القسم الثالث. أعمال الإمام المهدي... دولة الخوارق
تظهر أعمال الإمام المهدي في التبديل الذي يجريه في أحوال أهل الأرض، وهذا التبديل لا يتمّ بناء على قدرات ماديّة فقط بل يظهر المهدي بالخوارق. لكأنّ دولته هي دولة تقوم على قوى روحانيّة ربانيّة، تتعدّى القوى الماديّة المعروفة في الأرض في زمانه وتنتصر عليها.. إنّها تشبه في الملك ملك سليمان(ع) وتتخطّاها في أمور، لأنّها مظهر مُلْك محمّد رسول الله(ص)، يقول ابن عربي: ومحمّد(ص)... الرحمة للعالمين ذاتاً وصفاتاً، وتمام ملكه موقوف على ظهور المهدي.[13]
وهذه القوة التي تطبع دولة المهدي تدعو إلى التفكّر في التصوّر الإسلامي للخلاص في آخر الزمان، وأنّه لن يتم إلاّ باتحاد الباطن بالظاهر، والتحقق بالقوة الخيّرة التي تقيم دولة الحق والعدل في مواجهة القوة التي تقيم الدولة الظالمة الجائرة.
ومن أبرز التغييرات التي يقوم بها المهدي في الأرض:
أ. من الجور إلى العدل.. وهذا التغيير بشّر به رسول الله(ص)، وشهد له بالصوابيّة والعدل. وقد سبق قول ابن عربي إنّ لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً.
ب. من الضعف إلى القوة.. تبرز القوة الظاهرة كقيمة في زمن المهدي، ويصبح النصر علامة على التقوى والقرب وكلّ أشكال الولاية. يقول عنه ابن عربي: يخرج على فترة من الدين، يزع الله به ما لا يزع بالقرآن (...) يمشي النصر بين يديه.[14] وفي سياق آخر يقول: فهو [= ختم الولاية المحمّديّة] والقرآن أخوان، كما أنّ المهدي والسيف أخوان.[15]
ج. من الجهل إلى العلم.. تعمّ المعرفة في زمن الإمام المهدي، لوجوده كمنبع عرفان في زمنه، وكذلك لانبساط اللطيف على الكثيف والروح على الجسد. يقول ابن عربي: ويُعرف ما أشار إليه من عموم البركات عند ظهور المهدي، حتى يكلّم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وفخذه بما عمله أهله من بعده. وتُفتح القسطنطينية بغير سلاح إلـى سائر ما ذكر(ص) لعموم انبساط اللطيف علـى الكثيف.[16]
د. من الفقر إلى الغنى.. يقول ابن عربي: يقسم [المهدي] المال بالسويّة، ويعدل بالرعيّة، ويفصل في القضيّة، يأتيه الرجل فيقول له: يا مهدي أعطني، وبين يديه المال فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله.[17]
وبذلك تكون المعايير التي دافع عنها الصوفي وخاصة الفقر، قد تغيّرت لتغيُّر الزمان والإنسان، فالغنى أصبح أحد مقومات القوة، وبالتالي من كمال الإمامة.. ولا يجرح غنى اليدّ نقاءَ القلب من شهوة المال.
القسم الرابع... وزراء المهدي
تتكامل دولة المهدي بعدد من الوزراء، أصحاب قدرات مخصوصة، يعينونه على القيام بأعباء ملكه. يقول ابن عربي مخبراً عن أعداء المهدي ومبايعيه ووزرائه: أعداؤه مقلّدة العلماء أهل الاجتهاد، لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمتهم، فيدخلون كرهاً تحت حكمه خوفاً من سيفه وسطوته ورغبة فيما لديه. يفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم. يبايعه العارفون بالله من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف إلهي. له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه هم الوزراء، يحملون أثقال المملكة ويعينونه على ما قلّده الله.[18]
وقد أفرد ابن عربي باباً في الفتوحات المكية هو الباب السادس والستون وثلثمائة، عنوانه:
في معرفة منزل وزراء المهدي الظاهر في آخر الزمان الذي بشّر به رسول الله(ص) وهو من أهل البيت.[19]
وهؤلاء الوزراء عددهم دون العشرة تأكيداً، لهم القدم الراسخ في الصدق، والمهدي أصدق أهل زمانه، فوزراؤه الهداة وهو المهدي، لذلك ينصره الله ومن تابعه، لأنّ النصر أخو الصدق حيث كان يتبعه.[20] ويدلّل ابن عربي على التصاق النصر بالصدق بعدم انهزام المسلمين قط، كما أنّه لم ينهزم نبي قط. ويرى ابن عربي أنّه حتى لو تقابل جمعان متناقضان في العقيدة، فالغلبة ليس لمن عقيدته حقّة بل الغلبة للصادق في قضيته وإن كانت باطلة.. لأنّ النصر أخو الصدق.[21]
ويتردد ابن عربي في إثبات عدد وزراء المهدي، ويربط عددهم بعدد سنيّ دولة المهدي. وحيث أنّ مدة إقامة دولته من خمس إلى تسع، فيكون وزراؤه لا أقل من خمسة ولا أكثر من تسعة، لأنّه لكل عام في دولته أحوال مخصوصة، وعلم ما يصلح في ذلك العام خُصّ به وزير من وزرائه.[22] ويُقتلون كلّهم إلاّ واحداً منهم.
ولا يظلّ ابن عربي متردداً في عدد الوزراء، بل يحسم بالرقم تسعة إثر لقاء حمل إليه تعريفاً دون طلب منه، يقول: قيض الله واحداً من أهل الله تعالى وخاصته، يقال له أحمد بن عقاب اختصّه الله بالأهليّة صغيراً، فوقع منه ابتداءً ذكر هؤلاء الوزراء، فقال لي: هم تسعة، فقلت له: إن كانوا تسعة فإن مدة بقاء المهدي لا بدّ أن تكون تسع سنين.[23]
إن ما استفاد ابن عربي من أحمد بن عقاب هو عدد وزراء المهدي، أما ما تحتاجه دولة المهدي من علوم ويقوم به الوزراء، وبغض النظر عن عددهم، فهي تسعة علوم لا عاشر لها ولا تنقص عن ذلك[24] ويعرف ذلك ابن عربي دون الرجوع إلى أحد. وهذه العلوم التسعة هي:
1. نفوذ البصر.. وذلك ليكون دعاؤه إلى الله على بصيرة في المدعو إليه لا في المدعو، فينظر في عين كلّ مدعو ممن يدعوه فيرى ما يمكن له الإجابة إلى دعوته فيدعوه من ذلك.. فإنّ المهدي حجة الله على أهل زمانه.[25]
2. معرفة الخطاب الإلهي عند الإلقاء.. وهو قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً).[26] أما الوحي فهو ما يلقيه في قلوبهم على جهة الحديث، وأما قوله (أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ )فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من أُلقي عليه فيفهم منه ما قصد به من أسمعه ذلك. وأما قوله( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) فهو ما ينزل به الملك أو ما يجيء به الرسول البشريّ الينا إذا نقلا كلام الله خاصة.[27]
3. علم الترجمة عن الله.. يكون المترجم خلاقاً لصور الحروف اللفظية أو المرقومة التي يوجدها ويكون روح تلك الصور كلام الله لا غير، فإن ترجم عن علم فما هو مترجم.[28]
4. تعيين المراتب لولاة الأمر.. وهو العلم بما تستحقه كل مرتبة من المصالح، فينظر صاحب هذا العلم في نفس الشخص الذي يريد أن يولّيه ويرفع الميزان بينه وبين المرتبة، فإذا رأى الاعتدال في الوزن من غير ترجيح لكفة المرتبة ولاّه، وإن رجح الولـي فلا يضرّه، وإن رجحت كفـة المرتبة عليه لم يولّه...[29] وهذا الميزان رمز لدور المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
5. الرحمة في الغضب... وهذا لا يكون إلا في الحدود المشروعة، لأن الإنسان إذا غضب لنفسه فلا يتضمن ذلك الغضب رحمة بوجه، أما إذا غضب لله فغضبه غضب الله سبحانه، وغضب الله لا يخلص عن رحمة إلهية تشوبه... وفي هذا السياق قال أبو يزيد البسطامي: بطشي أشدّ لما سمع القارئ يقرأ: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ).[30] والسبب: إنّ بطش الإنسان بالإنسان لا رحمة فيه، أما بطش الله سبحانه فيأتي على رحمة سبقت. والمهدي لا يغضب إلا لله، فلا يتعدّى في غضبه إقامة حدود الله التي شرعها.[31]
6. علم ما يحتاج إليه المُلْك من الأرزاق.. يعلم أصناف العالم ويوفر لهم الأرزاق الروحيّة والمحسوسة.[32]
7. علم تداخل الأمور بعضها على بعض.. وهو معنى قوله: (يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ)[33]... وهو علم التوالد في المعاني والمحسوسات.[34]
8. المبالغة والاستقصاء في قضاء حوائج الناس.. وهذا يتعيّن على الإمام خصوصاً دون جميع الناس، فإنّ الله ما قدّمه على خَلْقه ونصبه إماماً لهم إلاّ ليسعى في مصالحهم [...] فإذا رأيتم السلطان يشتغل بغير رعيّته وما يحتاجون إليه فاعلموا أنّه قد عزلته المرتبة بهذا الفعل، ولا فرق بينه وبين العامة.[35]
9. الوقوف على علم الغيب... وهذا الإمام له اطلاع من جانب الحق على ما يريد الحقّ أن يحدثه من الشؤون قبل وقوعها في الوجود، فيطّلع في اليوم الذي قبل وقوع ذلك الشأن على ذلك الشأن، فإن كان ممّا فيه منفعة لرعيته شكر الله وسكت عنه، وإن كان فيه عقوبة بنزول بلاء عام أو على أشخاص معينين سأل الله فيهم وشفع وتضرّع، فصرف الله عنهم ذلك البلاء برحمته.[36]
وفي الختام... أورد نصاً لابن عربي يظهر إيمان ابن عربي بخروج المهدي وانتظاره له، وقناعته بأنّ رجال المهدي لا يمنعهم عن نصرته السدّ المُتوهّم بين الماضي والحاضر.. يقول:[37]
... فيا منظور الناظر، ويا من بظهوره بطش الملك القادر، ويا ولي الله، ويا خليفة الملك القاهر. أما انسلختَ من الأصلاب والأرحام، أما أُمرتَ بتبديل هذه الأحكام.. السموات والأرض ومَنْ فيهن بانتظارك، والوجود متشوّق إلى إسفارِك. اللهم إنّا نؤمن بولايته، وخلافته، وإمامته، وهدايته، ولا نلحد فيه إلحاد الغافلين، ولا ننكره إنكار العالين، وننتظره مدّة حياتنا، إيماناً بك، وتصديقاً لرسولك. فلا تحرمنا إن لم تقسم لنا رؤيته أجر اتباعه. واكتبنا في عدد أنصاره وأشياعه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]. الحديث رواه أحمد في مسنده، والترمذي وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان عن سفينة مولى النبي(ص)، ورواه أبو داود في السنة والنسائي في المناقب. [أنظر فيض القدير للمناوي 3/509].
ورواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، عن سُفينة ورمز له السيوطي بالصحة، [انظر الجامع الصغير للسيوطي متن فيض القدير 3/509].
[2]. عنقاء مغرب، ص 62.
[3]. أنظر، صحيح ابن حبان، أبو حاتم التميمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1993، ج15، ص 236، حديث رقم 6823 و 6824. والمستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990، ج4، ص 600، حديث رقم 8669 و8670 و8671. وفي تحفة الأحوذي، يرد وخرج أحاديثه المهدي جماعة من الأئمة منهم أبو داود والترمذي وابن ماجة والبزار والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة.
[4]. سورة القلم / 4.
[5]. انظر عنقاء مغرب، ص 60.
[6]. انظر المعجم الصوفي مادة "إمام" و "ختم".
[7]. عنقاء مغرب، ص 61.
[8]. الفتوحات ج3، ص 335 و 338.
[9]. همان.
[10]. م.ن، ص 327.
[11]. م.ن، ص 335.
[12]. الفتوحات، ج3، ص 337.
[13]. بلغة الغواص، ورقة 60.
[14]. الفتوحات، ج3، ص 327.
[15]. م.ن، ص 329.
[16]. بلغة الغواص، ق 132 - 133.
[17]. الفتوحات، ج3، ص 327.
[18]. همان.
[19]. وهذا الفصل يبلغ عدد صفحاته حوالي ثلاث عشرة صفحة، وهي في الجزء الثاني من صفحة 327 إلى ص 340.
[20]. الفتوحات، ج3، ص 329.
[21]. م.ن، ص.ن.
[22]. م.ن، ص 331.
[23]. الفتوحات، ج3، ص 331.
[24]. م.ن، ص 332.
[25]. م.ن، ص.ن.
[26]. سورة الشوری / 51.
[27]. م.ن، ص.ن.
[28]. همان.
[29]. الفتوحات، ج3، ص 333.
[30]. سورة البروج / 12.
[31]. م.ن، ص.ن.
[32]. م.ن، ص 334.
[33]. سورة الحج / 61.
[34]. م.ن، ص 335.
[35]. الفتوحات، ج3، ص 336.
[36]. م.ن، ص 337.
[37]. بلغة الغواص، ق 64.