بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حبيب إله العالمين، محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين. الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يُحصي نعمه العادون، ولا يؤدّي حقه المجتهدون، الذي لا يُدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن.
الإرادة
فعن صفوان بن يحيى، قال: قُلتُ لأبي الحسن (ع): أخبرني عن الإرادة من الله ومن المخلوق؟ قال: فقال: (الإرادة من المخلوق الضمير، وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله عزّ وجل فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروي، ولا يهمّ، ولا يتفكر، وهذه الصفات منفيّة عنه، وهي من صفات الخلق، فإرادة الله هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ، ولا نطق بلسان، ولا همّة، ولا تفكر، ولا كيف لذلك، كما أنّه بلا كيف). ذكرت هذه الرواية بطولها؛ لنتعرف على إرادة المخلوق ببيان فرقها مع إرادة الخالق.
والأمير (ع) يحدّد الإرادة بشيئين:
الشيء الأول: الضمير ولعلّ مراده: أولاً: ما يدخل في الخواطر، وينزل في الذّهن، ويوجد في النفوس. ثانيًا: ما يتصوّره العقل من الأفعال. فالإرادة في بداية تكوّنها عبارة عن حضور للأشياء في النفس، أو تصورها في العقل. وهذا يحصل بتوفيقات الله اللامتناهية، فيضعه في موضع ينبهه، ويخلق في ميوله رغبات وتصورات وأفكار، فيوفقه لسماع محاضرة، أو يقرأ كتابًا، أو يسمع نصيحة من صديق، أو يُصيبه حادث، أو يُفجع بحبيب، أو يُوفّق لمحفل ذكرٍ، وقِس على هذه الأمور التي تنزل كرغبات في النّفس وتصورات في العقل ترشده إلى الله سبحانه، فإذا حصل هذا الشيء، فليشكر الله سبحانه وتعالى، فهذا التوفيق فيض من الفيوضات التي لا يُوفّق لها كلُّ إنسان، فهي يدٌ إلهية ممدودة؛ لتشدّ الإنسان إلى الكمال، ويُطلب من العبد أن يُبادر لمصافحة هذه اليد الإلهيّة، وإلاَّ فهناك محرومون من هذه التنبيهات، وغافلون في بحر الظلمات، فنح نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي: (لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلّك رأيتني مُستخفًا بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني مُعرضًا عنك فقليتني، أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحب أنْ تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني). فهناك أناس مطرودون، ومُنَحّونَ، مُقْصَون، مرفوضون، محرومون، مخذولون، آيسون، مَتْرُوكون، مُبْعَدون، ودليل ذلك أنّ العبد مُستخف بحقوق الله، مُعرض عن الله، موجود في مقام الكاذبين، ليس شاكرًا لله على نعمه، غائبًا من مجالس العلماء، غافلاً عن مجالس الذِّكر ومساجد العبادة، ويألف مجالس البطّالين، ومُستمرًا بجرائمه وجرائره، فاقدًا للحياء. أمّا حينما يجد نفسه حاضرًا في مجالس العلماء ومجالس الذكر ومساجد العبادة، فليعرف بأنّ الله أراد له الخير وأنّه قد مدّ له يدًا، فليصافحها؛ لتنتشله من واقع التخلّف حتى لا يكون من المشمولين بغضب سبحانه، فينطبق عليه قوله (ع): (أو لعلك رأيتني مُعرضًا عنك فقليتني)! وكيف كان، فإنْ برقت شرارة الذِّكر، فليستثمرها في اليقظة، واستثمارها يتحقّق بالاستغفار والتفكّر، فقد تبرق شرارة ذكر الذنب في خاطر المؤمن فليبادر بالتوبة والمغفرة، ففي الخبر عن أبي عبد الله (ع): (إنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربّه فيغفر له، وإنَّ الكافر لينساه من ساعته)، وهكذا فإذا اشتعلت شعلة الذِّكر فعليه أنْ يزيد من اشتعالها بالتفكّر والتدبّر، فعن أبي عبد الله (ع): (التَّفكر يدعو إلى البرّ والعمل به). يتفكر المؤمن في أصحابه الذين رجعوا إلى الله، وسبقوه إلى الصالحات وترك المعاصي، ويتفكّر في أولئك الذين انتقلوا من هذه الدنيا إلى أين ارتحلوا؟ وماذا حلّ بهم؟ وأنّ مصيره سيكون في نفس الطريق، فماذا أعدّ لذلك اليو؟ فالبرق والشعلة نعمة فعلينا أنْ نشكر الله عليها. الشيء الثاني: ما يبدوا له بعد ذلك من الفعل
ولعلَّ مراده:
أولاً: الشوق إلى ما خطر في النّفس، وما يتبع ذلك من التّحريك والحركة إليه. ثانيًا: ما يبدو بعد ذلك من اعتقاد النفع والشوق وغير ذلك، وتتفاوت الإرادات بمقداره وقوة دفعه. يقتنع بهذا الأمر، فتقوده قناعته للقيام بما اقتنع به، ويميل ويرغب لهذا الأمر، فتقوده رغباته وأشواقه للوصول إلى ما رغب فيه واشتاق إليه. وتفاوت الإرادات قوة وضعفًا بحسب تفاوت القناعات، وتفاوت الإرادات قوة وضعفًا بحسب تفاوت الشوق، فكلّما كان الشوق حقيقيًّا وصادقًا وقويًّا كانت الإرادة أقوى، وكلّما كانت القناعة أشدّ، كانت الإرادة فاعلة. فترى صاحب القناعة القوية ثابتًا على مبادئه، مبادرًا، مسؤولاً. وترى صاحب الشوق الكبير لله ورضوانه وجنانه صابرًا، مُحتسبًا، راضيًا، قائماً بالتكاليف، صائمًا، مُصليًا، تاليًا للقرآن، داعيًا، ذاكرًا. (العقل حسام قاطع، قاتل هواك بعقلك). أسأل الله أنْ يجعلنا من مدرسة وهذا الشوق يتأكّد بواسطة التدبر والتفكر والتفاعل النّفسيّ مع الفوائد والثمار الناتجة من الفعل أو ترك، فقد رُوي عن أمير المؤمين (ع) أنّه قال: (يا طالب الجنة ما أطول نومك، وأكل مطيتك، وأوهى – أي أضعف – همتك، فلله أنت من طالب ومطلوب). إنّ الجنة لا تنالها الإرادات الضعيفة، الخائرة. إنّ مجاهدة رغبات النّفس للغلبة عليها هو من الطرق التي يجب أنْ لا تغيب عن بال المؤمن، فيلزمها بأداء الواجبات الشرعيّة من الصلاة والصوم والخمس، ويُروّضها على المستحبات من نوافل الفرائض، وصلاة الليل، وتلاوة كتاب الله تعالى، وكثرة ذكر الله تعالى، ويحفظها ممّا يُضعفها ويوهنها، يحفظها من المحرّمات والمعاصي والمآثم، فإنّ هذه الأشياء هي التي تقوِّي النّفس الأمارة، وتعمِّق جذور الشهوات في النّفس، وتزيد من رابطتها وعلقتها، لدرجة تقوم هذه الشهوات بأسر النّفس، وبالتالي تُسقطها وتؤدِّي بها إلى الهاوية. إنّ مقاومة الغرائز الآخذة بالنفس للمحرم توصل بالإنسان إلى قدرة التّحكم، وإخضاع النفس للشريعة. فقد قال أمير المؤمنين (ع) لرجل: (إنْ كنت لا تُطيع خالقك، فلا تأكل رزقه، وإنْ كنت واليت عدّوه فاخرج من مملكته، وإنْ كنت غير قانع بقضائه وقدره فاطلب ربًّا سواه). أسأل الله أنْ يجعلنا من إتباع مَن كان (قاب قوسين أو أدنى)؛ لكي لا نرضى لأنفسا إلاّ بالصعود إلى سدرة المنتهى.