إن من المحطات الملفتة في هذه السورة المباركة، السورة التي تعلمنا درس العفة، ودرس التفويض إلى الله عز وجل، ودرس أن الله عز وجل يقلّب عباده بين يدي مشيئته: عسر فيسر، أو يسر فعسر؛ كي يعلم العبد أن المدبر هو رب العالمين.
انظروا إلى هذا الملك الذي حكم على يوسف بالسجن، بعدما رأى الآيات!.. وهذا القلب الذي قسى، إلى درجة أن يلقي في غياهب السجون عبدًا صالحًا، مثل يوسف رغم انكشاف الآيات: شهادة الشاهد، والقميص الذي قُدّ من دبر.. ولكن سبحان من يقلّب القلوب!.. وسبحان الذي يجعل القلوب عاليها سافلها!.. فـ(قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)، إن الله عز وجل خلق القلب، ولم ينفِ عن نفسه حق التصرف في القلوب.
وإذا بالملك يقول: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾.. ليس إخراجٌ من السجن، ولا عفوٌ عن ذنب فحسب!.. وإنما استخلاصٌ واتخاذه من خواص بلاطه.. ولما كلمه قال: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾.. إن الأمور مرهونة بأوقاتها، فالله عز وجل في ذلك اليوم، لم يتصرف في قلب العزيز أو الملك، ولو أراد لقلّب فؤاده كما قلّبه اليوم.. ولكن الله عز وجل له حكمةٌ، ويعلم كيف يصرّف الأمور.
ولا شك أن الفترة التي قضاها يوسف بالسجن، كانت من الفترات المتميزة في حياته -صلوات الله وسلامه عليه.. إن النبي يوسف إلى حد كبير يشبه النبي سليمان، في أنهما عاشا المُلك الدنيوي والمُلك الأخروي.. وكذلك إمامنا المهدي -صلوات الله وسلامه عليه- سيُجمع له الملك الظاهري والملك الباطني.
وأخيرا جاءه الفرج!.. فإذن، إذا رأيت أن حاجتك بيد ظالم، فلا تقل بأن هذا الظالم لا يستجيب لأمر الله تعالى!.. وإنما عليك أن تسأل رب العالمين، أن يقلّب فؤاده، كما قلّب فؤاد فرعون موسى، وكما قلّب فؤاد هذا الرجل، هذا الملك العزيز الذي حكم ما حكم.
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء﴾.. ولعل هناك مقابلة جميلة بين كلمة ﴿حَيْثُ يَشَاء﴾ وبين البئر والسجن.. فيوسف أمضى لحظات من حياته في ذلك البئر الموحش، وسنوات من حياته في ذلك السجن الموحش.. والآن عكس ذلك تماما، من البئر والسجن، وإذا به يتبوأ منها حيث يشاء.
﴿وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾.. ومع ذلك، فإن القرآن ينفي هذا التوهم.. أي صحيح أن يوسف (ع) أصبح معززا، ومكرما، وعلى خزائن الأرض.. ولكن لا ينبغي التوهم أن هذا ليس من جزاء المؤمن في شيء، فالجزاء الأعظم إنما هو في الدار الآخرة.
إن الله عز وجل يريد أن يجمع شمل يوسف مع أخيه من أمه.. فانظروا إلى الترتيبات الإلهية الغريبة!.. ﴿وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾.. لقد تعرف عليهم يوسف، إما بعلم بشري أو بتعريف إلهي.
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾.
أولا: عمد إلى التهديد، فهو على خزائن الأرض، ويتصرف كيفما يشاء: ﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾.
ثانيا: عندما أرادوا الذهاب ﴿قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا﴾.. فقد جعل الثمن الذي دُفِع للعزيز أو للدولة في ضمن بضاعتهم، فجمعوا بين الثمن والمثمن.. وعندما رجعوا إلى بلادهم، رأوا بأن هذا الملك هدّدهم، وفي نفس الوقت عرّفهم بأنه حاكم كريم، فقد أكرمهم بإعطائهم البضاعة مع ثمنها.
وهذا أيضا من موجبات الإغراء، حيث أن هناك تهديدا، وهناك تطميعا: إذا جئتم لي بأخيكم من أبيكم، فأنتم لكم الكيل، وأنتم ستواجهون إنسانًا كريمًا مثلي.
فذهبوا إلى يعقوب، وهنا يعقوب أسرّ ما في نفسه: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.. استسلم يعقوب هذه المرة أيضا لطلب أبنائه، ولكنه لم ينس أخذ المواثيق منهم، ومع ذلك فوّض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، فقد جمع بين ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾ وبين قوله: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾.. وهذه هي سياسة المؤمن، وهذا تدبير بشري، يحاول أن يأخذ المواثيق.. ولهذا فإننا مأمورون إذا أعطينا دَينا لإنسان مسلم أو غير مسلم، مؤمن أو غير مؤمن، أن نكتب ذلك الدَّين.
وعليه، فإن على المؤمن أن يحاول في حياته العملية، أن يُحكم أموره، وأن يضبط شؤونه، وأن يبرمج ويخطط للمستقبل.. فلا مانع من أن يكون المؤمن إنسانا دنيويا من حيث التخطيط.. (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
فإذن، إن على المؤمن أن يتعلم من يعقوب هذين الدرسين: ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظً﴾ و ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ﴾.. فمثلا: تريد أن تسلم سيارتك لولدك، وتخاف من أن يسيء الاستفادة، فقل: ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظً﴾، فليسافر، ولكن اشترط عليه ألا يسيء التصرف في هذه الأموال.
إن نبي الله يحتاط، فقد أمرهم بعدم الدخول من باب واحد ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾.. هنا يقال: بأن يعقوب –عليه السلام- أراد دفع الحسد عنهم.. ومسألة الحسد ذكرها القرآن الكريم تصريحًا: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾.. فهنالك أمور لا نعلمها، وقد كان النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- يُعوِّذ ولديه الحسن والحسين.
وعليه، فإن هذه الآية أيضا فيها إشارة لهذه الناحية، وإلا أنه كان يخاف من إلقاء القبض عليهم، فإن هذا الاحتمال غير وارد.. لأن يوسف دعاهم للرجوع، وهم على تنسيق معهم، وذهبوا ليأخذوا الكيل، وليس هناك ما يوجب الخوف.. يبدو أن الذي يرجح من الآية هذا الخوف المعنوي بالنسبة لأولاده.
﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾.. فيعقوب -وهو مستجاب الدعاء- لا يغني عنهم من الله من شيء، حيث يقول: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
وفي الآيات اللاحقة يُطلب من يعقوب أن يستغفر لهم ﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ فيعقوب قبِل المهمة وقال: ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.. أيضًا هنا درس بليغ، وهو أن النبي دعاؤه مستجاب، ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ﴾.. فقد جعلوه وسيطا بينهم وبين الله عز وجل، كما نخاطب النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله- عندما نعترف بظلم أنفسنا، ونطلب من النبي أن يستغفر لنا، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾.
فإذن، إن الأنبياء بأنفسهم لا يغنون عنا شيئا، كما قال يعقوب.. ولكن إذا صاروا وسطاء، وإذا شَفََّعوا، أو تشفعوا، وإذا أصبحوا السبب المتصل بين الأرض والسماء.. فلا مانع من ذلك، كما نلاحظ في هذه السورة.
﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.. ولعل أيضا يعقوب عندما قال: ﴿وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾.. قيل: حتى يستفرد بهم يوسف.. فلما دخل عليه أخوه من أبيه وأمه قال له: ﴿إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾.. وهذه حكمة أخرى من حكم الدخول من أبواب متفرقة.
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾.. إن هذه من الآيات الغريبة في القرآن الكريم، يريد يوسف أن يبقي أخاها عنده، فجعل السقاية في رحلِه ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾.. فتعجب إخوة يوسف؛ فهم لم يسرقوا شيئا، كفتْهم السرقة التأريخية القديمة، ولكن الآن لم يأخذوا شيئا.
﴿قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾.. فقال الشرطة أو الأعوان: ﴿فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾، أي هذا يُستَرَّق ويُستَعبد، لثقتهم بأنفسهم أنهم لم يأخذوا شيئا.
﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ﴾ لئلا تتوجه إليه التهمة ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ﴾.. فقال: ما دام وجدنا الصواع في رحال هذا الأخ، فعليه أن يكون عبدا مُسترقـًّا، فأُخذ من بين الإخوة، وانضم إلى أخيه يوسف عليهما السلام.. ويقال: بأن هذا مع تنسيق مع يوسف، وتدبير بينه وبين أخيه.. فرب العالمين أراد أن يستل هذا الأخ من بين الأخوة، ويرجعه إلى أخيه يوسف، ولكن بهذا التدبير!..
الآن كيف نوفق بين مسألة الاتهام بالسرقة، وهو لم يسرق شيئا؟.. واضح أن القضية فيها تمثيل، لأخذ هذا الولد؛ لأنه ليس هناك سبيل لأجل إبقائه إلا هذه الحركة -فالعلم عند الله عز وجل- يقول بعضهم: بأن هذه التهم، لم تكن من يوسف.. فهؤلاء الذين كانوا مع يوسف، فقدوا صواع الملك، فبظنهم أن الصواع قد سُرق.. والحال أنه نُسِّـق مع هذا الأخ على اعتقادهم أنه سُرِق، فالآية تذكر ذلك.
وعلى كلٍّ إن الله عز وجل فعّال لما يشاء، فله طرقه التي لا تأتي بالبال من أجل أن ينفذ أمره.. فهذه الحركات من كان يهتدي لها؟.. وهذه التمثيلية من كان يتقنها أو يكتبها، لأجل أن يجمع بين يوسف وبين أخيه؟..
إن يوسف أخذ أخاه الذي من أبيه وأمه، فأخذوا يلتمسونه ﴿قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.. فهم مُتَّهمون، ولهم تجربة سابقة مع أبيهم، إذ سرقوا يوسف (ع).. ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ﴾.. فالأحداث كلها سيقت لأجل تثبيت هذا الأمر، وهم صدقوا هذه التمثيلية.. ﴿ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى وصف القرآن الكريم لحالة يعقوب: ﴿وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾.. فلا زال يتذكر ولده، الذي كان فيه سيماء الأنبياء، وجمال الخلق ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.. إن البعض قد ينظر إلى هذه الآيات، ويرى أنه لماذا يبالغ يعقوب في هذا الحزن؟.. والحال أن هذا الولد رجع إليه أخيرا!..
إن هذا درس العاطفة، ودرس الحنان: فالإنسان المؤمن يتألم لما يرِد عليه.. إن الإمام السجاد –عليه السلام- كان يبكي صباحا ومساء، عندما كان يُعطى شربة من الماء، فيتذكر أباه الذي قُتل عطشانًا على صعيد كربلاء.. وعندما ينظر إلى شاة تُذبح.. فحقَّ له ذلك؛ لأن عاطفة الإمامة من أقوى العواطف، وخاصة أن المفقود ولي من أعظم أولياء الله عز وجل.
فهل حَقّ ليعقوب أن يبكي للفراق، ولم يحق لأئمتنا –عليهم السلام- أن يبكوا هذا البكاء، لما وقع من القتل، والتشريد، والسبي لبنات النبوة صلوات الله وسلامه عليهم؟..
إن يعقوب –عليه السلام- يعطينا درسا آخر في مسألة الصبر، وعدم اليأس من رَوح الله.. يقول: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ﴾.. لأن يعقوب يعلم بأن ولده لم يمت، ويعلم أنهم جاءوا بدم كذب.. هو له ولد ٌمفقود، فله الأمل في أن يصل إلى مفقوده ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
فلو أننا تشبهنا بيعقوب –عليه السلام- تجاه مسألة غيبة الولي.. هذا الإمام الذي نراه يعيش بين ظهرانينا، ويشهد حَجنا، يشهد مجالسنا، ويدعو لنا، وفي ليالي القدر تُعرض أعمالنا عليه.. فيعقوب –عليه السلام- لفراق هذا العزيز ﴿ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.. لذا، فإنه يتوجب علينا أن نعيش هذه الحالة من الفقد، تجاه صاحب الأمر صلوات الله وسلامه عليه.. هذا الإمام الذي لو ثُنيت له الوسادة، ولو أُعطيت له مقاليد الحكم، ولو حكم في الأمة.. لأرجع كل شيء إلى نصابه، ولرفع هذا الذل الذي أصاب المسلمين، لفقدهم هذه القيادة الإلهية.. فأكثروا من الدعاء له بالفرج!.. وتشبهوا بيعقوب عليه السلام.. إن أحدنا لا يصل إلى هذه الدرجة، أن تبيض عيناه من الحزن فهو كظيم.. ولكن أن يتألم، وأن لا ييأس من روح الله عز وجل، وأن يدعو للقاء به في دولته الكريمة.. فنحن نحب أن نلتقي به في موقف من المواقف، و لكن اللقاء الأعظم، واللقاء الأبرك، هو ذلك اللقاء الذي يكون فيه فرج الأمة، وعندما يُري نفسه الأمة، ويُري نفسه أهل الأرض: مسلمهم وكافرهم.
على كلٍّ، فإن لسان حالنا دائما هذه العبارات، التي ذكرها إخوة يوسف عندما دخلوا عليه قالوا: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾.. فقد دخلوا من باب الاستعطاف، فهم قومٌ اتُهموا بالسرقة، ولهم سابقةٌ غير حسنة.. ولكن هنا دخلوا من باب الذل، والاستعطاف، والتصدق.. وكما هو معلوم أن الصدقة لا معاملة في البين، فليست هنالك بضاعة وثمن ومثمن.. فالمتصدق يعطي المال جزافا، ويعطي المال بلا عوض، ويعطي المال بلا استحقاق.. فهذه هي الصدقة، وإلا كان في الأمر معاملة، ثمن يُعطى وبضاعة تُستلم.. ونحن بين يدي الله عز وجل، كذلك نقول: يا رب!.. ليس لنا ثمن نعطيك لتعجل في فرج وليك، فلم نقدم نفوسا طاهرة، ولم نقوم بأعمال زاكية.. ولكن تصدق علينا بفرج وليك تفضلا وتحننا.. إننا نسألك هذا الأمر فضلاً لا عدلاً.. ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾.