إلتقاء الحقيقة الوجودية بالحقيقة التاريخية في شخص الإمام الموعود قائم آل محمد في آخر الزمان
الكلام عن الحقيقة تخلق في ذهن المتلقي دائما حالة من الشك والارتياب، ذلك أن الحقيقة ذات مراتب مشككة في ذاتها ومعانيها، فبقدر ما يكون الإنسان مؤمنا بوجوده يكون مستعدا لفهم حقائق وجوده السامية وبقدر ما يكون تائها في وجوده يكون مرتابا في درك أي حقيقة مهما كان مصدرها أو مدعيها؟ فهل نظرية الرجل الموعود في آخر الزمان الذي سوف يملئ الأرض قسطا وعدلا حقيقة وجودية أم أنها خرافة تاريخية؟ ولكي يكون سؤالنا سؤالا وجيها وعلميا دعونا نطرحه كما هو في ذاته عن الحضارات الإنسانية والوجدان الوجودي كما تعاملا مع هذه الظاهرة وتفاعلا معها في ذاتها؟
الحقيقة التاريخية (الإنسان الظاهر)
قبل آدم كان البشر، وقبل البشر كان آدم ، وقبل آدم كان الله وهو الآن كما كان ولا شيء معه.
لتوضيح ما تحمل هذه الجملة السابقة، الذي جاء القرآن لشرحها وتفسيرها للإنسان عبر واقعه الاجتماعي وتواجده التاريخي علينا أن ندرك في وعينا حقيقة الوحي الإلهي الذي صحب حياة الإنسان على الأرض، فبعدما تم الخلق الأول عبر دورات وجودية سيطر فيها الجهل العرفاني على كيان الإنسان ووجوده، جاء الوحي السماوي ليرافق حياة الإنسان المبسوطة في الآفاق من أجل فهم نفسه وإدراك ما عليه فهمه في سبيل خلاصه ووعي دوره الوجودي.
ولفهم العلاقة الوجودية التي تربط البشر بالله علينا أن نفهم علاقة البشر بأبي البشر جميعا ؟: أدم.
في كل الحضارات الكونية الإنسانية التي عاشها الإنسان كان هذا الأخير يسأل أسئلة تواجده عبر فلسفات، عبر خبرات روحية، عبر سلوكيات حفظتها لنا خلايانا في ذاكرتنا الجمعية والجماعية، وهكذا تكلمت الإنسانية عن سر تواجدها في منقولات فلسفية وخبرات روحية كانت في أغلب الأحيان تجعل الإنسان الواعي بتلك الأسرار مسيطرا على الإنسان وقواه الخفية المودعة في كيانه، وهي ثلاث قوى رئيسية :الكينونة والشاعرية والسحر.
وهكذا نستعرض مضمون هذه القوى الخفية، ونقول:
الإنسان الكائن: يمتاز هذا الوجود بالفاعلية والاختيار والإرادة والإبداع والنسيان والمعرفة والجهل والظلومية والكفر والظلم والطلب والسعي والرغبة .
الإنسان الشاعر: يمتاز هذا الوجود بالتفاعل مع النفس والمحيط والعاطفة والإبداع والتعمق والغيب والكشف.
الإنسان الساحر: يمتاز هذا الوجود بالقوة، بالسيطرة، بالمكر، بالخداع بالغرابة، بالعجب، بالخرافة، بالتسلط على القوى الأخرى.
قد لا نكون قد أحصينا ما يتعلق بهذه القوى بشكل كامل غير أن هذه الإشارات تكفي لطرح السؤال التالي كيف يمكن أن يكون الإنسان وقواه الخفية مدركا لحقيقته وهي التي سلبته في نفس الوقت هذا الإدراك؟
لقد وجد الإنسان نفسه يمتلك هذه القوى بالقوة ووجد نفسه تمتلكه هذه القوى بالفعل فحركاته كما أن خطراته ورغباته متسمة بهذه القوى كيفما كان وضعه الوجودي وفكره فيه، وهذا ما انتبه إليه الفيلسوف صدر الدين الشيرازي بقوله :الإنسان هو المشكل وهو الحل.
فبقدر ما يستطيع الإنسان السيطرة على هذه القوى وفهم وجوده فيها وتواجده فيها كان محبا للسلام والمحبة والحوار والتسامي، وكلما سيطرت هذه القوى على كيانه في غياب ذلك الموجه الكوني الواعي (في وعيه )، أحدثت في كيان الإنسان حروبا وصراعات تجعله يقتل بعضه بعضا، تجعله ينزل إلى أسفل درك من الإدراك وإلى فهم ساذج غريزي يسعى للبقاء بدون هدف.
ففي مسار تواجد الإنسان على مسرح الحياة الأرضية عرف عدة معارف جعلته يطرح أسئلة أكثر نضجا أكثر عمقا أكثر تحيرا، لكن ذلك لم يأتي دفعة واحدة، فلقد عاش في هذه الأرض سلالات بشرية خلقها الله لعبادته في إرادة وجودية إلهية، غارقة في الزمن الأول، تلك المجتمعات البشرية لم تكن لها علاقة بوعينا الإنساني ولا بكينونتنا فالخلق الأول تم عبر دورات وجودية كان فيها المخلوق البشري الإلهي يعيش في دورات بدائية ، لذا قلنا في بداية البحث كان البشر قبل آدم وكان البشر بعد آدم فما هو هذا النوع الذي كان قبل آدم وما هو هذا النوع الآخر الذي جاء بعد آدم؟
ذلك البشر الذي كان قبل أبونا آدم كان بشرا لا ندرك حقيقته وكنه تواجده أو كيفية تواجده على الأرض لكن إذا ما تأملنا كلمة بشر المكتوبة والمنطوقة باللغة العربية نجد أنها مكونة من ثلاث أحرف وهي الباء والشين والراء، فإذا ما أزلنا من هذه الأحرف الثلاثة حرف الباء تصير الكلمة المتبقية – شر- ، لكن قد يعترض علينا بعض الباحثين في اللغة العربية أو في اللغات أخرى بفهم آخر وهو أن اللغة العربية جاءت متأخرة نسبيا مقابل بعض اللغات الأولى ويقول أن تخريجتك هاته لم ترقنا ولم تتفوق فيها حيث حكمت على البشر بالشر بمجرد زوال الباء. وقد نجيبه بما نعيه نحن في لغتنا القرآنية التي وصفت ذلك المخلوق الإلهي الذي تواجد قبل آدم الإنساني بالشر والظلم كما أن حرف الباء يدل على معاني يعرفها أهل العرفان والكشف والذوق بأنه حرف تكويني إلهي . وكما جاء في الزيارة الجامعة بكم فتح وبكم يختم والمقصود بذلك :أهل البيت عليهم السلام.
إذن فآدم في دورنا الوجودي هذا وفي حياة الإنسان هو كائن حباه الباري بعناية إلهية خاصة جعلت منه يحمل كل الصفات الإلهية والأسماء الإلهية فكيف تم ذلك؟ وبما تم ذلك؟
فالكيف نجده في نهج البلاغة في وصف خلق آدم حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الاَْرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا ، تُرْبَة سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاء وَوُصُول، وَأَعْضَاء وَفُصُول: أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ ، لِوَقْت مَعْدُود، وَأجَل مَعْلُوم، ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَان يُجيلُهَا، وَفِكَر يَتَصَرَّفُ بِهَا، وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا ، وَأَدَوَات يُقَلِّبُهَا، وَمَعْرِفَة يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، والاَذْوَاقِ والَمشَامِّ، وَالاَْلوَانِ وَالاَْجْنَاس، مَعْجُوناً بطِينَةِ الاَْلوَانِ الُمخْتَلِفَةِ، وَالاَشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ، وَالاَْضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ، والاَْخْلاطِ المُتَبَايِنَةِ، مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ، وَالبَلَّةِ وَالْجُمُودِ، وَالْمَساءَةِ وَالسُّرُورِ، وَاسْتَأْدَى اللهُ سُبْحَانَهُ المَلائكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ، وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهمْ، في الاِْذْعَانِ بالسُّجُودِ لَهُ، وَالخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ، فَقَالَ عزَّمِن قائِل: (اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ)وَقَبِيلَهُ، اعْتَرَتْهُمُ الحَمِيَّةُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ، وَاسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ، فَأَعْطَاهُ اللهُ تَعالَى النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِيَّةِ، وَإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ، فَقَالَ: (إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)، فوصف أمير العارفين وروح العالمين علي عليه السلام خلق آدم بهذه الكيفية يدل على حضوره في هذا الخلق شهوديا وهذا يؤكد الحديث المنقول إلينا عبر مدرسة أهل البيت عليهم السلام الذي جاء فيه( بعث مع جميع الأنبياء باطنا وكنت مع الرسول الخاتم ظاهرا) نقصد بذلك علي عليه السلام.
من خلال هذا الحديث نستطيع القول أن أهل البيت عليهم السلام كانوا حاضرين في كل الدورات الوجودية السابقة بأرواحهم وهدايتهم ونورانيتهم، فعلي عليه السلام هو نقطة الباء التي فتح بها الله هذا الكتاب التكويني، فإضافة الباء للبشرية جعلت لهذا الوجود الآدمي يخصص بنورانية أهل البيت العظيمة فبهم فتح الله وبهم يختم كما جاء في الزيارة الجامعة.
وإذا ما ربطنا هذا بالحديث الذي جاء فيه كلنا واحد أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد، نكون قد جلعنا رحلة آدم في الأصلاب الطاهرة ممتدة من ذلك الفيض الإلهي الأول ( الاسم الذي خرج منه وإليه ) إلى آخر الزمان متمثلة في الإمام المهدي عليه السلام فتعود الدائرة من حيث بدأت لكن هذه المرة لتطلق الحقائق والعيش فيها حضوريا بعدما كانت تسرها باطنيا.
ففي كل تلك الدورات التي تفاعل الإنسان فيها مع الطبيعة والحياة والوجود كان يتعرف على ما في كيانه من قوى وجودية، لذا نجد الإنسان الذي كان يعبد الوثن قبل مجيء موسى عليه السلام كان يعبد أصله الوجودي وكينونته الوجودية متمثلة في صنم طيني صنعه من أصله الطيني حتى يمكنه تأكيد كينونته في هذا الصنم الذي يختزن عنصره الأولي الطيني فهذا الإنسان كان يحب كينونته، التي احتقرها إبليس في الجنة بقوله أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فكانت عبادة الصنم الطيني هذه رد فعل لا شعوري لتك الخافية الموروثة من ذلك الحنين للخلق الأول والخروج من الجنة.
وفي عصر في موسى عليه السلام وفرعون نجد أن الإنسان مازال يتعرف على ما تستبطن ذاته وبدأ يتعرف على أسرار نفسه وكيانه لذا نجده عندما سيطر ذهنه على قوى الطبيعة بدأ يحلل عناصر الأشياء (بواسطة الكيمياء) و بدأ في تأليه نفسه وهكذا وجد الفرعون نفسه إلها من دون الله قائلا أنا ربكم الأعلى، كلمة تحمل حقيقة وجودية غير أنها مثقلة بجحود وكفر وجودي لحقيقة مصدر القوة التي جعلت الفرعون يؤله نفسه. فقوله أنا ربكم الأعلى هي في الحقيقة حقيقة الإنسان لكن حيث لا خلق حيث لا تكليف حيث لا دنيا حيث لا آخرة وهي تعني رب نفسه فتلك الحقيقة هي حقيقة واقعة في العوالم الإلهية فالنطق بهذه الكلمة هي للإنسان وحقيقة مصدرها هو الله،في تلك العوالم الغيبية الإلهية التي سوف ندخل فيها بشفاعة الهداية الكونية الوجودية المتمثلة في الإمام المهدي عليه السلام .
ففي كل تلك الدورات الوجودية كنا (الإنسانية) نتعرف على كياننا كما يتعرف الصبي على جسده في صباه.
ونصل الآن إلى مرحلة ظهور النبي الخاتم المسدد بالغيب كله سيدنا محمد عليه وعلى آله الأطهار أفضل الصلاة والتسليم. في هذا العصر بدأ يشعر الإنسان بشعور يتخلل كيانه فبدأ الإنسان (الجاهلي) يتحسس الغيب بواسطة الشعر فأبدع العرب أشهر القصائد في معرفة الوجدان والطبيعة والكون. فكانت هذه المرحلة بمثابة المراهقة التي سوف يتمخض عنها وعيا كونيا سوف يستمر إلى آخر الزمان.
فبعدما خبر الكيان الإنسان قواه الثلاثة الساحرية والكينونة والشاعرية عبر دورات وجودية عبد فيها مليونين إله وبعدما عاش الإنسان تائها بين طقوس واعتقادات كثيرة سيطرت عليها هذه القوى الثلاثة على وعيه، جاء دور الهداية الكونية والإنسان الكوني الوجودي لفتح آفاق معرفية أكثر نضجا وسلامة ومعرفة وسموا في درجات الوجود السامي حيث أن الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وله وسلم المرسل إلى العالمين هو إنسان مؤيد بالغيب الإلهي كله، كما أن شريعته تحمل كل الشرائع ومهيمنة عليها والسؤال المطروح هنا كيف يمكن أن تكون هذه الرسالة للعالمين بينها نحن نعيش في عوالم محدودة ومعلومة ؟ هذا يؤكد على أن الرسالة الخاتمة هي رسالة مستمرة لحد الساعة بأشكال مختلفة وبطرق أخرى، في كل العوالم.
فما هي هذه الطرق؟
إن ما يؤكد هذا ويجعلنا نسأل هذا السؤال هي كثرة العوالم التي خلقها الباري لتسبح في ملكوته وعوالمه الخفية الغيبية، فلكي تكون الرسالة المحمدية رسالة خاتمة ومطلقة في كل العوالم يجب أن تستمر إلى آخر الزمان وتستعين بمن خبروا الغيب كله وهم أناس خصصوا لهذا الدور ولهذه المهمة وهم المذكورون في الكتب السماوية جميعا إنهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة محمد وآل محمد صلى الله عليه وعلى آله.
لقد كان مسار الإنسان التاريخي مليئا بالأحداث مليئا بالصراعات مليئا بالخوف مليئا بالهواجس ذلك أن وجوده يفقد في كليته ذلك الموجه الأعظم التي يحمل كيان الإنسان المتسائل إلى عوالم الهداية الإلهية لذا لم يكف الإنسان وهو يحمل الأمانة الإلهية عن طرح الأسئلة في سبيل معرفة هويته ودوره الوجودي ،فمجيء الرجل الموعود في آخر الزمان هو مطلب كل الحضارات الإنسانية على مر التاريخ حيث بذلت الروح في سبيل هذا الهدف المتسامي وانتظرت ظهور هذا الأمر على وجه الأرض في مجيء كل رسول وكل نبي وكل مصلح.
فالحقيقة التاريخية هي حقيقة الإنسان وفعله على مسرح الحياة، ففعله بدون القوى الإلهية فعل بدون هداية وحقيقته بدون هداية هي حقيقة بدون فعل حقيقي.
وهكذا ننتقل إلى الحقيقة الوجودية والدور التي سوف تلعبه في إبراز ما خفي من الإنسان مقابل العوالم الإلهية الغيبية.