عربي
Thursday 21st of November 2024
0
نفر 0

تقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش

وعلى أيّة حال فان التقية الواردة في أفعال وأقوال النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالنحو الذي ذكرناه أولاً مما لا مجال لانكاره ، واليك جملاً منه :
الحديث الاَول : تقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش :
أخرج البخاري في صحيحه بسنده ، عن الاسود بن يزيد ، عن عائشة ، قالت : (سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الجَدْرِ(2)أمِن البيت هو ؟
قال : « نعم .
فقلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟
قال : إنّ قومك قصرت بهم النفقة .
قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟
قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أنّ قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِلَ الجَدْرَ في البيت وأن الصق بابه في الاَرض» ) (3).
____________
1) ورد الحديث بألفاظ متقاربة في صحيح مسلم 1 : 130 | 232 . وسنن ابن ماجة 2 : 1319 | 3986 . وسنن الترمذي 5 : 18 | 7629 . ومسند أحمد 1 : 74 .
2) الجَدْرُ والحِجْرُ بمعنى واحد ، والمراد : حِجْر الكعبة المشرفة .
3) صحيح البخاري 2 : 190| 1584 كتاب الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ، ط1 ، دار الفكر |) راجع الإحكام العامة في قانون العقوبات | الدكتور السعيد مصطفى السعيد :
وهذه المحاورة بين النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وزوجه ، قد أخرجها غير البخاري كلٌّ بطريقه إلى الاَسود بن يزيد ، عن عائشة ، وهم :
مسلم في صحيحه من طريقين (1)، وابن ماجة بلفظ : (ولولا أنّ قومك حديث عهد بكفر مخافة ان تنفر قلوبهم) (2)، والترمذي ثم قال : (هذا حديث حسن صحيح) (3)، والنسائي (4)، وأحمد (5).
وأخرج البخاري أيضاً من طريق عبدالله بن مسيلمة ، أنّ عبدالله بن محمد بن أبي بكر أخْبَرَ عبدالله بن عمر أن عائشة قالت : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : « ألم تَرَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟
فقلت : يا رسول الله ! ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟
قال : لولا حِدْثان قومِكِ بالكفر لفعلت » (6).
____________

=

1411 هـ و2 : 179 ـ 180 ، ط دار التراث العربي ، وأعاد روايتها في الجزء التاسع ص106 باب ما يجوز من اللّوْ ، من كتاب الاَحكام .
1) صحيح مسلم 2 : 973 | 405 و 406 كتاب الحج ، باب جدر الكعبة وبابها ، ط2 ، دار الفكر ، 1398 هـ .
2) سنن ابن ماجة 2 : 985 | 2955 ، كتاب المناسك ، باب الطواف بالحجر ، دار إحياء الكتب العربية بمصر .
3) صحيح الترمذي 3 : 224 | 875 كتاب الحج ، باب ما جاء في كسر الكعبة ، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي دار إحياء التراث العربي .
4) سنن النسائي 5 : 215 ، دار الجيل ، بيروت .
5) مسند أحمد 6 : 176 ، دار الفكر ، بيروت و7 : 253 | 24910 ، ط2 ، دار احياء التراث العربي ، 1414 هـ .
6) صحيح البخاري 2 : 190 | 1583 من الباب السابق .


( 56 )

وقد أخرجه مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بسنده ومتنه (1)وعنه النسائي في سننه (2)، وأخرجه أحمد في مسنده مرتين (3)وأخرجه ثالثة وفيه أن الذي أخبرَ ابنَ عمر هو عبدالرحمن بن محمد بن أبي بكر (4).
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن هشام المعني ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا حداثة قومِكِ بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ فإن قريشاً استقصرتْ بناءه ـ وجعلتُ له خَلْفاً ـ أي : باباً من الخلف ـ » (5) .
وقد رواه أحمد (6)، والنسائي (7).
وقريب من لفظه ما أخرجه البخاري في بابه المذكور بسنده عن عروة ابن الزبير ، عن عائشة (8)، ومثله النسائي (9).
هذا وقد أخرج أحمد في مسنده حديث عائشة بألفاظ متقاربة عن غير من ذكرناه . فقد أورده من رواية عبدالله بن الزبير بطريقين ، وعبدالله بن أبي ربيعة ، والحرث بن عبدالله ، كلهم ، عن عائشة (10).
____________
1) موطأ مالك : 233 | 813 كتاب الحج ، باب ما جاء في بناء الكعبة .
2) سنن النسائي 5 : 216 .
3) مسند أحمد 7 : 253 | 24912 و7 : 352 | 25569 ، والطبعة الاولى 6 : 147 و177 .
4) مسند أحمد 7 : 164 | 24306 ، والطبعة الاُولى 6 : 112 .
5) صحيح البخاري 2 : 190 | 1585 .
6) مسند أحمد 7 : 85 | 23776 ، والطبعة الاُولى 6 : 57 .
7) سنن النسائي 5 : 215 .
8) صحيح البخاري 2 : 190 | 1586 .
9) سنن النسائي 5 : 216 .
10) اُنظر : رواية ابن الزبير في مسند أحمد 7 : 257 | 24935 و24938 والطبعة الاُولى 6 : 179

=


( 57 )

وقد أخرج الحاكم حديث ابن الزبير ، عن عائشة بلفظ آخر مستدركاً به على البخاري ومسلم ، ثم قال : (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا) (1).
كما أخرج أبو داود بسنده عن علقمة ، عن أمه ، عن عائشة ، ما يؤكد ان قريشاً أخرجوا الحجر من البيت حين بنوا الكعبة (2).
ومن كل ما تقدم يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتقي قومه في عدم رد الحِجْر إلى قواعد إبراهيم عليه السلام مخافة أن تنفر قلوبهم ، لحداثة عهدهم بالكفر وقربهم من شرك الجاهلية ، وعلى حد تعبير العلاّمة السندي في حاشيته على سنن النسائي : (إنّ الاِسلام لم يتمكن في قلوبهم ، فلو هُدّمت لربما نفروا منه !!) (3).
ولهذا نجد محاولة ابن الزبير في تهديم الكعبة وإعادة بنائها وإدخال الحجر في البيت ، قد باءت بالفشل ، إذ هدم عبدالملك بن مروان ما بناه ابن الزبير وأخرج الحجر من البيت ليعيده إلى ما كان عليه في عهد من لم يتمكن الاِسلام يوماً في قلوب أكثرهم (4).
هذا ، وقد يقال : إنّ هذا الحديث ونظائره الاُخرى لا علاقة لها بالتقية ، وإنّما هي من صغريات قانون التزاحم وتقديم الاَهم على المهم ، أو دفع
____________

=

و180 . ورواية ابن أبي ربيعة فيه 7 : 360 | 25620 والطبعة الاُولى 6 : 253 . ورواية الحرث فيه أيضاً 7 : 373 | 25724 والطبعة الاُولى 6 : 262 .
1) مستدرك الحاكم 1 : 479 ـ 480 ، دار الفكر ، بيروت | 1398 هـ .
2) سنن أبي داود 2 : 221 | 2028 ، كتاب المناسك ، باب في الحجر ، دار الجيل ، بيروت | 1412 هـ.
3) حاشية العلاّمة السندي مطبوع بهامش سنن النسائي 5 : 214 طبع دار الجيل ، بيروت .
4) راجع : مسند أحمد 7 : 360 | 25620 تجد التصريح بذلك في ذيل الحديث .


( 58 )

الاَفسد بالفاسد !
والجواب : إنّها كذلك ، ولكن لا يمنع من أن تصب بعض موارد التزاحم في التقية ومنها هذا المورد ، إذ كما يحصل التزاحم بين أمرين بلا اكراه كمن دخل في صلاته وشاهد تحريفاً في أنفاسه الاَخيرة ، فالواجب حينئذ هو قطع الصلاة وانقاذ الغريق أخذاً بقانون تقديم الاَهم على المهم ، فقد يحصل بالاكراه أيضاً كما لو أُكرِه شخص على قتل آخر أو سلب أمواله وإلاّ قتل ، فالواجب هنا أن يتقي بسلب الاَموال أخذاً بقانون دفع الاَفسد بالفاسد ، وحينئذ يتحقق التزاحم والتقية في آن واحد .
ومن مراجعة أمثلة التزاحم في كتب الاُصول (1)يعلم امكان دخول الكثير منها في دائرة التقية ، على ان السيد السبزواري قال عن التقية : (إنّها ترجع إلى القاعدة العقلية التي قررتها الشرائع السماوية ، وهي تقديم الاَهم على المهم ، فتكون التقية من القواعد العقلية الشرعية) (2).
الحديث الثاني : تقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فاحش :
أخرج البخاري من طريق قتيبة بن سعيد ، عن عروة بن الزبير ، أن عائشة أخبرته أن رجلاً استأذن في الدخول إلى منزل النبي فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إئذنوا له فبئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ! قلت ما قلت ثم ألِنتَ له في القول ؟ فقال : أي عائشة ، إنّ شرَّ الناس منزلة عند الله من تركه أو وَدَعَهُ الناس اتقاء
____________
1) راجع : مصباح الاُصول 3 : 361 و2 : 562 .
2) مواهب الرحمن في تفسير القرآن | السيد السبزواري 5 : 202 في تفسير الآية 28 من سورة آل عمران .


( 59 )

فحشه »(1).
ونظير هذا الحديث ما أخرجه الطبراني من حديث ابن بريدة ، عن أبيه، قال : (كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل رجل من قريش ، فأدناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرّبه ، فلمّا قام ، قال : « يا بريدة أتعرف هذا » ؟
قلتُ : نعم ، هذا أوسط قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ؛ ثلاثاً ، فقلت : يارسول الله أنبأتك بعلمي فيه ، فأنت أعلم . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « هذا ممن لايقيم الله له يوم القيامة وزناً » (2).
وهذان الحديثان يكشفان عن صحة ما سيأتي في تقسيم التقية ، وأنها غير منحصرة بكتمان الحق وإظهار خلافه خوفاً على النفس من اللائمة والعقوبة بسبب الاِكراه ، وإنّما تتسع التقية إلى أبعد من هذا ، فيدخل فيها ما ذكره المحدثون في باب المداراة ، سيّما إذا كان في خُلُقِ الشخص المدارى نوع من الفحش كما في هذا الحديث ، أو فيه نوع من الشكاسة كما كان في خُلُق مخرمة .
فقد أخرج البخاري نفسه من طريق عبدالوهاب ، عن أبي مليكة ، قال : (إنّ النبي صلّى الله عليه (وآله) وسلم أُهدِيَت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب ، فقسمها في ناس من أصحابه ، وعزل منها واحداً لمخرمة ، فلما
____________
1) صحيح البخاري 8 : 38 كتاب الاكراه ، باب المداراة مع الناس . وسنن أبي داود 4 : 251 | 4791 و4792 و4793 . وسنن الترمذي 4 : 359 | 1996 باب 59 وقال (هذا حديث حسن صحيح) . ومسند أحمد 7 : 59 | 23856 ، والطبعة الاُولى 6 : 38 . واُنظر : اُصول الكافي 2 : 245 | 1 كتاب الايمان والكفر ، باب من يتقى شرّه .
2) المعجم الاَوسط | الطبراني 2 : 165 | 1304 . ومجمع الزوائد | الهيثمي 8 : 17 .


( 60 )

جاء ، قال : « خبأت هذا لك » (1).
قال الكرماني في شرح الحديث المذكور : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبأت هذا لك . وكان ملتصقاً بالثوب وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يري مخرمة أزاره ليطيب قلبه به ، لاَنّه كان في خلق مخرمة نوع من الشكاسة) (2).
وقد استخدم هذا الاسلوب من التقية بعض الصحابة أيضاً .
قال السرخسي الحنفي في المبسوط : (وقد كان حذيفة ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !!
فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه) (3).
وواضح من كلام هذا الصحابي الجليل ، أنّ ترك التقية ليس مطلقاً في كل حال وان عدم مداراة الناس تؤدي إلى نفرتهم ، وعزلته عنهم ، وربما ينتج عنها من الاضرار ما يذهب بالدين كلّه .
ومن هنا روي عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » (4).
ولا يخفى على عاقل ما في مخالطة الناس من أمور توجب مداراتهم سيما إذا كانت المخالطة مع قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة.
____________
1) صحيح البخاري 8 : 38 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
2) صحيح البخاري بشرح الكرماني 22 : 7 | 5756 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 46 ، من كتاب الاكراه .
4) سنن ابن ماجة 2 : 1338 | 4032 . وسنن البيهقي 10 : 89 . وحلية الاولياء | أبو نعيم 5 : 62 و7: 365 . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 359 .


( 61 )

فقد أخرج الهيثمي ، من طريق إبراهيم بن سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبّك بين أصابعه ، قالوا : كيف نصنع ؟ قال : اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم بأعمالهم » (1).
وهذا الحديث أخرجه الطبراني في الاَوسط بسنده عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس ـ وشبّك بين أصابعه ـ قلتُ : يا رسول الله ، ما تأمرني ؟ قال : صبراً ، صبراً ، خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم » (2).
وأخرجه الهيثمي عن أبي ذر أيضاً (3).
أقول : إنّ أبا ذر سُيّر إلى الشام ، وبعد أن أفسد الشام على معاوية بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أُعيد إلى المدينة ، ثم نُفي ـ بعد ذلك ـ إلى الربذة ومات فيها غريباً وحيداً بلا خلاف بين سائر المؤرخين ، ومنه يعلم من هم الناس الذين وصفوا بالحثالة !
هذا ، وقد روى الشيخ المفيد في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين الاِمام علي7 أنه قال : خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم ، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم (4).
ولست أدري كيف تكون مخالقة حثالة الناس بأخلاقهم ومخالطتهم باللسان والمخالفة في الاَعمال والمزايلة بالقلوب من غير تقية ؟!
____________
1) كشف الاَستار | الهيثمي 4 : 113 | 2324 .
2) المعجم الاَوسط | الطبراني 1 : 293 | 473 .
3) مجمع الزوائد | الهيثمي 7 : 282 ـ 283 ، كتاب الفتن ، باب في أيام الصبر..
4) أمالي الشيخ المفيد : 131 | 7 المجلس الخامس عشر .


( 62 )

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أهل البيت القدوة الصالحة والنموذج الأمثل
أصل يوم العذاب في ظلامات فاطمة عليها السلام
اختلاف المسلمين عن اليهود والنصارى في هوية ...
فاطمة عليها السلام وحديث الكساء الشريف
شروط وآثار حبّ آل البيت
ممّن هو المهديّ ؟
قصة السيدة رقية بنت الإمام الحسين(عليهما ...
ذكرى مأساة هدم قبور أئمة البقيع(عليهم السلام)
الشيعة الإمامية هم أتباع أهل البيت (ع)
الاكراه على الفعل المحظور

 
user comment