قبل عدة سنوات، وبعد انتصار المقاومة الاسلامية على جيش الاحتلال واجباره على الانسحاب غير المشروط وغير المنسق من الاراضي المحتلة في جنوب لبنان في الخامس والعشرين من مايو ايار عام الفين، أدركت بعض النخب اننا دخلنا مرحلة جديدة غير مسبوقة في تراثنا العربي، باتت فيها المقاومة جزءا اساسيا في نسيجنا السياسي والثقافي.
وتأكدت هذه القناعة بشكل مطلق بعد الانتصار التاريخي الذي حققته المقاومة نفسها في المواجهة الاسطورية عام ألفين وستة، والتي قهرت الجيش الذي قيل يوما انه لا يقهر، وأجبرته على ان يلعق مر الهزيمة في الحرب البرية التي تواجه فيها جيش مدجج بالسلاح ومتفوق بالعدد والعدة أضعافا مضاعفة أمام ثلة من المقاومين المستبسلين في الدفاع عن وطنهم وارضهم. وبصرف النظر عن المقاييس والدلالات العسكرية لانتصار المقاومة، فإن ما لفت النظر في تلك الحرب الضروس كان الصمود منقطع النظير لبيئة المقاومة، التي تكبدت خسائر بشرية كبيرة تعدت الألف ومئتي شهيد والاف الجرحى، ودمارا واسعا في المنازل والاملاك والمزروعات التي يتعيش منها المزارعون البسطاء، ونزوح نحو مليون مدني من النساء والرجال والاطفال والعجز الى مناطق بعيدة، واضطرار بعضهم لقضاء ثلاثة وثلاثين يوما في العراء، بعدما تقطعت بهم السبل. والكل يعرف ان هذه الجريمة الانسانية والاخلاقية كانت مجزرة مقصودة دبرها قادة الكيان الاسرائيلي، كما يفعل عتاة الارهابيين في التاريخ، لاستخدام المدنيين ورقة ضغط على قيادة المقاومة، وتضخيم حجم الخسائر المدنية لدفع القاعدة الشعبية الى معاداة قيادتها السياسية والعسكرية وتحويلها الى عبء عليها بدل ان تكون حاضنة لها. ردة الفعل الشعبية كانت هزيمة أخرى للعدو الاسرائيلي ومشاريعه الشيطانية، وحملت بعدا استراتيجيا واضح الدلالة بما يوازي النصر العسكري. وفي هذا المفصل فإن المقاومة لم تعد عملا عسكريا لازعاج المحتل واجباره على الانسحاب او حتى لتحرير الارض بالقوة دون مفاوضات، بل تحولت في ظل موازين القوى المختلة لصالح معسكر الاستعمار والامبريالية، وانعدام العدالة الدولية ولو نسبيا بسبب هيمنة القطب الواحد على القرار الدولي.. تحولت الى ثابت من ثوابت المواجهة مع المستعمر وحماية الاوطان. وأخذ الامر بعدا كارثيا فعلا على العديد من القضايا الوطنية والتحررية في العالم وخصوصا القضية الفلسطينية، لأن القطب الدولي الأوحد تصرف بتحيز فاضح للاستيطان الصهيوني والطموح التوسعي للكيان الاسرائيلي. هنا تحولت المقاومة اذن الى ضرورة وجودية لشعوب المنطقة المهددة بالاندثار والتمزق والعبودية بسبب العنجهية الصهيونية وشهوة الاستعمار الغربية التي لم تنطفئ.. وهي باعتبارها وسيلة مجربة، باتت محط آمال الشعوب العربية ومنها اللبنانيون، ليس فقط لتحرير ارضهم بل للدفاع عن اوطانهم وحماية ثرواتهم ومستقبل اجيالهم. وبهذا المعنى فإن المقاومة صارت صنو الاستقلال والسيادة، ووسيلة الفقراء والمستضعفين لحماية أمنهم في عالم المتجبرين والمستكبرين، الذين لا يتوانون عن التآمر والغزو واشعال الفتنة لتأبيد تخلف مجتمعاتنا واطالة امد الانقسام العالمي بين أسياد وعبيد. حينها كتب البعض ودعوا الى ضرورة تفجير الثقافة المقاومة، وتنبهوا الى غياب هذا الجانب في موازاة الحديث عن تسليح المقاومة وتوسيع اطار استيعابها للطاقات البشرية، وفي موازاة العمل على بناء الاقتصاد المقاوم، لتلبية حاجات الصمود من جهة وتغطية نفقات المجهود الحربي من جهة أخرى ومواجهة الحرب الاقتصادية والحصار التي باتت احد اسلحة المستعمرين ضد الشعوب المستضعفة. فلا يجوز اذن ان نعمل على بناء استراتيجية متكاملة لمجتمع المقاومة دون العمل الجاد لنشر الثقافة المقاومة. وما يجعلني اُعيد الحديث عن هذه المسألة بالرغم من كم المآزق الكبير والهموم الامنية والمعيشية والاقتصادية والسياسية لشعوب المنطقة، هو ما سمعته اليوم على لسان آية الله السيد علي الخامنئي، قائد الثورة الاسلامية، من ان الثقافة هي اهم من الاقتصاد، مؤکدا ان الثقافة تعني الهواء الذي نستنشقه. فان کان هذا الهواء نظيفا فانه سيکون له اثر وان کان ملوثا سيکون له اثر آخر. وهو افضل تعريف لماهية الثقافة وألطف توصيف لخصوصيتها بحيث انها رقيقة كالهواء لتمييزها عن معطيات الحضارة الاخرى، وضرورية كالهواء فلا يمكن الاستغناء عنها، وخطيرة كالهواء ايضا من حيث انه الناقلة السريعة لعدد كبير من الامراض والمفاسد والمخاطر، وهي اخيرا مثله من حيث عدم الالتفات الى دورها الحاسم الا بعد فوات الاوان أحيانا. والامام السيد الخامنئي من القادة المثقفين ثقافة واسعة عطفا على مكانته الدينية المرجعية ودوره السياسي والاجتماعي، هو من القادة القلائل الذين ينبهون الى اهمية الجانب الثقافي في حياة الشعوب، بل انه الوحيد الذي يربط بين الثقافة والمقاومة، وذلك ليستكمل جوانب فلسفته الثورية الجديدة التي يتوج بها الثورة الايرانية المستمرة منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما. جاء ذلك خلال خطبته التي حدد فيها السياسات العامة للجمهورية الاسلامية للعام الجديد، متناولا الاقتصاد المقاوم الذي سبق ان تحدث فيه منذ اسابيع ليؤسس لمدرسة المقاومة الدائمة في مواجهة محاولات الغرب ابتزاز ايران بالعقوبات والضغط على الامة لتغيير قناعاتها وتشكيل سياساتها بحسب الرؤى الغربية والصهيونية. وبالفعل فإنه من المفارقة ان لا تنمو الثقافة في مجتمعاتنا بالرغم من اننا نعيش حالة المقاومة بكافة اشكالها منذ نحو قرن من الزمن، وفي ظل مقاومة مسلحة منذ انطلاق الثورة الفلسطينية عام خمسة وستين من القرن الماضي. ان البطولات التي اثبتها شعبنا في فلسطين اولا وفي لبنان بشكل خاص وسوريا بشكل أخص، في مقاومة الهجمة الصهيونية الرجعية، وانزال الهزيمة بها في معارك ميدانية، تستحق ان تواكبها نهضة فكرية وثقافية، في الادب والفن والاعلام بكل فروعها وادواتها، تتبنى الاسس التالية: – الايمان كما هي المقاومة المسلحة بأن القوة الشعبية تمتلك من الابداعات والقدرات ما يمكنها من مواجهة جبروت الطغيان الامبريالي والصهيوني. – ان موازين القوى التي ارساها الغرب المهيمن عبر التاريخ يمكن كسرها بعوامل أخرى لا يضعها الغرب المستكبر بحسبانه ومن ذلك القوة الروحية وعامل الايمان والعقيدة الدينية. – ان الثقافة ليست حكرا على شعب او امة، كما هو الاقتصاد والعلم والقوة العسكرية، واذا كان الغرب احتكر مصادر القوة المادية فالجدير بنا ان نمنعه من امتلاك ناصية قوتنا الروحية. – ان التعالي الغربي على الشعوب وتحقير ثقافاتها وتراثها الوجداني عمل سياسي بامتياز ، وهو جزء من آلته العسكرية لسحق شخصية الشعوب الاخرى. – ان الثقافة هي سلاح اساسي وفاعل لمواجهة الاحتلال وخطر الغزو ومقاومة العدوان على الامة. – ان الثقافة المقاومة هي غير ثقافة الدفاع عن المقاومة بتفنيد ادعاءات خصومها والرد على افتراءاتهم، فهذه ضرورية كجهد ميداني داعم لعمل المقاومة، ولكن الثقافة المقاومة هي استراتيجية بعيدة المدى لبناء مجتمع سليم قادر على مواجهة الغزو الثقافي الاجنبي وتشويه بنيته الذاتية. والفرق بين الحالتين هو كالفرق بين الدواء الضروري لقتل جرثومة المرض او تلافي اعراضه وبين تقوية جهاز المناعة الذاتية للدفاع عن الجسم وتصليب عوده في مواجهة الاخطار الموجودة دائما حولنا وينقلها لنا الهواء شئنا ام ابينا.. فتنقية الهواء وتعزيز جهاز المناعة لدينا كما اشار التعريف الذي اعطاه الامام قائد الثورة، ضرورة قصوى ويقع في صلب تعريف الثقافة المقاومة. وقد آن للمثقفين والمبدعين ان ينتجوا لنا قصة ورواية ومسرحية ومسلسلا تلفزيونيا وقصيدة الى جانب اللوحة والمنحوتة والاغنية والموسيقى والرقصة والملابس وحتى الهندسة التي تستند الى تراث الامة وأديانها وثقافاتها وتعزز روح الانتماء والاعتزاز بالهوية. اننا اليوم اشبه بالطائر الذي ينشد الحرية بصوته داخل القفص، ثم لا يتوانى عن اكل ما ترميه له يد سجانه!! وان الحديث عن الحرية لا يكتمل الا بالنظر اليها كعطاء إلهي كما قال القائد السيد علي الخامنئي اليوم ايضا، وفي ذلك ليس رفعا للحرية الى مصاف المعطى الالهي المقدس بل يبلغ حد تحريم ممارسة اي فعل ينتقص من الحرية او القبول بالظلم والخضوع. وليس الامر سهلا كما يعتقد البعض، كما انه ليس مستحيلا كما يروج المستعمرون واذنابهم المستلبون والمفرغون من هويتهم، بل هو عمل منهجي يبدأ من تكثيف البحوث في المسألة ومحدداتها الفكرية واللغوية والاجتماعية، وينتهي باطلاق العنان لحركة التأليف والنشر ضمن محددات الثقافة المقاومة التي ننشدها. لذا فالمطلوب من الاصدقاء المثقفين والمهتمين ان يعملوا على نشر هذه الدعوة كل باسلوبه وبطريقته، لاثارة النقاش واغناء البحث والوصول الى الهدف بإذن الله تعالى.