قال الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله:
«إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»
إنّ لفقد الأحبة والمقرّبين لوعة ومرارة في نفس كلّ شخص، فمن يفقد عزيزاً عليه يتجرّع ألماً وغصّة في الأيّام الأولى من فقده، وقد تصيبه حالة من الكآبة وعدم التوازن، يعزف فيها عن الطعام والشراب والنوم، لكن مع مرور الأسابيع والشهور يندمل الجرح وتهدأ النفوس وتزول الأحزان شيئاً فشيئاً وتعود الأشياء إلى طبيعتها السابقة. فأعظم المصائب وأشدّ البلايا وقعاً على الإنسان تفتر حدّتها وتخفّ وطأتها بفضل عامل الزمن ونعمة النسيان.
لكنّ مصيبة واحدة لم تبرد لوعتها ولم ينطفئ لهيبها برغم تقادم السنين ومضيّ الأعوام والقرون، ألا وهي مصيبة أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه.
كل عام قُبيل شهر محرّم بأيّام تلبّس الحيطان بالسواد، وتتلبّد القلوب بغيوم الحزن، وتتّقد حرارة مصيبة عاشوراء في الصدور من جديد.
ويتبيّن من الرواية السابقة أنّ هذه اللوعة والحرارة هما من علامات الإيمان، لأنّه لم يرد في الرواية «في قلوب البشر» أو «قلوب الناس»، من هنا فإنّ الحُبّ الحسيني الذي يسكن قلوب المؤمنين يعتمد على درجة الإيمان صعوداً ونزولاً وهو حبّ يغمر قلب كلّ مؤمن ومحبّ لأهل البيت عليهم السلام.
لقد خصّ الله سبحانه وتعالى الإمام الحسين بخصائص لم يشاركه فيها حتّى من هم خير منه وهم جدّه وأبوه وأمّه وأخوه سلام الله عليهم، لأنّ التضحيات التي طلبها الله تعالى من الإمام الحسين كانت أعظم حتّى من تضحياتهم سلام الله عليهم أجمعين.
إنّ الدور الإستثنائي الذي قام به الإمام الحسين في يوم عاشوراء استحقّ عليه ثواباً استثنائيّاً من الله تعالى.
وهذا الاستثناء ـ قد تجلّى على نحوين:
النحو الأوّل: الاستثناء في الجانب التشريعي، ومثاله: الجزع فإنّه مكروه، حسبما ورد في الروايات، إلاّ على الإمام الحسين.
النحو الثاني: الاستثناء التكوينيّ، ومثاله الاستشفاء بتربته فإنّ أكل التراب محرّم شرعاً ومضرّ من الناحية الصحيّة، لكنّ الأمر يختلف مع تربة سيد الشهداء عليه السلام فهو حلال حُكماً، وشفاء لمن يستعمله بمقدار.
قدم الإمام الحسين يوم عاشوراء أعزّ الناس وأقربهم إليه كأبي الفضل العباس وعلي الأكبر والقاسم... . ولو كان هؤلاء أفراداً عاديين لهان الأمر، ولكنّهم ترعرعوا في حجر الإمامة الطاهر، وكانوا بعد الإمام المعصوم قدوة في الوفاء والنخوة والأصالة، ولا مثيل لهم على وجه الأرض مطلقاً، وإنّنا لنعجز عن أداء حقّهم في وصف مكانتهم.
أجل، في أقلّ من نصف يوم، تجرّع الإمام الحسين كلّ هذه المصائب وتحمّل ما لا يطيقه بشر.
وحينما أراد جيش عمر بن سعد ـ في اليوم الحادي عشر من محرّم ـ اقتياد السبايا إلى الكوفة، كان الإمام السجّاد سلام الله عليه من شدّة ما ألمّ به من مرض لا يقوى على ركوب الناقة لذلك قاموا بشدّ رجليه من أسفل بطن الناقة. وعندما اقتيد السبايا من وسط ساحة المعركة، رمت النسوة والصبية بأنفسهم على جثث الشهداء، أمّا الإمام السجّاد سلام الله عليه
فلم يستطع فعل ذلك، ويقول في هذا الشأن:
فكادت نفسي تخرج فَتَبَيَّنَتْ ذلك عَمَّتـي زينب...
لذلك عندما رأت الإمام السجّاد سلام الله عليه يوشك أن يلفظ أنفاسه، تركت جثث الشهداء وتوجّهت إليه، وذكرت له بعض الأمور ـ والتي طبعاً هو أعلم بها ـ حتى هدأ قليلاً. وقد أخبرت العقيلة زينب ابن أخيها بأنّ هذا الحال لن يدوم، فسوف يأتي زمان يقيم أناس مجالس عزاء للإمام الحسين ويحيون ذكراه. فأسكنت لوعة قلبه الشريف بقولها:
ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض... ينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرس أثره...
وكلّ ذلك كان بعين الله التي لا تنام حتى تحلّ الساعة التي يأذن الله سبحانه فيها بحكمته العالية انتهاء أمر الصبر لتصل النوبة للعدل الإلهي والانتقام من الظالمين.