ينطلق الإنسان في رحلته ضمن زمن محدود خلال وجوده على هذه البسيطة من منظور قائم على اتّجاهات محسوبة سلفاً من خلال مسلكين ؛ أحدهما يمثل الخطّ المادي ، في حين يندفع الآخر ليرسم ملامح خطّ الروح ، والربط الفعلي بذات الله المتمثّلة بالمعتقدات والعبادات ، بصفتهما يمثّلان خطّي الربط مع الحياة التالية .
ومن هنا فإنّ المرحلة البشرية أوّل ما تبدأ من نقطة واحدة ، ولكن تبدأ باتّجاهين متعاكسين ، وتبقى مسألة تحقيق التوازن بينهما كفيلة بميول واتّجاهات الإنسان نفسه .
إذن ، فالطريق إلى الله سبحانه وتعالى سالكة لكل مَنْ أراد الوصول إليه ، وهذه العبادات تضفي على الإنسان جواً من الإشباع الروحي والفكري ، تجعل منه ينتقل عبر هذه الإحساسات إلى عالم يعتقد من وجهة نظره على الأقل إنّها تحقق له لذّة تصل به إلى درجة الاكتمال حتى ولو معنوياً .
وما إن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة هو بحدّ ذاته يعدّ هدفاً سامياً ، يروم الولوج فيه أي إنسان ، مهمّا كانت حقيقة مرجعيته الثقافية والاجتماعية .
فممارسة العبادات عمليّاً تعجل الإنسان في سفر ضمن الزمن العبادي إلى الله تعالى .
وهذا السفر يخلق لديه نوعاً من الإحساس بالمتعة واللذّة خلال ذلك الزمن ؛ لأنّ أساس الفكرة يرجع إلى أعماق النفس الإنسانية التي تنزح بطبيعة ذاتها نحو البحث عن الحزن والألم ؛ لكونهما من الدوافع الفطريّة والغريزيّة للإنسان ، التي تحس معهما النفس بشيء من تحقيق الذات ، لاسيّما كون الحزن يرتبط بقضية مصيرية ، أو بالتعبير الأدق أبديّة تتعلّق بتحوّل الإنسان عبر مراحل تطوريّة في المجتمع من شكل لآخر ، ومن حالة لأخرى .
هذه التحوّلات تدفع بالإنسان نحو أهداف نبيلة لا تستطيع تذوّق طعمها في وقت ممارستها ، ولكن ربّما يكون على موعد لاحق لتحقيق هذه الأمنيات التي يطمح
الصفحة (2)
الإنسان إلى تحقيقها ؛ بغية الوصول إلى لذّة الكمال المعنوية التي تشكّل نقطة إشعاع وسط عتمة الهبوط .
وكأنّي بالسابح في هذا التيار يثق تماماً بأنّ كلّ المصاعب والمعوّقات التي ربّما تحول دون وصوله إلى هدفه المنشود ، هي بحدّ ذاتها أهدافاً تدفع به إلى عالم الروح .
هذا العالم الذي ينشد كي يرتبط مع رمز الخلود المطلق ، وشعلة الحقّ الأبديّة ، وشعاع الأمل السرمدي ، أبي الأحرار ، ومنار الثوار ، أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .
ومن خلال هذه الرؤية تشعّ فكرة إحياء شعائر هذا الرمز الأبدي ، وهذا العشق السرمدي ، وعندما تنبت فكرة الإحياء في الجذور ، فإنّها تحضر لنفسها مكاناً تمتدّ جذوره إلى أرض الرحمن ، وزمن الملائكة ، ويعلو ساقها إلى أعنان السماء ، وتتفرّع أغصانها بين خبايا الروح ، وتمتاز أوراقها عن خلايا العقل ، ويغذّي ثمرها الجسد بأحلى غذاء ، ويغسل ماؤها كلّ خطايا الجسد الدنيوي ، وحتى إلى درجة يكون الجسد مطابقاً للروح تمام المطابقة ، وكأنّك تشعر بالهجرة والرحيل ، والارتياح من هذه الدنيا المادية إلى عالم الاستقرار والمثال والأبدية .
وهذا العالم له سماته التي تميّزه عن عالمنا ، وهذه السمات تجدها مجسّدة بشخص المحبّ الحسيني .
وهذا العاشق الولهان الذي يفارق جرّاء هذا العشق كلّ عشّاق الدنيا ( الزوجة والابن ، والأمّ والأخ والصديق ) كلّ هذه المعشوقات تهون وتتلاشى إزاء حبّه وعشقه ، وهواه الحسيني .
ومن مجموع هؤلاء العشّاق يتكوّن لدينا كتلة بشريّة لها سمة تختلف عن غيرها من كتل البشر ، وتكون ضمن زمن مستقل عن الزمان ، وفي مكان ينأى عن الأمكنة ؛ لينتج عنها أشبه بحلقة من حلقات إقامة هذه الشعائر ، وهي ما يمكن أن نطلق عليها موكب أحباب الحسين ، أو موكب أنصار الزهراء ، إلى غير ذلك من النقاط المضيئة في زمن يبحث عن الضياء .
الصفحة (3)
وإن نطرق باباً من أبواب هذه الجنان التي ترنو صوب المزن ، وتحدد وتحدو صوب الألق لوجدنا أنموذجاً يقف الفكر أمامه حائراً ، ويسجد له القلم تواضعاً ؛ لأنّه مثال حقّق كلّ الذي جسّدناه من خلال رؤيتنا ، إلاّ إنّ المواكب الحسينية تحقق ما لم تحققه أقوى النظريات الاجتماعية والفلسفية في المجتمع ؛ إذ استطاعت المواكب الحسينية أن تخلق نوعاً من الترابط الاجتماعي قلّ نظيره ، وتؤسس انسجاماً ما بين أنواع وطوائف من المجتمع لا يمكن أن تنسجم حتى في الخيال ، ولكن هذه الأنواع ذابت في بودقة الموكب الحسيني .
ولو طرحنا تساؤلاً كيف استطاع الموكب الحسيني أن يؤسس تلك النظرية الاجتماعية ؟ وما الأسباب التي جعلت منه قادراً على خلق هذا النوع من الترابط الذي يعجز أي منظّر في علم الاجتماع أن يقوم به ؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات ينطلق الكاتب هنا من رؤية واقعية ، وليست نظرية ، من خلال رحلة عشق مع ثلة من عشاق الحبّ الحسيني ، ينتمون إلى مرجعيات ثقافية مختلفة ، لكنّهم يلتقون بعشق واحد وقلب واحد ، وكأنّهم أنموذج رائع ، نشمّ منه عطر الحسين ، تراهم في الحسين (عليه السلام) غيرهم خارج المواكب الحسينية .
هذه الثلة المؤمنة ، رسمت ملامح الوله الحسيني بدلائل واضحة في كلّ جزء من الزمن ، حتى إنّهم كانوا من حيث لا يعلمون يرسمون صورة من صور المجتمع الحسيني ، ولو بجزء متقطّع من الزمان والمكان ، إلاّ إنّهم يمثلون الخطّ الرابط لذلك الجسر الروحي ، الذي يعبر منه كلّ محبّ للحسين (عليه السلام) ؛ سواء أكان من عامّة الناس ، أو من خاصّتهم .
ألا يثير الذهن أنّ الموكب الحسيني يمثّل بؤرة جذب لكلّ حالة من حالات المجتمع ؟ هذه الحالات تجدها أكثر اندفاعاً لا لشيء إلاّ لتثبت أنّها تستطيع أن تحلّق بالركب ، وتنجو من الهلاك من خلال سفينة النجاة والرحمة أهل البيت (عليهم السلام) .
شباب مفعمون لا يعرفون النفاذ ، بل يعشقون النفاذ . شباب يطمعون الوصول إلى الشمس التي لا يرون المسير إليها إلاّ سعادة . تلك الشمس التي تمنح الرحمة
الصفحة (4)
والشفاء ، شمس أبي عبد الله الحسين التي لا ينطفئ نورها ؛ لأنّ زينتها ومصدرها دم الشهادة الذي شرب منه الزمن ، فعشقه الموكب الحسيني مجسّداً بتلك المواكب الخالدة على مرّ العصور .
|