المُناظرة الحادية والسبعون
مناظرة(1)مع بعض فضلاء حلب في أمر الصحابة
تكميل جميل وقد بحثت نحو هذا البحث مع بعض فضلاء حلب فتشيع وكان في دغدغة من سب الشيعة بعض الصحابة.
فقلت له: إنّي لا أسب أحداً منهم ولا أجوّزه ، والذين يسبون بعضهم ليس السب عندهم من شروط الاِيمان ، ولو أن مؤمناً لم يسبَّ إبليس والكفار والمنافقين لم يكن ذلك نقصاً في إيمانه، نعم لعن أعداء أهل البيت عليهم السلام عندهم من مكمِّلات الاِيمان ولو بسبيل الاِجمال ، فَلَعَن أعداءهم وتبرَّأ منهم واستمرت دغدغته في تخصيص السب .
فقلت له: أنا أبيِّن لك عذرهم ودليلهم الذي يعتمدونه في جواز سب من يسبونه ، ما تقول في الذين قتلوا عثمان ؟ وما تقول في طلحة والزبير وعائشة الذين خرجوا على علي وقُتِل في حربهم نحو ستّة عشر ألفاً كلهم من الاَنصار والمهاجرين وتابعيهم ؟
وكذا معاوية لما خرج على علي عليه السلام قتل في حربه نحو سبعين ألفاً من الاَنصار والمهاجرين والتابعين .
فقال: مذهبنا أن ذلك كله كان بالاجتهاد ، وهم غير مؤاخذين بل يثابون.
فقلت: إذا جاز الاِجتهاد في قتال أخي النبي صلى الله عليه وآله ووصيه خليفة المسلمين إجماعاً ، وجاز في قتل عثمان والاَنصار والمهاجرين والتابعين جاز في سب بعضهم ، مع أنَّ السب إنّما هو دعاء والباري إن شاء الله لم يقبله، وليس مثل سفك دماء الاَنصار والمهاجرين وتابعيهم، وهذا معاوية سفك دماء الاَنصار والمهاجرين وسنَّ السبّ على علي عليه السلام وأهل بيته الممدوحين بنص القرآن ونص الرسول صلى الله عليه وآله ، واستمر ذلك في زمن بني أُميّة ثمانين سنةً ، ولم ينقص ذلك من شأنه عندكم، وكذا الشيعة اجتهدوا في سب من اعتقدوا ضلاله لاَمور رووها من طرق مخالفيهم وطرقهم ، بحيث أفادهم علماً يقيناً في جواز سبهم فهؤلاء غير مأثومين وإن فرضنا أنهم مخطئون .
فقال: ماذا يروون من ذلك ؟
قلت: أشياء كثيرة لا يمكن إنكارها نقلها الفريقان منها تخلف أبي بكر وعمر عن جيش أُسامة وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: لعن الله من تخلَّف عن جيش أُسامة(2).
فقال: إنّما تخلَّف باجتهاد وشفقة على المسلمين .
فقلت: يقولون هذا خطأ محض لاَن الاجتهاد إنّما يجوز فيما لا نص فيه وقد قال تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَن الهَوَى * إِن هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَى )(3) فاجتهادهما ردٌّ على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وهل يتصوَّر عاقل أنهما كانا أعلم من الله ورسوله بصلاح المسلمين ؟ هذا عمى عن الحق وتلبيس بالشبهات !!
ومنها: منع أبي بكر فاطمة عليها السلام من إرثها بحديثٍ تفرَّد بروايته وليس صريحاً بمدعاه ، وهو مخالف للقرآن ، وقالت له: أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئتم شيئاً إدّا(4)، وإن صحّ ما رواه يكون النبي صلى الله عليه وآله قد قصَّر في تبليغ الرسالة حيث لم ينذر إلاّ أبا بكر فقط ، ولم ينذر أهل بيته وعشيرته كالعبّاس وولده عبدالله، وعلي وفاطمة عليها السلام وهما أولى بالاِنذار لقوله تعالى: ( وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ الاََقرَبينَ )(5)ومنعها فدك التي أنحلها إياها أبوها وتصرَّفت فيها في حياته ، وشهد لها علي والحسنان وأُمُّ أيمن ، فردَّ شهادتهم(6)وهم مطهَّرون بنص القرآن ، فماتت مغضبة عليه(7)وعلى عمر ، وأوصت ألا يصليا عليها ، وأن تدفن ليلاً(8)، ضخ، وقد قال أبوها صلى الله عليه وآله : فاطمةُ بضعَةٌ منّي ، من آذاها فقد آذاني(9)ومن آذى رسول الله فقد آذى الله وقد قال تعالى : ( الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسولَهُ لَعَنهُمُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَاباً مُّهِيناً )(10).
ومنها : منع عمر النبي صلى الله عليه وآله من الكتاب الذي أراد أن يكتبه قبل موته وأخبر أنَّنا لا نضل بعده أبداً ، ـ وقال ـ : دعوه فإنّه يهجر(11)حسبنا كتاب ربنا ، وهذا ردٌّ على رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى ، ولو خاطب أحدنا مثله بذاك لعُدَّ مسيئاً للاَدب فما ظنك بسيّد المرسلين ومنعه من هذا الكتاب الذي كان فيه هداية أُمّته إلى يوم القيامة.
ومن المشهور وصرَّح عمر به في بعض مجالسه أنّه ما منعه من مكاتبته وساعده بعضهم ، إلاَّ خوفاً من أن ينص على ابن عمّه(12)فيزول عنه ما كان قررَّه من الطمع في الملك، وكان عبدالله بن عبّاس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب نبيّنا(13).
ومنها أنّه كان يقول : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما(14)وهذا ردٌّ صريح على الله ورسوله، روى البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال: أُنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله ولم ينزل قرآن بحرمتها ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء قال أبو عبدالله البخاري: يعني عمر.(15)
ومنها: أنَّ عثمان وَلَّى أمر المسلمين أقاربه من بني أُميّة الفساق لمحض القرابة بعد أن نهاه الصحابة حتى أظهروا القتل وشرب الخمر(16)وأنواع المناكير وضرب عبدالله بن مسعود(17)شيخ القراء حتى كسر بعض أضلاعه، وضرب عمار(18) بن ياسر حتى حدث به فتق، ونفى أبا ذر(19)مع عظم شأنهم وتقدمهم في الاِسلام ، وما ذاك إلاَّ أنهم كانوا ينكرون عليه(20)بعض منكراته ، وردَّ طريد رسول الله صلى الله عليه وآله الحكم(21)وابنه إلى المدينة وكان النبي صلى الله عليه وآله قد أخرجهما منها ، وكان قد سأل أبا بكر وعمر في أيام خلافتهما بردِّهما فلم يقبلا، وكانت عائشة من أكبر الباعثين على قتله وتقول: اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً(22)، ونعثل اسم يهودي كانت تشبّهه به ، وكانت تخرج قميص رسول الله صلى الله عليه وآله ـ وتقول : هذا قميص رسول الله ـ لم يبلُ وقد أبلى نعثل سنّتهُ(23) فعند ذلك ثار الصحابة وغيرهم عليه وقتلوه.
...والعجب أنّ عائشة كانت من أكبر الباعثين على قتله، ولمّا قتل وصار الاَمر إلى علي عليه السلام خرجت تطالب بدمه(24)ولما قدمت البصرة خرج إليها أبو الاَسود الدؤلي(25)فقال: يا أُمّ المؤمنين ، لِمَ جئت ؟ قالت: أُطالب بدم عثمان ، فقال: أنتِ لستِ وليَّة دمه ، أولياء دمه في الشام(26)، وأيضاً الذين قتلوه ليسوا في البصرة ، وإنّما هم في المدينة، وأمثال ذلك مما ورد في كل واحد بخصوصه مما نقله أهل السنة وغيرهم لو ذكرناه لطال.
وأمّا ما ورد في الصحاح الستّة وغيرها من قبائح الصحابة بقول مطلق فكثيرٌ جداً ، فمنه حديث الحوض ، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين يعني مسلم والبخاري في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وآله قال: ليردنَّ عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا فأقول أي ربّ أصحابي أصحابي فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر والمعنى متفق وفي آخره إنّه لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم(27).
ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه وفي آخره زيادة (فأقول: سحقاً لمن غيَّر بعدي).
ورواه أيضاً في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة وفي آخره زيادة (فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هُمَل النعم)، وروي مثل ذلك في مسند عائشة بعدة طرق، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر من عدة طرق، ومن مسند أُم سلمة من عدة طرق، ومن مسند سعيد بن المسيب من عدة طرق ، فهذا وأمثاله كثيرٌ ، ذمٌ من الرسول لهم ثابت في صحاحكم قد بلغ حدَّ التواتر ، وهو غير ما يدعونه من ميل كثير منهم إلى الحياة الدنيا وطلب الملك والرئاسة ، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لاَهل البيت عليهم السلام وآذوهم ، وقد ورد في قتل الملوك أبناءهم وقتل أبنائهم لهم ما يقرب من ذلك، وأظهر من ذلك القرآن فقد أخبر بفرارهم(28)من الزحف وهو من أكبر الكبائر قال الله تعالى: (وَيَومَ حُنَينٍ إِذ أعجَبتكُم كَثرَتُكُم) إلى قوله : ( ثُمَّ وَلَّيتُم مُّدبِرينَ )(29)كانوا أكثر من عشرة آلاف فلم يتخلَّف معه إلاّ عليٌ والعباس وابنه الفضل وربيعة وأبو سفيان وهما ابنا الحرث بن عبد المطلب وأُسامة بن زيد وعبيدة بن أُمّ أيمن(30)والباقون كلهم أسلموا نبيَّهم إلى القتل ، ولم يخشوا العار ولا النار ، ولم يستحيوا من الله ولا من رسوله ، وهما يشاهدانهم فكيف يستبعد منهم ميلهم إلى الدنيا بعده وطلب الملك ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله بذلك في حديث الحوض.
وقد فرَّ أبو بكر وعمر في عدَّة مواطن أُخر مثل أُحد(31)وخيبر(32)كلها متفق عليها بين أهل النقل ، ومثل ذلك في القبح بل أقبح ما أخبر عنه بقوله تعالى: ( وإذا رَأَوا تجارةً أو لَهواً انفَضُّوا إِلَيها وَتَرَكُوكَ قائِماً )(33)، روى البخارى(34)بسنده إلى جابر بن عبدالله الاَنصاري قال: أقبلت عيرٌ يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وآله فثار الناس إلاّ اثني عشر رجلاً ، فأنزل الله : ( وإذا رَأَوا تجارةً أو لَهواً إنفَضُّوا إِلَيها ) ففي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب ، وفي أُخرى أنّه كان قائماً في الصلاة، وكانوا إذا أقبلت عير استقبلوها بالطبل والتصفيق وهو المراد باللهو.
فهذا نصُّ القرآن الذي لا يمكن إنكاره ، فإذا كان هذا حالهم وسوء أدبهم وعدم اعتنائهم بنبيهم وبسماع خطبته وصلاة الجمعة معه ، وهما واجبان وهو يشاهدهم ويعلم بهم لاَجل تفرجٍ على عيرٍ وسماع الطبل ولهو ، فهل يبعد منهم أن يخالفوا أمره طلباً للملك والرئاسة بعد وفاته ، فليعتبر العاقل فإن في ذلك معتبراً، وأيم الله إن بعض المشايخ والوعاظ لو كان مقبلاً على أصحابه يعظهم ويخوّفهم فسمعوا بلهو أو طبل لاستحوا وهابوا أن يخرجوا لاَجل أمر مباح ، وإن لم يكن في خروجهم ترك واجب ، فما ظنك بمثل سيد المرسلين وسماع خطبته وصلاة الجمعة معه والخروج وهو يشاهدهم أو في الصلاة لاَجل تفرجٍ على عيرٍ وسماع لهوٍ؟ وعند التحقيق هذا أقبح من فرارهم من الزحف لاَن الفرار وإن كان كبيرة ، لكن فيه بقاء نفس وأما هذا ففيه من قلّة الحياء الجرأةُ على الله وعلى رسوله ما لا يمكن حده ويكفي من ذلك ترجيح التفرج على العير وسماع الطبل واللهو على سماع خطبة النبي وصلاة الجمعة معه الواجبين فاعتبروا يا أُولي الاَبصار.
فهل يستبعد ممن هذا شأنه في حياة نبيّه وهو يشاهده ميله بعد ذلك إلى الملك والرئاسة وارتكاب إثم لذلك ، فهذا وأمثاله وهي كثيرة ، عذر الشيعة في سبهم بعض الصحابة الذي ثبت عندهم أنهم فعلوا مثل ذلك وهو عندهم عذر واضح ، ولهم مع ذلك كتب مدوَّنة مطوَّلة مشهورة تحتوي على أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تجوِّز لهم سبَّ من يسبّونه ، وقد نقل جميع ذلك أهل السنة ولكن يغمضون العين عنه أو يتأولونه بما لا يفيد ، ويقولون إنّه ما ذكرناه وأمثاله فإن كان كافياً في جواز سبّهم فلا لوم ، وإلاّ فغاية الاَمر أن يكونوا مجتهدين مخطئين مثل بعض الصحابة والتابعين .