الحديث السابع : حديث الرفع المشهور :
صلة الحديث بالتقية :
يتصل حديث الرفع بالتقية من جهتين ، وقد تضمنهما الحديث نفسه ، وهما :
الاَولى : اشتماله على عبارة (وما أكرهوا عليه) ، والتقية غالباً ما تكون
____________
1) اُنظر : تقية الحجاج بن علاط في مسند أحمد 3 : 599 ـ 600 | 12001 والطبعة الاُولى 3 : 138ـ 139 . ومصنف عبدالرزاق 5 : 466 | 9771 . والمعجم الكبير | الطبراني 3 : 220 | 3196 . ومسند أبي يعلى الموصلي 3 : 399 ـ 403 | 3466 . وتاريخ الطبري 2 : 139 في حوادث سنة 7 هجرية . ومثله في الكامل | ابن الاثير 2 : 223 . والبداية والنهاية | ابن كثير 4 : 215 . والاصابة| ابن حجر 1 : 327 . وقال في مجمع الزوائد 6 : 155 : ورجال أحمد رجال الصحيح .
( 67 )
باكراه ، وقد بيّنا سابقاً صلة الاكراه بالتقية ، ونتيجة لتلك الصلة فقد علم جميع المفسرين بلا استثناء دلالة قوله تعالى : ( إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالاِيمان ) على جواز التقية في الاِسلام ولم يناقش أحد منهم في ذلك .
الثانية : اشتمال الحديث ـ في بعض مصادره ـ على عبارة (وما اضطروا إليه) ، وقد تبين سابقاً ان من الاضطرار ما يكون بغير سوء الاختيار ، وان من أسبابه هو فعل الغير كما في الاكراه . كما تبين في أركان الاكراه ما يدلُّ على ان الاكراه الذي لا يضطر معه المكرَه إلى ارتكاب المحظور لا تجوز معه التقية إذ لم يعد الاكراه اكراهاً في الواقع لفقدانه أحد أركانه ، فيكون اكراهاً ناقصاً بخلاف التام الذي يولد اضطراراً أكيداً للمكره ، وإذا اتضح هذا اتضحت صلة العبارة بالتقية . ومما يقطع النزاع بتلك الصلة حديث الاِمام الصادق عليه السلام : « إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أُكرِه واضطرَّ إليه»(1) ، على أن لهتين العبارتين آثارهما الواضحة في ادخال التقية في موارد كثيرة في فروع الفقه مع عدم ترتب آثارها الواقعية بفضل هاتين العبارتين من قبيل صحة التقية في طلاق المكره مع الحكم بعدم وقوع الطلاق ، وصحتها في بيع المكره ولكن مع فساد البيع وهكذا الحال في العتق والمباراة والخلع وغيرها كثير .
وزيادة على ذلك نورد ماقاله الشيخ الاَنصاري في بحث التقية ، قال : (ثم الواجب منها يبيح كل محظور من فعل الواجب وترك المحرم . والاَصل في ذلك أدلة نفي الضرر، وحديث : «رفع عن أمتي تسعة أشياء» ، ومنها : وما اضطروا إليه..) (2)وواضح من هذا الكلام صلة القواعد الفقهية
____________
1) وسائل الشيعة 23 : 228 | 29442 باب 12 من أبواب كتاب الاَيمان .
2) التقية | الشيخ الاَنصاري : 40 .
( 68 )
الخاصة بازالة الضرر بالتقية كما أشرنا إليه سابقاً ، كقاعدة لاضرر وغيرها .
وأما عن أصل الحديث ومصادره فهو معروف لدى الفريقين ، فقد أخرجه العامّة بلفظ : رفع الله من أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما اسْتُكِرهوا عليه » (1) . وعدّه السيوطي من الاَحاديث المشهورة (2)وصرح ابن العربي المالكي باتفاق العلماء على صحة معناه فقال عند قوله تعالى : (إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطمَئِنٌ بِالاِيمانِ ) : (لما سمح الله تعالى في الكفر به.. عند الاكراه ولم يؤاخِذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة ، فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ، ولا يترتب حكم عليه ، وعليه جاء الاَثر المشهور عند الفقهاء : « رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » ، ـ إلى ان قال عن حديث الرفع ـ : (فإنّ معناه صحيح باتفاق من العلماء) (3).
والحديث المذكور رواه الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ : « رفع عن أُمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق بشفة » (4).
وأورده مسنداً في (الخصال) ، مع تقديم كلمة (وما لا يعلمون) على
____________
1) مسند الربيع بن حبيب 3 : 9 ، نشر مكتبة الثقافة . وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 5 : 160 ـ 161 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ . وكشف الخفاء | العجلوني 1 : 522 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1405 هـ . وكنز العمال | المتقي الهندي 4 : 233 | 10307 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1405 هـ .
2) الدرر المنتثرة في الاَحاديث المشتهرة | السيوطي : 87 ، ط1 ، مطبعة الحلي ، مصر .
3) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 ـ 1182 وفيه تفصيل مطول عن الاَحكام المتصلة بحديث الرفع ، فراجع .
4) التوحيد | الصدوق : 353 | 24 باب الاستطاعة .
( 69 )
(وما لا يطيقون) (1).
وأرسله في (الفقيه) بهذه الصورة : « وضع عن أُمتي تسعة أشياء : السهو ، والخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، والطيرة ، والحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق الانسان بشفة » (2).
كما أورده الشيخ الحر في (الوسائل) ، تارة عن الصدوق (3)، وأُخرى عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى (4).
وهذا الحديث الذي تحدث عنه علماء الاصول من الشيعة الاِمامية في صفحات عديدة في باب البراءة من الاُصول العملية ، صريح برفع المؤاخذة عن المكره .
وقد نصّ القرآن الكريم في أكثر من آية على ذلك ، وهذا يدل على صحة ما تضمنه الحديث حتى مع فرض عدم صحته في نفسه ، ومن بين تلك الآيات زيادة على ما مرّ ، قوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم ) (5).
____________
1) الخصال | الصدوق 2 : 417 | 9 باب التسعة .
2) من لا يحضره الفقيه | الصدوق 1 : 36 | 132 باب 14 .
3) وسائل الشيعة | الحر العاملي 15 : 369 | 20769 باب 65 من أبواب جهاد النفس ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاِحياء التراث .
4) وسائل الشيعة 23 : 237 | 29466 باب 16 من أبواب كتاب الايمان . واُنظر : نوادر أحمد بن محمد بن عيسى : 74 | 157 .
5) سورة النور : 24 | 34 . واُنظر : سبب نزولها في صحيح مسلم 8 : 244 كتاب التفسير باب قوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) .
( 70 )
ومن هنا درأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحدَّ عن امرأة زنت كرهاً في عهده الشريف ، وأمر بإقامة الحد على من استكرهها (1).
وقد مرّ فيما سبق وحدة الملاك بين الاكراه والتقية في بعض صورها ، مما يعني أن دلالة حديث الرفع على مشروعية التقية لالبس فيه ولا خفاء.
ونكتفي بهذا القدر من الاَحاديث المروية عن النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، في أصح كتب الحديث عند العامّة ؛ لننتقل بعد ذلك إلى تراث النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي حفظه أهل بيته عليهم السلام ـ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ـ لنقتطف منه جزءاً يسيراً من أحاديث التقية المروية في كتب الحديث عند شيعتهم ، سيّما وقد علم الكل كيف أينعت مفاهيم الشريعة على أيديهم عليهم السلام ، وكيف أغدقت علومهم بفاكهة القرآن ؛ لاَنّهم صنوه الذي لن يفارقه حتى يردا على النبي الحوض (2)، وكيف فاح عطر الاِيمان وأريج الحق من بيوتهم التي أذن الله لها أن ترفع ويذكر فيها اسمه . فنقول :
القسم الثاني : أحاديث أهل البيت عليهم السلام في التقية :
إنّ الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام في التقية كثيرة وقد بلغ رواتها الثقات عدداً يزيد على الحد المطلوب في التواتر ، وفي تلك الاَحاديث تفصيلات كثيرة تضمنت فوائد التقية ، وأهميتها ، وكيفياتها ، وموارد حرمتها ، مع الكثير من أحكامها فيما يزيد على أكثر من ثلاثمائة حديث تجدها مجموعة في كتب الحديث المتأخرة كوسائل الشيعة
____________
1) صحيح الترمذي 4 : 155 كتاب الحدود ، باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا .
2) كما في حديث الثقلين المتواتر عند جميع المسلمين وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » .
( 71 )
ومستدركه ، وجامع أحاديث الشيعة وذلك في أبواب كتاب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن هنا أصبحت دراستها في بحث مختصر كهذا متعذرة ، بل حتى الاكتفاء بعرض نصوصها كذلك أيضاً ، ولما لم نجد بداً من التعرض السريع إليها ارتأينا جمع ما اشترك منها في معنىً واحدٍ تحت عنوان واحد، ومن ثم الاستدلال على ذلك العنوان ببعض أحاديثه لا كلّها سيما وان القدر المشترك في أحاديث كل عنوان يبلغ حد التواتر المعنوي ، وقد اكتفينا ببعض العناوين المهمة وتركنا الكثير منها ، إذ لم يكن الهدف سوى وضع صورة مصغرة عن التقية في الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام ، وبالنحو الآتي :
أولاً : الاَحاديث المستنبطة جواز التقية من القرآن الكريم :
هناك جملة وافرة من الاَحاديث التي فسّرت بعض الآيات القرآنية بالتقية ، نذكر منها :
1 ـ عن هشام بن سالم ، عن الاِمام الصادق عليه السلام ، في قول الله تعالى : (أولئِكَ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَينِ بِمَا صَبَرُوا ) قال : « بما صبروا على التقية (ويدرؤنَ بالحَسَنَةِ السَّيِّئةَ ) (1)قال : الحسنة : التقية ، والسيئة : الاِذاعة»(2) .
2 ـ وعنه عليه السلام في قوله تعالى : ( ولا تستوي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئةُ ) قال : «الحسنة : التقية ، والسيئة : الاِذاعة » . وقوله عزَّ وجل : ( إدْفَعْ بالَّتي هيَ أحسَن ) ... قال : « التي هي أحسن : التقية ـ ثم قرأ عليه السلام ـ : ( فإذا الَّذي بَيْنَكَ
____________
1) سورة القصص : 28 | 54 .
2) اُصول الكافي 2 : 217 | 1 ، كتاب الاِيمان والكفر ، باب التقية .
( 72 )
وَبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حَمِيمٌ ) » (1).
ولا يخفى : أن تفسير الحسنة بالتقية ، والسيئة بالاِذاعة ، هو من باب تفسير الشيء ببعض مصاديقه ، وهذا مما لا ينكر ، فلو توقف مثلاً صون دم مسلم على التقية فلا شك في كونها حسنة ، بل من أعظم القربات ، وأما لو ترتب على الاِذاعة سفك دم حرام ، فلا ريب بِعدِّ الاِذاعة سيئة بل من أعظم الموبقات .
هذا ، وقد تجد في هذا النمط من الروايات ما يدل على عمق تاريخ التقية في الحياة البشرية ، باعتبارها المنفذ الوحيد المؤدي إلى سلامة الاِنسان أزاء ما يعرضه للفناء ، أو يقف حجراً في طريق المصالح المشروعة ، كما حصل ذلك لبعض الاَنبياء عليهم السلام ، ومن تلك الروايات :
عن أبي بصير ، قال : (قال أبو عبدالله عليه السلام : « التقية من دين الله ، قلت : من دين الله ؟ قال : إي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف : ( أيَّتُها العِيرُ إنَّكُم لَسارِقُونَ ) (2)والله ما كانوا سرقوا شيئاً . ولقد قال إبراهيم عليه السلام : ( إنّي سَقِيمٌ) (3) والله ما كان سقيماً » (4) .
ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن تقية يوسف عليه السلام إنّما هي من جهة قول المؤذن الآتي ، الذي صحت نسبته إلى يوسف عليه السلام باعتبار علمه به مع تهيئة مقدماته .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 218 | 6 باب التقية . ومثله في المحاسن | البرقي : 257 | 297 . والآية من سورة فصلت : 41 | 34 .
2) سورة يوسف : 12 | 70 .
3) سورة الصافات : 37 | 89 .
4) اُصول الكافي 2 : 217 | 3 باب التقية . ومثله في المحاسن للبرقي 258 | 203 . وعلل الشرائع | الصدوق : 51 | 1 ، 2 .
( 73 )
فانظر إلى قوله تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ءَاوَى إليهِ أخَاهُ قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبتَئسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِم جَعَلَ السِّقايةَ في رَحلِ أخِيهِ ثُمَّ أذَّنَ مؤذِّنٌ أيَّتُها العِيرُ إنَّكُم لَسَارِقُونَ ) (1).
ستعلم ان قول المؤذن كان بتدبير يوسف عليه السلام وعلمه ، وهو لم يكذب عليه السلام ، لان أصحاب العير كانوا قد سرقوه من أبيه وألقوه في غيابات الجب حسداً منهم وبغياً .
ومما يدل على صدق يوسف عليه السلام أن اخوته لما قالوا له بعد ذلك : (ياأيُّها العزِيزُ إنَّ لَهُ أباً شَيخاً كبيراً فَخُذْ أحَدَنا مَكانَه ) (2). لم يقل عليه السلام لهم بأنا لا نأخذ إلاّ من سرق متاعنا ، بل قال لهم : ( مَعَاذَ اللهِ أنْ نأخُذَ إلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتَاعَنَا عَنْدَه.. ) (3).
وبالجملة فان تقية النبي يوسف عليه السلام إنّما هي من جهة ظهوره بمظهر من لا يعرف حال اخوته مع اخفاء الحقيقة عنهم مستخدماً التورية في حبس أخيه . وعليه تكون تقيته هنا ليست من باب الاحكام وتبليغ الرسالة حتى يُزعم عدم جوازها عليه ، بل كانت لاَجل تحقيق بعض المصالح العاجلة كاحتفاظه بأخيه بنيامين ، والآجلة كما يكشف عنها قوله لهم بعد إن جاءوا من البدو : ( ادْخُلُوا مَصْرَ إنْ شاءَ اللهُ آمنينَ ) (4).
وجدير بالذكر أن البخاري قد أخرج في صحيحه بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ من طريقين ـ أنه قال :« .. ولو لبثت في السجن ما لبث
____________
1) سورة يوسف : 12 | 69 ـ 70 .
2) سورة يوسف : 12 | 78 .
3) سورة يوسف : 12 | 79 .
4) سورة يوسف : 12 | 99 .
( 74 )
يُوسُفَ لاَجِبتَ الدَّاعي » (1)!!
ولا أعلم فريّة تجوّز على أشرف الاَنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم التقية في ارتكاب ما أبى عنه يوسف عليه السلام واستعصم فيما لو جُعل صلى الله عليه وآله وسلم مكانه عليه السلام من هذه الفرية التي ليس بها مرية .
هذا ، وأما عن تقية إبراهيم عليه السلام ، فهي نظير تقية يوسف عليه السلام ، وذلك باعتبار أنه أخفى حاله واظهر غيره بهدف تحقيق بعض المصالح العالية التي تصب في خدمة دعوة أبي الاَنبياء عليه السلام إلى التوحيد ونبذ الشرك ، مثل تكسير الاَصنام وتحطيمها ، وليس في قوله : ( إنّي سقيمٌ ) أدنى كذبٍ ، لاَنّه ورّى عما سيؤول إليه حاله مستقبلاً ، بمعنى أنه سيسقم بالموت ، فتكون تقيته عليه السلام في موضوع لا في حكم حتى يُتأمَّل فيها .
ومن هنا كانت كلمة أهل البيت عليهم السلام قاطعة في صدق إبراهيم عليه السلام في تقيته. ولكن أبى البخاري إلاّ أن يكذّب إبراهيم عليه السلام ، فقد أخرج في صحيحه من طريقين عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «لم يكذب إبراهيم إلاّ ثلاثاً» وفي لفظ آخر : «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلاّ ثلاث كذبات» (2).
ولم يكتف البخاري بهذا ، بل أخرج بسنده عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (.. إنّ الله يجمع يوم القيامة الاَولين والآخرين في صعيد واحد... فيأتون إبراهيم فيقولون : أنتَ نبيُ الله وخليله من الاَرض اشفع لنا إلى ربّك، فيقول ـ فذكر كذباته ـ : نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى) .
____________
1) صحيح البخاري 6 : 97 باب سورة يوسف ، من كتاب التفسير .
2) صحيح البخاري 4 : 171 باب قول الله تعالى : ( واتَّخَذَ اللهُ إبراهِيمَ خَلِيلاً ) من كتاب بدء الخَلق .
( 75 )
ثم قال البخاري : (تابعه أنسٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) (1)!!
أقول : معاذ الله أن نصدّق بهذه الاَكاذيب وان قالوا بوثاقة رواتها !، وكيف لا نكذّبهم وقد رموا من قد رفع الله محلّه ، وارسله من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين ؟
وفي هذا الصدد قال الفخر الرازي في تفسيره عن خبر أبي هريرة : (ماكذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات) قال : (قلت لبعضهم : هذا الحديث لاينبغي أن يقبل ؛ لاَنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام لا تجوز ، وقال ذلك الرجل : فكيف يحكم بكذب الرواة العدول ؟ فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام ، كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى) (2).