المهدي الموعود في الأديان السماوية الثلاث
يعتقد المنكرون من معتنقي الديانات السماوية الثلاث ـ اليهودية والنصرانية والإسلام ـ أن المخلّص الموعود هو من نتاجات العقل الإنساني! وأن هذه العقيدة نشأت نتيجة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
جاءت هذه النظرية إثر ما لمسوه من اعتقاد أصحاب الديانات غير السماوية بوجود المخلّص الذي يُنقذ البشرية من الظلم والطغيان، حيث قالوا إن فكرة ظهور هذا المخلّص لا تنحصر بالديانات السماوية، إذ يؤمن بها كثير من البشر ومنهم الوثنيون. فإن الإنسان ـ على اختلاف العقائد والأديان ـ يأمل بمجيء يوم يتخلص فيه البشر من الظلم والاستبداد، وتنعم الأرض بالسلام والأمن والاستقرار. ففكرة المخلّص (المصلح) هو حلم الإنسانية المشترك، وقد يتحقق هذا الحلم وقد لا يتحقق…
والحقيقة أن هذا التصور الخاطئ لعقيدة المخلّص لدى هؤلاء جاء نتيجةً لقصور النظر وضيق الفكر، وعدم الموضوعية في قراءة التاريخ، وبالتالي اللامبالاة في إصدار الأحكام الجزافية.
إن أبسط قراءة للتاريخ تؤكد أن أصحاب الديانات غير السماوية هم أيضاً امتداد لنسل آدم ومن بعده نوح وإبراهيم (عليهم السلام) فليس من المستغرب أن تبقى بعض آثار النبوة في معتقداتهم رغم انحراف أتباعها وعدم إيمانهم بالتوحيد والنبوة، ولاسيما أن عقيدة المخلًّص (المنقذ) يمكن توظيفها كفكرة لدعم معتقداتهم.
كما أن الديانات السماوية الثلاث جاءت كامتداد طبيعي لرسالات هؤلاء الأنبياء الكرام التي تضمّنت البشارة بالموعود المخلص.
وقال البعض الآخر من المشككين بضعف النصوص الواردة في الكتب السماوية بخصوص المنقذ الموعود، وعدم دلالتها عليه، وحاولوا تأويل هذه النصوص على غير وجهتها الصحيحة، وبالتالي ذهبوا إلى رفض فكرة المخلّص جملة وتفصيلاً.
ومما لاشك فيه هو بطلان ما ذهب إليه هؤلاء، لأنهم خرجوا عن إجماع علماء الديانات السماوية الثلاث الذين أكدوا صحة هذه النصوص ووثاقتها.
كما أن النصوص التي جاءت مبشرة بالمخلّّص الموعود في الديانات السماوية من الكثرة والوضوح بحيث لا يمكن لأي باحثٍ منصف التشكيك بها، أو محاولة تأويلها، وبالأخص ما جاء في دين الإسلام الحنيف ـ من قرآنٍ وأخبار وروايات ـ حيث حدد معالم شخصية المصلح وهويتها بتسميته بالمهدي، وكذلك حددت علامات ظهوره على الساحة السياسية بصورة تكاد تكون دقيقةً للغاية.
وفي هذه العجالة سوف نلقي الضوء على ما جاء في الديانتين اليهودية والنصرانية، وموقف علماء تلك الديانتين تجاه هذه الشخصية، ثم نورد بعض ما جاء في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، لنرى مدى مطابقة ما جاء في الأديان السماوية بخصوص المخلّص الموعود.
يعتقد اليهود أن المخلّص الموعود هو من بني إسرائيل، وأنه من نسل النبي داوود، وقالوا إن هذا المخلّص ـ والذي أسموه بالمسيح ـ سوف يخرج في آخر الزمان، فيقيم العدل ويُصلح ما فسد من أخلاق الناس وسلوكياتهم، وتنعم الأرض بعد مجيئه بالخير والبركات…
لم يحدد اليهود معالم شخصية هذا المخلص ولا مكان ظهوره، كما أحاطوه بالغموض واكتفوا بالقول إنهم ينتظرون هذا المخلّص ليكشف هو عن نفسه عند ظهوره. وهذا الموقف من اليهود له أسبابه الخاصة الكامنة في أنفسهم, لأن ما جاء في أسفارهم لا يتفق مع رغباتهم وأهوائهم في كون هذا المخلّص يعود إليهم نسباً…
فهم يجدون نصوص أسفارهم تُعيّن شخصيةً لا تمت إليهم بصلة، لا من الناحية العقائدية ولا من الناحية النسبية، فهو ابن النبي الموعود في آخر الزمان الذي تدين جميع البشرية بدينه. ويكون هذا النبي من نسل إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) وليس هو من نسل إسحاق كما كانوا يتمنون. فتعمدوا إلى إخفاء الكثير من معالم هاتين الشخصيتين وأحاطوهما بالرموز والكنايات كي لا يتعرف عليهما غيرهم من الأمم.
وعـــلى الرغم من ذلك فقد جاءت بعض النــــصوص واضحة المعالم بينة الحجة، كمــــا في الفقرة (20) من الفصل (17) من سفر التكوين وفيه: (لقد سمعت دعاءك بخصوص إسماعيل. ها أنا أباركه وأثمره وأجعله كبيراً (أو عظيماً) بما ماد واثني عشر إماماً يكونون من نسله، وسيكون أمة عظيمة)(1).
هذا النص التوراتي جاء استجابةً من الله تعالى لدعاء السيدة هاجر زوجة إبراهيم الخليل لابنها إسماعيل، بعدما عزم إبراهيم (عليه السلام) أن يأخذها وابنها إلى مكة المكرمة بيت الله العتيق، الذي لا زرع فيه ولا ماء.
والنص واضح على ما فيه من الرموز، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله (ص) يقول: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلتُ لأبي: ما قال؟ فقال: (كلهم من قريش)(2).
وجاء في المزمور (72) من مزامير داوود (عليه السلام) ما نصه: (اللهم أعط شريعتك للملك، وعدلك لابن الملك، ليحكم بين شعبك بالعدل، ولعبادك المساكين بالحق. فلتحمل الجبال والآكام السلام للشعب في ظل العدل. ليحكم لمساكين الشعب بالحق، ويخلص البائسين ويسحق الظالم. يخشونك ما دامت الشمس وما أنار القمر على مرالأجيال والعصور. سيكون كالمطر يهطل على العشب وكالغيث الوارف الذي يروي العطشى. يشرق في أيامه الأبرار ويعمُّ الســـلام إلى يوم يختفي القـــمر من الوجود، ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلـــى أقاصي الأرض)(3).
في بداية هذا النص يدعو النبي داوود (عليه السلام) ربه بإعطاء شريعته للملك. وهذا الدعاء لا بد وأن يكون بخصوص الشريعة الخاتمة التي تجمع كافة الأديان السماوية تحت ظلها وتهيمن عليها، كما بيّنت ذلك الفقرات اللاحقة من النص. فهذه الشريعة هي التي ستحكم جميع الأمم والشعوب، لذلك عُبر عن مالكها بـ (الملك).
وجملة (وعدلك لابن الملك) إشارة إلى المخلّص الموعود الذي يحكم بشريعة أبيه التي ستعم العالم، ويملك الأرض من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. فهذه الفقرة جاءت لتؤكد أن المخلّص الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هو ابن صاحب الدين الخاتم الذي تُهيمن شريعته على كافة العالم، وهو النبي محمد (ص) وابنه المهدي كما جاء في الحديث الشريف.
فقد ورد عن علي (عليه السلام) قال: ( قلتُ: يا رسول الله! أمنّا ـ آل محمدـ المهدي أم من غيرنا؟ فقال: لا، بل منّا. يختم الله به الدين كما فتح، بنا يُنقذون من الفتنة كما أنقذوا من الشرك، وبنا يُؤلف الله بين قلوبهم، وبنا يُصبحون بعد عداوة الفتنة إخواناً كما أصبحوا بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم)(4).
وجاء في الإصحاح (46) من سفر أرميا ما نصه: (إصعدي أيتها الخيل، وهيجي أيتها المركبات، ولتخرج الأبطال، فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة الانتقام من مبغضيه فياكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم، لأن للسيد الرب ذبيحةً في أرض الشمال عند نهر الفرات)(5).
يُشير هذا النص إلى واقعة عظيمة عند نهر الفرات، حيث يُذبح هناك أحد أولياء الله المقربين، لأن النص ينسب هذه الذبيحة إلى (الله) مما يدل على سمو مكانته ورفعة مقامه. وسيقوم وليّ لله وهو (السيد ربّ الجنود) بالانتقام لذبح هذا الوليّ المقرّب، ويقتل مبغضيه بعد معارك عنيفة يخوضها ضدهم.
ولم ينقل لنا التاريخ ـ ولا الكتب السماوية ـ أن هناك ولياً لله ذُبح عند الفرات غير الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) والذي يأخذ بثأره هو ولده المهدي (عليه السلام) كما جاء في تفسير الآية (33) من سورة الإسراء عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سئل عن قول الله تعالى: (ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً).
قال (عليه السلام): ذلك قائم آل (بيت) محمد (عليهم السلام) يخرج فيقتل بدم الحسين (عليه السلام) فلو قتل أهل الأرض لم يكن مسرفاً، وقوله (فلا يُسرف في القتل) أي لم يكن ليصنع شيئاً فيكون مسرفاً.
ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): يقتل والله ذراري قتلة الحسين (عليه السلام)(6).
جمع النصارى كتب وأسفار اليهود مع كتبهم وأسفارهم في كتاب واحد أسموه (الكتاب المقدس). وأطلقوا علىهذا الكتاب تسمية (العهد القديم) على كتب وأسفار اليهود، وأطلقوا على كتبهم وأسفارهم (العهد الجديد) أي العهد الذي يبدأ بظهور عيسى بن مريم (عليه السلام) على ساحة الدعوة إلى الله.
آمن النصارى بوجود المخلّص الذي سينقذ البشرية في آخر الزمان، اعتقاداً منهم بما هو موجود في (الكتاب المقدس) وقالوا إنّ المخلّص الموعود الذي بُشرَ به في أسفار العهد القديم ـ والذي أسماه اليهود بالمسيح ـ هو عيسى بن مريم. لذا أطلقوا عليه اسم (السيد المسيح).
حاول علماء النصارى تأويل ما جاء في أسفار العهد القديم، ليبرهنوا على أن شخصية المخلّص الموعود هو نفسه عيسى بن مريم لكنهم واجهوا الكثير من الإشكاليات، لعدم تطابق أوصاف المخلّص الموعود مع أوصاف نبيهم وما جرى معه. كالنص الذي أوردناه فيما تقدم، وهو الفقرة الأولى من المزمور (72) من مزامير داوود وهو :(اللهم أعط شريعتك للملك، وعدلك لابن الملك).
فلم يتمكن النصارى من إعطاء جواب مقنع لهذه الفقرة. فإذا كان عيسى هو صاحب الشريعة فمن يكون ابنه، وهو لم يتزوج أصلاً؟!. وإذا كان هو ابن الملك صاحب الشريعة الذي يبسط سلطانه على ممالك الأرض، فمن هو أبوه؟!.
وهكذا تبقى الإشكاليات في النصوص الأخرى التي أوردناها سابقاً، كذبيحة الربّ في الشمال عند نهر الفرات، وبقية النصوص الأخرى، كالنص التالي الذي جاء في سفر دانيال: (كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحاب السماء مثل ابن الإنسان، أتى وجاء إلى قديم الأيام، فقرّبوه قدامه، فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته مالا ينقرض)(7).
فالنصارى يؤمنون بأن المسيح هو ابن الله، فمن يكون ابن الإنسان؟!. إن ابن الإنسان هو ابن صاحب الشريعة الذي يبسط سلطان شريعة أبيه على كافة الأمم والشعوب، وهو مهدي آل محمد (ًص).
وكذلك عجز النصارى عن تفسير ما جاء في كتبهم وأسفارهم حول المخلّص الموعود، ولم يتمكنوا من تفسيرها تفسيراً منطقياً يُرضي العقل. ومثال ذلك ما جاء في سفر الرؤيا ليوحنا صاحب إنجيل يوحنا، في رؤياه الثانية عشر:
1ـ (وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً.
2ـ وهي حبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد.
3 ـ وظهرت آية أخرى في السماء. هوذا تنين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون وعلى رؤوسه سبعة تيجان.
4ـ وذنبه يجرُّ ثلث نجوم السماء فطرحها إلى الأرض، والتنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتى يبتلع ولدها متى ولدت.
5 ـ فولدت إبناً ذكراً عتيداً أن يرعى الأمم بعصاً من حديد. واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه.
6 ـ ولما رأى التنين أنه طرح إلى الأرض اضطهد المرأة التي ولدت الإبن الذكر.
7ـ فأعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرية، إلى موضعها حيث تُعال زماناً وزمانين ونصف زمان من وجه الحّية.
8ـ فألقت الحية من فمها وراء المرأة ماءً كنهر لتجعلها تُحمل بالنهر.
9ـ فأعانت الأرض المرأة، وفتحت الأرض فمها وابتلعت النهر الذي ألقاه التنين من فمه.
10ـ فغضب التنّين على المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله وعندهم شهادة يسوع المسيح)(8).