بحث الصفات لا ينفك في الحقيقة عن الذات (إلاّ لضرورة منهجية) حتى ان الدليل الاستقرائي في مقام إثبات الصانع بالنتيجة لا يسعه إلاّ أن يتجه للترجيح فاليقين بفرضيته وجود ذات حكيمة وهذا الاتحاد بين الذات والصفات ليس غريباً على العدلية عموماً والإمامية خاصة الذين آمنوا إن صفاته عين ذاته. (1)
اتجه البحث الكلامي القديم إلى تقسيم الصفات (صفات ذات، صفات افعال) (صفات ثبوتية/صفات سلبية)... (صفات اضافية/صفات نفسية)... الخ... وإلى تعداد هذه الصفات وكيفية اجرائها على المولى بطريقة لا يلزم منها نسبة النقص إليه... وفي ضوء هذه المطالب الأساسية للبحوث القديمة... انقلب الأمر رأساً على عقب... وصار التوحيد مثار جدل وفُرقة وتَمذهُبْ وصفات الله طريق للتكفير... والتفريق... عوضاً أن تكون قاعدة للتقريب والتوحيد النفسي والاجتماعي... لقد غفل البحث القديم عن مسألة مركزية وهي قيمة البحث عن الصفات ولماذا نريد معرفتها؟ وهل علاقتنا بصفات الله كعلاقة اليونان باسماء آلهتهم؟ يؤكد باقر الصدر:
(إن عقيدة التوحيد تعلمنا أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله لا بوصفها حقائق غيبية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الإغريق وإنما نتعامل مع هذه الصفات بوصفها رائداً عملياً بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه وتعالى)(2)... لقد حول الجدل الكلامي البحث في الصفات إلى تجريد ذهني صرف... وتكريس لاهوتي للاله... بعيداً عن الإنسان وهمومه ومشاكله.
ان الشهید السیدباقر الصدر في مجال نظريته حول المثل الأعلى المطلق والارتباط بالله شرح العلاقة بالصفات بأنها تكريس وجهاد من أجل الانسان لمّا كانت الصفات تمثّل هدفاً للمسيرة وغاية يتحرك نحوها الإنسان لا على المستوى الفردي بل على مستوى الأمة أيضاً (وهنا يأتي دور الدولة الإسلامية لتضع الله هدف للمسيرة الإنسانية وتطرح صفات الله وخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه انفتحت أمامها آفاق أرحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق)(3)...
إن التخلق باخلاق الله وتكريس صفاته في الحياة ومسيرة الفرد والمجتمع تعني إرساء نظم اجتماعية وعلاقات بعيدة عن الظلم والعجز والجهل (فالسير نحو مطلق كله علم، كله قدرة، كله عدل، وكله غنى يعني ان تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلا باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر)(4)، ولكن كيف يكون السير والكدح نحو الله لمصلحة الإنسان وفي خدمته؟ السرّ في ذلك أن الله كما رأينا سابقاً هو المطلق وهو المثل الأعلى للبشرية لذلك كان سبيله وطريقه هو الطريق لخدمة الإنسان (وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان لأن كل عمل من أجل الله فإنه من أجل عباد الله لأن الله هو الغني عن عباده ولما كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيز له إلى جهة كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك)(5)، بعد أن بينا طبيعة علاقة الإنسان بصفات الله في المنظور الصدري يطرح سؤال هام: لماذا خص (العدل) بالذات من بين الصفات الإلهية الأخرى ليكون أصلا من أصول الدين؟ وما هي ميزته في ذلك؟
الجواب: (لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا اجتماعية ميزة القدوة لأن العدل هو الصفة التي توحي للمسيرة الاجتماعية التي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أي صفة أخرى.. إذن من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية ولأجل ذلك أفرز)(6).. فالكَوْنُ قائم على أساس العدل والإسلام أراد للعلاقات الاجتماعية أن تؤسس على موازين العدل وحينما يحصل هذا التوافق والانسجام التكويني مع النظم التشريعية يسود الرفاه وتنزل البركات (ولو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقاً)(7)، عندما أحاط الصدر بالعمق الدلالي للعدل في بعده الاجتماعي والسياسي لمْ يصرف جهوداً كبيرة في بحوثه في إثبات أصل العدل بقدر ما تحدث عن أبعاده وآثاره، فهو اكتفى بالاشارة إلى دليلين عابرين على صفة العدل في بحثه: (موجز اصول الدين):
الأول:
ان حسن العدل وقبح الظلم من أحكام العقل النظري وهذا العقل النظري هو من الله وبالتالي فهو محيط بهذه الأحكام والقيم.
والثاني:
أنه من بحكم قدرته الهائلة وسيطرته الشاملة على الكون ليس بحاجة إلى أي مساومة ولف ودوران ومن هنا نؤمن بأن الله عادل لا يظلم أحداً(8)، ولما كان الصدر يولي العدل أهمية بالغة على مستوى العلاقات الاجتماعية أرجع جملة من الظواهر إلى العدل وفسر عدة قضايا في منظور العدل وأسس جملة من الرؤى استناداً إلى هذا الاصل ونكتفي هنا بثلاث نماذج نقتبسها من فكر باقر الصدر:
* النموذج الأول:
ايمانه بأن العدل الاجتماعي هو الركن الثالث للهيكل العام للاقتصاد الإسلامي هذه العدالة التي جسّدها الإسلام فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق التوازن المنشود فهذا العدل الاجتماعي هو الوجه الآخر للعدل للإلهي يقول باقر الصدر: (ان العدل الاجتماعي الذي تقوم على أساسه مسؤوليات الجماعة في خلافتها العامة هو الوجه الاجتماعي للعدل الالهي الذي نادى به الأنبياء وأكدت عليه السماء كأصل من أصول الدين يتلو التوحيد مباشرة)(9)
* النموذج الثاني:
تصنيفه لطبقات المجتمع الفرعوني على أساس قيمة العدل حيث قسم هذا المجتمع إلى فئات مختلفة يحدّدها موقفها من الظلم والفئات الستة هي:
أ) ظالمون مستضعفون (اعوان الظلمة).
ب) الحاشية المتملقون.
ج) الهمج الرعاع.
د) المهادنون.
هـ ) الرهبانيون.
و) المستضعفون(10)
* النموذج الثالث:
اكتشافه لقانون وسنة تاريخية تقوم على التناسب بين العدل وبين ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة وبالمقابل يتناسب مدى الظلم في المجتمع تناسباً عكسياً مع علاقات الإنسان بالطبيعة (فمجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والإمكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها وتمنع الأرض بركاتها واما مجتمع العدل فهو على العكس تماماً هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والإمكانيات هذا المجتمع الذي تحدّثنا الروايات عنه تحدثنا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) تحدثنا بما تحفل به الأرض والسماء في ظل الإمام المهدي(عليه السلام) من بركات وخيرات وليس ذلك إلا لأن العدالة دائماً وأبداً تتناسب طرداً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة...)(11)
المصادر :
1- انظر الاسس المنطقية للاستقراء، ص441 ـ 451
2- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية/ ص193
3- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة/ ص200
4- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة/ ص710
5- م. ن، ص716
6- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية/ ص197 ـ 198
7- الجن: 16
8- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة/ ص54
9- محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة/ ص47
10- تفصيلات هذا القسم، انظر المدرسة القرآنية، من ص230 إلى ص236
11- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية/ ص238
source : .www.rasekhoon.net