القرينة الاَُولى: اللام في «أهل البيت» للعهد:
لا شك أنّ اللام قد تطلق ويراد منها الجنس المدخول كقوله سبحانه: (إنّ الاِنسان لفي خُسر ). (2)
وقد يطلق ويراد منها استغراق أفراده كقوله سبحانه : (يَا أَيُّها النَّبِيُّ جَاهِدِ
2 . العصر : 2.
[ 15 ]
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . (1)
وثالثة تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلّم والمخاطب.
ولا يمكن حمل اللام في «البيت» على الجنس أو الاستغراق، لاَنّ الاَوّل انّما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة كما يعلم من تمثيلهم لذلك بقوله تعالى: (إِنَّ الاِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ) (2)، ومن المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت ، كما لا يصح أن يحمل على العموم، أي: جميع البيوت في العالم، أو بيوت النبي ، وإلاّ لناسب الاِتيان بصيغة الجمع فيقول: أهل البيوت، كما أتى به عندما كان في صدد إفادة ذلك، وقال في صدر الآية : (وقرن في بيوتكن ) .
فتعين أن يكون المراد هو الثالث، أي البيت المعهود، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص، معهود بين المتكلم والمخاطب، وحينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود، فما هو هذا البيت؟ هل هو بيت أزواجه، أو بيت فاطمة وزوجها والحسن والحسين (عليهم السلام) ؟
لا سبيل إلى الاَوّل، لاَنّه لم يكن لاَزواجه بيت واحد حتى تشير اللام إليه، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص، ولو أُريد واحداً من بيوتهن لاختصت الآية بواحدة منهم، وهذا ما اتفقت الاَُمّة على خلافه.
أضف إلى ذلك أنّه على هذا يخرج بيت فاطمة مع أنّ الروايات ناطقة بشمولها، وانّما الكلام في شمولها لاَزواج النبي كما سيوافيك بيانه.
1 . التوبة: 73.
2 . المعارج: 19.
[ 16 ]
هذا كلّه على تسليم انّ المراد من البيت هو البيت المبني من الاَحجار والآجر والاَخشاب، فقد عرفت أنّ المتعيّـن حمله على بيت خاص معهود ولا يصح إلاّ حمله على بيت فاطمة، إذ ليس هناك بيت خاص صالح لحمل الآية عليه.
وأمّا لو قلنا بأنّ البيت قد يطلق ويراد منه تارة هذا النسق، كما في قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاَُولى ) ، وأُخرى غير هذا النمط من البيت، مثل قول القائل: «بيت النبوة» و «بيت الوحي» تشبيهاً لهما على المحسوس، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها، عدّهم أهلاً لذلك البيت، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر، ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب، وفي الوقت نفسه يفتقد الاَواصر المعنوية الخاصة، ولقد تفطّن العلاّمة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة، فهو يقول في تفسير قوله تعالى: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1)، لاَنّها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والاَُمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وان تسبح اللّه وتمجّده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها: (رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت ) أرادوا انّ هذه وأمثالها ممّا يكرمكم به رب العزة، ويخصّكم بالاَنعام به يا أهل بيت النبوة. (2)
وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الاَواصر الجسمانية لبيت خاص حتى بيت فاطمة، إلاّ أن تكون هناك الوشائج المشار
1 . هود: 73.
2 . الكشاف: 2|107.
[ 17 ]
إليها، ولقد ضل من ضل في تفسير الآية بغير تلك الجماعة عليها السلام، فحمل البيت في الآية على البيت المبني من حجر ومدر مع أنّ المراد غيره.
ولقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف وبين أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) محادثة لطيفة أرشده الاِمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه، قال ـ عندما جلس أمام الباقر (عليه السلام) ـ : لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر (عليه السلام) : «ويحك، أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ * رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ ) (1) فأنت ثم ونحن أُولئك» فقال له قتادة: صدقت واللّه جعلني اللّه فداك، واللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين(2).
وهذه القرينة تحضّ المفسر على التحقيق عن الاَفراد الذين يرتبطون بالبيت بأواصر معينة، وبذلك يسقط القول بأنّ المراد منه أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لاَنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة باتفاق المسلمين بينهم وأقصى ما عندهن انهن كن مسلمات موَمنات.
1 . النور : 36 ـ 37.
2 . الكافي: 6|256 ـ 257.
القرينة الثانية: تذكير الضمائر
نرى أنّه سبحانه عندما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد بضمائر التأنيث، ولكنّه عندما يصل إلى قوله: (إنّما يريد اللّه ليذهب ... ) يغير الصيغة الخطابية في التأنيث ويأتي بصيغة التذكير، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي؟ وإليك نص الآيات:
[ 18 ]
(يا نِسَاءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) . (1)
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الاَُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . (2)
(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ آياتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ إنّ اللّهَ كانَ لَطِيفَاً خَبِيراً ). (3)
ترى أنّه سبحانه يخاطبهن في الآية الاَُولَى بهذه الخطابات:
1. لستن. 2. اتقيتن. 3. فلا تخضعن. 4. وقلن.
ويخاطبهن في الآية الثانية بهذه الخطابات:
1. قرن. 2. بيوتكن. 3. لا تبرجن. 4. أقمن. 5. آتين. 6. أطعن.
كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله:
1. واذكرن . 2. بيوتكن.
وفي الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفاً خاصاً في الخطاب ويقول:
1. عنكم. 2. يطهركم.
فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي ؟!
أو ليس هذا يدل على أنّ المراد ليس نساءه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
1 . الاَحزاب: 32.
2 . الاَحزاب: 33 .
3 . الاَحزاب: 34 .
[ 19 ]
وقد حاول القرطبي التفصّي عن الاِشكال فقال: إنّ تذكير الضمير يحتمل لاَن يكون خرج مخرج «الاَهل» كما يقول لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك ونساوَك؟ فيقول: هم بخير، قال اللّه تعالى: (أتعجبين من أمر اللّه رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت ) . (1)
ولكن المحاولة فاشلة فانّ ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب، إنّما إذا تقدّم «الاَهل» وتأخّر الضمير، دون العكس كما في الآية، فإنّ أحد الضميرين مقدّم على لفظ «الاَهل» في الآية كما يقول: (عنكم الرجس أهل البيت ) .
وأمّا الاستشهاد في الآية فغير صحيح، لاَنّ الخطاب فيها لاِبراهيم وزوجته، فيصح التغليب تغليب الاَشرف على غيره في الخطاب والمفروض في المقام انّ الآية نزلت في زوجاته ونسائه خاصة فلا معنى للتغليب.
نعم انّما تصح فكرة التغليب لو قيل بأنّ المراد منه، هو أولاده وصهره وزوجاته، وهو قول ثالث سنبحث عنه في مختتم البحث، وسيوافيك انّ بقية الاَقوال كلها مختلقة لتصحيح الاِشكالات الواردة على النظرية الثانية، فلاحظ.
1 . جامع الاَحكام: 14|182.
القرينة الثالثة: الاِرادة تكوينية لا تشريعية
سيوافيك الكلام عند البحث في سمات أهل البيت، انّ من سماتهم، كونهم معصومين من الذنب وذلك بدليل كون من الاِرادة في قوله: (إنّما يريد اللّه ... ) الاِرادة التكوينية، التي لا ينفك المراد فيها عن الاِرادة وتكون متحقّقة وثابتة في الخارج، وبما أنّ المراد هو إذهاب الرجس وإثبات التطهير وتجهيزهم
[ 20 ]
بالاَسباب والمعدّات المنتهية إلى العصمة، فلا يصح أن يراد من أهل البيت أزواج النبي ، إذ لم يدّع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب ومطهرات من الزلل . فلا مناص عن تطبيقه على جماعة خاصة من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقّق فيهم تعلّقهم بالاَسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلاّ على الاِمام علي وزوجته والحسنين (عليهم السلام) ، لاَنّ غيرهم مجمع على عدم اتصافهم بهذه الاَسباب.
القرينة الرابعة انّ الآيات المربوطة بأزواج النبي تبتدىَ من الآية 28 وتنتهي بالآية 34 ، وهي تخاطبهن تارة بلفظ «الاَزواج» ومرتين بلفظ «نساء النبي» الصريحين في زوجاته، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ «أهل البيت» فإنّ العدول قرينة على أنّ المخاطب به غير المخاطب بهما .
أهل البيت في كلام النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
قد وقفت على المراد من أهل البيت في الآية المباركة من خلال دراسة مفردات الآية وجملها وهدفها.
وهناك طريق آخر للتعرّف عليهم، وهو دراسة الاَحاديث الواردة في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّها تكشف عن وجه الحقيقة، فنقول: إنّ للنبي الاَكرم عناية وافرة بتعريف أهل البيت لم ير مثلها إلاّ في أقلِّ الموارد، حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة سيوافيك بيانها، كما أنّ للمحدّثين والمفسرين وأهل السير والتاريخ عناية كاملة بتعريف أهل بيت نبيه ص في مواضع مختلفة حسب المناسبات التي تقتضي طرح هذه المسألة، كما أنّ للشعراء الاِسلاميين المخلصين في طوال قرون، عناية بارزة ببيان فضائل أهل البيت والتعريف بهم، والتصريح بأسمائهم
[ 21 ]
على وجه يظهر من الجميع اتفاقهم على نزول الآية في حق العترة الطاهرة، وسيوافيك نزر من شعرهم في مختتم البحث.
كل ذلك يعرب عن أنّ الرأي العام بين المسلمين في تفسير أهل البيت هو القول الاَوّل، وانّ القول بأنّ المقصود منهم زوجاته كان قولاً شاذاً متروكاً ينقل ولا يعتنى به، ولم ينحرف عن ذلك الطريق المهيع إلاّ بعض من اتخذ لنفسه تجاه أهل البيت موقفاً يشبه موقف أهل العداء والنصب.
قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعريف أهل البيت بطرق ثلاثة نشير إليها:
1. صرّح بأسماء من نزلت الآية في حقّهم حتى يتعين المنزول فيه باسمه ورسمه.
2. قد أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء، ومنع من دخول غيرهم، وأشار بيده إلى السماء وقال: «اللّهم إنّ لكل نبي أهل بيت وهوَلاء أهل بيتي» كما سيوافيك نصه.
3. كان يمر ببيت فاطمة عدة شهور، كلّما خرج إلى الصلاة فيقول: الصلاة أهل البيت: (إنَّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) .
وبهذه الطرق الثلاثة حدّد أفراد أهل البيت وعين مصاديقهم على وجه يكون جامعاً لهم ومانعاً عن غيرهم، ونحن ننقل ما ورد حول الطرق الثلاثة في التفسيرين: الطبري والدر المنثور للسيوطي، ثم نأتي بما ورد في الصحاح الستة حسب ما جمعه ابن الاَثير الجزري في كتابه «جامع الا َُصول» وأخيراً نشير إلى الجوامع التي جمعت فيها أحاديث الفريقين حول نزول الآية في حق الخمسةالطيبة، ونترك الباقي إلى القارىَ الكريم، فإنّ البحث قرآني لا حديثي والاستيعاب في الموضوع يحوجنا إلى تأليف مفرد.