ـ الكلمة الثامنة: (معنا):
وليهنأ اصحاب الحسين(ع) بمعيّة الحسين في هذه الرحلة، وقد كانالناس يقولون عندما كانت الرحلات الطويلة شاقة وخطرة وعسيرة:(الرفيق قبل الطريق).
وطريق كربلاء، طريق شاق وعسير وطويل، ليس في ذلك شك.وطريق صاعد، وعر، كثير المزالق.
يبدا من نقطة الانا وينتهي الي الله تعالي، ومن الدنيا الي الا´خرة، ومنالتعلّق بالدنيا الي التجرد والترفع عن الدنيا، وتكثر المزالق والمخاطر عليهذا الطريق. و يكثر المعرضون عنه ويقلّ روّاده، ولكن (معيّة)الحسين(ع) علي هذا الطريق تخفّف من متاعب الطريق، وتؤمّن للاءنسانسلامة الحركة والوصول الي الغاية.
وفي كل طريق صعب وشاق يحتاج الانسان الي (دليل) و (قدوة).
ومهمة (الدليل) هو التوجيه والدلالة . كما تشير اللوحات الموضوعةعلي مفارق الطرق الي الجهات التي يقصدها الروّاد.
والطرق السهلة واليسيرة لا يحتاج فيها الاءنسان الي أكثر من (دليل).
وامّا الطرق الصعبة فيحتاج الاءنسان فيها بالاءضافة الي الدلالة الي(القدوة) التي تتقدمه وتتحرك معه وامامه، وتبعث في نفسه القوة والثقة،لئلا يتعب، ولئلا يياس، ولئلا يتمكن منه الرعب والخوف والتعبوالياس.
والحسين(ع) للسالكين علي طريق ذات الشوكة دليل ومعلم اولاً،وقدوة وأسوة ثانياً، وكان يقول للناس عندما يستنصرهم: (ونفسي معأنفسكم واهلي مع اهليكم).
ولست ادري ماذا فيهذه الجملة: (فاءني راحل مصبحاً اءن شاء الله) منعزم واءرادة علي تغيير مسار التاريخ. والاعمال العظيمة تحتاج الي اءرادةحاسمة وعزم؟ والعزم دليل القوة، كما أن التردد في العزم دليل العجز.يقول الاءمام الصادق(ع): «ما عجز جسم عمّا قويت عليه النية».
ولست أدري ماذا اودع الله في هذه الرحلة بهذه الكوكبة الصغيرة منالمؤمنين من التاييد والتسديد والتوفيق والنصر؟ فقد غيّرت هذه الرحلةعلي بساطتها مسار تاريخ الحضارة الاءسلامية، ولولا هذه الرحلة لتمكنبنو امية من تغيير معالم هذا الدين وتحريفه، وتقديم صورة أخريللاءسلام هي اقرب الي بطر الملوك واءسرافهم منه الي دين الله.
ولو تغيّر هذا الدين لتغيّر مسار الحضارة البشرية
اءن شاء الله:
وهي النقطة العاشرة في هذا الخطاب الحسيني.
في هذه الجملة نلمس اءرادتين تندك اءحداهما في الاخري. ولايكتسب العمل قيمته الحقيقية اءلاّ بحضور هاتين الاءرادتين معاً، واندكاكاحداهما في الاخري.
الاءرادة الاولي هي اءرادة العبد، والاءرادة الثانية هي اءرادة الله تعالي،وتذوب الاولي في الثانية.
اءن الاءنسان (خليفة) الله، ينفّذ مشيئة الله واءرادته علي وجه الارض فيعمارة الارض، واءصلاح الاءنسان من خلال اءرادته واختياره، من دون انيفقده ذلك حرية الاختيار والقرار.
وهذا هو الفارق بين (الا´لة) و(الخليفة) كل منهما يحقّق اءرادةالطرف الا´خر، ولكن الا´لة تحقق اءرادة الطرف الا´خر دون اختيار واءرادة،و (الخليفة) يحقق اءرادة الطرف الا´خر من خلال اءرادته واختياره.
والجماد والنبات والحيوان أدوات مسخرات لتحقيق اءرادة الله تعاليومشيئته، وفق قوانين اءلهية ثابتة في الطبيعة، ولكن من دون اءرادةواختيار.
وأمّا الاءنسان فهو خليفة الله تعالي، خلقه الله تعالي واكرمه بخلافتهعلي وجه الارض: (قال... اءني جاعل في الارض خليفة) ليقوم بتنفيذ مشيئةالله واءرادته علي وجه الارض، ولكن من خلال اءرادة الانسان نفسهومشيئته، لا من دون اءرادة واختيار.
وفي هذه الفقرة من خطاب الحسين(ع) نلمس نحن هذه الحقيقةبشكل واضح.
فهو يقول اولاً:
«فاءنّي راحل مصبحاً».
في هذه الجملة تبرز (الانا) و (الاءرادة الاءنسانية) بصورة واضحة.«اءني ـ راحل».
ولكن الجملة الثانية:
ـ «اءن شاء الله»
تاتي مباشرة بعد الجملة الاولي'، لتكفكف من بروز (الانا) في الجملةالاولي' ولتوجّه (الانا) و (الاءرادة) للاندكاك في اءرادة الله تعالي'، ولتوظّفالانا واءرادته في تنفيذ اءرادة الله ومشيئته.
اءن الحسين(ع) هنا، يعبّر في الجملة الاولي: (فاءني راحل) عن عزمواءرادة لاحدّ لهما في التضحية والفداء. وهذه التضحية تنمّ وتنبع عن(اءرادة قوية وصارمة).
وهذه الاءرادة تُبرز بصورة قهرية (الانا)، وتركّزه في رحلةالحسين(ع) الي الله تعالي، ولاشك ان (الانا) تبرز هنا في ساحة طاعة اللهتعالي، وليس في ساحة الشيطان، وليس تركيز الانا وبروزه في ساحةطاعة الله، كتركيز الانا وبروزه في ساحة الشيطان.
اءلاّ ان الحسين(ع) ماضٍ في هذه الرحلة الي الله تعالي، ويريد انيتجرّد عن (الانا) حتي في ساحة طاعة الله، و لا يريد أن يأخذ معهُ (الانا)الي الله تعالي، فاءذا عزم علي الرحيل الي الله يقول:
(اءن شاء الله)، ويربط مشيئته بمشيئة الله، ويصهر اءرادته و اختياره فياءرادة الله، ويوظّفها لتنفيذ مشيئة الله تعالي واءرادته.
ونحن نمر بهذه الجملة من الخطاب الحسيني ونشعر بالرحيل،ونشعر بمشيئة الله، ولكن لا نجد بينهما (الانا).
وما اشبه موقف الحسين(ع) في هذه الجملة بموقف ابيه اءسماعيل(الذبيح الاول) عندما عرض عليه ابوه اءبراهيم خليل الله أن يذبحه، كماأراه الله تعالي ذلك في المنام!
(فلما بلغ معه السعي قال: يابني اءني أري في المنام أني أذبحك فانظرماذاتري).
(قال: يا ابت افعل ما تؤمر، ستجدني ان شاء الله من الصابرين).
اءن في جملة: (يا ابت افعل ما تؤمر) التي نطق بها اءسماعيل(ع) فيسن المراهقة من التضحية، والفداء، والعطاء، والبذل، واليقين، والشجاعة،والحزم، والقوة، والصبر، ومقاومة الهوي، والتنكر للذات، والترفع عنالدنيا، والاءقبال علي الله، والاءعراض عن الدنيا، والاءخلاص لله، والعزوفعن غير الله، وما لست ادري من القيم الانسانية، ما لا حدّ له.
ولكن في هذه التضحية والعطاء تبرز (الاءرادة)، ومن خلال الارادةيبرز (الانا).
وهو ما لا يريد ذبيح الله اءسماعيل(ع) ان ياخذه معه في رحلته الي الله.
صحيح أن (الانا) يبرز هنا في ساحة طاعة الله، وليس في ساحةالطغيان والهوي والشح والبخل والضعف والجبن وحب الدنيا.
ولكن هذه الساحة وما فيها يجب ان يكون كله لله تعالي، وليسلاءسماعيل(ع) فيها شيء، واءسماعيل(ع) لا يريد ان يدخل هذه الساحةالربانية محمّلاً بـ (الانا) ومثقلاً بـ(الانا). بل يريد ان يتخفف عن ثقلالانا، ويندكّ وتندكّ اءرادته وفعله وتضحيته في مشيئة الله تعالي واءرادته،وكانه (وليس كانه بل تحقيقاً) ليس له دور ولا أثر ولا فعل ولا فضل فيهذه التضحية النادرة، واءنما كل ذلك لله تعالي وبمشيئة الله واءرادته،وبفضله ورحمته وهو كذلك، فيقول:
(ستجدني اءن شاء الله من الصابرين).
فتشعر بالتضحية والعطاء العظيم، وتشعر بمشيئة الله تعالي وفضلهورحمته علي اءسماعيل بهذه التضحية، ويختفي اءسماعيل(ع) ويختفيظلاله تحت كلمة (اءن شاء الله) حتي لا تكاد تشعر به، رغم ضخامةالتضحية وعظمة الفداء.
صلّي الله عليك يا ابن اءبراهيم خليل الرحمن تضاءلت أمام عظمة الله،فعظّمك في محكم كتابه، وذبت في مشيئة الله فأبرزك الله تعالي في قرا´نعظيم يتلوه الناس ليلاً ونهاراً عبر القرون: (واذكر في الكتاب اءسماعيل اءنّهكان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً وكان يامر اهله بالصلاة، والزكاة، وكان عند ربّهمرضياً).
ولقد كان مشهد هذه التضحية الفريدة في التاريخ صغيراً في الارضعظيماً في السماء. ولقد اجتمع الملائكة يومئذٍ عند هذا المشهد العظيم،ليروا أن ابا الانبياء اءبراهيم(ع) قد اضجع فلذة كبده اءسماعيل علي الارض،وتلّه للجبين، واهوي بالسكين علي نحره ليذبحه، واءسماعيل مستسلملامر الله لا يضطرب ولا يتحرك، ولم يشهد يومئذٍ هذا المشهد العظيم عليالارض من الناس أحدٌ؛ فضجّت الملائكة الي الله تعالي يدعون اللهالرحمن الرحيم أن يفدي اءسماعيل بذبح عظيم .
ولقد كانت الدنيا يومئذٍ غارقة في ظلمات الكفر والجهل. ومن بينهذه الظلمات كان يرتفع عمود من النور من وادي مِني' الي السماء،يجتمع حوله ملائكة الله ليروا مشهد هذه التضحية العظيمة، تضحية الابنوتضحية الاب.
ولست أدري أيهما كان اعظم عند الملائكة يومئذٍ، وهم يشهدونهذا المشهد العظيم: تضحية الاب بابنه، ام تضحية الابن بنفسه علي' يدابيه؟
ثم أيهما كان أعظم لدي الملائكة، هذه التضحية النادرة والعجيبة منذلك الشاب اليافع المراهق اءسماعيل(ع)، ام تعليق ذلك كله علي مشيئة الله:(ستجدني اءن شاء الله من الصابرين)؟
ولكن مهلاً يا ملائكة ربّي لا تسجّلوا المثل الاعلي لهذا الوالد وماولد8 وتريّثوا حتي ياتي الله من ذرية هذا الاب وابنه في كربلاء، بابيالشهداء يحمل رضيعه علي يده وهو يتلظي' عطشاً، ويطلب له الماءفيرميه الخبيث حرملة بن كاهل الاسدي بسهم فيذبحه من الوريد اليالوريد علي يده أبيه!
فيضع الحسين كفّه تحت نحر الطفل، ويرمي بدمه الي السماء لئلاينزل غضب الله علي الارض.
ثم لا يستعظم شيئاً من فعله، ولا يكبر شيئاً من تضحيته وعطائه، ولايدخله العجب بشيء من هذا البذل العظيم في سبيل الله، ويري أن كل ذلكمن الله، وبمشيئة الله تعالي، وبفضله، ورحمته، وليس له في ذلك دور أوشان، واءنما الشان كل الشان لله تعالي وحده، وهو منفّذ لامر الله تعالي فقطفيقول: «اءني راحل مصبحاً اءن شاء الله». ويقول يوم عاشوراء، في ساحةالتضحية والفداء: «اللهم اءن كان هذا يرضيك، فخذ حتّي ترضي'».