روى العامّة الكثير من التقية القولية الصادرة عن الصحابة والتابعين وغيرهم ، منبهين على أن الاَخبار أو الآثار التي سنوردها من كتب العامّة في هذا الفصل لا تعبر بالضرورة عن التزامنا بدلالتها على التقية واقعاً ؛ لا سيّما فيما سيأتي من الصور الفعلية في المبحث الثاني ؛ لكون بعضها أقرب إلى النفاق منه إلى التقية ، وإلاّ فهو ـ على أقل تقدير ـ من التقية ، ولكن في غير موضعها المطلوب شرعاً .
ومهما يكن ، فسوف نذكر من الصور القولية في التقية ما يأتي :
تقية عمّار بن ياسر وجماعته :
وهي أوضح من نار على علم ، والاطالة فيها اطالة في الواضحات ، ويكفي أنّه نزل في عذره على ما واقى المشركين عليه من القول ، قرآناً مبيناً ، وقد علم الكل منزلة عمّار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكفي أنّه ملىء
( 130 )
ايماناً من فرقه إلى قدمه .
تقية ابن مسعود :
عن الحارث بن سويد قال : «سمعتُ عبدالله بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به».
أخرجه ابن حزم في المحلى ، وقال : «ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف» (1).
تقية أبي الدرداء وأبي موسى الاَشعري :
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء أنّه كان يقول : «إنّا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم» (2).
وقد بيّنا سابقاً من نسب هذا القول إلى أبي موسى الاَشعري ، كما ورد نظيره عند الاِمامية منسوباً إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وقد تقدم أيضاً .
تقية ثوبان واباحته الكذب في بعض المواطن :
أورد عنه الغزالي أنّه كان يقول : «الكذب إثم إلاّ ما نفع به مسلماً ، أو دفع عنه ضرراً» (3).
علماً بأن التقية لم تكن من الكذب كما يتصورها بعض الجهلاء ، ويدل على ذلك أن الله تعالى أخرجها عن حكم الافتراء فقال عزَّ وجلَّ : ( إنَّما يَفتَري الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بآياتِ الله وأُولئك هم الكاذبون * مَنْ كَفَرَ باللهِ
____________
1) المحلّى | ابن حزم 8 : 336 مسألة 1409 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت .
2) صحيح البخاري 8 : 37 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) إحياء علوم الدين | الغزالي 3 : 137 .
( 131 )
مِن بَعدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمئنٌ بالاِيمان ) (1).
قال تاج الدين الحنفي في تفسيره : «والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء» (2).
أقول : أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن سوار بن عبدالله ، قال : «إنّ ميموناً (3) كان جالساً وعنده رجل من قرّاء أهل الشام ، فقال : إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن خير . فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلاً وآخر يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى إليك . فقال : أرأيت الرجل ؟
ما كنت فاعلاً ؟
قال : كنت أقول : لا .
قال : فذاك» (4).
على أن الكذب هو ما عقد كذباً ، والتقية إنّما تعقد للاحسان ، والاصلاح ، ودفع الضرر ، وتحقيق المصالح المشروعة ، وفي الحديث الشريف : « إنّما الاَعمال بالنيات » ، ثم كيف تكون التقية كذباً ! وقد اتقى قومَه أشرفُ الاَنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ؟
____________
1) سورة النحل : 16 | 105 ـ 106 .
2) الدر القيط من البحر المحيط | تاج الدين الحنفي 5 : 537 ـ 538 في تفسير الآيتين المتقدمتين .
3) هو ميمون بن مهران التابعي (ت | 117 هـ) .
4) الاِشراف على مناقب الاَشراف | ابن أبي الدنيا : 118 | 216 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1412 هـ .
( 132 )
تقية أبي هريرة :
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال : «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته . وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم» (1).
وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الاَحاديث التي تبيّن أسامي أمراء السوء وأحوالهم ، وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير إلى حكم يزيد بن معاوية ؛ لاَنّها كانت سنة ستين من الهجرة (2).
تقية ابن عباس من معاوية :
أخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال : «قال رجل لابن عباس رضي الله عنه : هل لك في معاوية أوترَ بواحدة ؟ ـ وهو يريد أن يعيب معاوية ـ فقال ابن عباس : أصاب معاوية» .
هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدل على انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية ، فقد أخرج بسنده عن عكرمة ، قال : «كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ، فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار ؟» .
قال الطحاوي بعد ذلك : «وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس : (أصاب
____________
1) صحيح البخاري 1 : 41 كتاب العلم ، باب حفظ العلم (آخر أحاديث الباب) .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 1 : 173 .
( 133 )
معاوية) على التقية له» ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث(1).
أقول : هو عين التقية ، إذ كيف يستصوب حبر الاُمة صلاة حمار !
تقية سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب :
أخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسان بن أبي يحيى الكندي ، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة الاَمر . قال : فلما قام سعيد تبعته ، فقلت : إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الاَمر ، وهم يصنعون بها كذا ، ويصنعون بها كذا ؟! فقال : ضعها حيث أمرك الله ، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لاَخبرك (2).
وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه ؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه .
قال الدكتور الهراس في هامشه : «يظهر أن سعيداً رحمه الله كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية ، ولهذا سكت» (3).
هذا وقد أورد العلاّمة الاَميني تقية سعيد بن المسيب من سعد بن أبي وقاص في سؤاله إياه عن حديث الغدير ، فراجع (4).
تقية رجاء بن حيوة :
قال القرطبي المالكي : «وقال ادريس بن يحيى : كان الوليد بن عبدالملك
____________
1) شرح معاني الآثار| الطحاوي 1 : 389، باب الوتر ، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت | 1407 هـ .
2) كتاب الاَموال | أبو عبيدة القاسم بن سلام : 567 | 1813 ، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1406 هـ .
3) كتاب الاَموال : 565 | 1801 .
4) الغدير | العلاّمة الاَميني 1 : 380 ، ط5 ، دار الكتاب العربي، بيروت | 1403 هـ .
( 134 )
يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ، ويأتون بالاَخبار ، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه .
فقال : يا رجاء ! أُذكَرُ بالسوء في مجلسك ولم تغيّر ؟!
فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين .
فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلاّ هو .
قال : الله الذي لا إله إلاّ هو .
فأمر الوليد بالجاسوس ، فضُرب سبعين سوطاً . فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ! بك يُستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري !!
فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خيرٌ لك من أن يُقتل رجل مسلم» (1).
أقول : إنّ تقية رجاء هنا مضاعفة .
أما أولاً ، فباظهاره خلاف الواقع تقية .
وأما ثانياً ، فبمخاطبته لمثل الوليد الفاسق اللعين بخطاب الموافقين تقية أيضاً .
وقد حصل نظير هذه التقية لسعيد بن أشرس ـ صاحب مالك بن أنس ـ مع سلطان تونس ، إذ كان قد آوى رجلاً يطلبه السلطان ، ولما أُحضر أنكر ذلك وحلف بأنّه ما آواه ولا يعلم له مكاناً (2).
____________
1) الجامع لاحكام القرآن | القرطبي 10 : 124 .
2) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 124 .
( 135 )
تقية واصل بن عطاء :
قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل : «لا ينطقن أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا . فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لاَي شيءٍ جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله . قال : فكفوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلما أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا . قال : فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا» (1).
تقية عمرو بن عبيد المعتزلي :
بعد ثورة إبراهيم بن عبدالله وأخيه محمد ذي النفس الزكية على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما ، قال المنصور ـ يوماً ـ لعمرو بن عبيد : «بلغني أن محمداً بن عبدالله بن الحسن كتب اليك كتاباً» قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه .
قال : فبم أجبته ؟ قال : أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف الينا ، أنّي لا أراه ؟!
قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي !! قال عمرو : لئن كذبتك تقية ، لاَحلفنَّ لك تقية . قال المنصور : والله ، والله ، أنت الصادق البر» (2).
____________
1) كتاب الاَذكياء | ابن الجوزي : 136 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ .
2) تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي 12 : 168 ـ 169 | 6652 في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي .
( 136 )
تقية أبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى :
أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع قال : «جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعتُ أبي حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟ فقال : مخلوق. فقال : تتوب وإلاّ أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله .
قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق .
فقال أبي : فقلت لاَبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟
قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ فاعطيته التقية» (1).
ولعدم جدوى الاكثار من صور التقية القولية سنكتفي في اختتام هذا المبحث بما قاله الشيخ مرتضى اليماني ـ بهذا الصدد ـ فيما نقله عنه جمال الدين القاسمي في تفسيره .
قال : «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران :
أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء ، وسلاطين الجور وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، واجماع أهل الاِسلام ، ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحقّ عدواً لاَكثر الخلق..» (2).
____________
1) تاريخ بغداد 13 : 379 ـ 380 | 7297 في ترجمة أبي حنيفة تحت عنوان (ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن) .
2) محاسن التأويل | جمال الدين القاسمي 4 : 82 ، ط2 ، دار الفكر، بيروت | 1398 هـ .
( 137 )