الزحف الى البصرة :
وتحركت كتائب عائشة صوب البصرة ، ودق طبل الحرب ، ونادى المتمردون بالجهاد ، وقد تهافت ذوو الاطماع والحاقدون على الامام الى الالتحاق بجيش عائشة ، قد رفعوا أصواتهم بالطلب بدم عثمان الذي سفكه طلحة والزبير وعائشة ، واتجهت تلك الجيوش لتشق كلمة المسلمين ، وتغرق البلاد بالثكل والحزن والحداد.
عسكر :
وسار موكب عائشة في البيداء يجذ السير ، فصادفهم العرني صاحب عسكر فعرض له راكب فقال له :
- يا صاحب الجمل أتبيع جملك ؟.
- نعم.
- بكم.
بالف درهم.
- ويحك ! ! . . أمجنون أنت جمل يباع بالف درهم ؟
- نعم جملي هذا . فما طلبت عليه أحدا قط إلا أدركته ، ولا طلبني وأنا عليه أحد قط الا فته . ..
( 1 ) شرح النهج 2 / 79 . ( * )
[32]
" لو تعلم لمن نريده لاحسنت بيعنا "
" لمن تريده ؟ "
" لامك ".
" لقد تركت أمي في بيتها قاعدة ما تريد براحا ".
" إنما إريده لام المؤمنين عائشة ".
" هو لك خذه بغير ثمن ".
" ارجع معنا لك الرحل فلنعطك ناقة مهرية ، ونزيدك دراهم ".
فقفل معهم فاعطوه الناقة واربعمائة درهم أو ستمائة درهم ، وقدم عسكر إلى عائشة فاعتلت عليه ( 1 ) ، وقد أصبح كعجل بني اسرائيل فقطعت الايدي ، وأزهقت الانفس واريقت الدماء من حوله.
الحواب :
وسارت قافلة عائشة فاجتازت على مكان يقال له ( الحواب ) فتلقت الركب كلاب الحي بهرير وعواء فذعرت عائشة ، فالتفت إلى محمد بن طلحة فقالت له :
- أي ماء هذا يا محمد ؟
- ماء الحواب يا أم المؤمنين.
فهتفت وهي تلهث :
- ما أراني إلا راجعة.
- لم يا أم المؤمنين ؟
- سمعت رسول الله يقول لنسائه : كاني باحداكن قد نبحتها
( 1 ) ابن الاثير 3 / 107 ، تاريخ الطبري 3 / 475 ، تذكرة الخواص . ( * )
[33]
كلاب الحواب وإياك أن تكوني أنت يا حميراء ( 1 ).
- تقدمي رحمك الله ودع هذا القول.
فلم تبرح من مكانها ، وطاقت بها الهموم والالام ، وأيقنت بضلالة قصدها ، وذعرت القيادة العسكرية من توقف عائشة التي اتخذوها قبلة لهم يغرون بها السذج والبسطاء فخفوا اليها في دهشة قائلين :
" يا أمه ".
فقطعت عليهم الكلاب وراحت تقول بنبرات ملؤها الاسى والحزن.
" أنا والله صاحبة كلاب الحواب . . ردوني ، ردوني ".
وأسرع إليها ابن اختها عبد الله بن الزبير كانه ذئب فانهارت امامه ، واستجابت لعواطفها ، ولولاه لارتدت على عقبيها الى مكة فجاء لها بشهود اشترى ضمائرهم فشهدوا عندها أنه ليس بماء الحواب وهي أول شهادة زور تقام في الاسلام ( 2 ) فاقلعت عن فكرتها واخذت تقود الجيوش لحرب وصي رسول الله ( ص ) وباب مدينة علمه.
في ربوع البصرة :
ودهمت جيوش عائشة اهل البصرة فملئت قلوبهم ذعرا وفزعا ،
( 1 ) روى ابن عباس عن رسول الله ( ص ) أنه قال يوما لنسائه وهن جميعا عنده : ايتكن صاحبة الجمل الادب تنبحها كلاب الحواب ، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلهم في النار ، وتنجو بعدما كادت ، شرح النهج 2 / 297 ، ابن كثير 6 / 297 ، ابن كثير 6 / 212 ، الخصائص للسيوطي 2 / 137 الاستيعاب وجاء فيه : " وهذا الحديث من اعلام نبوته ( ص ) ".
( 2 ) مروج الذهب 2 / 347 ، تاريخ اليعقوبي . ( * )
[34]
وخوفا ، فقد احاطت ببلدهم القوات العسكرية التي تنذر باحتلال بلدهم وجعلها منطقة حرب ، وعصيان على الخليفة الشرعي ، وانبرى حاكم البصرة عثمان بن حنيف وهو من ذوي الادارة والحزم والحريجة في الدين ، فبعث أبا الاسود الدؤلي الى عائشة يسالها عن سبب قدومها الى مصرهم ، ولما مثل عندها قال لها.
- ما أقدمك يا أم المؤمنين ؟
- اطلب بدم عثمان.
- ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.
- صدقت ، ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، انغضب لكم من سوط عثمان ، ولا نغضب لعثمان من سيوفكم.
ورد عليها أبو الاسود قائلا :
" ما أنت من السوط والسيف ، انما أنت حبيسة رسول الله ( ص ) أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك ، وليس على النساء قتال ، ولا لهن الطلب بالدماء ، وان عليا لاولى منك ، وأمس رحما ، فانهما ابنا عبد مناف ".
ولم تذعن لقوله ، وراحت مصرة على رايها قائلة :
" لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه ، أفنظن أبا الاسود أن أحدا يقدم على قتالي ؟ ! ! ".
وحسبت أنها تتمتع بحصانة لعلاقتها الزوجية من النبي ( ص ) فلا يقدم أحد على قتالها ، ولم تعلم أنها أهدرت هذه الحرمة ولم ترع لها جانبا فاجابها أبو الاسود بالواقع قائلا :
" أما والله لتقاتلن قتالا أهونه الشديد ".
[35]
ثم انعطف أبو الاسود صوب الزبير فذكره بماضي ولائه للامام وقربه منه قائلا.
" يا أبا عبد الله عهد الناس بك ، وأنت يوم بويع أبو بكر آخذا بقائم سيفك تقول : لا أحد أولى بهذا الامر من ابن أبي طالب ، وأين هذا المقام من ذاك ؟ "
فاجابه الزبير بما لم يؤمن به قائلا :
" نطلب بدم عثمان ".
" أنت وصاحبك وليتماه فيما بعد ".
ولان الزبير واستحباب لنصيحة أبي الاسود الا انه طلب منه مواجهة طلحة وعرض الامر عليه ، فاسرع أبو الاسود تجاه طلحة وعرض عليه النصيحة فابى من الاستجابة وأصر على الغي والعدوان ( 1 ) ورجع أبو الاسود من وفادته التي اخفق فيها فاحاط ابن حنيف علما بالامر فجمع أصحابه وخطب فيهم وقال :
" أيها الناس ، انما بايعتم الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فانهما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما والله لو علم علي أحدا أحق بهذا الامر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع ، وأطاع وما به الى أحد من صحابة رسول الله ( ص ) حاجة وما باحد عنه غنى ، ولقد شاركهم في محاسنهم ، وما شاركوه في محاسنه ، ولقد بايع هذان الرجلان ، وما يريدان الله ، فاستحلا الفطام قبل الرضاع ، والرضاع قبل الولادة ، والولادة قبل الحمل ، وطلبا ثواب الله من العباد ، وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين ، فان كانا استكرها قبل بيعتهما وكانا رجلين من عرض قريش لهما أن يقولا ولا يامرا ، إلا وان الهدى ما كانت عليه
( 1 ) شرح النهج 2 / 81 . ( * )
[36]
العامة ، والعامة على بيعة علي فما ترون أيها الناس ؟ ".
فقام اليه الفذ النبيل حكيم بن جبلة فخاطبه بمنطق الايمان والحق والاصرار على الحرب ( 1 ).
وجرت مناظرات بين الفريقين إلا انها لم تنته الى خير ، وخطب طلحة والزبير ، وكان خطابهما الطلب بدم عثمان ، فرد عليهما أهل البصرة ممن كانت تاتيهم رسل طلحة بالتحريض على قتل عثمان وحملوه المسوؤلية في اراقة دمه وخطبت عائشة خطابها الذي كانت تكرره في كل وقت وهو التحريض على المطالبة بدم عثمان لانه قد خلص من دنوبه ، واعلن توبته ولكنها لم تنه خطابها حتى ارتفعت الاصوات فقوم يصدقونها وقوم يكذبونها وتسابوا فيما بينهم وتضاربوا بالنعال ، واقتتل الفريقان أشد القتال وأعنفه وأسفرت الحرب عن عقد هدنة بينهما حتى يقدم الامام علي ، وكتبوا بينهم كتابا وقعه عثمان بن حنيف ، وطلحة والزبير وقد جاء فيه باقرار عثمان ابن حنيف على الامرة ، وترك المسلحة وبيت المال له ، وان يباح للزبير وطلحة وعائشة ومن أنضم اليهم أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة.
ومضى ابن حنيف يقيم بالناس الصلاة ، ويقسم المال بينهم ، ويعمل على نشر الامن واعادة الاستقرار في المصر ، إلا أن القوم قد خاسوا بعهدهم ومواثيقهم ، فاجمعوا على الفتك بابن حنيف ، ويقول المؤرخون : ان حزب عائشة انتهزوا ليلة مظلمة شديدة الريح فعدوا على ابن حنيف وهو يصلي بالناس صلاة العشاء فاخذوه ثم عدوا الى بيت المال فقتلوا من حرسه أربعين رجلا ، واستولوا عليه ، وزجوا بابن حنيف في السجن وأسرفوا في تعذيبه بعد أن نتفوا لحيته وشاربيه ( 2 ).
( 1 ) الامامة والسياسة 1 / 64.
( 2 ) شرح النهج 2 / 50 . ( * )
[37]
وغضب قوم من اهل البصرة ، ولقموا على ما اقترفه القوم من نقض الهدنة ، والنكاية بحاكمهم ، واحتلال بيت المال فخرجوا يريدون الحرب ، وكانت هذه الفئة من ربيعة يراسها البطل العظيم حكيم بن جبلة فقد خرج في ثلثمائة رجل من بني عبد القيس ( 1 ).
وخرج اصحاب عائشة ، وحملوها معهم على جمل ، وسمي ذلك اليوم الجمل الاصغر ( 2 ).
والتحم الفريقان في معركة رهيبة ، وقد ابلى ابن جبلة بلاءا حسنا ، ويقول المؤرخون ان رجلا من اصحاب طلحة ضربه ضربة قطعت رجله ، فجثا حكيم واخذ رجله المقطوعة فضرب بها الذي قطعها فقتله ، ولم يزل يقاتل حتى قتل ( 3 ).
لقد اضاف القوم الى نقض بيعتهم للامام نكثهم للهدنة التي وقعوا عليها مع ابن حنيف ، واراقتهم للدماء بغير حق ونهبهم ما في بيت المال وتنكيلهم بابن حنيف ويقول المؤرخون انهم قد هموا بقتله لولا انه هددهم باخيه سهل بن حنيف الذي يحكم المدينة من قبل علي وانه سيضع السيف في بني ابيهم إن اصابوه بمكروه ، فخافوا من ذلك ، واطلقوا سراحه فانطلق حتى التحق بالامام في بعض طريقه الى البصرة فلما دخل عليه قال للامام مداعبا :
" ارسلتني الى البصرة شيخا فجثتك امرد ".
واوغرت هذه الاحادث الصدور ، وزادت الفرقة بين اهل البصرة فقد انقسموا على انفسهم فطائفة منهم تسللوا حتى التحقوا بالامام ، وقوم انضموا الى جيش عائشة ، وطائفة ثالثة اعتزلت الفتنة ، ولم يطب لها الانضمام الى احد الفريقين.
( 1 ) شرح النهج 2 / 50.
( 2 ) حياة الامام الحسن 1 / 430.
( 3 ) أسد الغابة 2 / 40 . ( * )
[38]
النزاع على الصلاة :
وليس من الغريب في شئ أن يتنازع كل من طلحة والزبير على امامة الصلاة فانهما انما نكثا بيعة الامام ( ع ) طمعا بالحكم وسعيا وراء المصالح المادية ، ويقول المؤرخون إن كل واحد منهما كان يروم التقدم على صاحبه لامامة الناس ، والاخر يمنعه حتى فات وقت الصلاة ، فخافت عائشة من تطور الاحداث فامرت ان يصلي بالناس يوما محمد بن طلحة ، ويوما عبد الله ابن زبير ( 1 ) فذهب ابن الزبير ليصلي فجذبه محمد ، وتقدم للصلاة فمنعه عبد الله ، وراى الناس أن خير وسيلة لقطع حبل النزاع القرعة فاقنرعا فخرج محمد بن طلحة ، فتقدم وصلى بالناس وقرا في صلاته " سال سائل بعذاب واقع " وأثارت هذه الصور الهزيلة السخرية عليهم بين الناس ، واندفعوا الى نقدهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :
تبارى الغلامان إذ صليا *** وشح على الملك شيخاهما
ومالي وطلحة وابن الزبير *** وهذا بذي الجذع مولاهما
فامهما اليوم غرتهما *** ويعلي بن منية ولاهما ( 2 )
ان هذه البادرة تصور مدى تهالك القوم على الامرة والسلطان ، وهم بعد في بداية الطريق فلو كتب لهم النجاح في القضاء على حكم الامام لفتح بعضهم على بعض باب الحرب للاستيلاء على زمام الحكم.