ابن رشد
الفقيه المالكي والفقه المقارن
فضيلة الشيخ محمّد واعظ زاده الخراساني (1)
في الأندلس ، فقيهان مالكيان ، من أسرة واحدة ، يسمى كلّ منهما بـ "محمّد بن أحمد" ويكنى بـ"أبي الوليد" ويلقب بـ"قاضي الجماعة" : أحدهما ابن رشد الجد، وهو محمّد بن أحمد بن أحمد بن محمّد بن عبدالله بن رشد (450 ـ 520)، والآخر ابن رشد الحفيد : محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد (520 ـ 595 هـ) (2).
ويعبر عنهما بـ" الجدّ والحفيد" للتمييز بينهما ، وعدم التباس أحدهما بالآخر(3).
عنوان هذا الحديث المتواضع ، وإن اختص بابن رشد الحفيد ، لكن ينبغي الإلمام بحياة الجدّ العلمية ، لأن لكتبه وآرائه وسلوكه الفقهي والكلامي ، دوراً كبيراً في توجيه الحفيد إلى الفقه عامة وإلى الفقه المقارن خاصة ، وكذا في بناء فكره الأصولي والكلامي.
وهذا الحفيد وإن لم يستفد من جده، في حياته ، لأنه ولد في نفس العام الذي مات فيه الجد، أي عام (520 هـ) قبل موته بشهر (4)، لكن آثار الجدّ والجوّ الحاكم على الأسرة ، كانت تربط بينهما ، والعادة تقتضي بأن الجدّ كان قد رأى حفيده الرضيع ، الذي قدر له أن يملأ العالم بعلمه ، وأن يشتهر في الغرب أكثر منه في الشرق ، وأن يعدّ ثاني ابن سينا (370 ـ 428 هـ) في الفلسفة والطب وغيرهما من العلوم العقلية ، ويزيد عليه في فنون الفقه والأصول والقضاء ، بل وفي الكلام والعقيدة ، وهو الفيلسوف الوحيد في أسرة من الفقهاء والقضاة ، كان أبوه قاضياً ، وكان جده قاضي القضاة(5).
ابن رشد الجدّ:
ولد في مدينة قرطبة ، عاصمة الحكم الأموي ، قلعة المالكية بالأندلس ، في بيت ورث العلم والصلاح، وخطة القضاء (6)، ولا ندري إن كانت هذه الأسرة من أصل أندلسي، أو من العرب الداخلين بالأندلس، ولا تسعفنا المصادر في رصد حركة ابن رشد الجد في هذه البيئة ، فهي لا تمدنا إلاّ بقائمة للأساتذة الّذين نهل منهم ابن رشد المعرفة في قرطبة، التي لم يتجاوز أسوارها لأخذ العلم خارجاً، كما هي عادة طلاب العلم قبله وبعده، وتبدأ القائمة بالأب "أحمد بن أحمد" الذي كان من أهل العلم والجلالة والعدالة، أخذ عنه محمّد بن رشد أوليات الثقافة وفق المنهج الأندلسي ... ولا يبعد أنّه أخذ من الوالد، الفقه المالكي وفن القضاء(7).
ولعل جو الأسرة التي ورثت الفقه والقضاء ، ثم جو قرطبة التي عرفت بالمحافظة الشديدة على العمل بأصح الأقوال المالكية ... وكذلك الجو العام بالمغرب والأندلس ، الذي كان يحض على العناية بالفروع ... أي فروع مذهب مالك ، كان له الدور الحاسم في توجيه ابن رشد ليختص في الفقه المالكي ، وكانت أسرة ابن رشد ، من أكثر أسر الأندلس وجاهة ، وكانت تتمتع بتقدير عظيم في القضاء (8).
كان ابن رشد الجد، شيخ الفتوى بالأندلس والمغرب على مذهب مالك وأصحابه ، يكيّف الحياة اليومية مع الفقه المالكي(9).
وكان يدرس "المدونة، والعتبية" (10) للطلاب ، وهو شارح لهذين الكتابين وناشر لهما ، باعتبارهما عمدة الفقه المالكي ، وعمدة المالكية الأندلسية بالخصوص ، وهو حام للمذهب المالكي، وخاصة من مدرسة الرأي ، التي يمثل خطرها على المالكية الأندلسية ، أبو جعفر الطحاوي (236 ـ 321هـ) بكتبه التي لاقت رواجاً بالأندلس ، كما كان حامياً بعقيدة المالكية بالأندلس ، وهي عقيدة الأشعرية، بكتبه وفتاويه ، رغم أنّه لم يوافق الأشعرية في اعتمادهم على المنطق ، ويستبدل به المنهج القرآني القائم على النظر في آثار الصنعة في الكون (11).
ومن أجل ذلك، نراه يهتم اهتماماً بالغاً بكتب الطحاوي ، فله اختصار "مشكل الآثار" واختصار "شرح معاني الآثار"(12)، كلاهما للطحاوي ، الذي كان يدافع عن المذهب الحنفي ، بعد انتقاله إلى هذا المذهب من المذهب الشافعي(13).
وقد اشتهر ابن رشد الجد، بالنبوغ في علم الفرائض ، كما في علم الأصول، لكن نبوغه في الأصول لا يظهر في ميدان الخلافيات ، حيث يدافع عن أصول مذهب مالك، ويرد أصول مذهب أبي حنيفة ، كما هي في كتب الطحاوي، وعالم الخلافيات يحتاج لقواعد الأصول للدفاع عن أصول مذهبه ، حتّى لا يهدمها المخالف ، بنفس القدر الذي يحتاجه الفقيه المجتهد ، لاستخراج قواعده وأحكامه من أصول الشريعة (14).
ولـه كتب كثيرة في الفقه والقضاء أنهاها الأستاذ المحقق في مقدمة "مسائل ابن رشد" إلى خمسة عشر كتاباً ورسالة، بعضها تأليف، وبعضها اختصارات تصدى للتعريف بها (15).
وقد وقفت على كتابين منها:
أحدهما : مسائل ابن رشد ، وهي مجموعة مسائل وردت عليه من الآفاق ، وأجاب هو عليها، وأكثرها في الفقه والقضاء ، وقسم منها في العقيدة والتفسير، كلها358 مسألة ، جمعها محمّد بن الوزان، إمام المسجد الكبير بقرطبة (16)، وقد بحث مصحح الكتاب حول هذه المسائل، وعين موضعها من فقه النوازل (17).
ثانيهما : كتاب المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته مرسوم المدونة.. ـ ونسب للحفيد خطأ ـ ويعتبر حاشية أو شرحاً لبعض مسائل كتاب المدونة، وتدليل لها بنصوص الكتاب والسنة ، وباستخدام قواعد أصول الفقه على أمهات القواعد الفقهية ، لأغلب الأبواب ، وهي كمرحلة واسطة بين تلك القواعد وبين التفصيلات الجزئية، وهذه المرحلة الواسطة تعتبر مرحلة مهمة نحو فقه تأصيلي مقارن ، كما تجلى عند ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد، وهي خطوة أولى نحو الفقه المقارن (18).
قاضي الجماعة:
وصف به كلّ من ابن رشد الجدّ والحفيد ، وعرف في الأندلس كأعلى منصب قضائي في الدولة، بمثابة وزارة العدل ـ أو السلطة القضائية ـ في العصر الحديث ، وهو مصطلح مستحدث بالأندلس، يعود لقاضي قرطبة يحيى بن يزيد التجيبي (... ـ 242 هـ) ، وكان قاضي قرطبة قبله يسمى قاضي الجند ـ ويمسى عندنا قاضي العسكر ـ والمراد بالجماعة جماعة القضاة ، إذ كانت ولايتهم يوم ذاك من قبل القاضي بالحضرة السلطانية ، وهو يوازي منصب "قاضي القضاة" بالمشرق ، وكانت اختصاصاته واسعة جداً، لا يخرج عنها سوى ما يختص بالجيش وجباية الخراج ، وقد أدمج فيها قضاء المظالم(19).
وكان في الأندلس بجانب جهاز القضاء ، جهاز المشورة القضائية ، وعلى رأسه صاحب الفتيا يقوم بترشيح الفقهاء للشورى ، وإجماع المشاورين كان يعتبر ضروريا في القضايا الكبرى التي يعتزم قاضي الجماعة إصدار الحكم فيها، ولقد مارس ابن رشد الجد منصبي قاضي الجماعة والمشورة أربعة أعوام إلى سنة 515 هـ ، حيث استعفى منها عن قضاء الجماعة ، وبقي في منصب المشورة إلى وقت وفاته عام 520 هـ ، فعلى صعيد الأندلس والمغرب ، كان مرجعاً أعلى للمشورة لكبار القضاة بالعدوتين .
وتعتبر "المسائل" إحدى الوثائق المهمة لمشورة ابن رشد (20) ، فإنها حاوية لمسائل فقهاء الآفاق إياه، وإجاباته عليها، وبذلك يعد ابن رشد من المجتهدين الّذين يستخرجون القواعد الشرعية من نصوص الكتاب والسنة ، أو من المبادئ العامة مباشرة ، ملتزماً بآراء إمام المذهب "مالك بن أنس" ، فهو مجتهد من جهة، ومقلد من جهة أخرى ، أو مجتهد مطلق ومجتهد في إطار المذهب معاً ، قادر على الاستخراج من الأصول، وعلى الترجيح بين الآراء عامة ، وفي نطاق المذهب خاصة(21).
ابن رشد الحفيد:
وإذ قد مررنا مروراً سريعاً على حياة الجدّ العلمية ، لاتصالها بحياة الحفيد فلندخل في صلب الحديث عن ابن رشد الحفيد ، وهو الفيلسوف الوحيد في أسرة الفقهاء والقضاة (22) ، فكان فقيهاً قاضياً ، وهو في نفس الوقت كان فيلسوفاً وطبيباً.
ولقد كتبوا عن ابن رشد الفيلسوف والطبيب كثيراً، وعن ابن رشد الفقيه قليلاً ، و( أنا) لحد الآن وقفت على حوالي عشرين كتاباً وكتيباً كلها في ابن رشد الفيلسوف، وما وقفت على مقال لابن رشد الفقيه (23) ، عدا مختصرات في كتب التراجم ، أو في خاتمة كتابه الفقهي الوحيد الذي وصل إلينا ، وهو "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" ، ولولا هذا الكتاب لما كنا نعرف عن ابن رشد الفقيه شيئاً(24).
والذي يورث العجب ويثير الأسف ، أن أولئك الّذين كتبوا عنه، من العلماء المسلمين ، لم يذكروا له أثراً فقهياً، سوى هذا الكتاب ، في حين أن (إرنست رينان)، متفرد بذكر مؤلفات فقهية وأصولية أخرى له ، وهي : "مختصر المستصفى" في الأصول للغزالي ـ وقد ذكر في الخاتمة أيضاً ـ "التنبيه إلى الخطأ في المتون" ثلاثة أجزاء ، "الدعاوى" ثلاثة مجلدات، "الدرس الكامل في الفقه" ، "رسالة في الضحايا"، "رسالة في الخراج" ، "مكاسب الملوك والرؤساء والمرابين المحرمة" .
وذكر أنها مخطوطات في مكتبة "الأسكوريال" ونقل عن ابن أبي أصيبعة أنّه: يعزو إليه كتابين في الفقه "التحصيل" و"المقدمات"(25)، لكنها من مؤلفات الجد ، كما أن هذه الكتب سوى "مختصر المستصفى" لعلها أيضاً للجدّ ، ولا نستطيع الحكم فيها إلاّ بعد الوقوف عليها ، كيف وهي بعيدة عنا ، ولم تر النور؟.
فليس أمامنا لدراسة فقه ابن رشد الحفيد إلاّ كتاب "بداية المجتهد" الذي سوف نركز البحث فيه، وينبغي الإلمام ببعض ما لدينا من تأثر الحفيد بالجد في حقل الفقه والأصول والكلام، وفي منزلته الفقهية لا سيما في عصره.
يقول "رينان" واصفاً كتاب "المسائل" لابن رشد الجدّ : "ولاتصال الفلسفة بعلم الكلام مكانة في هذه المجموعة ، ويخيل إلى الناظر في كثير من صفحات هذا الكتاب الطريف، أنّه يلمس أصول فكر الشارح .. وكذلك ابنه احمد بن محمّد ... أبو فيلسوفنا قد قام بمنصب قاضي قرطبة ... فمن نزوات هذه الشهرة ، التي لا تجد لها غير مثال ميّز ابن رشد ، الذي بلغ صيت اسمه لدى اللاتين ، ما بلغه اسم أرسطو ... واقتدى أبو الوليد ابن رشد بأبيه وجده، فكان علم التوحيد على مذهب الأشاعرة ، والفقه على المذهب المالكي ، في أول دراسته.
ويعلق ابن الآبار ـ الذي اهتم بالحفيد اكثر من سائر المترجمين له ـ على الخصوص - ، أهمية كبيرة على هذا القسم من مؤلفاته ـ الفقهية ـ فيما يعلق على مؤلفاته الأرسطوطاليسية التي نال بها شهرة بالغة ، وقد وضعه ابن سعيد في الطبقة الأولى من فقهاء الأندلس ، وقد تخرج في الفقه على أعلم فقهاء عصره ، كما تخرج في الطب على أبي جعفر بن هارون الترجالي(26).
روى عن أبيه أبي القاسم، واستظهر عليه الموطأ حفظاً ، وأخذ الفقه عن أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة ، وأبي بكر بن سمعون ، وأبي جعفر بن عبد العزيز ، وأبي عبد الله المازري ... وأكثرهم من تلامذة جده، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية ، ودرس الفقه والأصول وعلم الكلام ، ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالاً وعلماً وفضلاً ... وكان يفزع إلى فتياه في الطب، كما يفزع إلى فتياه في الفقه ، وحمدت سيرته في القضاء بقرطبة ، وحدث وسمع منه أبو بكر ابن جمهور وغيره(27).
قد نصب قاضياً لإشبيلية سنة 565هـ(28)، وقد اجتمع له قضاء الأندلس والمغرب ، وهو دون الخامسة والثلاثين(29). ، وإن "يوسف بن عبد المؤمن" دعاه إلى مراكش، وعيّنه طبيبه الأول، بدلاً من ابن طفيل ، ثم ولاه منصب "قاضي الجماعة" الرفيع، الذي كان يشغله أبوه وجده(30).
وصف ابن رشد في أول كتابه "فصل المقال" هكذا : "قال الفقيه الأجل العلامة الكبير ، القاضي الأعدل... (31)".
وتابع الحفيد جده في الاتجاه إلى الفقه المقارن ، غير أن الجد ـ كما عرفنا من خلال كتبه ـ كان مختصاً بعلم الخلاف ، دون القرآن ـ لو صح هذا التعبير ـ أي إنه تصدى لمسائل الخلاف ، حماية للمذهب المالكي، ورداً على غيره من المذاهب ، وعلى المذهب الحنفي بالخصوص ، في حين أن الحفيد لم يدخل علم مسائل الخلاف، ليثبت مذهباً خاصاً ويبطل غيره ، بل دخل فيها ليقارن بينها، ويضع إصبعه ـ كما يأتي ـ على نكات الخلاف، دليلاً ومدلولاً ليس إلاّ ، وهو يعد رائد مدرسة الفقه المقارن ، وكان بحق في طليعة من ولج هذا الميدان بحياد تام ، فهو لا يعرف سوى الدليل ، ولا يعتمد إلاّ الراجح من الآراء والأدلة ، ويطيب لنا أن نقول بصراحة : إننا لا نعرف بين المتقدمين والمتأخرين من يوازيه في الفقه المقارن بمعناه الصحيح ، سوى ما نلمسه في بعض الموسوعات الفقهية الحديثة ، وهي خطوة مباركة لا شك فيها .
ولعل سيدنا الأستاذ الإمام البروجردي (م 1380هـ) الذي كان بحق من رواد التقريب بين المذاهب الإسلاميّة في العصر الحديث ، والذي كان يمارس كتاب "بداية المجتهد" ، لعله أنس من ابن رشد هذه الطوية الطيبة، التي تحتاجها المدرسة الفقهية في هذا العصر ، فكان يرغّب طلابه إلى هذا الاتجاه من الفقه ، وكم من مرة رأيته في غرفته وبيده بداية المجتهد ، وإني ما عرفت هذا الكتاب إلاّ بسببه، وقد كان هذا الإمام الكبير من أصدقاء الإمامين شيخي الأزهر الشريف "الشيخ عبد المجيد سليم" ، و"الشيخ محمود شلتوت"، وكانت تتبادل بينه وبينهما الكتب ، وقد نشر بعضها في مجلة "رسالة الإسلام" التي كانت تنشرها "دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة" بالقاهرة ، منذ أكثر من خمسين عاماً ، وقد جدد طبعها بالأفست "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة" بطهران.
وعلى العموم ، فإن ابن رشد كان ابن الدليل فيما يعرض من الآراء، فإنه قد يقف إلى جانب الرأي النادر أمام رأي الجمهور ، لقوة دليله وضعف أدلتهم، فهل أثّرت في نفسه وفي انشراح صدره تلك الآراء الفقهية التي ورثها من جده التي كانت مبنية على الاجتهاد أكثر من التقليد ـ كما قلنا ـ أو الآراء الفلسفية التي عاشها طيلة حياته الطويلة ، والتي غلب عليها الميل إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة ؟ فمثل هذه الفكرة تحتاج إلى شرح صدر كبير وأفق تفكير واسع.
نقول : إن هذا الفقيه المتضلع والقاضي العادل تأثر بما كان يراه يوم ذاك من ضعف المسلمين بالأندلس أمام أعدائهم ، حيث خسروا كثيراً من البلاد، وأشرفوا على السقوط ، والخروج عن تلك "الجنة المفقودة" عن آخرهم ـ كما حدث بعد قرنين ـ فاتجه إلى الوفاق والسماح الفقهي، حذراً من الفشل الناشئ من الاختلاف بين الفقهاء، كما بين الأمراء .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
هذا الاسم المتواضع مطابق للمسمى تماماً ، يضع الكتاب في محله بلا زيادة ولانقصان ، فإن الكتاب بحق للمجتهد المتضلع بداية السير، وللطالب المبتدئ المقتصد نهاية المطاف ، فهو وسط بين التوسعة والتقصير ، كما أنّه وسط بين القواعد المنطوق بها والمسكوت عنها ـ حسب ما يصرح به ابن رشد ـ ، وفيه تواضع آخر حيث أنّه ألف الكتاب تذكرة لنفسه فيقول : "فإن غرضي في هذا الكتاب، أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها ، والمختلف فيها بأدلتها ، والتنبيه على نقاط الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد ، عسى أن يرد على المجتهدين من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع ، أو تتعلق بالمنطوق به تعلقاً قريباً ، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها ، أو اشتهر الخلاف فيها، بين الفقهاء المسلمين ، من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد"(32).
هذه السطور على قلتها ، تحدثنا بسهولة عن دقائق فنية لا ينالها إلاّ فقيه متضلع جرب الفقه عن بصيرة وخبرة، ومارس الاجتهاد والاستنباط بحذاقة ودقة.
أولها : أن الفقه والاجتهاد ذو مراتب، فله مرحلة البداية ومرحلة متوسطة ومرحلة النهاية ، ثم لكل مرحلة أيضاً مراحل، ومراتب مختلفة.
ثانيها : أن الفقه فيه مسائل متفق عليها ، ومسائل مختلف فيها ، وأن كلا من الوفاق والخلاف في المسائل نشأ عن أدلتها.
ثالثها : أن الوقوف على نقاط الخلاف من الأدلة ، هو العمدة في الفقه والاجتهاد ، ومن لا يلتفت إلى نقاط الوفاق والخلاف فليس بفقيه .
رابعها : أن مسائل الفقه ، منها منطوق بها في النصوص ، ومنها مسكوت عنها ، بعيدة عن المنطوق بها ، ومنها متوسطة بينهما ، لها تعلق بالمنطوق بها، وتعلق بالمسكوت عنها.
خامسهاً : أن هذه النقاط تجري مجرى الأصول والقواعد التي يُستند إليها، ويعتمد عليها المجتهد.
سادسهاً : أن من المسائل ما اشتهر فيها الخلاف أو الوفاق ، ومنها ما لم يشتهر فيها الخلاف والوفاق .
سابعها : أن بدء الفقه من عصر الصحابة رضي الله عنهم ، وأن الخلاف أو الوفاق نشأ بينهم أولاً، ثم جرى إلى الأعصار المتأخرة بين الفقهاء.
ثامنها : أن باب الاجتهاد كان مفتوحاً عند الصحابة، والأجيال الّذين تأخروا عنهم ، جيلاً بعد جيل ، حتّى فشا التقليد فيما بعد.
تاسعها وعاشرها: أن هذا التعبير "إلى أن فشا التقليد" فيه إيماء إلى أن التقليد أمر طارئ في الشريعة الإسلاميّة، وأنه خلاف الأصل ، وأيضا فيه إشارة لطيفة ـ حسب ما أفهمه ـ إلى أن ابن رشد الذي مارس الفقه والقضاء طول حياته، كان من جملة أولئك الفقهاء الّذين لا يرضون بهذا الأمر الطارئ ـ أي انتشار التقليد في أحكام الشريعة بين الفقهاء ـ وأنه كان من أنصار فتح باب الاجتهاد بمصراعيه ، على مستوى المذاهب الفقهية، وهذا ما نلمسه بالضبط من ابن رشد ، خلال أبحاثه ، فيما يتخذه من المواقف الإيجابية ، أو السلبية تجاه الآخرين.
"تلك عشرة كاملة" من نقاط استنبطناها بدقة من كلام ابن رشد ، في ديباجة كتابه ، وهي بمثابة ما يسمونه "براعة الاستهلال" لما احتواه الكتاب ، وللهدف الذي يرمي إليه.
طرق تلقي الأحكام الشرعية:
صنف ابن رشد طرق الأحكام بوجه مبتكر لا مثيل له ـ فيما أعرف ـ في كلام الفقهاء ، كما صنف أسباب الاختلاف كذلك، وذلك على نهاية الإيجاز الممكن له، فقسّم طرق تلقي الأحكام عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى لفظ وفعل وإقرار، وفيما سكت عنه الشارع، فالجمهور بنوا على القياس ، وأهل الظاهر نفوا القياس ، والتزموا بأن ما سكت عنه الشارع لا حكم له (33).
ثم استدل ابن رشد بأن دليل العقل يشهد بثبوت القياس ، لأن الوقائع غير متناهية والنصوص متناهية.
ثم صنف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام إلى أربعة، ثلاثة متفق عليها، وهي لفظ عام يحمل على عمومه، وخاص يحمل على خصوصه، وعام يراد به الخصوص، أو خاص يراد به العموم، وأدخل فيه التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوى على المساوى، وذكر لكل من الأقسام مثالاً من القرآن.
ثم ذكر صيغ الأمر والنهي والخلاف في معناها، ثم قسم الألفاظ إلى ما هو نص في معناه، وما ليس كذلك، بأقسامه المجمل والمشترك.
وأما القسم الرابع من الألفاظ ، المختلف فيه فهو دليل الخطاب ، ثم تعرض لحال القياس ، وأنه صنفان : قياس شبه ، وقياس علة . كما فرق بين القياس ، واللفظ الخاص الذي يراد به العام ، وأن الفرق بينهما اشتبه على كثير من الفقهاء، وذكر موضع الخلاف مع الظاهرية منهما ، وهو الأول ، أي القياس ، دون الثاني.
ثم تعرض لحال "الفعل" من الأقسام الثلاثة ، والاختلاف فيه ، ثم "الإقرار"، وأنه يدل على الجواز فقط، ثم تطرق إلى الإجماع ، وأنه مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة ، وليس أصلاً مستقلاً ، وإلاّ لزم إثبات شرع زائد بعد النبي عليه السلام.
ثم صنف المعاني المستفادة من تلك الطرق اللفظية إلى أمر ونهي وتخيير، وقسم كلا منها إلى أقسام.
ثم صنف أسباب الاختلاف بالجنس إلى ستة:
أولها : تردد الألفاظ بين تلك الطرق الأربع ، أي ، لفظ عام يراد به العام أو الخاص ، ولفظ خاص أريد به الخاص أو العام ، أو يكون له دليل خطاب أو لا .
ثانيها : اشتراك اللفظ بأقسامه.
ثالثها : اختلاف الإعراب .
رابعها : تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فذكر أقسام المجاز.
خامسها : إطلاق اللفظ وتقييده.
سادسها : التعارض بين الأدلة بأقسامها.
ترتيب الكتاب :
وبعد هذه المقدمة الموجزة التي أدمج المؤلف فيها جميع مباحث "علم الأصول" ، دخل في صلب الموضوع ، وبدأ بكتاب الطهارة ـ كما هو المعتاد ـ.
والشيء الذي يلفت الاهتمام بالكتاب هو ترتيب ما ذكره من كتب الفقه وتحديدها.
فقد ذكر للعبادات عشرين كتاباً ، الحق بها ـ غير ما هو المعتاد من الطهارة إلى الجهاد ـ كلّ كتاب فيه نوع من العبودية والقربة ، مثل الأيمان ، والنذور ، والضحايا، والذبائح ، والصيد ، والعقيقة ، ويبدو أن هذا ترتيب جديد في الفقه.
ولعله لهذا بدأ في العقود بكتاب النكاح ، كأنه رأى فيه شيئاً من القربة إلى الله تعالى، ثم الطلاق وملحقاته، ثم دخل في البيوع وما يلحق بها من العقود المالية إلى آخرها، ثم ذكر الوصايا والفرائض، والعتق وما يلحق به ، ثم دخل في أبواب الجنايات ، والقصاص والجراح والديات والقسامة ، ثم ذكر الحدود بأقسامها ، وختم الكتاب بكتاب الأقضية ، إيماء بأن القضاء هو فصل الخطاب في جميع تلك المواضيع والأبواب .
والجدير بالذكر أن ابن رشد قسم بعضاً من هذه الكتب إلى كتب مستقلة صغيرة ، فبلغ عددها في هذا الكتاب إلى سبعين كتاباً ، عشرون في العبادات ، وخمسون في غيرها ، على أحسن ترتيب يتصور ، وهذا من مزايا هذا الكتاب .
المذاهب التي تعرض ابن رشد لآرائها:
يبدو أن ابن رشد ، كان له إحاطة بآراء فقهاء جميع المذاهب المعروفة وغير المعروفة ، عدا ما لم يبلغه ـ وهو بالأندلس ـ من الأقوال التي شاعت في المشرق .
فنجد في هذا الكتاب، آراء المذاهب الأربعة ، وآراء الظاهرية الشائعة في الأندلس حين ذاك ، حيث كان ابن حزم الظاهري ، علي بن أحمد (456 ـ 484 هـ) نشرها هناك، ودافع عنها دفاعاً بالغاً بكتبه ورسائله، كما نجد آراء ابن أبي ليلى (74 ـ 148هـ) ، وأبي ثور إبراهيم بن خالد ، وأبي عبيد قاسم بن سلام (157 ـ 224 هـ) ، وداود بن علي (201 ـ 270 هـ) مؤسس المذهب الظاهري ، وسفيان الثوري (97 ـ 161 هـ)، وسفيان بن عيينه (170 ـ 198 هـ)، وأبي يوسف (113 ـ 182 هـ) وغيرهم.
ومع هذا الاستيفاء للأقوال ، فإن ابن رشد لم يذكر شيئاً من آراء الشيعة عموماً ولا من آراء الإمامية خاصة ، لان آراءهم لم تصل إليه ، وإلاً فأن كثيراً مما عزاه إلى الظاهرية أو غيرهم ، توافق آراء الإمامية كما سنشير إليها.
تقسيم المواضيع وتشقيقها:
كما راعى ابن رشد حسن الترتيب في الكتب والأبواب، كذلك راعى بدقة تامة هذا النظم في المواضيع المطروحة في كلّ كتاب، أولاً بالإجمال، ثم بالتفصيل .
فنذكر على سبيل المثال "كتاب الوضوء" (34) حيث قال : "إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب:
الباب الأول : في الدليل على وجوبها ، وعلى من تجب ومتى تجب .
الباب الثاني : في معرفة أفعالها.
الباب الثالث : في معرفة ما به تفعل ، وهو الماء.
الباب الرابع : في معرفة نواقضها.
الباب الخامس : في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها.
ثم يدخل في التفصيل وفي معرفة فعل الوضوء بعد أن أشار إلى دليله من الكتاب ـ وهو آية الوضوء ـ ومن السنة ـ وهي ما ورد في صفة وضوء النبي عليه السلام ـ يقول : (35) "ويتعلق بذلك مسائل إثنتا عشرة مشهورة تجري مجرى الأمهات ، وهي راجعة إلى معرفة الشروط ، والأركان ، وصفة الأفعال ، وأعدادها، وتعيينها ، وتحديد محال أنواع أحكام جميع ذلك، ثم يدخل في التفصيل : "المسألة الأولى من الشروط" وذكر اشتراط النية.
"المسألة الثانية من الأحكام" وبحث عن غسل اليد قبل إدخالها الإناء.
و"المسألة الثالثة من الأركان" تبحث عن المضمضة والاستنشاق.
"المسألة الرابعة من تحديد المحال" وكذا "المسألة الخامسة والسادسة" ، في مكان غسل الوجه واليدين ومسح الرأس .
"والمسألة العاشرة من الصفات"(36) وذكر نوع طهارة الرجلين، أهو الغَسل أو المسح ؟ ويقول في مسح الخُفّين: (37) " والكلام المحيط بأصوله يتعلق بالنظر في سبع مسائل" ويبحث عنها، وهكذا يمشي ابن رشد إلى آخر كتاب الوضوء ".
مثال آخر من حسن التنظيم في أسلوب عرض الآراء وأدلتها : قال في نواقض الوضوء(38): "والأصل في هذا الباب قولـه تعالى (وْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) (39) ، وقوله ـ عليه السلام ـ : ( لا يقبل الله صلاة من أحدث حتّى يتوضأ ) ... ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل ، تجري منه مجرى القواعد لهذا الباب، " فتعرض لانتقاض الوضوء بما يخرج من الجسد من النجس(40)، ولغيره مما اختلفوا فيه ، وقال : (41)"المسألة الثانية : اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب : فقوم رأوا أنّه حدث فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء ، وقوم رأوا أنّه ليس بحدث فلم يوجبوا منه الوضوء ـ وذكر هنا حكم حالة الشك بعد اليقين ـ وقوم فرّقوا بين النوم القليل الخفيف والكثير المستثقل ، فأوجبوا في الكثير دون القليل. ـ ثم يقول ـ :"وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور" وهذا من عادته أنّه يعين قول الجمهور وفقهاء الأمصار من بين الأقوال ، كما أنّه يصرح بشذوذ بعض الأقوال مثل قوله : (42)"شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة..." وقوله: (43)"وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميّت...".
وهكذا يصرح بتأثير احتمال اللفظ للحقيقة والمجاز في الاختلاف ، فيقول في نقض الوضوء بلمس المرأة : "وسبب اختلافهم فيها اشتراك إسم اللمس في (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) و لامستم النساء" في كلام العرب ، فإن العرب تطلقة مرة على اللمس الذي هو باليد ، ومرة تكني به عن الجماع..." (44).
ومن عادة ابن رشد ، أنّه يشير أحياناً إلى الموافق من الآراء لقول الصحابة ، فيقول مثلاً في انتقاض الوضوء بما يخرج من الجسد من النجس : "ولهم من الصحابة سلف".
مثال آخر للنظم والتقسيم من كتاب الصلاة ، يقول : "تنقسم أولاً وبالجملة إلى فرض وندب، والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في أربعة أجناس؛ أعني أربع جمل : الجملة الأولى في معرفة الوجوب وما يتعلق به ، والجملة الثانية في معرفة شروطها الثلاث ـ وذكرها ـ ، والجملة الثالثة في معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال ، وهي الأركان ، والجملة الرابعة في قضائها ومعرفة إصلاح ما يقع فيها من الخلل وجبره..." (45).
ومن طريف النظم والتقسيم ، ما جاء به ابن رشد في كتاب الفرائض حيث يقول : "والنظر في هذا الكتاب فيمن يرث ، وفيمن لايرث ، ومن يرث هل يرث دائماً ، أو مع وارث دون وارث ؟ وإذا ورث مع غيره فكم يرث ؟ وكذلك إذا ورث وحده كم يرث ؟ وإذا ورث مع وارث فهل يختلف ذلك بحسب وارث ؟ أو لا يختلف؟ والتعليم في هذا يمكن على وجوه كثيرة ، قد سلك أكثرها أهل الفرائض والسبيل الحاصرة في ذلك ، بأن يذكر حكم جنس من أجناس الورثة إذا انفرد ذلك الجنس ، وحكمه مع سائر الأجناس الباقية ـ وذكر له مثالاً ثم قال : ـ فأما الأجناس الوارثة فهي ثلاثة : ذو نسب ، وأصهار ، وموالي ، فأما ذوو النسب فمنها متفق عليها ، ومنها مختلف فيها ، فأما المتفق عليها، فهي الفروع أعني الأولاد، والأصول أعني الآباء والأجداد ، ذكوراً كانوا أو إناثاً ، وكذلك الفروع المشاركة للميت في الأصل الأدنى ، أعني الإخوة ذكوراً أو إناثاً ، أو المشاركة الأدنى ، أو الأبعد في أصل واحد ، وهم الأعمام وبنو الأعمام ، وذلك الذكور من هؤلاء خاصة فقط ، وهؤلاء إذا فصلوا كانوا من الرجال عشرة ، ومن النساء سبعة (46) ، ثم ذكرهم وذكر الخلاف فيهم بين الفقهاء.
نموذج من الحياد والوقوف إلى جانب القول النادر:
غسل الرجلين أو مسحها : نقل ابن رشد فيه ثلاثة أقوال : وجوب الغسل ، ووجوب المسح ، والتخيير بينهما ، وذكر استدلال الجمهور القائلين بالغسل بقراءة نصب "أرجلكم" في آية الوضوء ، عطفاً على "وجوهكم" وأنهم أوّلوا القراءة بالخفض، بأنه عطف على اللفظ ، أي لفظ "رؤوسكم" لا على المعنى ، ثم قال : "وقد رجح الجمهور قراءتهم بقوله ـ عليه السلام ـ في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء : (ويل للأعقاب من النار) ، قالوا : فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض ، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب ثم قال : وهذا ليس فيه حجة ، لأنه إنّما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم ، دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم ، كما ان من شرع في المسح، ففرضه المسح عند من لا يخير بين الأمرين أي الغسل والمسح ، وهو قول ثالث ذكره وعزاه إلى الطبري ـ (224 ـ310هـ) وداود ، ثم أيّد هذا الاحتمال في معنى الحديث، بما خرّجه مسلم أنّه ـ أي الراوي ـ قال : فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى ـ عليه السلام ـ : (ويل للأعقاب من النار) (47) ، ثم قال ابن رشد "وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه ، لأن الوعيد إنّما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة ، بل سكت عن نوعها ، وذلك دليل على جوازها ـ ثم قال ـ : وجواز المسح هو أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين، ولكن من طريق المعنى، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح ، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل ، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالباً إلاّ بالغسل، وينقى دنس الرأس بالمسح...".
ثم تطرق إلى الكعبين، واختلافهم في دخولهما أو خروجهما من الغسل أو المسح ، وأن أصل اختلافهم الاشتراك في كلمة "إلى" في خروج مدخولها عن ما قبلها، أو دخوله فيه ، وكذلك اختلافهم في "الكعب" لاشتراكه، ولاختلاف أهل اللغة في أنهما العظمان اللذان عند معقد الشراك (أي على ظهر القدم) أو هما العظمان الناتئان في طرفي الساق ... وقال : "ولا خلاف ـ فيما أحسب ـ في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك ، إذ كان جزء من القدم ..." وهذا منتهى الأنصاف من فقيه الفلاسفة، وفيلسوف الفقهاء في مجال الفقه.
نكاح المتعة : نموذج آخر من الحياد في البحث الفقهي، موقف ابن رشد من نكاح المتعة ، الذي هو قول نادر، بل مطرود عند الجمهور، وقد ذكره ابن رشد ضمن أقسام الأنكحة المنهي عنها ، فقال : "فإنه وإن تواترت الأخبار عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بتحريمه ، إلاّ أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم ، ففي بعض الروايات أنّه حرمها يوم خيبر ، وفي بعضها يوم الفتح ، وفي بعضها في غزوة تبوك ، وفي بعضها في حجة الوداع ، وفي بعضها في عمرة القضاء ، وفي بعضها عام أوطاس ، وأكثر الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها ، واشتهر عن ابن عباس تحليلها ، وتبع ابن عباس على القول بها، أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن ، ورووا أن ابن عباس كان يحتج لذلك بقوله تعالى ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ )(48) وفي قراءة عنه : "إلى أجل مسمى" وروي أنّه قال : "ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله عزّوجلّ ،رحم بها أمة محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ولولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلاّ شقي" ثم أيد ابن رشد قول ابن عباس، برواية جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: "تمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر ونصفاً من خلافة عمر ، ثم نهى عنها عمر الناس"(49) ومثل هذا كثير في كتاب "بداية المجتهد".
وجدير بالذكر أن ما ذكره بلا ترجيح أو تأييد أو مع الترجيح، والتأييد في "غسل الرجلين" والكعبين وفي "متعة النساء" وغيرها، هو نفس ما اختاره فقهاء الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، والذي تعرضوا من أجله للهجوم من قبل بعض فقهاء المذاهب، فنسبوهم إلى البدعة في الأحكام ، والحال أنهم لا يختصون برأي إلاّ ويوجد لهم موافق من غيرهم.
وقد ألف انتصاراً لهم "الشريف المرتضى" كتاباً في ذلك سماه "الانتصار لما انفردت الإمامية به من الأحكام" .
وابن رشد ـ كما قلنا ـ ما كان يعرف عن فقه الإمامية شيئاً ، ولكنه نسب ما يتوهم انفراد الإمامية به من الآراء إلى آخرين من الصحابة أو الفقهاء ، من دون أن ينكر عليهم أو أن ينسبهم إلى خلاف الإجماع ، أو إلى الابتداع في الدين ، وغاية ما يعبر عنه هو القول بالشذوذ كما يقال : "شذ أبو حنيفة في انتقاض الوضوء بالضحك في الصلاة" . هكذا ينبغي أن نتماشى مع الرأي المخالف لنا، ما دام يستند إلى دليل، ولو لم يصح عندنا، فنتعامل معه بسماحة تامة ، فإن الشريعة سمحة سهلة في مصدرها، وفي منتهاها .
أما بعد ، فخير ما نختم به المقال في هذا المجال ، قوله تعالى : - فبشر عباد - ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (50).
------------------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام للتراث والفكر الإسلامي
_______________________
1 ـ بحث مقدم إلى ندوة ابن رشد ، المنظمة الإسلاميّة للعلوم الطبية ، الكويت 21 ـ 23 شعبان 1415.
2 ـ موجود في جميع التراجم منها الأعلام للزركلي ، وفي بعضها أسقطوا بعض الأسماء من قائمة نسب الجد.
3 ـ قال العقاد : وكان الذاكرون إذا ذكروهم (أي كلّ واحد من محمّد بن أحمد بن محمّد) ميزوا بينهم باسم الجدّ ، والابن والحفيد ...(ابن رشد ، للعقاد ط دار المعارف بمصر ص 6).
4 ـ خاتمة بداية المجتهد ـ مطبعة الاستقامة بالقاهرة ، وهذا صحيح ، لأن الجدمات في شوال ، والحفيد ولد في رمضان من سنة (520 هـ)
5 ـ ابن رشد للعقاد ص 18.
6 ـ مقدمة مسائل ابن رشد بقلم محقق الكتاب ومصححه الأستاذ محمّد التجكاني ، ط منشورات دار الآفاق الجديدة ، المغرب ج 1 ، ص 21 . وقد طبع في مجلدين كبيرين.
7 ـ نفس المصدر ص 23.
8 ـ نفس المصدر ص 25 ، وابن رشد والرشدية ، ارنست رينان ، تعريب الأستاذ عادل زعيتر ـ طـ دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي وشركاء بالقاهرة ص 32.
9 ـ خاتمة بداية المجتهد ص 28.
10 ـ المدونة سماع عبد الرحمن بن القاسم (132 ـ 191هـ) من الإمام مالك (93 ـ 179 هـ) ، والعتبية هي مجموعة أسمعة عبد الرحمن وآخرين من الإمام مالك جمعها محمّد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي) في الأندلس من مصادر متعددة (مقدمة المسائل ص 49 و50)
11 ـ نفس المصدر ص 27.
12 ـ نفس المصدر ص 62.
13 ـ مقدمة مشكل الآثار .
14 ـ خاتمة بداية المجتهد ص 24 و25.
15 ـ لاحظ مقدمة المسائل ص 45 إلى 69.
16 ـ نفس المصدر ص 95 وابن رشد والرشدية ص 32.
17 ـ نفس المصدر ص 91 فما بعدها.
18 ـ نفس المصدر ص 57و58 . وقد طبع كتاب المقدمات مرتين مرة في مطبعة السعادة محمّد افندي بمصر ، وأخرى في مطبعة دار الغرب بتحقيق الأستاذ الدكتور محمّد حجي من المغرب وكان حاضراً في الندوة والتقيت به.
19 ـ نفس المصدر ص 37 إلى ص 43 ملخصاً.
20 ـ نفس المصدر ص 37 ملخصاً وبتصرف منا.
21 ـ نفس المصدر ص 99 و 100 ملخصاً.
22 ـ ابن رشد للعقاد ص 18.
23 ـ اطلعنا في "ندوة ابن رشد" في الكويت على مقالين في فقه ابن رشد : أحدهما للأستاذ الدكتور محمود مكي ، من مصر عنوانه: "ابن رشد فقيها" والآخر للدكتور محمّد حجي من المغرب ، بعنوان "مكانة ابن رشد بين فقهاء المالكية" وكانا من المشاركين في "الندوة" وأشارا في مقاليهما إلى عدة أبحاث ومقالات في ابن رشد الفقيه كما يأتي:
1 ـ "ابن رشد فقيهاً" للأستاذ عبد الله كنون ، نشر مترجما إلى الأسبانية.
2 ـ مكانة ابن رشد الفقيه من تاريخ المالكية بالأندلس ، للأستاذ عبد المجيد تركي ، قدمه لندوة ابن رشد في "باريس".
3 ـ ابن رشد الفقيه وكتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" للأستاذ الدكتور حسن عبد اللطيف الشافعي ـ وكان حاضراً في تلك الندوة ـ قدمه إلى المؤتمر الثالث للحضارة الأندلسية الذي نظمته جامعة القاهرة.
4 ـ "ابن رشد فقيها" بحث لـ"روبير برونشفيج" نشر في مجموعة الدراسات الاستشراقية في الاحتفال بذكرى"ليفي نودمستال". هذا ما ذكره الدكتور مكي ، وأما الدكتور حجي فقد ذكر:
1 ـ بحث الأستاذ عبد المجيد تركي المتقدم (رباط) وابرازه تطبيق ابن رشد أصول الفقه تطبيقاً منهجياً على كامل أبواب الفقه السني.
2 ـ دراسة الدكتور "حميد الله" عن افكار ابن رشد في فلسفة الحقوق والقانون (تطوان).
3 ـ بحث الأستاذ "براشفيك" عن ابن رشد الفقيه (باريس) . الذي تتبع مواقف ابن رشد من المذاهب الفقهية وأئمتها ومن الخلاف بينها وأسبابه .
24 ـ سأقترح على مركز البحوث العلمية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة أن يقوم بتحقيق هذا الكتاب مع ذكر آراء الإمامية في الهامش وأنا مستعد للمشاركة في هذا العمل ولي رأي خاص في كيفية التعليق على الكتاب.
25 ـ ابن رشدو الرشدية ص 88 و89.
26 ـ ابن رشدو الرشدية ص 32 و33.
27 ـ خاتمة كتاب بداية المجتهد ملخصاً.
28 ـ ابن رشدو الرشدية ص 37.
29 ـ ابن رشد للعقاد ص 20.
30 ـ ابن رشد والرشدية ص 38 ولكن ذكر منصب قاضي الجماعة للابن كأنه يختص به "رينان".
31 ـ كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ، من منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت ط 2 ص 12.
32 ـ بداية المجتهد ص 2 ، مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
33 ـ والشيعة الإمامية أيضاً ينفون القياس غير منصوص العلة مع التزامهم بثبوت الحكم فيما سكت عنه الشارع ، لكنهم يتوسعون في الاستفادة من إطلاق النصوص أو عمومها ، مهما أمكن ، وإلا يرجعون إلى ما يسمونه "بالأصول العملية" وهي : أصل البراءة والاحتياط ، والاستصحاب ، والتخيير ، بحسب ما يقتضيه المورد. وهناك أصول خاصة مثل أصل الطهارة وأصل الإباحة ، وأصل الصحة وغيرها ومباحث "الأصول العملية" في "علم الأصول" عند الإمامية واسعة جداً ، لا نظير لها في سائر المذاهب الفقهية.
34 ـ بداية المجتهد كتاب الوضوء ـ ص 6.
35 ـ ن.م ـ ص 7.
36 ـ ن.م ـ ص 14.
37 ـ ن.م ـ ص 17.
38 ـ ن.م ـ ص 32.
39 ـ سورة المائدة : 6.
40 ـ بداية المجتهد كتاب الوضوء ـ ص 33.
41 ـ ن.م ـ ص 34.
42 ـ ن.م ـ ص 39.
43 ـ ن.م ـ ص 33.
44 ـ ن.م ـ ص 31.
45 ـ بداية المجتهد ص 86.
46 ـ بداية المجتهد ـ كتاب الفرائض ج 2 ص 333 ، وما ذكره من اختصاص هؤلاء المشاركين الأدنى بالذكور ، يرقضه الإمامية ، فيعمون الحكم المشاركين من الإناث أيضاً على تفصيل عندهم . وهذا أحد مواضع الخلاف بينهم وبين الجمهور في باب الإرث وهو من فروع مسألة التعصيب.
47 ـ ن.م ـ ص 15.
48 ـ سورة النساء : 24.
49 ـ بداية المجتهد ـ ج 2 ص 58.
50 ـ سورة الزمر : 18.