محاولة طمس الحقيقة لولا... :
إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الاِسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الاِمام علي (عليه السلام)
1 . البقرة: 207.
2 . شواهد التنزيل: 1|130؛ أُسد الغابة:4|25.
3 . سبط ابن الجوزى: تذكرة الخواصّ: 25، ط عام 1401هـ.
[ 111 ]
وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والاِيثار، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات، كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.(1)
إنّ هذه الحقيقة ممّا لا ينسي أبداً، فانّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلاّ أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الاَوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.
إنّ معاداة معاوية لاَهل بيت النبوة وبخاصة للاِمام أمير الموَمنين علي (عليه السلام) ممّا لا يمكن النقاش فيه.
فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاَكاذيب، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.
فقد عمد«سمرة بن جندب» الذي أدرك عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ انضمّ بعد وفاته ص إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق لغاية أموال أخذها من الجهاز الاَموي، الحاقد على أهل البيت.
فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي (عليه السلام) ، ويقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليّ ( أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، ويأخذ في مقابل هذه الاَُكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفضيع الذي أهلك به دينه، مائة ألف درهم.
فلم يقبل «سمرة» بهذا المقدار ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك، فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوَّداً
1 . الغدير:2|48.
[ 112 ]
بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل، وذلك عندما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.(1)
وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً انّ (عبد الرحمن بن ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ؟!
ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تُنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.
فقد زالت حكومة معاوية وزال معها أعوانها ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهدها المشوَوم، وطلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى، واعترف أغلب ُالمفسرين الاَجلّة والمحدّثين الاَفاضل ـ في العصور والاَدوار المختلفة ـ بأنّ الآية المذكورة نزلت في «ليلة المبيت» في بذل علي (عليه السلام) ومفاداته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه.
1 . لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:4|73.
[ 113 ]
من سمات أهل البيت (عليهم السلام) : 5 - الاِيثار
إنّه سبحانه تبارك وتعالى وصف الاِيثار في كتابه الكريم وهو من صفات الكرام حيث يقدِّمون الغير على أنفسهم، يقول سبحانه في وصف الاَنصار:(وَالّذِينَ تَبَوَّءُو الدّارَ وَالاِِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّون َ مَنْ هاجَرَإِليْهِمْ وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهمْ حَاجةً مِمّا أُوتوا ويُوَْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْكانَ بِهِمْ خَصاصَة وَمَنْ يوقَ شُحَّ نَفْسهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ).(1)
كما أنّه سبحانه أمر بالوفاء بالنذر، قال سبحانه: (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نذر فَانَّ اللّهَ يعلمهُ ) (2)، وقال سبحانه: ثُمَّ لْيقضُوا تَفثهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورهُمْ ). (3)
وفي الوقت نفسه ندب إلى الخوف من عذابه يقول سبحانه:(يَخافُونَ يَوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوب وَالاََبْصار... ).(4) وقال سبحانه: وَالّذِينَ يصلُونَ ما أَمَر اللّهبهِ أَنْ يُوصل وَيَخشونَ ربّهم ويخافُونَ سُوء الحِساب ) .(5)
1 . الحشر:9.
2 . البقرة: 270.
3 . الحجّ: 29.
4 . النور: 37.
5 . الرعد: 21.
[ 114 ]
ما ذكرنا من الصفات الثلاث هي من أبرز الصفات التي يتحلىّ بها أولياوَه سبحانه، ونجد هذه الصفات مجتمعة في أهل البيت (عليهم السلام) في سورة واحدة، يقول سبحانه:
(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوما ًكانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً xوَيطعِمُونَ الطَّعام عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسيراًx إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه لا نُريدُ مِنْكُمْ جزاءً وَلا شكوراًx إِنَّا نَخاف مِنْ رَبِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَريراً ).(1)
فقوله سبحانه :(ويُطْعِمُونَ الطَّعام عَلى حُبِّه ) إشارة إلى إيثارهم الغير على أنفسهم، والضمير في (عَلى حُبِّهِ ) يرجع إلى الطعام أي انّهم مع حبّهم للطعام قدَّموا المسكين على أنفسهم، كما أنّ قوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْر... ) إشارة إلى صلابتهم في طريق إقامة الفرائض.
ثمّ قوله: (وَيَخافُونَ يَوماً ) إشارة إلى خوفهم من عذابه سبحانه يوم القيامة.
وقد نقل أكثر المفسرين لو لم نقل كلّهم، انّ الآيات نزلت في حقّ أهل البيت (عليهم السلام) .
روي عن ابن عباس (رض) : انّ الحسن والحسين (عليهما السلام) مرضا فعادهما رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أُناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لونذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن شفاهما اللّه تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي (عليه السلام) من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص
1 . الاِنسان: 7 ـ 10.
[ 115 ]
على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنة، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلاّالماء وأصبحوا صائمين.
فلماّ أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم ووقف عليهم يتيم فآثروه، وجاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي (عليه السلام) بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) و دخلوا على الرسول ص فلماّ أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك.
فنزل جبرئيل (عليه السلام)و قال: خذها يامحمّد هنّأك اللّهُ في أهل بيتك، فاقرأها السورة.(1)
روى السيوطي في الدر المنثور، وقال: اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: (ويُطعمون الطَّعام على حُبِّهِ ) الآية، قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول اللّه «(صلى الله عليه وآله وسلم).(2)
ورواه الثعلبي في تفسيره، وقال: نزلت في علي بن أبي طالب و فاطمة (عليهما السلام) وفي جاريتهما فضة، ثم ّذكر القصة على النحو الذي سردناه لكن بصورة مبسطة.
وقال: وذهب محمّد بن علي صاحب الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه المعروف بـ«البلغة» انّهم (عليهم السلام) نزلت (عليهم السلام) مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيّام، وحديث المائدة ونزولها عليهم في جواب ذلك
1 . الكشاف: 3|297؛ تفسير الفخر الرازي: 30|244.
2 . الدر المنثور:8|371، تفسير سورة الاِنسان.
[ 116 ]
مذكور في سائر الكتب.(1)
وقد سرد سبب نزول هذه الآية في حقّ أهل البيت (عليهم السلام) غير واحد من أئمّة الحديث.(2)
1 . ابن البطريق: العمدة: 2|407ـ 410.
2 . شواهد التنزيل للحافظ الحاكم الحسكاني:2|405 ـ 408؛ أُسد الغابة: 5|530؛ مناقب ابن المغازلي:272.
[ 117 ]