حياة كلها جهاد وعبادة وتبتّل ، نور نيّر يسير على منهاج الحق الصريح ، وفكر ثاقب يستضيء بمشكاة العلم الصحيح . الزهراء احدى ثمرات شجرة النبوة الوارفة الظلال ، ابدت من الكياسة والادب واللباقة ما لم يسبق اليها احد ، وجعلت وقتها وقفاً على العلم والدين والعمل والتريبية والتهذيب ، وذللت بأفكارها السامية كل صعب ، حتى تسنى لها الصعود الى معارج الارتقاء ، لتجني ثمار ذلك الجهد اليانع وقطوفه الدانية التي تؤتي اكلها كل حين بأذن ربها . وحين تقرأ خطبها ترى الفصاحة تتدفق من معين لسانها ، لا ينكر مالها من قوة الحجة في الكلام والشهرة والبيان .
اتصفت الزهراء بالشجاعة الادبية ، فأخرجت للناس دفائن الحكمة وآيات الحق الناصعة وسحر البيان الرائع . وان من يمعن النظر في اسلوب الزهراء الخطابي الرصين وبلاغتها البيانية وما ترمز اليه يتضح له ما ينطوي عليه خطابها من معان واضحة وبصيرة نفاذة . وقد استطاعت ان تسيطر على نفوس مستمعيها وهم في احرج موقف ، ولعل هذا هو بعض السر في
نجاحها ، ولا شك انها ترمي الى الاصلاح الشامل وبيان الواجب الملقى على عاتق كل مسلم يؤمن بالقيم الروحية والمبادئ السماوية ويتبع ارشادات القرآن والسنة النبوية .
لنستمع الى خطبتها الغراء نصاً وهي تشهد بقدرتها الفائقة وثقافتها الواسعة ومكانتها السامية في عصرها وما تلاه الى يومنا هذا ، وهي هنا لا تلقي الكلام على عواهنه ،بل تزن كل كلمة تقولها بميزان الحقيقة والانصاف ، فتعجب بفهمها وذكائها كل الاعجاب .
ان الحديث عن تظلم فاطمة سلام الله عليها حديث ذو شجون ، لا ينتهي الكلام فيه ، ولا يمكن اتيان جديد فيه . فالمصادر التاريخية قديمها وحديثها تؤكد على ظلامة الزهراء ، هذه المرأة العظيمة ، وما لقيته بعد وفاة والدها النبي الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من احن ومحن ، وتعرضت لكثير من الويلات والمصائب التي يشيب لهولها الزمان ، ابتداءً من ترك وصية والدها ، ومروراً بغصب الخلافة من زوجها ، وانتهاءً بقضية فدك ، مما ادى الى تراكم الهموم والهواجس عليها .
لقد ذكر ابن قتيبة في كتابه ( الامامة والسياسة ) ما هذا نصه : ( ان ابا بكر رضي الله عنه تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه ، فبعث اليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا ان يخرجوا فدعا بالحطيب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن او لأحرقنها على ما فيها فقيل له يا ابا حفص ان فيها فاطمة فقال : وان . فخرجوا فبايعوا الا علياً فانه زعم انه قال : حلفت ان لا اخرج ولا اضع ثوبي على عاتقي حتى اجمع القرآن ، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا وأسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة بين ايدينا وقطعتم امركم بينكم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقاً ... ) الى ان يصل قوله : ( ... ثم قام عمر ومشى معه جماعة اتوا باب فاطمة فدقوا الباب ، فلما سمعت اصواتهم ، نادت بأعلى صوتها : يا ابت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن ابي قحافة ، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين (1) .
الذي يهمني ان اؤكده هنا هو ان الزهراء سلام الله عليها هي التي خرجت لمنع القوم عن اخراج علي عليه السلام وذلك لعظم منزلتها وعلو شأنها ، لانها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وان ما يدل على ذلك قول عمر بن الخطاب عندما اراد ان يأتي الى باب دار فاطمة ، قال : اريد ان احرق الدار ومن فيها ، قالوا ان في الدار فاطمة قال : وان . ويحسن ان انّبه الى ان هذا الموقف قد قام على اساس التحدي ومواجهة اهل البيت الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( الا واني مخلف فيكم الثـقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا ) ، مما يدل على ان الرجل خالف كتاب الله وسنة نبيه في هذا التحدي السافر والاعتداء على بيت الزهراء سلام الله عليها . وبناءً على ذلك اشار الى هذا المضمون شاعر النيل حافظ ابراهيم بقوله : وقـولـة لعـلـي قالها عمرُ اكـرم بسـامـعها اعظم بملقيها حرقت دارك لا ابقى عليك بها ان لم تبايع وبنت المصطفى فيها ما كان غير ابي حفص يفوه بها امام فـارس عدنـان وحاميهـا
وفي كتاب ( عوالم سيدة النساء فاطمة الزهراء ) توضيح لهذا المشهد، قال : فلما رأى علي عليه السلام غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته ، وكان علي بن ابي طالب عليه السلام لما راى خذلان الناس له وتركهم نصرته واجتماع كلمة الناس مع ابي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له جلس في بيته . فقال عمر لابي بكر : ما يمنعك ان تبعث اليه فيبايع فانه لم يبق احد الا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الاربعة معه ، وكان ابو بكر ارق الرجلين وارفقهما وادهاهما وابعدهما غوراً ، والاخر افظهما واغلظهما واخشنهما واجناهما ، فقال : من نرسل اليه ؟ فقال عمر : ارسل اليه قنفذاً ، وكان رجلاً فظاً غليظاً جافياً من الطلقاء احد بني تيم ، فأرسله وارسل معه اعواناً فانطلق فأستأذن فأبى علي عليه السلام ان يأذن له ، فرجع اصحاب قنفذ الى ابي بكر وهما في المسجد والناس حولهما ، فقالوا : لم يأذن لنا ، فقال عمر : هو ان اذن لكم والا فادخلوا عليه بغير اذنه ، فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة عليها السلام : احرّج عليكم ان تدخلوا بيتي بغير اذن . فرجعوا فثبت قنفذ ، فقالوا : ان فاطمة قالت كذا وكذا فحرجتنا ان ندخل عليها البيت بغير اذن منها ،فغضب عمر ؛ مالنا وللنساء ، ثم امر اناساً حوله فحملوا حطباً وحمل معهم فجعلوه حول منزله وفيه علي وفاطمة وابناهما ، ثم نادى عمر حتى اسمع علياً والله لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول الله او لأضرمن عليك بيتك ناراً ثم رجع فقعد الى ابي بكر وهو يخاف ان يخرج علي بسيفه لما قد عرف عن بأسه وشدته . ثم قال : قنفذ ان خرج والا فاقتحم عليه فان امتنع فاضرم عليهم بيتهم ناراً .
فانطلق قنفذ فاقتحم هو واصحابه بغير اذن وبادر علي الى سيفه ليأخذه فسبقوه اليه فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه والقوا في عنقه حبلاً اسود ، وحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنفذ بالسوط على عضدها فبقي اثره في عضدها من ذلك الدملج من ضرب قنفذ اياها فأرسل ابو بكر الى قنفذ اضربها . فالجأها الى عضادة باب بيتها فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها والقت جنيناً من بطنها ، فلم تزل صاحية في الفراش حتى ماتت من ذلك شهيدة صلوات الله عليها (2) .
وقال في موضع آخر : فلما انتهيا الى الباب فرأتهم فاطمة صلوات الله عليها اغلقت الباب في وجوههم وهي لا تشك ان لا يدخل عليها الا باذنها فضرب عمر الباب برجله فكسره وكان من سعف ثم دخلوا فاخرجوا علياً ملبياً ، فخرجت فاطمة فقالت : يا ابا بكر اتريد ان ترملني من زوجي ـ والله ـ لئن لم تكف عنه لانشرن شعري ولاشقن جيبي ولآتين قبر ابي ولأصيحن الى ربي (3) .
وقال ايضاً : فلما بلغ عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال : وايم الله ما ذاك بمانعي ان اجتمع هؤلاء النفر عندك ان امر بهم ان يحرق عليهم البيت ، قال : فلما خرج عمر جاؤوها ، فقالت : تعلمون ان عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت وايم الله ليمضين لما حلف عليه (4) .
وقد وردت في هذا الخصوص اشعار كثيرة ، منها ارجوزة للسيد مهدي القزويني حيث قال :
يا عجبـا يستـأذن الامـيـن قال سليـمُ قلـت يا سـلمـان قال بـلـى وعـزة الجـبـار لكـنـهـا لاذت وراء البـاب ومذ رأوها عصروها عصـرة فأسقطـت بنت الهـدى واحزنا تصيـح يـا فضـة اسندينـي عليـهـم ويهجـم الـخـؤون هل دخلـوا ولم يـك استئـذان ليـس على الزهـراء من خمار رعـايـة للستـر والحجـاب كادت بنفسي ان تموت حسـرة جنينهـا ذاك المسمى محسنـا فقد وربـي اسقطـوا جنينـي
وقول المتغمد بالرحمة السيد باقر الهندي : كل عـذر وقول افـك وزور فتبصّرْ تبصر هداك الى الحق ليس تعمى العيون لكنما تعمى هو فرع عن جحد نص الغدير فليـس الاعمـى به كالبصيـر القلوب التي انطوت في الصدور
الى ان يصل قوله : او تدري لم احرقوا البـاب بالنـار او تدري ما صدر فاطمة ما المسمار ما سقوط الجنيـن ما حمرة العيـن دخلوا الدار وهي حسرى لمرأى من ارادوا اطفاء ذاك النور ؟ ما بال ضلعها المكسور ؟ وما بال قرطها المنثور ؟ علي ذاك الابي الغيور .
وقول الشاعر الحاج جواد بدقت الاسدي : وبكسر ذاك الضلع رضت اضلع وكما (علـي ) قـوده بنجـاده وكما (لفاطـم) رنة من خلفـه وبزجرها بسياط قنفذ وشحـت في طيها سرُّ الاله مصونُ فله (علي) بالوثاق قريـن لبناتها خلف العليـل رنين بالطف في زجر لهن متون
وقول الشاعر الشيخ محسن ابو الحب الكعبي المتوفى سنة 1305 هـ : هزي لنخلتهـا ألتجت فتساقطـت ولدى الجدار وعتبة الباب ألتجت رطباً جنياً فهـي منه تـأكـل بنت النبي واسقطت ما تحمـل
هذا غيض من فيض ما قاله الادباء بخصوص ظلامة الزهراء سلام الله عليها . وهذا هو شأن المخلصين لله تعالى في حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته من بعده ، يعظمون شعائر الله تعالى ، ولا سيما فاطمة الزهراء عليها السلام ذلك النموذج الامثل للاسرة المسلمة .
خطبة الزهراء عليها السلام
الحمد لله على ما انعم والشكر له على ما الهم ، والثناء بما قدم من عموم نعم ابتداها ، وسبوغ الآء أبداها ، وتمام نعم والاها ، جم عن الاحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء امدها ، وتفاوت عن الادراك ابدها ، وندبهم لاستردادها بالشكر لاتصالها ، واستحمد الى الخلاءق باجزالها ، ونعي بالندب الى امثالها ، واشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الاخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وانار في التفكر معقولها ، الممتنع من الابصار رؤيته ، ومن الالسن صفته ، ومن الاوهام كيفيته ، ابتدع الاشياء لا من شيء كان قبلها ، وانشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها ، كونها بقدرته وذرأها بمشيئته من غير حاجةمنه الى تكوينها ، ولا فائدةله في تصويرها ، الاتثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، واظهاراً لقدرته ، وتعبداً لبريته ، واعزازاً لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة لهم الى جنته ، واشهد ان ابي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل ان ارسله ، وسماه قبل ان اجتباه ، واصطفاه قبل ان ابتعثه ، اذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الاهاويل مصونة ، وببنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بمآل الامور ، واحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع المقدور ، ابتعثه الله تعالى اتماماً لامره ، وعزيمة على امضاء حكمه ، وانفاذاً لمقادير حتمه ، فرأى الامم فرقاً في اديانها ، عكّفاً على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله تعالى بابي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها ، وكشف عن القلوب بُهَمها ، وجلّى عن الابصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، وانقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية ، وهداهم الى الدين القويم ، ودعاهم الى الصراط المستقيم ، ثم قبضه الله اليه قبض رأفة واختبار ، ورغبة وايثار ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم عن تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الابرار ،ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار ، صلى الله على ابي نبيه ، وامينه على وحيه وصفيه ، وخيرته من الخلق ورضيه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ( ثم التفتت الى اهل المجلس وقالت : انتم عباد الله نصب امره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وامناء الله على انفسكم ، وبلغاؤه الى الامم وزعيم حق له فيكم ، وعهد قدمه اليكم ، وبقية استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، متجلية ظواهره ، مغتبط به اشياعه ، قائد الى الرضوان اتباعه ، مؤد الى النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة ، فجعل الله الايمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ، ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتاً للاخلاص ، والحج تشييد للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملة ، وامامتنا اماناً من الفرقة ، والجهاد عزاً للاسلام ، وذلا لاهل الكفر والنفاق ، والصبر معونة على استيجاب الاجر ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامة ، وبر الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الارحام منسأة في العمر ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغيير للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، وترك السرقة ايجاباً للعفة ، وحرم الله الشرك اخلاصاً له بالربوبية ( فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون ) واطيعو الله فيما امركم به ونهاكم عنه ( فانما يخشى الله من عباده العلماء )
ثم قالت عليها السلام : ايها الناس اعلموا اني فاطمة وابي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اقول عودا وبدءا ولا اقول ما اقول غلطا ، ولا أفعل ما افعل شططا ، ( لقد جاءكم رسول الله من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) فان تعزوه وتعرفوه تجدوه ابي دون نسائكم واخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزيُّ اليه ، فبلّغ الرسالة ، صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً ثبجهم آخذاً بكظمهم داعياً الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسر الاصنام ، وينكت الهام حتى انهزم الجمع وولوا الدبر حتى تفرى الليل عن صبحه واسفر الحق عن محضه ، وانطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلت عقدة الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص في نفر من البيض الخماس وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذفة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الاقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القد اذلة خاسئين ، تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فانقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد اللتيا والتي وبعد ان مني ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومردة اهل الكتاب ( كلما اوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله ) او نجم قرن للشيطان او فغرت فاغرة من المشركين قذف اخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها باخمصه ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في امر الله قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سيداً في اولياء الله مشمرا ناصحاً مجداً كادحاً ، وانتم في بلهنية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر و تتوكفون الاخبار الله لنبيه صلي الله عليه وآله و سلم دار انبيائه ومأوي اصفيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الاقلين وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم و اطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفا كم لدعوته مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، و احمشكم فالفاكم غضاباً ، فوسمتم غير ابلكم واوردتم غير شربكم هذا و العهد قريب و الكلم رحيب والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ( الا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين ) فهيهات منكم و كيف بكم واني تؤفكون و هذا كتاب الله بين اظهر كم اموره ظاهرة ، واحكامه زاهرة، و اعلامه باهرة، و زواجره لائحة، و أوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، ارغبة عنه تدبرون، ام بغيره تحكمون (بئس للظالمين بدلاً، و من يتبع غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين) ثم لم تلبثوا الا ربما تسكن نفرتها، و يسلس قيادها، ثم اخذتم تورون و قدتها، و تهيجون جمرتها، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، اطفاء نور الدين الجلي، و اهماد سنن النبي الصفي، تسرون حسوا في ارتغاء و تمشون لاهله و ولده في الخَمَر والضراء و نصبر منكم علي مثل حز المدى و وخز السنان في الحشى، و انتم الآن تزعمون ان لا ارث لي (افحكم الجاهلية يبغون و من احسن من الله حكماً لقوم يوقنون) اقلا تعلمون؟ بلي قد تجلى لكم كالشمس الضاحية اني ابنته ايها ـ وفي رواية ويها ايها المسلمون أأغلب على ارثي يا ابن ابي قحافة ، أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث ابي لقد جئت شيئاً فريا ، افعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم اذ يقول : ( وورث سليمان داود ) وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا عليهما السلام اذ يقول : ( رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ) وقال : ( وأولو الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله ) وقال : ( يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) . وقال : ( ان ترك خيراً الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقاً على المتقين ) وزعمتم ان لا حظوة لي ولا ارث من ابي ولا رحم بيننا ، افخصكم الله بآية اخرج منها ابي صلى الله عليه وآله وسلم ، ام تقولون اهل ملتين لا يتوارثان ، او لست انا وابي من اهل ملة واحدة ، ام انتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من ابي وابن عمي ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم اذ تندمون ( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم )
ثم رنت بطرفها نحو الانصار ( فقالت ) : يا معشر الفتية واعضاد الملة وحصنة الاسلام ، ما هذه الغميزة في حقي ، والسنّة عن ظلامتي ، اما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابي يقول : ( المرء يحفظ في ولده ) سرعان ما احدثتم وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما احاول ، وقوة على ما اطلب وازاول ، اتقولون مات محمد فخطب جليل ، استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه واظلمت الارض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، وكسفت الشمس والقمر وانتثرت النجوم لمصيبته ، وآكدت الآمال وخشعت الجبال ، واضيع الحريم وازيلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى التي لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة ، اعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في افنيتكم في ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً وتلاوة والحانا ولقبله ما حلت بانبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) أيهاً بني قيلة أأهضم تراث ابي وانتم بمرأى مني ومسمع ، ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة وانتم ذوو العدد والعدة والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون وانتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الامم ، وكافحتم البهم فلا نبرح وتبرحون ، نأمركم فتأتمرون حتى اذا دارت بنا رحى الاسلام ودر حلب الايمان وخضعت نمرة الشرك ، وسكنت فورة الافك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين ، فأنى حرتم بعد البيان ، واسررتم بعد الاعلان ونكصتم بعد الاقدام ، واشركتم بعد الايمان ،بؤساً لقوم نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدؤوكم اول مرة اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين ، الا قد ارى ان قد اخلدتم الى الخفض وابعدتم من هو احق بالبسط والقبض ، وركنتم الى الدعة ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ودسعتم الذي تسوغتم ( فان تكفروا انتم ومن في الارض جميعاً فان الله لغني حميد ) .
لا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس وبثة الصدر ونفثة الغيظ ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دَبِرة الظهر ، نَقِبة الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الابد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطلع على الافئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ( فاعملوا انا عاملون وانتظروا انا منتظرون )
فأجابها ابو بكر عبد الله ابن عثمان قال :
يا ابنة رسول الله لقد كان ابوك بالمؤمنين عطوفا كريما رؤوفا رحيما وعلى الكافرين عذاباً اليما وعقاباً عظيما ، فان عزوناه وجدناه اباك دون النساء واخا ألفك دون الاخلاء ، آثره على كل حميم وساعده في كلّ شقي فانتم عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الطيبون والخيرة المنتجبون ، على الخير ادلتنا والى الجنة مسالكنا ، وانت ياخيرة النساء وابنة خير الانبياء صادقة في قولك سابقة في وفور عقلك غير مردودة عن حقك ولا مصدودة عن صدقك والله ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عملت الا باذنه ، وان الرائد لا يكذب اهله فاني اشهد الله وكفى به شهيداً اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : نحن معاشر الانبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقار وانما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة ، وما لنا من طعمة فلولي الامر بعدنا ان يحكم فيه بحكمه ، وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار ويجالدون المردة الفجار ، وذلك باجماع من المسلمين لم اتفرد به وحدي ولم استبد بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك لا تزوى عنك ولا تدخر دونك وانت سيدة امة ابيك والشجرة الطيبة لبنيك لا يدفع مالك من فضلك ولا يوضع فرعك واصلك وحكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين اني اخالف في ذلك اباك صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالت عليها السلام :
سبحان الله ما كان ابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتاب الله صادفاً ولا لاحكامه مخالفاً ، بل كان يتبع اثره ، ويقتفي سوره ، افتجمعون الى الغدر اعتلالا عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ، هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاً فضلاً يقول ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) ويقول : ( وورث سليمان داود ) فبين عز وجل فيما وزع من الاقساط ، وشرع من الفرائض والميراث ، واباح من حظ الذكران والاناث ، ما ازاح علة المبطلين ، وازال التظني والشبهات في الغابرين ، كلا ( بل سولت لكم انفسكم امراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )
فقال ابو بكر :
صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته انت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة وركن الدين ، لا ابعد صوابك ولا انكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلدوني ما تقلدت وباتفاق منهم اخذت ما اخذت غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر وهم بذلك شهود فالتفتت فاطمة عليها السلام الى الناس وقالت :
معاشر الناس المسرعة الى قيل الباطل المغضية على الفعل القبيح الخاسر ( أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها ) كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من اعمالكم فأخذ بسمعكم وابصاركم لبئس ما تأولتم وساء ما به اشرتم وشر ما منه اعتضتم ، لتجدُن والله محمله ثقيلاً وغيَّه وبيلا اذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراء الضراء وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون وخسر هنالك المبطلون ، ثم عطفت على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : قد كان بعـدك انباء وهنيثـة إنا فقدناك فقد الارض وابلها لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب واختل قومك فاشهدهم ولا تغيب
قال صاحب بلاغات النساء : فما رأينا يوماً كان اكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم . قال السيد المرتضى والشيخ الطوسي في روايتيهما وغيرهما ، ثم انكفأت وامير المؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها اليه ويتطلع طلوعها عليه ، فلما استقرت بها الدار قالت لامير المؤمنين عليه السلام : يابن ابي طالب اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الاعزل ، هذا ابن ابي قحافة يبتزني نحيلة ابي وبلغة ( وبليغة خ ل ) ابني لقد اجهد في خصامي وألفيته الد في كلامي حتى حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها وغضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ولا ناصر ولا شافع ، خرجت كاظمة وعدت راغمة اضرعت خدك يوم اضعت جدك ، افترست الذئاب وافترشت التراب ، ما كففت قائلاً ولا اغنيت طائلاً ولا خيار لي ، ليتني مت قبل منيتي ودون ذاتي ، عذيري الله منك عادياً وفيك حامياً ، ويلاي في كل شارق ويلاي في كل غارب مات العمد ووهت العضد ، شكواي الى ابي وعدواي الى ربي اللهم انك اشد قوة وحولاً واحد بأساً وتنكيلاً ( فقال ) لها امير المؤمنين عليه السلام : لا ويل لك بل الويل لشانئك ، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة فما وليت عن ديني ولا اخطأت مقدوري فان كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون وكفيلك مأمون وما أعد لك افضل مما قطع عنك فاحتسبي الله (فقالت) : حسبي الله وامسكت ) .
وهذا اللوم والتأنيب من الزهراء لأمير المؤمنين عليهما السلام لا ينافي عصمته وعصمتها وعلو مقامها ، فما هو الا مبالغة في انكار المنكر واظهار لما لحقها من شدة الغيظ كما فعل موسى عليه السلام لما رجع الى قومه غضبان أسفاً والقى الالواح واخذ برأس اخيه وشريكه في الرسالة يجره اليه .
وقال ابن قتيبة في الامامة والسياسة قال عمر لابي بكر: انطلق بنا الى فاطمة فانا قد اغضبناها ، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً فكلماه فادخلهما عليها ، فلما قعدا عندها حولت وجهها الى الحائط ، فلما سلما عليها فلم ترد عليهما السلام ، فتكلم ابو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله والله ان قرابة رسول الله احب الي من قرابتي ، وانك لاحب الي من عائشة ابنتي لوددت يوم مات ابوك اني مت ولا ابقى بعدا ، افتراني اعرفك واعرف فصلك وشرفك وامنعك حقك وميراثك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الا اني سمعت اباك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا نورث ما تركنا فهو صدقة ، فقالت : ارأيتكما ان حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعرفانه وتفعلان ؟ به قالا : نعم ، فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : رضى فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن احب فاطمة ابنتي فقد احبني ومن ارض فاطمة فقد ارضاني ومن اسخط فاطمة فقد اسخطني ، قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قالت : فاني اشهد الله وملائكته انكما اسخطتماني وما ارضيتماني ولئن لقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاشكونكما اليه ، فقال ابو بكر : انا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب يبكي حتى كادت نفسه ان تزهق ، وهي تقول : والله لادعون الله عليك في كل صلاة اصليها ، ثم خرج باكياً (الى ان قال) : فلم يبايع علي حتى ماتت فاطمة ولم تمكث بعد ابيها الا خمساً وسبعين ليلة .
ولما ولي معاوية اقطع فدكاً مروان بن الحكم . فوهبها مروان لولديه عبد الملك وعبد العزيز فلما ولي عمر بن عبد العزيز ردها على ولد علي وفاطمة ، فلما مات اخذها بنو مروان ، فلما ولي المأمون ردها على ولد علي وفاطمة ، فلما ولي المتوكل اخذها منهم .
ولله درّ دعبل حيث يقول :
ارى فيـأهم في غيرهـم منقسمـا وايديهـم من فيئـهم صفـرات
ولهذه الخطبة شروح مطولة ذكرها شيخنا الشيخ اغا بزرك الطهراني في اجزاء متفرقة من موسعته (الذريعة الى تصانيف الشيعة) .
المصادر :
> 1- الامامة والسياسة / ابن قتيبة / ص 12 و 13 .
2- عوالم سيدة النساء فاطمة الزهراء / الشيخ عبد الله البحراني الاصفهاني / ص 557 و 558 .
3- المصدر السابق / ص 560 .
4- المصدر السابق / ص 562 و 563 .