بسم الله الرحمن الرحيم
هي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الوحيد بن كلاب بن ربيعة العامري . أهلها من سادات العرب وأشرافها وزعماؤها ، وهم أبطال مشهورون ، ويعرّفنا التاريخ بأنّ أبناءها من فرسان العرب في الجاهلية ، ولهم الذكريات المجيدة في المغازي بالفروسية والبسالة مع الزعامة والسؤدد حتى أذعن لهم الملوك ؛ فإنّ من قومها أبا عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب جدّ تهامة والدة أم البنين ، وهو الجدّ الثاني لأم البنين . قيل : ملاعب الأسنّة ؛ لفروسيته وشجاعته .
يلاعبُ أطرافَ الأسنّةِ عامرُ فراحَ لهُ خطُّ الكتائبِ أجمعُ
وهذه المرأة النبيلة الصالحة ، ذات الفضل والعفة ، والصيانة والورع والديانة ، كريمة قومها ، وعقيلة أسرتها ، فهي تنتمي لأشرف القبائل العربية شرفاً ، وأجمعهم للمآثر الكريمة ، التي تفتخر بها سادات العرب . وهم الذين عناهم عقيل بن أبي طالب ، وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم ( ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس ) ، فحق لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يرغب في الوصلة الصهرية بهم ؛ لأنّ البنت التي قد ولدها مثل هؤلاء الأبطال الشجعان لجديرة أن تنجب فيما تلد ، ولا تلد إلاّ شجاعاً بطلاً ، قد ضم بين طرفي البطولة والفروسية عمومة وخؤولة . فقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لأخيه عقيل : (( اختر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ؛ لأتزوّجها لتلد لي غلاماً فارساً )) .
ولِما أشار صاحب الشريعة الحقّة بقوله : (( الخال أحد الضجيعين ، فتخيّروا لنطفكم )) ، فقد أنجبت هذه المرأة المحترمة أعظم الرجال شجاعة وثباتاً وإقداماً ، وهو حري بتلك الشجاعة الباهرة ؛ لأنّهم معروفون فيها من كلا طرفيه .
فقد تزوّج أمير المؤمنين (عليه السلام) أم البنين ( فاطمة ) بعد وفاة الصدّيقة سيّدة النساء فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ، وأنجبت له أربعة بنين ، هم ؛ العباس المسمّى بالسقا ، ويسمّيه أهل النسب أبا القربة ، وصاحب راية الإمام الحسين (عليه السلام) ، وعبد الله وعثمان وجعفر ، وقد استشهدوا جميعاً مع الإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة كربلاء يوم عاشوراء ، ولا بقيّة لهم إلاّ من العباس . كانت أم البنين من النساء الفاضلات ، العارفات بحقّ أهل البيت ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودّتهم ، ولها عندهم الجاه الوجيه ، والمحل الرفيع ، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة المنورة تعزيها بأولادها الأربعة ، كما كانت تزورها أيّام العيد ، وبلغ من عظمتها ، معرفتها وتبصرتها بمقام أهل البيت ، إنّها لمّا دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان الحسنان مريضين أخذت تلاطف القول معهما ، وتلقي إليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب ، وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما ، وتخضع لهما كالأمّ الحنون ، ولا بدع في ذلك ؛ فإنّها ضجيعة شخص الإيمان ، قد استضاءت بأنواره ، وربت في روضة أزهاره ، واستفادت من معارفه ، وتأدّبت بأدبه ، وتخلّقت بأخلاقه . ولا أريد إطالة في المقدّمة التمهيدية عن هذه السيّدة الجليلة التي حباها الله إرثاً أصيلاً في الشرف والسيادة ، والرفعة والمكانة ، فهي فاطمة بنت حزام الكلابية . فإنّ قومها ورهطها من الأعمام والأخوال يتمتّعون بكلّ خصلة فاضلة جليلة ، وحباها الله كذلك مجداً وشرفاً لاحقاً جاءها بعد زواجها من أسد الله وأسد رسوله ، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فكانت بذلك أفضل امرأة ـ من غير البيت النبوي الشريف ـ تحوز على الشرف والمجد والرفعة من كلّ جانب ، ولندخل في رحاب سيرتها الذاتية ؛ بغية إعطاء صورة للقرآء الكرام .
اسمها الكريم هي فاطمة بنت حزام أبو المحل بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب . وأمّها تمامة بن سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب . ولدت على الأرجح بعد الهجرة بخمس سنين ، وتوفيت في 13 جمادي الثانية يوم الجمعة عام 64 بعد مقتل الحسين (عليه السلام) ، على ما تذهب إليه بعض الروايات .
أولادها رزقت من علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أربعة بنين : 1ـ العباس بن علي بن أبي طالب : المولود 4 شعبان 26هـ . 2ـ عبد الله بن علي بن أبي طالب : عمره يوم الطفّ خمس وعشرون سنة . 3ـ عثمان بن علي بن أبي طالب : كان يوم الطفّ ابن ثلاث وعشرين سنة . 4ـ جعفر بن علي بن أبي طالب : وهو أصغرهم يوم الطفّ . قومها لا يختلف اثنان في شجاعة قومها وبسالتهم ، ونجدتهم وإقدامهم في ساحة الحرب والميدان ، فمنهم : مالك بن البرّاء ملاعب الأسنة . ومنهم : عامر بن الطفيل ، وهو يضمّ الكرم والسخاء إلى النجدة والفروسية ، وفي قول عقيل لأخيه الإمام علي (عليه السلام) لمّا أراد الزواج ، فأشار عليه بأم البنين . قال الإمام علي (عليه السلام) مخاطباً عقيل ، وكان نسّابة ، عالماً بأخبار العرب وأنسابهم : (( أبغني امرأة قد ولدتها الفحول من العرب ؛ لأتزوّجها فتلد لي غلاماً أسداً )) ، فقال له عقيل : أين أنت من فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية ؟ فإنّه ليس في لعرب أشجع من آبائها ولا أفرس .
ما جاء في سمو شخصيتها لمّا دخلت بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت ترعى أولاد الزهراء (سلام الله عليها) أكثر ممّا ترعى أبناءها ، وتؤثرهم على أولادها ؛ تعويضاً لما أصابهم من حزن ، وفقدان حنان لموت أمّهم الزهراء البتول . وقالت يوماً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يا أبا الحسن : نادني بكنيتي المعروفة ( أم البنين ) ، ولا تذكر اسمي ( فاطمة ) ، فقال لها الإمام (عليه السلام) : (( لماذا؟ )) قالت : أخشى أن يسمع الحسنان ، فينكسر خاطرهما ، ويتصدّع قلبهما لسماع ذكر اسم أمّهما ( فاطمة ) .
فأيّ امرأة جليلة مؤمنة ، صابرة صالحة وقور هذه المرأة ( طيّب الله ثراها ، ونوّر ضريحها ) ؟ لذا صار لها جاه عظيم ، وشأن كريم عند الله ، وعند رسوله ، وأهل بيته الغرّ الميامين ، فما توجّه إنسان إلى الله العلي العظيم وسأله بحقّها إلاّ قضيت حاجته ، ما لم تكن محرّمة ، أو مخالفة للمشيئة الإلهية . ولذلك أغرم الناس بها ، وخاصّة أهل النجف ، فتراهم يعقدون المجالس ، ويطعمون الطعام ، ويوزعون الحلوى في ثوابها . ومن باب عرفان الجميل ومقابلة الإحسان بمثله [ فقد ] ورد عن الزهراء (سلام الله عليها) يوم الحشر تخرج من تحت عباءتها كفين مقطوعين ، وهما كفّا أبي الفضل العباس (عليه السلام) وتقول : (( يا عدل يا حكيم ، احكم بيني وبين مَنْ قطع هذين الكفّين )) .
ولمّا دخلت السيّدة زينب (سلام الله عليها) المدينة بعد قتل الحسين ، والرجوع من السبي والتقت نظراتها بنظرات أمّ البنين صاحت : وا أخاه ! وا عباساه ! فأجابتها أمّ البنين : وا ولداه ! واحسيناه ! وأمّا ما ورد في شأن عبادتها وصلاتها ، وتوجّهها إلى الله ، وتفويض الأمر إليه ، فهو شيء جليل مهمّ في سلوك هذه المرأة الحرّة الشريفة الكريمة ، ذات الجذر الكريم الأصيل في شتى المكارم والفضائل والسجايا الطيّبة . يقول أحد الدارسين لشخصيّة أمّ البنين (سلام الله عليها) : إنّ سير العظماء في تاريخ الإسلام ، أعلام إنسانيّة باذخة ، يكبرها لمسلم وغير المسلم ، وإنّ أمّ البنين كانت أقوى جرأة وشجاعة ، وأصلب المؤمنات على تحمّل الصعاب ، تطلب المجد والكرامة ، والمجد لا ينال إلاّ بالمصاعب ، وركوب المخاطر ، والتضحية والاستبسال . لقد كانت أمّ البنين القدوة الحسنة ، والمثل الأعلى الذي يُحتذى [ به ] ، وكانت عنواناً للثبات والإخلاص ، والبسالة والتضحية ، والفداء والشرف ، والعزّة والكرامة في سبيل الحقّ والعدالة . هذه السيّدة المصون ما إنْ بلغها مقتل الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء [ حتى ] خنقتها العبرة ، فكانت تبكي بكاء الثكالى ، صباح مساء ، تعبيراً عن مشاعرها وأحزانها . فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، وليضجّ الضاجّون . إنّ في حياة هذه السيّدة الجليلة أخباراً طريفة ، وآثاراً ممتعة ، جعلتها مثالاً صالحاً ، وقدوة حسنة في المعارف والصلاح ، وإجابة لله وللرسول الكريم حين أمر محمداً (صلّى الله عليه وآله) بودّ أهل البيت وحبّهم ، وولايتهم والاتّباع لهم ، والتمسّك بعروتهم . وجدير بكلّ مسلم أنْ يتبع ، ويتمثل أمر ربّه ، وأمر رسوله الناصح الأمين ، وأن لا يعدل عن هذا الأمر قيد أنملة . وثمّة شيء ينبغي أن يعرف ، وهو قد كان لسعة اطّلاعها في الأمور ، وإخلاصها الكريم ، وماضيها المجيد ، أثر حاسم في تعلّق الناس بها ، وثقتهم ومحبّتهم التي لا حدّ لها بشخصها ، فاستطاعت بحكمتها وصبرها ، وبُعد نظرها التغلب على كلّ الصعاب . وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ [ على ] حنكتها وجلدها ، ومعدنها الأصيل ضمن إطار الأخلاق العربية ، والتربية الإسلامية الأصيلة ، وتقاليدها في التعامل مع الجمهور في احترامها لهم ؛ لأنّ المرأة عظيمة المنزلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في العلم والحلم ، والمعارف والصلاح . عظيمة المنزلة عند الناس . ويظهر للمتتبّع لأخبار أمّ البنين إنّها كانت مخلصة لأهل البيت ، متمسّكة بولايتهم ، عارفة بشأنهم ، مستبصرة بأمرهم ، فكانت هذه المبجّلة قد أضاءت طريق الإصلاح ، والإصلاح لحالها من دور مهمّ في أحداث التاريخ العربي والإسلامي .