قبل الدخول بالموضوع ألفت النظر إلى قصّة تُحكى ولها دلالتها في موضوعنا، وهي: أنّ شخصاً مديناً جُلب إلى الحاكم، فسأله الحاكم: هل أنت مدين لهذا المدّعي؟ قال: نعم، أنا مدين، ولكنّي منكرللدَّين . إنّ هذه القصّة تشبه تماماً موقف من ينكر علينا القول بالعصمة وفي الوقت ذاته يقول بها . على أنّنا إنّما نشترط العصمة في الإمام لضمان وصول أحكام وعقائد صحيحة، ولضمان اجتناب المفارقات التي قد تنشأ من كون الإمام غير معصوم، ولا نريد من العصمة أن تكون وساماً نضعه على صدور الأئمة، فإنّ لهم من فضائلهم ما يكفيهم، كما أنّنا لا نسبح في بحر من الطوبائية، لأنّنا نعيش دنيا الواقع بكلّ مفارقاتها، إنّنا من وراء القول بالعصمة نربأ بالإمام أن يكون مِن سنخ مَن نراهم مِن الناس، لأنّه لو كان من نفس السنخ والسلوكية فما هي ميزته حتّى يحكم الناس، وفي الناس من هو أكثر منه استقامةً ومؤهلات وقابليةً؟ تلك هي الاُمور التي نريدها من وراء العصمة، لا أنّ المعصوم من نوع آخر غير نوع الإنسان، كما قد يتصور البعض .
فالعصمة في نظرنا ضابط يؤدّي إلى حفظ شريعة الله تعالى نظرياً وصيانتها من العبث تطبيقياً، وأساطين السنّة يذهبون لمثل ذلك، ولكنّهم في الوقت نفسه ينكرون علينا القول بها، وإليك نماذج من أقوالهم لتعرف صحّة ما نسبناه لهم:
رأي الرازي في العصمة:
يذهب الرازي في معرض ردّه على عصمة الإمام عند الشيعة إلى: أن لا حاجة إلى إمام معصوم; وذلك لأنّ الاُمّة حال إجماعها تكون معصومة، لاستحالة اجتماع الاُمّة على خطأ، بمقتضى حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا تجتمع اُمّتي على ضلالة»([1]) .
ومع غضّ النظر عن صحّة وعدم صحّة هذا الحديث، نسأل: هل مثل هذا الإجماع ممكن بحيث يضمّ كلّ مسلم في شرق الأرض وغربها، قد يكون الجواب:أنّ المسلمين يمثّلون في هذا الإجماع بأهل الحلّ والعقد، وهنا نسأل: مَن هم؟ وما عددهم؟ وهل هم محصورون في مكان معيّن؟ وما الدليل على ذلك؟ ثم نسأل: هل المجموع إلاّ ضمّ فرد إلى فرد، فإذا جاز الخطأ على الأفراد جازَ على المجموع المكوّن من الأفراد .
إنّ الإمام ابن تيمية يجيب على ذلك بأنـّه: لا يلزم أن يخطأ المجموع إذا أخطأ الأفراد، لأنّ للمجموع خاصيّة لا توجد في الأفراد، ومَثَلُها مَثَلُ اللقمة الواحدة لا تشبع، بينما مجموع اللقم يشبع، والعصا الواحدة تُكْسَر في حين مجموع العصيّ لا يُكْسَر . . . إلى أن يقول: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد»([2]) .
وما أدري ما هو وجه الشبه بين كون اللُقمَ تُشبع بعكس اللقمة الواحدة، وبين كون المجموع يعصم والأفراد لا تعصم، وذلك لأنّ اللقمة تحمل قابلية الإشباع بنسبة معيّنة، فإذا ضمّت إلى مثلها اجتمعت هذه الأفراد من قابلية الإشباع فكوّنت إشباعاً كاملا، وكذلك العصا تحمل نسبة من القوة، فإذا ضمّت [ لمثلها ] كوّنت قوة كافية، وأين هذا من الفرد المخطئ فإنّه لا يكوِّن نسبة من الصحة؟ إذا ضمّت لغيرها كوّنت مجموعاً صحيحاً، بل بالعكس فالفرد يمثّل هنا نسبةً من الخطأ إذا ضمّت لمثلها تضاعف الخطأ وكوّن خطأً كبيراً، إنّ هذا القياس مع الفارق، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى فإنّ ابن تيمية لم ينف فكرة العصمة، وإنما نفى أن تكون لواحد ليس إلاّ، فكأنّ العقدَة أن تكون لواحد، أمّا لو نسبت لجماعة فلا إشكال. ومن ناحية ثالثة أنّه إنما اشترط العصمة للاُمّة من أجل الثقة وضمان سلامة الأحكام، وهو عين الهدف الذي تذهب إليه الشيعة، وأنا أنقل لك رأيه مفصّلا.
رأي ابن تيميّة في العصمة:
قال ابن تيمية عند ردّهِ على الشيعة عند قولهم: إنّ وجود الإمام المعصوم لابـُدّ منه بعد موت النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وذلك لأنّ الأحكام تتجدّد تبعاً للموضوعات، والأحوال تتغيّر، وللقضاء على الاختلاف في تفاسير القرآن، وفي فهم الأحاديث وغير ذلك . ولو كانت عصمة النبيّ(صلى الله عليه وآله)وكمال الدين كافيين لما حدث الاختلاف، فثبت أنّه لابدّ من إمام معصوم يبيّن لنا معاني القرآن، ويعين لنا مقاصد الشرع، كما هو مراده إلى آخر ما ذكروه في المقام: فقال ابن تيمية: لا يسلّم أهل السنّة أن يكون الإمام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي; لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدّثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال([3]).
ويختلف هنا ابن تيمية عن الرازي، فإذا كانت العصمة عند الرازي لمجموع الاُمّة، فهي عند ابن تيميّة لجماعة من الناس كالقرّاء والفقهاء والمحدّثين، وهنا يشترط ابن تيمية العصمة لضمان حفظ مضمون الشريعة، كما هو الحال عند الآخرين من الشيعة وغيرهم، فما الذي أجازها لمجموعة ومنعها عن فرد؟ إنّ عدد المعصومين عند الشيعة لا يتجاوز الأربعة عشر، وهم مجموعة منتخبة خصّها الله تعالى بكثير من الفضائل بإجماع فرق المسلمين، فلماذا نستكثر عليهم العصمة ونجيزها لغيرهم مجرّد سؤال؟
رأي جمهور السُنّة في العصمة:
يمكن القول: إنّ جمهور السنّة يصحّحون الحديث المروي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)وهو قوله(صلى الله عليه وآله): «أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم»([4])، ولازم هذا الحديث عصمة الصحابة، كما سيرد به التصريح من بعضهم، لأنّ صحّة الاقتداء بأيّ منهم ومتابعته في الظلم لو حصلت حال كونه مرتكباً للذنب وهو الخاص من كونه غير معصوم، فمعناه الأمر من الله تعالى باتّباع العاصي والظالم ولو لنفسه، وإذا لم يتابع ويعمل بما أراده النبيّ فإنّ معناه ترك أمر القرآن، لأنّه قال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)([5])، والصحابي هنا ينقل أمر الرسول.
فإن قلت: إنّ الله تعالى أمرنا بأن نأخذ الحديث من العادل الثقة، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة)([6]) التي دلّت بمفهومها على حجية خبر العادل، ونحن لا نأخذ الأمر إلاّ من العادِل منهم.
قلت: إنّ ذلك يدلّ بالمفهوم على أنّ فيهم غير العادل حينئذ وهو المطلوب .
وعلى العموم، أنّ لازم الحديث المذكور عصمة الصحابة، وما سمعنا من ينكر على هؤلاء، فلماذا إذا قال الشيعة بعصمة أئمتهم ينتقدون؟
التفتازاني والعصمة:
يقول التفتازاني ـ وهو من أجلاّء علماء السنّة ـ في كتابه «شرح المقاصد»: احتجّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، مع الإجماع على أنّهم لم تجب عصمتهم، وإن كانوا معصومين بمعنى أنّهم منذ آمنوا كان لهم ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها([7]).
وفي هذا النصّ اُمور:
1ـ إنّ التفتازاني هنا يصرّح بعصمة الخلفاء الثلاثة .
2ـ يقول: إنّ عصمتهم غير واجبة، بمعنى أنّهم لا يُقسرون عليها، وإلاّ فلا يتصور تعلّق الأحكام بالاُمور التكوينية، وإنّما مجال الأحكام السلوك الاختياري والاستعداد لقبول العصمة أمر مخلوق فيهم .
3ـ مفاد كلامه أنّ العصمة ملكة تمنع صاحبها من مقارفة الذنب لا على نحو سلب الاختيار، وهذا عين ما يقوله الشيعة في أئمتهم، وليرجع مَن شاء إلى بحث العصمة في كتب الكلام الشيعية، وعلى هذا فلماذا هذه الجعجعة يا مسلمون؟
شمس الدين الإصفهاني ونور محمّد، والعصمة:
يذهب الحافظ نور محمّد وشمس الدين الإصفهاني الأوّل في «تاريخ مزار شريف»، والثاني كما نقله عنه الغدير إلى أنّ الخليفة عثمان معصوم([8])، وقد نقله عن كتابه «مطالع الأنظار». والرجلان من علماء أهل السنّة .
الإيجي والعصمة:
يذهب عبدالرحمن الإيجي صاحب كتاب «المواقف» في نفس الكتاب إلى عصمة الخلفاء وعلى النحو الذي قال به التفتازاني فيما ذكرناه عنه([9])، أي أنّها ملكة فيهم لا توجب سلب الاختيار([10]) وهو من علماء السنّة . وقد كشفت لنا هذه الجولة أنّ الشيعة لا ينفردون بالقول بالعصمة، بل علماء السنّة يذهبون لذلك، إذاً فما هو وجه نسبتها إلى عبدالله بن سبأ؟ وما هو وجه نقد الشيعة على القول بها؟
أنا لا اُريد أن اُحشّد للقارئ نقد كتب السنّة ومؤلّفيهم حول موضوع العصمة فإنّ كتبهم طافحة بذلك، ولكن سأستعرض لك رأي كاتب يعيش في القرن العشرين وفي عصر الذرّة بالذات، وهو وأيم الحقّ من أكثر أهل السنّة الذين قرأت لهم اعتدالا في الكتابة عن الشيعة، ولكن مع ذلك كلّه تبقى الرواسب في النفوس تعمل عملها . إنّي أعتقد أنّ هذا الرجل قد بحث في كتب الشيعة وغيرهم قبل أن يكتب كتابه، وذلك لما رأيت له من كثرة المصادر مع افتراض أنّه اطّلع على آراء أهل السنّة في هذه المواضيع، فلماذا الإنكار على الشيعة دون الآخرين؟ وإذا كان لم يطّلع ـ وهو ما أستبعده ـ فلماذا يكتب؟
_________________________
[1] . المستصفى: مبحث أركان الإجماع .
[2] . نظرية الإمامة : 117 .
[3] . نظرية الإمامة : 120 .
[4] . طبقات الفقهاء للشيرازي : 3 .
[5] . الحشر: 7.
[6] . الحجرات : 6 .
[7] . شرح المقاصد بمتوسط الغدير للأميني: 9/515.
[8] . الغدير : 7/191.
[9] . راجع صفحه 179. هنا .