حركة الحسين(ع) وميوعة الاُمّة:
بعد ان عرفنا ـ كما مرّ قبل قليل ـ الوضع الذي كانت عليه الاُمّة فيعهد معاوية وما اتّصفت به من ثقافة انهزامية وميوعة متناهية، فاءنّه لابدلهذه الاُمّة كما راي واجتهد به الاءمام الحسين(ع) من امرٍ في خلق هزّةقوية، تعيد لها اءرادتها وثقتها بنفسها وكرامتها بالرغم من وضوح الطريقوجلاء الاهداف، وقدرتها علي التميز المنطقي بين الحقّ والباطل، مع انّطبيعة الظرف الموضوعي في تصوّر دقيق لواقع الاُمّة يمكن ان يكونعلي عدّة اقسام منها:
اوّلاً: اءنّ في الاُمّة جزءً كبيراً ـ خلال عهد معاوية ـ فقد اءرادته وقدرتهعلي المواجهة، وهو يشعر بالذلّ والاستكانة، واءن خسارة مبدئية كبيرةتحيق بالاُمّة الاءسلامية وهي تبديل الخلافة اءلي كسروية وهرقلية.
وثانياً: اءنّ في الاُمّة من استخفّ بالاءسلام، ولم يعد يهتمّ بالرسالة بقدراهتمامه بمصالحه الشخصية وبناء مجده واعتباره.
ثالثاً: اءنّ في الاُمّة شريحة من المغفّلين التي تنطلي عليهم حيل ومكربني اُمية، ولو سكت صحابة الرسول(ص) لتحوّلت الخلافة اءلي قيصريةوكسروية، والتي لم تعد حُكماً للاُمّة، ويقول السيد محمد باقر الصدر انّه:(تحويل خطير في المفهوم اراد معاوية ان يلبسه ثوب الشرعية، ولو كانهذا التحويل يواجه بسكوت من قبل الصحابة لامكن ان تنطلي حيلةمعاوية علي الكثير من السذج والبسطاء؛ اءذ يرون في سكوت الصحابةاءمضاءً له...».
رابعاً: اءنّ البعض في الاُمّة لا يعرف حقيقة الظروف الموضوعية التيحتّمت علي الاءمام الحسن(ع) بعقد الصلح مع معاوية: (فهو لم يميّز ان هذاالتنازل هل هو اعتراف بشرعية الاُطروحة الاُموية، او هو تصرّف اقتضتهالضرورة والظروف الموضوعية التي كان يعيشها الاءمام الحسن(ع))؟
امام هكذا واقع لاُمّة تعيش ابعد درجات التشتّت الفكري وميوعةالموقف، ماذا كان علي الحسين(ع) ان يختيار؟ مع وجود الناصحينوالمشفقين امثال: عبيدالله بن عباس، وعبدالله بن جعفر، والاحنف بنقيس، واخيه محمد بن الحنفية؟
هل يبايع يزيد بن معاوية؟
هل يرفض البيعة ويبقي في مكة والمدينة والظروف الموضوعيةكانت تنبي انه لو بقي في المدينة او في مكّة رافضاً للبيعة لقتل من قبل بنياُمية ولو كان معلقاً باستار الكعبة؟
هل يلجا اءلي بلدٍ من بلاد العالم الاءسلامي كما اقترح عليه اخوه محمدابن الحنفية؟ وينتهي بعزلته منغلقاً عن مسرح الاحداث؟
هل يتحول ويذهب اءلي الكوفة مستجيباً للرسالة التي وردته مناهلها ثم يستشهد بالطريقة التي وقعت؟
نعم، كان لابد للحسين(ع) ان يذهب اءلي الكوفة، يقاتل ويقتل معتفعيل كافة المؤثرات العاطفية التي تحرّك ضمير الاُمّة وتهزّ مشاعرهاوتعيد لها اخلاقية الاءرادة والتضحية، والعزيمة والكرامة، فهو لم يطلبسلطاناً فقتل، ومن يطلب السلطة فعليه ان يقدّم اولاده واهله للقتل ونساءهللسبي فـ (اراد ان يجمع علي نفسه كلّ ما يمكن ان يجتمع علي اءنسانٍ منمصائب وتضحيات وا´لام؛ لان اخلاقية الهزيمة مهما شككت فيمشروعية ان يخرج اءنسان للقتل، فهي لا تشك في ان هذا العمل الفظيع لميكن عملاً صحيحاً علي كلّ المقاييس، وبكل الاعتبارات، وهو من بقيةالنبوّة وصاحب مقام الاءمامة؛ فادخل اءلي ساحة المعرفة كلّ الاعتباراتالعاطفية والتاريخية وحتي الا´ثار التي تبقت من عهد الرسول(ص) منالعمامة والسيف؛ فلبس عمامة الرسول وتقلّد سيف الرسول، واغلق بذلككلّ منفذ وطريق للتشكيك في حركته(ع)، والجم افواه اصحاب الثقافةالانهزامية، وهزّ بذلك ضمائر المسلمين الذين تميّعت اءرادتهم.
الدوافع الذاتية للباراغماتين:
اوضحت العلوم النفسية، انّ الاءنسان يبحث عمّا ينقصه لكل مايحصل في داخله من حالات التوازن النفسي لحصول الاستقرار والفعلالطبيعي، ولكن هناك من النواقص ما يثير الاستغراب عند اصحابها فيكيفية خلق التوازن النفسي عندهم سيّما ممّن لم يمتلك مقومات الاءيمانوالتربية الروحية في تجاوز هذه النواقص من قبيل عاهة الشكل اوالنسب، اءضافة اءلي حالات اُخري كالفقر وحبّ الجاه وحب المال وحباللذة، والطمع في الدنيا، فيحاول اصحاب هذه الحالات سدّ هذا النقص منخلال نشاط خاص او عمل مخالف. يستطيعون من خلاله الظهور اءليالمجتمع بشكل بارز، سوءا كان عملاً اءيجابياً او سيئاً علي السواء، ونادراً مايلجا هؤلاء اءلي العمل الاءيجابي والاغلب يتّجه في التعويض من خلالاحتقار الا´خرين او اءنزال الكوارث بهم.
فبالنسبة لاصحاب يزيد، فاءن شمر بن ذي الجوشن (ابرص، كريهالمنظر، قبيح الصورة، وكان يصطنع المذهب الخارجي ـ ذلك انه في ظلّمثل هذا المذهب يمكن الانتقام من المجتمع بشكل افضل ـ يحارب بهعليّاً وابناءه، ولكن لا يتّخذه حجّة ليحارب به معاوية وابناءه).
واما عن مسلم بن عقبة، فكان: (اعور امغر، ثائر الراس، كانّما يقلعرجليه من وحلٍ اءذا مشي').
اما عبيدالله بن زياد، فكان متّهماً بنسبه بين قريش، لانّ اباه زياداً كانمجهول النسب؛ فكان يُسمّي زياد بن ابيه! ثم الحقه معاوية بابيسفيان،وامّا اُمّه فكانت جارية مجوسيّة تدعي (مرجانة)، وتعرّف عليها اثناءولايته لفارس، فكانت قريش تعيب عبيدالله بنسبه من اُمّه ومن ابيه، كماانه كان الكن اللسان لا يستطيع نطق حروب اللغة العربية، فكان اءذا عابالحروري من الخوارج قال «هروري» فيضحك سامعوه، واراد مرّة انيقول: اشهروا سيوفكم فقال: افتحو سيوفكم فهجاه يزيد بن مفزِّع قائلاً:
ويوم فتحت سيفك بمن بعيدٍاضعت وكلّ امرك للضياع
كما قال مسلم بن عقيل(ع) عن ابن زياد: «ويقتل النفس التي حرّمالله قتلها، علي الغضب، والعداوة، وسوء الظن، وهو يلهو، ويلعب، كانه لميصنع شيئاً».
لاحظ في قول مسلم، كيف استطاع البراغماتيون، النفعيون،المصلحيّون، ان يتربّعوا علي مقاليد سلطة الاُمّة الاءسلامية ويقلبوا مفاهيمالاءسلام من الرحمة والشفقة والسلم والامان والحكمة والموعظةوالتحابب والتا´خي اءلي مفاهيم بربرية عبثية لم تمتّ اءلي الاءسلامبايّصلة.
ويذكر المؤرخون ان يزيد بن معاوية كان مستاءً من زياد وابنه، لانّزياداً كان رافضاً لاخذ البيعة من اهل البصرة ليزيد عندما كان والياً عليها،وهو سبب ا´خر لسعي عبيدالله لخدمة وطاعة اوامر يزيد.
اما عمر بن سعد، فكانت تُحرّكه غريزة حبّ المال واللذّة وحبّالجاه والطمع في الدنيا.
وهناك صنف ا´خر من البراغماتيين لم تكن دوافعهم الذاتيةميكانيكية لتعويض النقص، ولا كانت بدافع حبّ الجاه والسلطة والمال،واءنّما كانت بدافع الخوف وحبّ البقاء سيّما وان مجتمع ما بعد معاويةتركت فيه سياسته حالات رهيبة من الضعف والخواء والانحلال وانعدامالثقة والامن؛ حتّي وصل الامر باحد اتباع مدرسة علي(ع) في البصرة انيبعث برسول الحسين(ع) اءلي عبيدالله بن زياد ـ وكان وقتها والياً عليالبصرة ـ لاحبّاً بعبيدالله بن زياد ولا اءيماناً بخطّ عبيدالله بن زياد، بل حفاظاًعلي نفسه، وابتعاداً بنفسه عن اقل مواطن الخطر، خشية ان يطّلععبيدالله بن زياد في يوم ما علي ان ابن رسول الله كتب اءليه يستصرخه وهولم يكشف هذه الورقة للسلطة الحاكمة وقتئذٍ، فتتّخذ هذه نقطة ضعفعليه، ولكي يوفر له كلّ عوامل السلامة، وكل ضمانات البقاء الذليل اخذرسول الاءمام والرسالة وقدّمهما بين يدي عبيدالله بن زياد، فامر بالرسولفقتل.
اما عمر بن الحجّاج وهو ممّن حارب مع علي(ع) في صفين، كما انهلحدٍ قريب من ثورة الحسين(ع) جاء ومعه اربعة ا´لاف من عشيرته لكييتفقّدوا احوال هاني بن عروة، ووقفوا بباب القصر يطالبون بحياة هانيابن عروة، وفي القصة المعروفة: ان عبيدالله بن زياد ارسل اءلي شريحالقاضي باعتباره قاضياً وشهادته معتبرة فادخله اءلي الغرفة التي سجن فيهاهاني، ونظر اءليه حيّاً بعد ان شاع مقتل خبره، وابلغ عمر بن الحجاج وقومهبانه راي هانياً حيّاً. فاطمانّ عمر بن الحجاج وانسحب.
اءلاّ ان هذا الرجل ـ عمر بن الحجّاج ـ وبعد ان اشتد الامر عليالحسين(ع) لم يمتلك اءرادته وانتهت شخصيته؛ لانه شعر ان في نصرةالحسين ثمناً غالياً، فطلّق عقيدته واشتري بدلاً عنها ما تبقي من سنينعمره، ويا ليت هذا الرجل ان يناي بعيداً عن المساهمة في الحرب ضدالحسين(ع) بل هو نفسه «كلّفه عمر بن سعد باسوا عمل يمكن ان يكلّفبه اءنسان؛ كلّفه بالحيلولة من الماء دون سيّد الشهداء، فقد بقي واقفاً يمنعابن رسول الله والبقية الباقية من ثقل النبوّة عن شرب الماء» واستجابلذلك ايضاً شبث بن ربعي وهو الرجل الذي عاش مع جهاد اميرالمؤمنين،ويقول السيد محمّد باقر الصدر2: اءن هذا الرجل كان يعي مدلول حربصفين، وكان يدرك ان الاءمام عليّاً في حرب صفين يمثل رسول الله(ص)في غزوة بدر، ولكن الدنيا والانهيار النفسي، ولكن النفس القصير خنقهفي النهاية؛ فذاب وتميّع واشتدّ تميّعه بالتدريج اءلي ان وصل اءلي حدّ: انعبيدالله بن زياد يبعث اءليه ليقاتل الحسين ابن رسول الله، فماذا يكونالعذر؟ وماذا يكون الجواب؟ لا يملك ان يعتذر بعذرٍ من الاعذار اءلاّ انيقول: «انا مريض» كلمة باردة جداً علي مستوي بروده النفسي ـويستطرد السيد الصدر بذكر تفاصيل مواقف شبث بن ربعي ـ انّ عبيداللهابن زياد يبعث اءليه الرسول مرّة اُخري ليقول له: المسالة حدّية، لا مرضفي هذه الحالة، اما ان تكون معناً، واءمّا ان تكون عدوّنا، وبمجرد ان يتلقيهذه الرسالة ـ ويعرف ان المسالة حدّية ـ يقوم شبث بن ربعي ويلبس ماكان يلبسه، ثم يخرج متّجهاً اءلي عبيدالله بن زياد وهو يقول: لبيك! هذهالاستجابات من هذا الطرف، وذاك البرود، وتلك السلبية من ذلك الطرفهم اكبر دليل علي هذا المرض «ثقافة الاءسلام».
امّا عمر بن سعد، وكما تقدّم انه من هواة حب المال والجاه والدنيا،نقف قليلاً مع نصّ الحوار الدائر بينه وبين الاءمام الحسين(ع) لكي تتّضحدوافعه الذاتية بصورة جليّة:
قال الحسين(ع): «ويلك ياابن سعد! اما تتّقي الله الذي اءليه معادك؟ اتقاتلنيوانا ابن عمّك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فاءنّه اقرب لك اءلي الله، فقال ابن سعد:اخاف ان تُهدم داري، فقال الحسين: انا ابنيها لك، فقال: اخاف ان تؤخذضيعتي، فقال الحسين(ع): انا اخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز، فقال: ليعيال واخاف عليهم، وهنا اتّضح للحسين انه رجل ميّت القلب، ميّتالضمير. فاءنسان يقيس مصير مجتمعه بهذا اللون من القياس ليس اءنساناًسوي التكوين النفسي، فقال له الحسين: مالك؟ ذبحك الله علي فراشك عاجلاً،ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله اءنّي ارجو الا تاكلّ من بر العراق اءلاّ يسيراً.
فقال مستهزئاً: في الشعير كفاية».