائل الشيعة 14 : 501.
(105)هناك سند قبله و هو : الصدوق ، عن محمّد بن موسى بن المتوكّل قد ترضّى عليه الشيخ الصدوق ، و إلاّ ليس فيه توثيق خاص ، و نحن نستحسن طريق الصدوق ، ولا حاجة لذكر ذلك الطريق في المقام.
(106) فتكون شاملة للبكاء على مصاب الزهراء (عليها السلام) ، و بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) و ذراريهم أيضاً.
(107) تفسير القمّي 2 : 291.
(108)إبراهيم بن هاشم : أوّل مَن نشرَ أحاديث الكوفيّين في قم ، روى عن ستّين رجلاً من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) من أكابر الثقاة عند المتأخّرين ، و أدمَن ابنه عليّ بن إبراهيم الرواية عنه ، و نقل الآخرين أيضاً عنه فأصبحت جلالته واضحة ولا غبار عليها.
(109)و هو في أمالي الصدوق : 112 / ح 5 ؛ وفي عيون أخبار الرضا 1 : 299.
(110) الدخان : 29.
(111) اللعن لأعداء الدين هو أحد أقسام الشعائر الدينيّة والحسينيّة ، و سيأتي التعرّض لمبحث اللعن في هذا الكتاب إن شاء الله ، فانتظر.
(112)هذه من المستحبّات الأكيدة ، وهو (عليه السلام) ، في صدد سرد أقسام الشعائر الحسينيّة.
(113) الوسائل 14 : باب 66 : 503 : رواية 9694.
(114) تقرأه ص 351 فما بعد من هذا الكتاب.
(115)يوسف : 84 ـ 85.
(116) يوسف : 111.
(117)عِلل الشرايع 1 : 74.