بسم الله الرّحمن الرّحيم إنّ أهل البيت عليهم السلام هم معدن النبوة، وأعلام الهدى،وأهل البلاغة والفصاحة، وحديثهم هو قبسٌ من نور الكلام الالهيّ، وإضاءةٌ من هدي المنطق النبويّ، وشعلةٌ وضّاءة في سبيل هداية الاُمّة، تتعدّد مسارات إشعاعها لتشمل مختلف نواحي الفكر والعقيدة، وتغطّي جوانب الحياة كافة. ولقد بذل أئمة أهل البيت عليهم السلام جهوداً حثيثة في سبيل تصحيح مختلف جوانب الانحراف الطارئة في حياة الاُمّة، وإصلاح ما فسد من أُمور المسلمين بعد رحيل جدّهم المصطفى صلى الله عليه وآله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فوقفوا بوجه التيارات المنحرفة، ودافعوا عن معالم الدين الحنيف، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، إلى قيام يوم الدين. وذلك من صميم واجبهم الشرعي؛ لأنّهم قادةٌ رساليون ثبتت مرجعيتهم السياسية والفكرية والروحية مقترنين مع كتاب اللَّه حتى يردوا على النبي صلى الله عليه وآله
الحوض، كما جاء في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين. وإذا انتُزعت من العترة المعصومة المرجعية السياسية في ممارسة السلطة، فإنّ مرجعيتهم الفكرية الربانية قد تجاوزت أُطر الحظر والحصار، فبسطت بظلالها على مفاصل اجتماعية واسعة، وقد تطرُق أحياناً أبواب السلطان، أوتنفذ في قلب البلاط، وذلك عن طريق تربية النُّخبة الصالحة الرشيدة، التي تبنّت حمل راية الهداية، فكانت أساساً لمدرسة فكرية تتحمّل عب ء نشر مبادى الاسلام الأصيل، وبقيت لتعاليمها الاسلامية الراقية مدلولها الحيّ العملي على طول الزمان مادام هناك مسلم بحاجة إلى فهم الاسلام والتعرّف على شريعته وأحكامه ومفاهيمه وقيمه. والملاحظ أنّ أُسلوب التصحيح والاصلاح يختلف بحسب الظروف المحيطة بهم عليهم السلام، بحيث يكون مرّة بالاشارة الصريحة إلى الانحراف، كما حدث لبضعة المصطفى الزهراءعليها السلام في ردّها لحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»، وبيان دور السلطة في اختلاقه ووضعه، واُخرى بالاشارة الضمنية، أو بالاكتفاء ببيان طريقة التصحيح والاصلاح والتأكيد عليها، لترسيخها في ذهن الاُمّة وضميرها، كما جاء في أحاديثهم عليهم السلام التي أكّدوا فيها على ضرورة تدوين الحديث في مقابل تلك التي تحظر على الأُمّة مزاولة حقّها في تسجيل تراثها لأسباب لا تخلو من أغراض السياسة الماكرة. وعلى رغم التفاوت بينهم عليهم السلام في اختيار الأُسلوب المناسب، فانّ المنهج المتّبع في الاصلاح والتصحيح واحدٌ لا اختلاف فيه؛ لأنّه مستمدّ من معين معصوم واحد، وقد اتّسم بالشمولية بحيث يستوعب مختلف الجوانب الفكرية والعقدية. ومع اعترافنا بتشعّب هذا الموضوع، وتعدّد جوانب البحث فيه، فانّنا سنحاول التوفّر على دراسة بعض ملامح التصحيح ومحطّاته الرئيسية، ونسوق بعض الأمثلة المناسبة، لتكون بمثابة إثارات لمن يريد التعمّق في دراسة مواطن الانحراف وأسبابه، ومعالم التصحيح وآثاره في حياة الاُمّة إلى يومنا هذا.
أولاً - الحديث
لم يدّخر الأئمّةعليهم السلام وسعاً في سبيل إصلاح ثاني ركائز التشريع ومنابع الفكر الديني بعد كتاب اللَّه تعالى، فأكّدوا على ضرورة تدوينه، وبيّنوا منهجاً واضحاً لتصحيح الحديث وتفاصيل فقهه وعلله وطرق تحمّله وسماعه، وأوضحوا أنّ فيه ناسخاً ومنسوخاً وخاصاً وعاماً ومحكماً ومتشابهاً، وأنّ على الأُمّة تحرّي الدقّة عن ظروف صدور الحديث وحال رواته. عن سُليم بن قيس الهلالي، قال: قلت. لأمير المؤمنين عليه السلام: إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي اللَّه صلى الله عليه وآله غير ما في أيدي الناس، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي اللَّه صلى الله عليه وآله أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله متعمدين، ويفسّرون القرآن بآرائهم ؟ قال: فأقبل عليّ فقال: قد سألت فافهم الجواب؛ إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيباً فقال: أيها الناس، قد كثرت عليّ الكذّابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار. ثمّ كذب عليه من بعده. وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الايمان، متصنّع بالاسلام، متكلّف له، ومتدلّس به، غير متّصفٍ به، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله متعمداً، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب، لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا قد صحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله، وقدأخبره اللَّه عن المنافقين بما أخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عزوجل: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ 1 ثمّ بقوا بعده، فتقرّبوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان، فولّوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم اللَّه، فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله شيئاً لم يحمله على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمّد كذباً، فهو في يده، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله؛ فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شي ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه، ولم علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه. وآخر رابع لم يكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، مبغض للكذب خوفاً من اللَّه و تعظيماً لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله، ولم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ. فإنّ أمر النبي صلى الله عليه وآله مثل القرآن؛ ناسخ ومنسوخ، وخاصّ وعامّ، ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان: كلام عامّ، وكلام خاصّ، مثل القرآن، وقال اللَّه عزّوجلّ في كتابه: (مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) 2 فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى اللَّه به ورسوله صلى الله عليه وآله... 3 وعن محمدبن مسلم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لا يتّهمون بالكذب، فيجي ء منكم خلافه؟
1) المنافقون:63/4
2) الحشر:59/7
3) الكافي 1:62/1 قال: إنّ الحديت يُنسخ كما يُنسخ القرآن 1 . وقال الامام الرضاعليه السلام: إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، ومحكماً كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمهافتضلوا 2 .
نماذج من تصحيح الحديث
على ضوء المنهج المتقدّم سمع أهل البيت عليهم السلام مزيداً من الأحاديث المتداولة على ألسن الرواة والمحدثين، فأشاروا إلى أوهام المحدّثين، وأمروا أصحابهم بردّها أو تصحيحها على وفق روايتها الصحيحة، وفيما يلي بعض موارد التصحيح، وهي بمجموعها تشكّل أحد الأدوات المهمّة التي تؤهّل المحدّثين لفهم المراد من الحديث وبيان مفهومه وفقهه.
1 - بيان مواطن الكذب و التحريف و الحذف.
عن الحسين بن خالد، قال: قلت للرضاعليه السلام: يابن رسول اللَّه، إنّ قوماً يقولون: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال: إنّ اللَّه خلق آدم على صورته؟ يييي فقال: قاتلهم اللَّه، لقد حذفوا أوّل الحديث، إنّ رسول اللَّه مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح اللَّه وجهك ووجه من يشبهك. فقال له صلى الله عليه وآله:يا عبد اللَّه، لا تقل هذا لأخيك، فانّ اللَّه عزّوجلّ خلق آدم على صورته 3 . {/H} وعن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول اللَّه، ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنّه قال:إنّ اللَّه تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا؟
1) الكافي 1: 64 / 2
2) عيون أخبار الرضاعليه السلام 1:226/39
3) التوحيد: 152/11 يييي فقال عليه السلام: لعن اللَّه المحرّفين للكلم عن مواضعه، واللَّه ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كذلك، إنّما قال صلى الله عليه وآله:إنّ اللَّه تعالى ينزل ملكاً إلى السماء الدنيا كلّ ليلةٍ في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادي: هل من سائلٍ فأُعطيه، هل من تائبٍ فأتوب عليه، هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشرّ أقصر. فلا يزال ينادي بذلك حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محلّه من ملكوت السماء؛ حدّثني بذلك أبي، عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله 1 . {/H} وعن أبي ولاد الحنّاط، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيورٍ خضرٍ حول العرش ؟ فقال: لا، المؤمن أكرم على اللَّه من أن يجعل روحه في حوصلة طيرٍ، ولكن في أبدانٍ كأبدانهم 2 . وعن مسعدة بن صدقة، قال: قيل لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّ الناس يروون أنّ علياًعليه السلام قال على منبر الكوفة: أيها الناس، إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي، فلا تبرءوا منّي. يييي فقال عليه السلام: ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليه السلام!ثمّ قال: إنّما قال: إنّكم ستدعون إلى سبّى فسبّوني، ثمّ ستدعون إلى البراءة منّي وإنّي لعلى دين محمدصلى الله عليه وآله، ولم يقل: لا تبرءوا منّي. {/H} فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: واللَّه ما ذلك عليه، وماله إلاّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئن بالايمان، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ فيه: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
1) التوحيد: 176/7، عيون أخبار الرضاعليه السلام 1: 126/ 21، أمالي الصدوق: 495/ 676
2) الكافي 3:244/1 مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)
1 فقال له النبي صلى الله عليه وآله عندها: يا عمار، إنّ عادوا فعد، فقد أنزل اللَّه عزّ وجلّ عذرك، وأمرك أن تعود إن عادوا 2 . وعن عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّ الناس يروون أنّ علياًعليه السلام كتب إلى عامله بالمدائن أن يشتري له جارية، فاشتراها وبعث بها إليه، وكتب إليه أنّ لها زوجاً، فكتب إليه علي عليه السلام أن يشتري بضعها فاشتراه؟ فقال: كذبوا على عليّ عليه السلام، أعليّ يقول هذا ؟! 3 . عن زرارة، قال: قال:- يعني أبا عبد اللَّه عليه السلام: إنّ أهل الكوفة قد نزل فيهم كذاب. أمّا المغيرة: فانّه يكذب على أبي - يعني أبا جعفرعليه السلام- قال: حدّثه أنّ نساء آل محمد إذا حضن قضين الصلاة. وكذب واللَّه، عليه لعنة اللَّه، ماكان من ذلك شي ولاحدّثه. وأمّا أبو الخطاب: فكذب عليّ، وقال: إنّي أمرته أن لا يصلّي هو وأصحابه المغرب حتى يروا كوكب كذا يقال له: القنداني. واللَّه إنّ ذلك لكوكب ما أعرفه 4 . وعن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضاعليه السلام بخراسان وعنده عدّة من بني هاشم وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال: يا إسحاق، بلغني أنّ الناس يقولون: إنا نزعم أنّ الناس عبيد لنا. لا وقرابتي من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ما قلته قطّ، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب 5 .
1) النحل 16/106
2) الكافي 2:219/10
3) الكافي 5:483/5
4) رجال الكشي:228/407
5) الكافي 1:187/ 10