في قلب كل أحد طريق لله، وباب توصله إليه، حتى أكثر البشر شقاءً وانحطاطًا و ((عصيانًا))، فإنه في ساعات المحن والشدائد، حين تضيق بوجهه الدنيا، وتغلق جميع الأبواب، وتسد كل الدروب، يهتز كل وجوده، ثم يلتجيء إلى الله، وهذه الحالة من الميول الفطرية الطبيعية المودعة في كيان الإنسان، ولكن تسترها أحيانًا، حجب المعاصي وركام الذنوب، ولكن في المحن والأزمات تتكشف هذه الحجب والستائر، قليلاً، ويتحرك ذلك الميل الفطري، ويتدفق.
سئل الصادق (عليه السلام) عن الله تعالى، فقال للسائل: (يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: بلى، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: بلى، قال: فهل تعلق قلبك هناك أن شيئًا من الأشياء قادر أن يخلصك من ورطتك؟ قال:بلى، قال (عليه السلام): فذاك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجٍ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث). أجل لقد عرفه الإمام (عليه السلام) على الله تعالى بواسطة قلبه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) هذا الميل والدافع الكامن في فطرة الإنسان والذي يدفعه، حين تغلق بوجهه أبواب الدنيا إلى تلك القدرة الغالية القاهرة، التي هي فوق الأسباب والقوى الظاهرية، دليل على وجود هذه القدرة، وإذا لم يكن لهذه القدرة وجود، لمم يكن لهذا الميل الفطري وجود أيضًا. وبالطبع هناك فرق بين وجود هذا الميل في الإنسان، وبين تعرف الإنسان على ذلك الميل، وأهدافه، بصورة كاملة. فالميل والرغبة لشرب الحليب، موجود في الطفل منذ ولادته، وحين يجوع، ويلح عليه هذا الاحتياج، يتحرك هذا الميل ويهيج، ويوجه الطفل إلى البحث عن الثدي الذي لم يشاهده ولم يعرفه، ولم يأنس به، وذلك الميل هو الذي يهديه، ويدفعه، ليفتح فمه، ويفحص، وإذا لم يعثر على ضالته، فإنه يبكي، والبكاء بنفسه يعني طلب المعونة من الأم، تلك الأم لم يعرفها بعد، ولكن الطفل هل يعرف هدف الميل هذا، وهدف البكاء، ولماذا وجد هذا الميل والدافع فيه، لا يعلم بأنه يملك الجهاز الهضمي، وبأن هذا الجهاز يطالب بالمواد الغذائية. هو لا يدري لماذا يريد ويطالب؟ ولا يعلم بأن فلسفة البكاء أخبار الأم بحالته، تلك الأم التي لم يكن قد عرفها بعد، والتي سيتعرف عليها بالتدريج، ومن جملة ميولنا، ونزعاتنا الإنسانية السامية، الرغبة في معرفة الله، الميل للدعاء، والالتجاء لله، الذي لم نشاهده، تمامًا، كذلك الطفل، الذي خرج جديدًا للحياة بالنسبة للثدي الذي لم يشاهده ولم يعرفه، والأم التي لم يشاهدها ولم يعرفها. وبطبيعة الحال، لو لم يوجد الثدي والحليب الملائم لذلك الطفل. فإن الغريزة لا توجه الطفل باتجاه ذلك، فهناك علاقة وثيقة بين ذلك الميل وبين الغذاء وكذلك الأمر في سائر الميول البشرية، فلم يودع أي ميل عبثًا، في وجود الإنسان، بل أن كل الرغبات والميول خلقت وفق الحاجات، ولأجل إشباع الحاجات.