عربي
Friday 13th of December 2024
0
نفر 0

مساحات أُخرى للنور

مساحات أُخرى للنور
للقاص الدكتور الشيخ عبد المجيد فرج الله


على امتداد خطوط الكثبان الرمليّة ، كانت فقّاعاتٌ من ذكريات قريبة وبعيدة تطفو على السراب المالح ، وما تلبث أن تنفجّر عن موقف !
سنوات طويلة تختزلها ذاكرة الصحراء في هذه الكرات الشفّافة ، وكأنّها تتحدّى آخرَ صيف قائظ يمرُّ على سُحنته الخصبة الربيعيّة ... لمسةٌ أنعمُ من رموشِ الفجر داعبت كفّه السمراء ، قاطعةً سلسلةً ملوّنة من طفح السراب :
ــ حدّثني قلبي بأنّك ظمآن .
أجابها بهدوء وحب :
ــ ما أصدقه يا نور العين !
ــ تفضّل .. هذا ماء بارد .
التقت العيونُ تبحث عن أسرار جديدة في طيّات البحر الممتدّ ما بين الأحداق الأربع ، مخضلّة ببريق دافئ الأشواق ، فيما تراجعت متلعثمة بقايا حروف هامسة ، وهي تكبو على لسانين أيبسهما الحبّ واللّهفة .
الأيام البيضاء التي مرّت على قلبه المتيّم ، كانت أجمل أيام العمر ..
وإذا وسّع دائرة رؤياه ، فإنّها تتضاءل أمام ليل داجٍ من الألم والعذاب ، يلفّع هذه الأسوار المترامية الأطراف والمآسي .
هكذا كان يطوي جراحه وسعادته جناحين يحلّقان به في اتجاهات متعاكسة ، لكنه لم يكن يهوي إلى الأرض ، لأنّه يعرف كيف يوازن ما بين القوّتين .
* * *
جاء النداء ..
ارتجّت له أرجاؤه الولهى ، وتبسّم في دمه أمل قديم ، طالما راوده وهو في أهنأ لحظات العيش ، فيلبّيه بوعد صادق ، ثمّ يتحسّر ...
التحقا بالقافلة التي تزمجر في طول الصحراء وعرضها ، تريد أن تُنقذ الأحياء من هذا الموت المطبق على وجه الأرض .. كان النداء يصل إلى كلّ إنسان فيتوقّفُ عنده برهةً ، فإذا وجد فيه نبض حياة أردفه ، وإلاّ سار لا يلوي على شيء .. الحياة الحقيقية هكذا ؛ لا تريد إلاّ الأحياء الحقيقيين .
كانت مشاوير الطريق تغدق عليه سعادةً كبرى لم يذق لها طعماً طول حياته ..
هذا الحبيب الذي يحدو بخيولهم وجمالهم لا يدع ذرةً في كيانه إلاّ وزرع فيها حبّه ، بذرةً تنمو مع الأنفاس ...
لم يكن يشعرُ بهذه التي جلست قربه منذ وقت ليس بالقصير ... امتدت يداها إلى يديه .. قبّلتهما ضارعة .. فالتفت إليها :
ــ ما بالك يا نور العين ؟
أجابته باستحياء مشوب باللهفة والعتب .
ــ أراك نسيتني .. أين أنا الآن من قلبك ؟
ردّ بحزم دالٍّ على ثقة وصدق :
ــ إنّك فيه ...
سكتت قليلاً ، ثمّ تكلّمت بهدوء :
ــ لكنك مشغولٌ عني ...
ــ عجيبٌ أمرك .. نحن الآن في القافلة ، يحدونا حبيب الله إلى أرض النور .. ولا بدَّ لنا أن نذوب معاً في هذا الفجر الجديد .
لملمت العروس كريّات جفونها البيضاء الدافئة ، وهي خاشعةٌ في محراب الحداء إلى الله ، ومرائي روحها تعكس أوجهاً تحتضنها الآن رفرف خضر في الفردوس .
كانت على الجانب الآخر ضوضاءٌ مجنونة ، تحاول دون جدوى أن تعكّر شيئاً من هذا الصفو الرقراق المتلألئ ، كأنَّه عيونُ النجوم في وجه غدير عذب .
تعالت الضوضاء صراخاً لاهثاً حولَ دائرة ( النبع الأخضر ) ، الذي سيمتدُّ حتى آخر لحظة من الحياة ... أشعلت في أطراف الدائرة بقايا قشّ وأسمال ، وارتفعت الأصواتُ المجنونة ببطء مبحوح ... ثمّ تصاغر كلّ شيء أمام دائرة النبع الأخضر .
طقطقات باهتة وصراخ لا يتجاوز الأسنان ، وحيرة وضياع أمام النور المنطلق من النبع .. والذي بدأ يستولي على كلّ شيء من حوله ، ليصل إلى أبعد حبة من رمل الأرض ، وآخر نسمة من هواء الكون ...
انطلق من زاوية في الدائرة إلى المركز ... أوقفته صيحات زوجته الباكية ، فابتسم بشموخ هامساً :
ــ ما بالك يا نور العين ؟
ــ لا تذهب ... أُريدكَ معي .
ــ كلا ... أنا ذاهب .. واُريدك أنت أن تكوني معي .

ظلتْ منتصبة قرب الخيام ، فيما انطلق عنيفاً كشهاب ثاقب يطارد الشياطين .. وفي منتصف الدائرة كان يفتحُ مساحات جديدة أمام النور ، ويشقّ جداول متعددة لتصل الأرض العطشى بالنبع الخضل ...
سال منه دم غزير ، كانت السيوف الأتفهُ من الإبر الصدئة قد جرحت مواضع في جسده الذي يريد أن يتحرر منه ..
عاد إلى أطراف الدائرة ، فودّع منبعه الأخضر الوداع الأخير استعداداً لفراق قصير ، قصير .
قبل أن يمتطي جواده الأدهم ، أحسّ بيدين تدفعانه إلى سرجِه ، وهما تمسحانِ دماء جرحينِ عميقين من يديه القطيعتين ...
التفت إلى عروسه الصغيرة المشتملة على السلاح ، وقال :
ــ ما بالك يا .. ؟
أجابته مقاطعة بحزم وإصرار :
ــ فداك أبي وأُمّي ، قاتلْ دون الطيبين .
ــ سبحان الله .. كنتِ تنهينني عن القتال والآن جئتِ تقاتلين معي !
أجابته بحرقة وحسرة :
ــ لا تلمني ... فإنّ واعية ( الحُسين) قد مزّقت قلبي ، وهو يقولُ : وا قلّة ناصراه ! !

لحظات قليلة غسلها بدمائه الزكية ، وهو يشقُّ جداول الفيض ، ويفتح مساحات أُخرى للنور .
ثم فُتح الباب ... ليتحرّر إلى الأبد ، من هذا الأسر القاسي .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

احلى مسجات عيد الأضحى
زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في الشعر العربي
مدينة جدنا لا تقبلينا
وقف الزمان على ضريحك سائلا
قصيدة "عقيلة الطالبيين" للشيخ الدكتور «أحمد ...
قصيدة في مدح السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام
لا تقتلوا الشام فالعروبة دون الشام تندَحرُ
ما قيل فيه من الشعر
إلى أبي تراب
قصيدة تلقى قبل اذان الصبح في حضرة الامام الحسين ...

 
user comment