أن سيف بن عمر قد تلاعب بتاريخ الفترة التي حکم فيها الخليفة الثالث من أجل صرف انتباه القارئ عن الحقيقة، فهو يخترع أسماءً وشخصيات ما أنزل الله بها من سلطان، وينسب إليهم تصرفات عجيبة تدل على سقوطهم الخلقي من أجل تنفير الناس عنهم وصرف أذهانهم عن القتلة الحقيقيين لعثمان بن عفان.
أورد الطبري -كعادته- روايات مطولة بطريق سيف عن هذه الحادثة المؤلمة، تبيّن موقف عثمان المسالم الذي يضاده من الجانب الآخر قسوة الذين ثاروا عليه وقتلوه ونواياهم الشريرة، وتصرفاتهم تجاه زوجة عثمان وأهل بيته وخدمه بما يدل على مدى سقوطهم الخلقي والأدبي، قال:
وأحرقوا الباب وعثمان في الصلاة، وقد افتتح (طه * ما أنزلنا عليكَ القرآنَ لِتَشقى)، وكان سريع القراءة، فما كرته ما سمع، وما يخطئ وما يتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه، ثم عاد فجلس الى عند المصحف وقرأ: (الذينَ قالَ لهم الناسُ إنَّ الناسَ قَدْ جَمَعوا لكُمْ فاخشَوهُم فَزادَهُم إيماناً وَقالوا حَسبنا اللهُ ونعمَ الوكيل).
وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه: قد علمت ذات القرون الميل...
وأقبل أبو هريرة والناس محجمون عن الدار إلاّ اُولئك العصبة، فدسروا فاستقتلوا فقام معهم وقال: أنا إسوتكم، وقال: هذا يوم طاب امضرب -يعني أنه حلّ القتال وطاب، وهذه لغة حِمْيَر- ونادى: يا قوم مالي أدعوكم الى النجاة وتدعونني الى النار!
وبادر مروان يومئذ فنادى: رجل رجل، فبرز له رجل من بني ليث يدعى النباع، فاختلفا، فضربه مروان أسفل رجليه، وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه، فانكب مروان واستلقى، فاجتّر هذا أصحابه، فقال المصريون: أما والله لولا أن تكونوا حجة علينا في الاُمة لقد قتلناكم بعد تحذير، فقال المغيرة: من يبارز؟ فبرز له رجل فاجتلد وهو يقول:
أضربهم باليابسِ / ضرب غلام بائسِ
من الحياة آيسِ
فأجابه صاحبه، وقال الناس: قُتل المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: إنا لله! فقال له عبدالرحمان بن عديس: مالك؟ قال: إني أتيت فيما يرى النائم فقيل لي: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار! فابتليت به.
وقتل قباث الكناني نيار بن عبدالله الأسلمي، واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب، وأقبلت القبائل على أبنائهم، فذهبوا بهم إذ غُلبوا على أمرهم، وندبوا رجلا لقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت، فقال: اخلعها وندعك، فقال: ويحك، والله ما كشفتُ امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تحنّيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله عزّوجل، وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاء.
فخرج، وقالوا: ما صنعت؟ فقال: علقنا والله، والله ما ينجينا من الناس الاّ قتله، وما يحل لنا قتله.
فأدخلوا عليه رجلا من بني ليث، فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي، فقال: لست بصاحبي، قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي (صلى الله عليه وآله) في نفر أن تُحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فلن تضيع.
فرجع وفارق القوم، فأدخلوا عليه رجلا من قريش، فقال: يا عثمان إني قاتلك! قال: كلا يا فلان لا تقتلني، قال: وكيف؟ قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دماً حراماً. فاستغفر ورجع وفارق أصحابه.
فأقبل عبدالله بن سلام حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال: يا قوم لا تسلّوا سيف الله عليكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه! ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدّرة، فإن قتلتموه لا يقوم الاّ بالسيف، ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بملائكة الله، والله لئن قتلتموه لتتركنّها، فقالوا: يابن اليهودية، وما أنت وهذا، فرجع عنهم.
قالوا: وكان آخر من دخل عليه ممن رجع الى القوم، محمد بن أبي بكر.
فقال له عثمان: ويلك! أعلى الله تغضب! هل لي اليك جرم الاّ حقه أخذته منك؟ فنكل ورجع، قالوا: فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قُتيرة وسودان بن حمران السكونيان والغافقي، فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف، فاستقر بين يديه وسالت عليه الدماء، وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت السيف بيدها، فتعمدها ونفح أصابعها، فأطنَّ أصابع يدها وولّت، فغمز أوراكها وقال: إنها لكبيرة العجيزة! وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه -وقد كان عثمان اعتق من كفّ منهم- فلما رأوا سودان قد ضربه، أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت وأخرجوا من فيه ثم اغلقوه على ثلاثة قتلى.
فلما خرجوا الى الدار، وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة -والرجل يدعى كلثوم بن تُجيب- فتنحّت نائلة، فقال: ويح اُمك من عجيزة ما أتمّك! وبصر به غلام لعثمان فقتله وقُتل، وتنادى القوم: أبصر رجل من صاحبه، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تُسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه الاّ غرارتان، فقالوا: النّجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالنائي يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح.
وندم القوم، وكان الزبير قد خرج من المدينة فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحم الله عثمان! وانتصر له، وقيل: إن القوم نادمون! فقال: دبّروا دبَّروا، (وَحيلَ بَينهُم وَبينَ ما يَشتهونَ)(1).
واتى الخبر طلحة فقال: رحم الله عثمان! وانتصر له وللاسلام. وقيل له: إن القوم نادمون! فقال: تباً لهم، وقرأ (فلا يَستطيعونَ تَوصيةً وَلا الى أهلهمْ يَرجِعونَ).
واُتي عليٌّ فقيل: قُتل عثمان، فقال: رحم الله عثمان وخلف علينا بخير، فقيل: ندم القوم! فقرأ (كَمثلِ الشيطانِ إذْ قال للإنسانِ اكفُرْ)(2).
وطلب سعد، فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله، فلما جاءه قتله قال: فررنا الى المدينة فدنيتا، وقرأ (الذينَ ضلَّ سَعيهُم في الحياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسبونَ أنَّهُم يُحسنونَ صُنعاً). اللهم اندمهم ثم خذهم!(3).
لعل أهم ما يلاحظ على رواية سيف هذه، هي الاُمور الخرافية التي يحشو بها التاريخ الإسلامي إمعاناً في السخرية بالمسلمين، كأضغاث الأحلام التي رآها قاتل المغيرة بن الأخنس، ولا أدري ما مقام المغيرة هذا وكرامته على الله حتى يرى قاتله فيما يرى النائم البشارة له بالنار على قتله المغيرة!
كما أننا لم نستطع أن نعرف هوية اللَّيثي ولا القريشي اللذان دخلا على عثمان فردعهما ما سمعا منه من ثناء النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: كذا وكذا في يوم كذا وكذا! ولا أدري هل أن كذا وكذا أسماء لأمكنة وأزمنة وحوادث حقيقية، أم هي من جملة مهازل سيف بن عمر.
والمتصفح لتراث الاسلام يستطيع أن يلاحظ أن هذه هي الحيلة التي يلجأ إليها الرواة عادة للتغطية على أكاذيبهم، والتهويل على السامعين بالايحاء بوقوع اُمور مهمة وخطيرة.
وما سرّ الاتفاق الغريب بين استشهادات كل من علي وطلحة والزبير عند سماعهم بقتل عثمان واعلان قتلته الندم على قتله، ولا كيف يفرّ هؤلاء الصحابة من المواجهة ويتركوا خليفة المسلمين يذبح بأيدي اولئك القتلة دون أن يحركوا ساكناً ويرغبون بأنفسهم عن مشاهدة منظر القتل فقط!!
كما ولا ندري سرّ ندم هؤلاء القتلة بعد أن ظلوا يحاصرون عثمان أربعين ليلة أو أكثر، وما كان قتلهم لعثمان إلاّ عن قناعة تامة وسبق إصرار بعد فشل كل الجهود التي بُذلت لتغيير سياسة عثمان وعزمه، ولماذا يندمون بعد قتله مباشرة! فإن كانوا أهل أغراض سوء ونوايا سوداء -كما تصفهم روايات سيف ومن سار في ركابه- فلا مبرر لندمهم فهم أشرار عازمون على قتل الخليفة ونواياهم أبعد شأواً من مجرد الرغبة في قتله، لأنها تستهدف القضاء على الاسلام عملا بوصايا ابن سبأ عدو الاسلام، أما إذا كانوا ندموا لأنهم اكتشفوا أنهم كانوا مبطلين، فروايات سيف تشير الى أنهم كانوا يعلمون ذلك مسبقاً، أما إذا لم يكونوا مبطلين، وكانوا يعتقدون بعدالة مطالبهم وصحة عملهم، فلا مبرر لندمهم ولمّا يظهر بعد في الاُفق ما يستدعي القلق إن كان الخوف من العقاب سبب ندمهم!!
ومن الاُمور التي تبعث على السخرية أيضاً، هي إظهار أبي هريرة بصورة البطل الذي يعَوّل عليه في الدفاع عن الخليفة المحاصر أمام هذه الجموع المتكاثرة، مع أننا وخلال تتبعنا لسيرة أبي هريرة، لم نجد له موقفاً بطولياً واحداً، فلا هو قاد سرّية من السرايا، ولا فتح حصناً، ولا بارز أحد الأبطال أو حتى غير الأبطال وقتله أو خدشه، بل على العكس من كل ذلك، فالوقائع تثبت أن أبا هريرة كان يُطلق ساقيه للريح عند احتدام المعارك، وقد اعترف أبوهريرة نفسه - فيما أخرج الحاكم النيسابوري عنه ـ أنه قال:
لقد كان بيني وبين ابن عم لي كلام، فقال: إلاّ فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شي أقول له(4).
كما وأن روايات سيف تظهر اولئك الثوار - بغمز بعضهم زوجة عثمان وقوله فيها، أو انتهابهم بيت المال أو رفسهم المصحف الشريف- بصورة مجرمين لا يمتون الى الاسلام وقيمه بصلة، بينما أثبتت الروايات من المصادر الموثوقة عكس ذلك -كما تبين في تراجم الكثير منهم- لكن بعض المؤلفين كابن حزم وابن عربي وابن تيمية وابن كثير وجلة المعاصرين ينساقون وراء روايات سيف، ثم يصفون اولئك الثوار بتلك النعوت القبيحة.
وقد وجدنا في روايات سيف أسماء عجيبة وغريبة، بدعوى أن اولئك هم قتلة عثمان، وكل ذلك للتمويه على القارئ بأن قتلة عثمان لم يكونوا إلاّ اُناساً نكرات، لذا نجد المؤلفين يتخبطون في هذا الأمر، فابن عربي يقول: بأنه ما قتل عثمان إلاّ أعلاج من مصر(5)، وتارة اُخرى يقول بأنه قتله رجل يدعى (الموت الأسود)، ولا أدري إن كان العرب يطلقون مثل هذه الأسماء على أبنائهم أم لا! وتجد بعض الروايات تدعي أن قاتل عثمان رجل يدعى (جبلة بن الأيهم) - حسب ما تدعيه بعض روايات سيف- والذي اعرفه أن جبلة بن الأيهم هو آخر ملوك العرب الغساسنة في الشام، وعلى عهده فتح المسلمون بلاد الشام فهرب الى قيصر الروم ومات هناك، فهل كان جبلة هذا من قتلة عثمان أم هو جبلة آخر، وما سرّ هذا الاتفاق في اسميهما مع العلم أن جبلة المزعوم في روايات سيف ليس له ذكر في أي مكان غير رواية سيف.
إن هذه الجلبة التي يثيرها سيف ومن تابعه حول قتلة عثمان كان سببه أن قتلة عثمان الحقيقيين إنما كانوا من الصحابة، ومن خيارهم، وكما تثبت ذلك الروايات التي جاءت في تاريخ الطبري - بغير طريق سيف- وكذلك المصادر الاُخرى، فقد أخرج الطبري عن الواقدي بسنده: أن محمد بن أبي بكر، تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب وسودان بن حمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف في سورة البقرة، فتقدمهم محمد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال عثمان: لستُ بنعثل، ولكني عبدالله وأمير المؤمنين.
قال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان. فقال عثمان: ياابن أخي، دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، وما اُريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك! قال عثمان: استنصر الله عليك وأستعين به.
ثم طعن جبينه بمشقص في يده، ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اُذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله.
فقال عبدالرحمان: سمعت أبا عون يقول: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدّم رأسه بعمود حديد فخرّ لجبينه، فضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خرّ لجبينه فقتله.
أما البلاذري فلفظه: تناول عثمان المصحف ووضعه في حجره وقال: عباد الله، لكم ما فيه والعتبى مما تكرهون، اللهم اشهد.
فقال محمد بن أبي بكر: الآن وقد عصيتَ قبل وكنت من المفسدين.
ثم رفع جماعة قداح كانت في يده فوجأ بها في خُششائه حتى وقعت في أوداجه فمرّت ولم تقطع، فقال: عبادالله، لا تقتلوني فتندموا وتختلفوا.
كما أخرج البلاذري باسناده عن الحسن قال:
فدخل محمد بن أبي بكر حتى جثا على ركبتيه، وكان عثمان حسن اللحية، فجعل يهزّها حتى سُمع نقيض أضراسه ثم قال: ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك ابن عامر، فقال: يابن أخي، مهلا فوالله ما كان أبوك ليجلس في هذا المجلس.
قال: فاشعره وتعاونوا عليه فقتلوه(6).
وروى ابن عساكر أن محمد بن أبي بكر قال لعثمان: على أي دين أنت يا نعثل!؟ قال: على دين الاسلام، ولستُ بنعثل ولكني أمير المؤمنين.
قال: غيّرت كتاب الله!
فقال: كتاب الله بيني وبينكم.
فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنّا لا يُقبل منّا يوم القيامة أن نقول: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.
وشحطه بيده من البيت الى باب الدار وهو يقول: يابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي(7).
كما روى الطبري عن الواقدي بسنده، قال:
الذي قتله كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول: خرجنا الى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالعرج، سمعنا رجلا يتغنى تحت الليل:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة / قتيلُ التجيبي الذي جاء من مصر
قال: وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات.
قال عمرو: فأمّا الثلاث منهن فإني طعنتهن إياه لله، وأما ستّ فإني طعنتهن إياه لما كان في صدري عليه(8).
فتبين من هذه الروايات أن ما ذكره الطبري عن سيف هو في أغلبه عار عن الصحة، كما وتبين أن الذين قتلوا عثمان وباشروا الأمر بأنفسهم كانوا أشخاصاً معروفين ولم يكونوا نكرات، وهم: محمد بن أبي بكر وهو صحابي، وعمرو بن الحمق وهو صحابي أيضاً، وكنانة بن بشر التجيبي وسودان بن حمران، وأعانهم قوم آخرون.
والملاحظ أيضاً أن كلام محمد بن أبي بكر مع عثمان، يكشف أن سبب قتله كان للاُمور التي سبق وأن ذكرناها، وفي مقدمتها تصرفات عمال عثمان، وبخاصة معاوية بن أبي سفيان.
دفن عثمان
وصلت تلك الأحداث الى نهايتها المأساوية بقتل الخليفة في عقر داره وعاصمة خلافته، وعلى مرأى ومسمع من اُلوف الصحابة الذين تخلوا عنه، بل أن بعضهم كان يمالئ عليه ويحرض على قتله وإن الموقف من مسألة دفن عثمان بعد قتله تكشف عن موقف الصحابة الحقيقي من عثمان، وهذه المسألة لم تنج هي الاُخرى من محاولة التزييف والمغالطة من قبل المؤلفين. فأما سيف بن عمر، فقال فيما أخرج الطبري عنه:
إن عثمان لما قُتل، أرسلت نائلة الى عبدالرحمان بن عديس فقالت: إنك أمسّ القوم بنا رحماً وأولاهم بأن تقوم بأمري. أَغرِب عني هؤلاء الأموات. قال: فشتمها وزجرها، حتى إذا كان في جوف الليل، خرج مروان حتى أتى دار عثمان، فأتاه زيد بن ثابت وطلحة بن عبيدالله وعليّ والحسن وكعب بن مالك وعامّة من ثم من أصحابه، فتوافى الى موضع الجنائز صبيان ونساء; فأخرجوا عثمان فصلى عليه مروان، ثم خرجوا به حتى انتهوا الى البقيع فدفنوه فيه مما يلي حش كوكب، حتى إذا أصبحوا أتوا أعبُد عثمان الذين قتلوا معه فأخرجوهم فرأوهم فمنعوهم من أن يُدفنوا، فأدخلوهم حش كوكب، فلما أمسوا خرجوا بعبدين منهم فدفنوهما الى جنب عثمان، ومع كل واحد منهما خمسة نفر وامرأة: فاطمة اُم ابراهيم بن عدي.
ثم رجعوا فاتوا كنانة بن بشر فقالوا: إنك أمسّ القوم بنا رحماً فأمُر بهاتين الجيفتين اللتين في الدار أن تخرجا. فكلمهم في ذلك فأبوا، فقال: أنا جارٌ لآل عثمان من أهل مصر ومن لفّ لفّهم، فاخرجوهما فارموا بهما، فجُرّا بأرجلهما فرُمي بهما على البلاط، فأكلتهما الكلاب. وكان العبدان اللذان قُتلا يوم الدار يقال لهما: نُجيح وصُبيح، فكان إسماهما الغالب على الرقيق لفضلهما وبلائهما، ولم يحفظ الناس إسم الثالث!
ولم يغسل عثمان، وكفّن في ثيابه ودمائه ولا غسل غلاماه(9).
أما الروايات الاُخرى - سواء منها روايات الطبري بغير طريق سيف أو الروايات التي في المصادر الاُخرى غير الطبري - فهي تختلف عن رواية سيف، فقد أخرج الطبري عن جعفر بن عبدالله المحمدي بسنده، قال:
نُبذ عثمانثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي، ثم أحد بني أسد بن عبدالعزى، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كلّما علياً في دفنه وطلبا إليه ان يأذن لأهله في ذلك ففعل، وأذن لهم علي.
فلما سُمع بذلك، قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يقال له: حش كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم.
فلما خرج به على الناس، رجموا سريره وهمّوا بطرحه، فبلغ ذلك علياً فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفّن عنه ففعلوا، فانطلق حتى دفنفي حش كوكب، فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس، أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به الى البقيع، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين.
وأخرج الطبري أيضاً عن جعفر بسنده الى أبي كرب الذي كان عاملا على بيت مال عثمان، قال:
دفن عثمان بين المغرب والعتمة، ولم يشهد جنازته الاّ مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وإبنته الخامسة; فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وقالوا: نعثل نعثل! وكادت تُرجم، فقالوا: الحائط الحائط، فدفن في حائط خارجاً.
وكما أخرج عن الواقدي بسنده قال:
لما قُتل عثمان قال رجل: يدفن بدير سلع مقبرة اليهود; فقال حكيم ابن حزام: لا والله لا يكون هذا أبداً وأحدٌ من ولد قصي حي، حتى كاد الشر يلتحم، فقال ابن عديس البلوي: أيها الشيخ، وما يضرك أين يدفن! فقال حكيم ابن حزام: لا يدفن إلاّ ببقيع الغرقد حيث دُفن سلفه وفرطه، فخرج به حكيم بن حزام في اثني عشر رجلا وفيهم الزبير، فصلى عليه حكيم بن حزام.
قال الواقدي: الثبت عندنا أنه صلى عليه جبير بن مطعم.
وهذه الرواية الأخيرة تعاني من إشكالات تضعفها، لأن سلف عثمان وفرطه هو عمر بن الخطاب وهو لم يُدفن في بقيع الغرقد كما هو معلوم، بل هو مدفون الى جنب النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، كما أن وجود الزبير بين المشيعين لعثمان يبدو غير صحيح أيضاً، خصوصاً إذا تعرفنا على مواقف الزبير من عثمان فيما سيأتي من فصول، ولعله عبدالله بن الزبير وقد أخطأ الراوي فيه، كما سوف يتبين من الرواية الأخيرة التي سوف نوردها بعد قليل.
كما وأخرج الطبري أيضاً عن الواقدي بسند آخر قال:
لبث عثمان بعدما قُتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حملهُ أربعة: حكيم ابن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حذيفة.
فلما وضع ليصلى عليه، جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه، فيهم أسلم بن أوس بن جبرة الساعدي، وأبو حية المازني في عدّة، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع، فقال ابو جهم: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته، فقالوا: لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً، فدفنوه في حش كوكب. فلما ملكت بنو اُمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع، فهو اليوم مقبرة بني اُمية.
كما روى الطبري عن الواقدي، أن عبدالله بن موسى المخزومي حدثه، قال: لما قُتل عثمان أرادوا حزّ رأسه، فوقعت عليه نائلة واُم البنين، فمنعنه وصحن وضربن الوجوه وخرقن ثيابهن، فقال ابن عديس: اتركوه، فأخرج عثمان ولم يغسل الى البقيع، وأرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنائز، فأبت الأنصار. وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع على باب، فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنت ضابئاً حتى مات في السجن.
كما وأخرج الطبري عن الحارث باسناده الى مالك بن أبي عامر، قال: كنتُ أحد حملة عثمان حين قُتل. حملناه على باب، وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمراً عظيماً حتى واريناه في قبره في حش كوكب. (10)
المصادر :
1- بأ: 54.
2- ياسين: 50.
3- الطبري 4: 389.
4- المستدرك 3: 42.
5- العواصم من القواصم: 142.
6- أنساب الاشراف: 6: 213.
7- تاريخ دمشق 4: 372.
8- الطبري 4: 394.
9- الطبري 4: 414.
10- الاستيعاب 3: 1047، الاصابة 2: 463، اسد الغابة 3: 461، تاريخ الطبري 4: 412، طبقات ابن سعد 3: 55، تاريخ اليعقوبي 2: 153، الكامل لابن الاثير 3: 576، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 168،السيرة الحلبية 2: 85، تاريخ الخميس 2: 265، وغيرها من المصادر.