الانتظار:
هنا ننتقل إلى الانتظار بعد هذه المقدمة، ويتضح أو يقترب معنى الانتظار إلى الذهن، انتظار الإمام صلوات الله وسلامه عليه، ماذا يعني حينئذ؟ يعني انتظار الفضائل، شمس الفضائل التي غاب قرصها عن العالم، وينتظر كل البشر هذا القرص أن يظهر من جديد فيشع على البشرية كمالاً وعقلاً وروحاً متكاملة وسعادة، هذه الشمس التي غربت فغرب معها كل خير وغرب معها العقل الكامل.
الآن _ في الواقع _ من أكبر ما يعانيه البشر ضعف العقل، العقل الإنساني لا يستخدم في هذه الدنيا استخداماً كاملاً وتاماً، لا نستخدم نحن من عقولنا إلاّ نسبة ضئيلة جداً..من الذي يفجر هذه الطاقات؟ ومن الذي إذا ظهر مسح على رؤوس الخلائق فتكمل عقولهم؟ هو الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه.
وبلا شك إن الرواية أنه إذا ظهر يمسح بيده على رؤوس الخلائق فتكتمل عقولهم.(4) لا شك إن هذا لا يعني أن الناس _ مثلاً _ يمرون أمام الإمام والإمام يمسح على رؤوسهم، ليس هذا هو المقصود، بل المقصود وجود الإمام، والتعبير بـ «يد الإمام» يعني سيطرة الإمام وهيمنة الإمام على الناس ورعايته للناس الفكرية والروحية، هذه ببركتها تكتمل عقول الناس تربية وتعليماً وترقية، مع عنايات إلهية طبعاً، مع معجزة وكرامة بلا شك.
فإذن الإمام انتظاره يعني انتظار الكمال الإنساني، انتظاره يعني انتظار فرج الناس جميعاً، انتظاره يعني انتظار السعادة التي ترتقب البشر والتي ينتظرها البشر ويرنو إليها البشر جميعاً.
وعلى ذلك حينما نأتي إلى الروايات التي تتحدث عن الانتظار:
عن النبي صلى الله عليه وآله: (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج)(5) أفضل الأعمال..مع هذه المقدمات وهذا البيان لعله يتضح أن الانتظار المقصود به في الرواية ماذا؟ الانتظار الذي يعني أنك تنتظر الكمال وتتهيأ له، هناك مثل بسيط اضربه للتوضيح: إذا أخبرت أن شخصية مرموقة بارزة سيزورك في دارك في منزلك، ماذا ستفعل؟ بلا شك أنك ستهيئ نفسك ودارك وأهلك وأولادك وكل ما في وجودك تهيئه لانتظار هذه الشخصية العظيمة المحترمة، فتدخل إلى الدار وتحاول أن ترتبها من جديد، وإذا كان أثاثها قديماً تبدل الأثاث إلى أثاث أفضل، وإذا كانت تحتاج إلى صبغ الجدران تصبغ الجدران حتى تبدو زاهية ناصعة، وإذا كان فيها أشياء لا تليق من قبيل وجود تماثيل مثلاً فيها أو صور غير مناسبة أو غير ذلك أنت سوف تستقبل مرجعاً، المفروض أن يدخل ذلك الإنسان وينظر إلى الأشياء كما يناسبه إلى ما يسره ويفرحه، فأنت سوف تزيل كل ما من شأنه أن يزعج هذا الضيف الكريم، وسوف ترتب دارك على طبق ما يحب ذلك الزائر، وسوف ترتب الوجبة التي هو يحبها والأجواء التي هو يريدها حتى تكون قد استقبلت ذلك الضيف الكبير بشكل لائق.
هنا نحن بانتظار الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه، انتظاره ماذا يعني؟! انتظاره يعني أن نهيئ أنفسنا وحياتنا لاستقباله، وبلا شك أن الإمام المهدي هناك خصوصية فيه، وهي أنّه حينما يظهر هو مطلع على السرائر ولا يستطيع أحد أن يخفي سريرته على الإمام(6)، ويتعامل مع الناس أيضاً بشكل خاص، فيسير بهم بسيرة داوود.
فعلى هذا إذا ظهر الإمام ولم أكن قد هيأت قلبي ونفسي لاستقباله كيف أكون منتظراً له؟! كيف يهيئ الإنسان نفسه؟
يطهّر هذا القلب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويزكي نفسه، ويخلص نفسه من الأمراض النفسية والشوائب والحقد وحب الدنيا والحسد والبغضاء، فكل هذه الصفات ينبغي أن يطهر الإنسان نفسه منها، وإلا إذا ظهر الإمام واطلع على قلبه بلا شك لن يكون عنده مرضياً، يعني في أحسن الأحوال لم يكن معتبراً عنده، هذا إذا لم يتعرض للعقوبة.
وهكذا الحياة من حولنا، فينبغي أن نهيئ ما حولنا بعد تهيئة النفس نهيئ ما حولنا للإمام، أن تكون حياتنا مهيأة لاستقباله، حياة طاعة حياة طهارة، أن نهيئ أولادنا للإمام.
فالإنسان الذي يهمل أولاده ويترك ابنه ضحية وفريسة للتلفزيون والفضائيات وأمثال ذلك هل يمكن لهذا أن يكون منتظراً؟ كيف يخرج الإمام وكيف ينظر إلى ولده حين ذاك؟ هل تريد أن تقدم للإمام هدية بهذا الشكل؟ نحن نحاول دائماً أن نكون نحن وأبناؤنا وذرارينا جنداً مجندةً للإمام (ع).
فإذا أردت أن تقدم جندياً إلى الإمام تقدمه بهذا الشكل ولد يكبر على التلفزيون والفضائيات ولا يعرف من دينه شيئاً، ولا يعرف من أحكام دينه شيئاً عقائده غير واضحة وسلوكه غير مستقيم.. هكذا يريد منا الإمام؟ إن هذا ليس بانتظار.
الانتظار الصحيح بمفهومه الذي يطرح هنا في هذا الحديث (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) أن تتهيأ، أولاً تهيئ نفسك ثم تهيئ ما حولك..أولادك وعائلتك وبيتك ومجتمعك، وتحاول أن تكون في كل ذلك مرتقباً للإمام ناظراً إلى ذلك اليوم السعيد الذي يظهر فيه فيراك على أحسن أهبة فتكتمل السعادة.
تصور حالة المؤمن إذا ظهر الإمام وأهمله كم تكون المصيبة عظيمة، إذا ظهر الإمام وأعرض عنك وأشاح بوجهه عنك، لماذا؟ لأنك لم تفعل كذا لم تزكّ أموالك ولم تخمس، فالإمام لا يدخل بيتاً غير مخمس، ولا يجلس إلى سفرة فيها طعام حرام، ولا ينظر إلى وجه ولا يزكي أحداً انغمس في المحرمات.
نحن منتظرون للإمام، ينبغي أن نكون قد هيأنا أنفسنا لذلك اليوم لتكتمل السعادة، كم هي سعادة المؤمن حينما يظهر إمامه وسيده وحجة الله عليه ابن رسول الله يظهر فيستقبلنا بوجه ضحوك ويستقبلنا بذراع مفتوحة، حينذاك تكتمل الفرحة، حينذاك يشعر الإنسان المؤمن بأنه نجح في الامتحان وأنه عبر مرحلة الانتظار إلى النجاح.
ثم قد تقول: إننا قد نموت قبل أن يظهر الإمام، أقول: نعم الروايات تؤكد أن من مات منتظراً للإمام على هذه الهيئة في الانتظار للاستعداد التام في النفس وفي ما حول الإنسان كتب في معسكر الإمام.
الرواية تقول: (ما ضرّ من مات منتظراً لأمرنا أن لا يموت في وسط فسطاط القائم)(7) أي أنه لو مات وهو في وسط العسكر لما كان أحسن حالاً منه وقد مات منتظراً.
الانتظار في حد ذاته رتبة يحصل عليها الإنسان، جائزة يحصل عليها الإنسان، سواء أدرك الظهور أو لم يدرك. ثم هناك روايات أخرى تقول أن من مات منتظراً مترقباً للإمام قد يظهر مع الإمام في الرجعة(8)، يرجع مع الإمام ويظفر بتلك المرتبة العظيمة في نصرة الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لرضاه، وأن يوفقنا لتتبع هداه، وأن يعجل فرجه ويسهل مخرجه، ويجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه.
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
(1) سورة البقرة، الآية: 3.
(2) راجع كمال الدين للشيخ الصدوق: 346.
(3) راجع التوقيع الشريف الى الشيخ المفيد في كتاب الاحتجاج للطبرسي ج2: 322_ 325: وفيه : (.. ونحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين... فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يغرب عنّا شيء من أخباركم...إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء...)، وفي توقيع آخر: (... لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب...).
(4) كمال الدين للصدوق: 674، ولفظه: عن أبي جعفر الباقر (ع) :( اذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم).
(5) كمال الدين للصدوق: 644، وروي أيضاً بلفظ: ( أفضل العبادة انتظار الفرج).
(6) عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (ع):( إذا قام القائم (ع) لم يقم بين يديه أحد من خلق الرحمن إلا عرفه صالح هو أم طالح...)، راجع كمال الدين للصدوق: 671، ح 19_ 20.
(7) الكافي للكليني، ج1: 372، ح6، كتاب الغيبة للنعماني: 200.
(8) لاحظ الكافي 1 / 370 باب أنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر، إكمال الدين وإتمام النعمة / 644 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج.