العدل ـ يا أصدقاءنا ـ سهلٌ في العبارات والإنشاءات اللفظية. وكذلك هو سهل في بعض التطبيقات المحدودة. إنّما هو صعبٌ بالغ الصعوبة في التطبيق المتكامل. إنّ الإنسان قد يعرف قيمة العدل لصالح نفسه.. لا عليها. وقد يعرف قيمة العدل في الحلول الفردية، لا في الحلول الاجتماعية.
وهكذا ظلّت قضيّة العدل أصعب القضايا على مستوى التطبيق: على النفس وعلى الآخرين سَواسِيَة.
وعدل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام المتوحِّد بصُلب العدل المحمدي العظيم.. هو المثال الإنساني الخالد في التعبير عن « كلّيّة » العدل ووحدة فروعه: في الأفكار، وفي الممارسة، وفي العلاقة.. على الصعيدين الفردي والجماعي.
منذ اليوم الأول من بيعته خليفةً للمسلمين.. أعلنها عليّ عليه السّلام صريحةً مشرقة: «.. أنتم عِبادُ الله، والمال مال الله، يُقسَم بينكم بالسَّويّة ». ولم يُعلنِ الإمامُ رؤيته تلك ويُباشِرْ تطبيقَها بسببِ مُنطلَقات الخلافة.. بل كانت تلك المنطلقات مبذورةً في داخله مزروعة في صميمه، فأتى التجاوب بين الأفكار والممارسة مثل تجاوب نموّ أعضاء الكائن الحيّ الصحيح، بالتكامل الطبيعي.
* * *
إنّ مشكلة تطبيق العدل ـ إضافة إلى كونها مشكلة عظمى ـ هي مشكلة خاصة أيضاً بالنسبة إلى الأُناس العادلين الذين يرومون تطبيق العدل، فينجحون في جانب، ويُخفقون في جانبٍ آخر، لأنّهم قد يَرَون جانباً ولا يَرون آخر.
أمّا بالنسبة إلى المراتب العقلية الأقلّ شأناً ( من الأتْباع، وأعضاء الجمعيات، والجماعات المنادية بالعدل السياسي مثلاً ) فإنّ الأزمة الحقيقية هي أزمة التناقض بين الأفكار والممارسة.
إنّ العدل يدخل غالباً في التشكيلة النظرية لديهم، أكثرَ مما يدخل في التطبيق. وحينما يحين موعد التطبيق تكون نسبة الفارّين منه أكبر من نسبة المُصمِّمين عليه. علاوة على أن المصمّمين على تنفيذ العدل يتصرّفون بوحيٍ من طبيعتهم عند الجِدّ.
إنّ ضمانة العدل الجوهرية هي النفس العادلة التي يشبّ فيها العقل العادل؛ فالعدل في الفطرة يَكسِب بالعقل سلاحاً قوياً أصيلاً قادراً على أن يؤدّي مهمّاتِه ببساطةٍ وجرأة. بساطة بمقدار تلاؤم سلوكه مع فكرته ومع طبعه. وجرأة بمقدار تصدّيها لواقع يستنكر العدلَ ويرفضه.
ولقد كان عليّ عليه السّلام أبا العدل وحاضنه والذابّ عن كلّ تفاصيله.