ومن يتق الله يجعل له مخرجاً
سماحة السيد كمال الحيدري
قال تعالى: (( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ٭ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَيَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْرا )) (1) .
بيّنا في مقالاتٍ سابقة أنّ أهل التقوى لهم مراتب ، وأنّهم يختلفون في درجاتهم من حيث المعرفة والعمل الصالح ، وهذا معناه أنّ ولاية الله لهم ، تلائم حالهم في إخلاص الإيمان والعمل ، لأنّ الله تعالى يقول : (( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) (2) ، ويقول : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (3) .
وعلى هذا الأساس ، فنصيب المخلصين من أولياء الله من هذه الآية شيء ، ونصيب من هو دونهم من المؤمنين المتوسّطين شيء آخر ، أمّا نصيب المخلصين فهو ( أنّ من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (4) ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته ، ثمّ تورّعه واتقائه بالاجتناب عن المحرّمات وتحرز ترك الواجبات خالصاً لوجهه الكريم (( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) (5) .
ولازمه أن لا يريد إلاّ ما يريده الله من فعل أو ترك ، ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله ، فلا يصدر عنه فعل إلاّ عن إرادة من الله ، ولازم ذلك أن يرى نفسه وما يترتّب عليها من سمة أو فعل ، ملكاً طلقاً لله سبحانه ، يتصرّف فيها ما يشاء ، وهو ولاية الله ، يتولّى أمر عبده ، فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شيء إلاّ ملّكه الله سبحانه ، وهو المالك لما ملّكه ، والمُلك لله عزّ اسمه ، وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم ، وسجن الشرك بالتعلّق بالأسباب الظاهرية (( يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَيَحْتَسِبُ) (6) .
أمّا الرزق المادّي ، فإنّه كان يرى ذلك من عطايا سعيه ، والأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها ، وما كان يعلم من الأسباب إلاّ قليلاً من كثير ، كقبس من نار ، يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه ، وهو غافل عمّا وراءه ، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب ، وهو الناظم لها ، ينظمها كيف يشاء ، ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها .
وأمّا الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق ، الذي تعيش به النفس الإنسانية وتبقى ، فهو ممّا لم يمكن يحتسبه ، ولا يحتسب طريق وروده عليه ، وبالجملة هو سبحانه يتولّى أمره ، ويخرجه من مهبط الهلاك ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئاً ، لأنّه توكّل على الله ، وفوّض إلى ربّه ما كان لنفسه ، (( ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )) دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب أُخرى ، (( إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ )) لأنّ الأمور محدودة محاطة له تعالى و (( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً )) (7) ، فهو غير خارج عن قدره الذي قدّره به ، وأمّا نصيب من هو دونهم من المؤمنين فهو أنّ من يتّق الله ويتورّع عن محارمه ، ولم يتعد حدوده ، واحترم شريعته ، فعمل بها ؛ (( يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً )) من مضائق مشكلات الحياة ، فإنّ شريعته فطرية ، يهدي بها الله الإنسان إلى ما تستدعيه فطرته ، وتقضي به حاجته ، وتضمن سعادته في الدنيا والآخرة (( وَيَرْزُقُه )) من الزوج والمال ، وكلّ ما يفتقر إليه من طيب عيشه ، وزكاة حياته (( منْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب )) ولا يتوقّع ، فلا يخف المؤمن أنّه إذا اتقى الله ، واحترم حدوده ، حرم طيب الحياة ، وابتلي بضنك المعيشة ، فإنّ الرزق مضمون ، والله على ما ضمنه قادر ، (( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله )) فاعتزاله عن نفسه فيما تهواه وتأمر به ، وإيثاره إرادة الله سبحانه على إرادة نفسه ، والعمل الذي يريده الله ، على العمل الذي تهواه وتريده نفسه ، وبعبارة أُخرى تدين بدين الله وتعمل بأحكامه (( فَهُوَ حَسْبُه )) أي كافيه فيما يريده من طيب العيش ، ويتمنّاه من السعادة بفطرته ، لا بواهمته الكاذبة .
وذلك أنّه تعالى هو السبب الأعلى الذي تنتهي إليه الأسباب ، فإذا أراد شيئاً فعله ، وبلغ ما أراده من غير أن تتغيّر إرادته ، فهو القائل : (( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ )) (8) أو يحول بينه وبين ما أراده مانع ، لأنّه القائل : (( واللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِه ))(9) .
وأمّا الأسباب الأُخر التي تشبّث بها الإنسان في رفع حوائجه ، فإنّما تملك من السببية ما ملّكها الله سبحانه ، وهو المالك لما ملّكها ، والقادر على ما عليه أقدرها ، ولها من الفعل مقدار ما أذن الله فيه ، فالله كاف لمن توكّل عليه لا غيره (( إنَّ اللهُ بَالِغُ أَمْرِه )) يبلغ حيث أراد ، وهو القائل (( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون )) (10) ، (( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً )) [الطلاق : 3] ( فما من شيء إلاّ له قدر مقدور ، وحدّ محدود ، والله سبحانه لا يحدّه حدّ ، ولا يحيط به شيء ، وهو المحيط بكلّ شيء ) (11) .
إذن عندما يدعو الإنسان ربّه أن يكون مدخله مدخل صدق ، ومخرجه مخرج صدق ، ويريد اليسر والتيسير في حياته ، فالطريق إلى ذلك يمرّ من خلال التقوى ، قال تعالى : (( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيرا )) (12) .
وقال تعالى : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً )) (13) .
وقال أيضاً : (( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى )) (14) .
وقال : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ٭ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ٭ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى )) (15) ، أي ( لا يضلّ في طريقه ، ولا يشقى في غايته التي هي عاقبة أمره ، وإطلاق الضلال والشقاء ، يقضي بنفي الضلال والشقاء عنه في الدنيا والآخرة جميعاً ، وهو كذلك ، فإنّ الهدى الإلهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان أنبيائه ، ودين الفطرة هو مجموع الاعتقادات والأعمال التي تدعو إليها فطرة الإنسان وخلْقته ، بحسب ما جهز من الجهازات ) (16) .
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : (( ولو أنّ السموات والأرضين كانتا على عبد رتقاً (17) ، ثمّ اتقى الله ، لجعل الله له منهما مخرجاً )) (18) .
وقال أيضاً : (( واعلموا أنّه من يتَّقِ اللهَ يجعلْ له مَخْرجاً من الفتن ، ونوراً من الظلم )) (19) .
وقال أيضاً: (( فإنّ تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كلّ ملكة ، ونجاة من كلّ هلكة ، بها ينجح الطالب ، وينجو الهارب ، وتُنال الرغائب )) (20) .
ـــــــــــــــــ
(1) الطلاق: 2 ، 3 .
(2) آل عمران: 68.
(3) الجاثية: 19.
(4) آل عمران: 102.
(5) الأعراف: 29.
(6) الطلاق: 2.
(7) الطلاق: 4.
(8) ق: 29.
(9) الرعد: 41.
(10) يس : 82.
(11) الميزان في تفسير القرآن، ج19 ص313.
(12) الإسراء: 80.
(13) الطلاق: 4.
(14) طه: 123.
(15) الليل: 5 ـ 7.
(16) الميزان، مصدر سابق، ج14، ص224.
(17) الرتق: الضمّ والالتحام خِلقةً كان أم صنعة، قال تعالى: كانتا رتقاً ففتقناهما أي منضمّتين. المفردات في غريب القرآن، مادّة «رتق».
(18) نهج البلاغة، من كلام له عليه السلام ، رقم: 130.
(19) نهج البلاغة، الخطبة: 183.
(20) نهج البلاغة، الخطبة: 230..
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .