ماهية الصلاة البتراء
البتراء، والمبتورة اسم مفعول من بَتَر، والبَتْر القطع، وبتْر الشيء قطعه قبل تمامه، والبتراء ما حصل فيها بتر، أي قطع لأحد أجزائها.
يقول ابن منظور: وخطبة بتراء إذا لم يذكر الله تعالى فيها ولا صلّى على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، وخطب زياد خطبته البتراء، قيل لها البتراء لأنه لم يحمد الله تعالى فيها ولم يصلّ على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)"(1).
وعليه فالمراد من الصلاة البتراء هي الصلاة التي تقطع قبل تمامها، أي لا يذكر أحد أجزائها، والمراد منها اصطلاحاً الصلاة التي لا تذكر الآل؛ فحيث إن الصلاة التامة هي الصلاة الذاكرة للآل، فالتي لا تذكر تكون بتراء غير تامة؛ لاقتطاع جزء منها وهو الآل.
والصلاة التامة، التي أمر الله تعالى بها ورسوله صلّى الله عليه وآله هي: (اللّهم صلّ على محمد وآل محمد) فإذا بترت الآل ولم تذكر كقولهم: (اللّهم صلّ على محمد، أو صلّى الله على محمد، أو صلّى الله عليه وسلم) أو غيرها من العبارات،
فهي صلوات مبتورة؛ لعدم تضمّنها لفظ الآل الذي جعله الله تعالى جزءاً من الصلاة المأمور بها على النبيّ صلّى الله عليه وآله.
هذا مجمل القول في ماهيّة الصلاة البتراء.
الثاني: الأحاديث الناهية عن الصلاة البتراء عند السنّة والشيعة
وردت عدّة أحاديث تنهى عن الصلاة البتراء عند الفريقين: السنّة والشيعة.
فأما أهل السنّة فقد جاء عنهم ما يلي:
1- أورد السخاوي (ت/902هـ) في "القول البديع" عن "شرف المصطفى" لأبي سعد أنه روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنه قال: >لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، قالوا: وما الصلاة البتراء يارسول الله ؟ قال: تقولون: اللهم صلّ على محمّد، وتمسكون، بل قولوا: اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد"(2).
وأورده ايضاً السمهودي الشافعي(ت/911هـ) في "جواهر العقدين"، وابن حجر الهيتمي (ت/973هـ) في "الصواعق المحرقة" وغيرهم(3).
وأورده عبد الوهاب الشعراني الشافعي (ت/973هـ) في كتابه "كشف الغمة عن جميع الأمّة" وزاد فيه: "فقيل له: مَن أهلك يا رسول الله؟ قال: علي وفاطمة والحسن والحسين"(4).
وساقه الطهطاوي الحنفي كدليل على ندبية الصلاة على الآل، وأشار إلى أنّ الفاسي وغيره قد نقل الحديث(5) .
واستند إليه محمّد بن عقيل الحضرمي ـ بعد أن سلّم بصحّته ـ في الردّ على مَن قال بمشروعية الصلاة على النبيّ في التشهد الأوّل وعدم مشروعيتها على الآل وسأنقل لك نصّ كلامه بعد قليل فانتظر.
ويظهر من ذلك أن أقدم مصدر روى هذا الحديث عندهم هو كتاب "شرف المصطفى" لأبي سعد، وأبو سعد هذا هو عبدالملك بن محمّد الخركوشي النيسابوري أبو سعد الواعظ ، من فقهاء الشافعية بنيسابور توفي سنة 407 هـ (6)(7).
ولم أجد من صرّح بنقل الحديث عن أبي سعد غير السخاوي في القول البديع، وأمّا بقية المصادر التي نقلته فلم تذكر من أين أخذته.
وهذا الحديث نقلته الزيدية في مصادرها حيث أورده كتاب "الكامل المنير" المنسوب للقاسم الرسي (ت/246هـ)، قال: "وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن الصلاة لا تجوز على أحد إلاّ على النبيّين لا على غيرهم. فلعمري ما قصدت الخوارج بهذا المعنى إلاّ بغضة لآل محمد عليه وآله السلام.
ثم أخذ القاسم الرسي بتفنيد هذه الدعوى، وبعدها ذكر أن النبيّ (عليه وآله السلام) قال: (لا تصلّوا عليّ صلاة بتراء).
فقيل: يارسول الله وما الصلاة البتراء؟
قال: أن تصلّوا عليّ وحدي، ولكن صلّوا علي وعلى أهل بيتي، فقولوا: اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"(8).
فعلى هذا يكون هذا المصدر أقدم من كتاب "شرف المصطفى" الذي نقل عنه السخاوي.
وقد وثق هذا الحديث أحد علماء الزيدية وهو القاضي أحمد بن ناصر المخلافي (ت/1116هـ) في همزية رائعة قال فيها:
فَصلاةٌ عَلَيكَ من دونِ ذِكرٍ لَهمُ، قلْتَ: دعــوةٌ بــتراءُ
قد عَلمْنا بما روى عنك كعـبٌ إنّهمْ في الدعا لك شركاءُ
فقبيحٌ نسيانُهمْ مِنْ صلاةٍ لك تُهدى وقسوةٌ وجفاءُ
أوَما في الصلاةِ من الصلواتِ ال خمسِ والنفلِ كلّهُ ذِكراءُ(9)
والحديث مع شهرته إلاّ أنه وللأسف الشديد لم يُذكر له إسناد، ولعلّ
أبا سعد رواه مسنداً في "شرف المصطفى" إلاّ أن السخاوي الذي نقله عنه لم يذكر الإسناد.
وهذا وإن كان بحسب الاصطلاح يقدح في الحديث لقضية الإرسال، إلاّ أن الذي يهوّن الأمر أنّ الناقلين له تلقّوه بالقبول، ولم يقدح فيه أحد، بل إن ابن حجر في الصواعق المحرقة ساقه كدليل على لزوم ذكر الآل في كيفية الصلاة.
وكذا استدل به الطهطاوي الحنفي على ندبية الصلاة على الآل عندهم، قال: > والظاهر أنّ ذكر الآل والأصحاب مندوب، أمّا الأصحاب ... وأمّا الآل فلقوله: (لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء، قالوا: وما الصلاة البتراء يا رسول الله، قال: تقولون: اللهم صل على محمد وتمسكون، بل قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) ذكره الفاسي وغيره(10) . وأما محمّد بن عقيل فقد سلّم بصحّته وردّ به مَن قال بمشروعية الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله في التشهد الأوّل وعدم مشروعيتها على الآل حيث قال: >"ذهب أكثر فقهاء الشافعية إلى كراهة الصلاة على الآل في التشهد الأوّل من الصلوات مع أن ترك الصلاة عليهم مع الصلاة عليه صلّى الله عليه وآله منهي عنه بما صح من قوله صلّى الله عليه وآله: لا تصلّوا علي الصلاة البتراء، الحديث(11) فانظر إلى قوله: (بما صحّ ) فليس من السهل على رجل كابن عقيل وهو المعروف بشدّة تمرّسه بهذا الميدان أن يقطع بصحة هذا الحديث ويرسله إرسال المسلّمات مع علمه بإرساله إذا لم يكن قد قلّبه ظهراً لبطن فما وجد فيه خدشةً ـ ولا حتى الإرسال ـ تمنع من الحكم عليه بالصحة.
ومضافاً إلى تلقّيه بالقبول ـ حيث احتجّوا به في مواضع الاستدلال بل أنّ ابن عقيل قال بصحته ـ فإن محتواه يحكي مراد كيفيات الصلاة التي أجمعت كلها على ذكر الآل، والذي يفهم منه أن ترك ذكر الآل مخالف لمراد الله تعالى، فتكون حقيقة النهي الوارد في الحديث قد تحققت بمفهوم تلك الكيفيات قبل منطوق هذا الحديث.
مضافاً إلى أن الأحاديث التي في معناه ـ والتي سنذكرها الآن ـ تصلح كمؤيد ومؤكّد لمدلوله، وشاهد على صحته، بل هي برأسها دليل على النهي.
2- أخرج أبو القاسم السهمي (ت/427 هـ) في "تاريخ جرجان" بسنده إلى علي بن الحسين عن أبيه عن جدّه قال: "إنّ الله فرض على العالم الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وقرننا به، فمن صلّى على رسول الله صلّى الله عليه وآله ولم يصلّ علينا لقي الله تعالى وقد بتر الصلاة عليه وترك أوامره"(12).
3- أورد الديلمي (ت/509 هـ) في "فردوس الأخبار" عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: "من ذكرت بين يديه فلم يصلّ عليّ صلاة تامّة، فلا هو منّي ولا أنا منه"(13).
4 ـ ذكر ابن حجر في الصواعق قال: "وأخرج الدارقطني والبيهقي حديث ـ من صلّى صلاة ولم يصلّ فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه ـ (14) .
وهذا الحديث هو لأبي مسعود الأنصاري(15) صاحب الرواية الصحيحة في كيفية الصلاة المعتمدة لدى من ذهب إلى وجوب الصلاة على النبيّ وآله في الصلاة، ولهذا كان يقول: "لو صليت صلاة لا اصلي فيها على آل محمد ما رأيت أن صلاتي تتم"(16)، ومثله يروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري وهو قوله: "لو صلّيت صلاة لم أصلّ فيها على محمد وعلى آل محمد ما رأيت أنها تقبل"(17).
فإذا كانت الصلاة اليومية لا تُقبل إلاّ بالصلاة على الآل فكيف بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله فكيف تُقبل بدون ذكر الآل فتأمّل؟
وأما الشيعة فجاء عنهم من الأحاديث الناهية عن الصلاة البتراء ما يلي:
1- أخرج الكليني في الكافي بسنده إلى الإمام الصادق(عليه السلام) قال: "سمع أبي رجلاً متعلقاً بالبيت وهو يقول: اللهم صلّ على محمد، فقال له أبي: ياعبد الله
لا تظلمنا حقّنا قل: اللهم صلّ على محمد وأهل بيته"(18).
فعدّ الإمام عدم ذكرهم في الصلاة ظلماً، والظلم حرام. فتأمل في مقالة الإمام(عليه السلام) هذه لتجد أن محاولة حذف الآل إنما بدأت مبكراً، وانتشرت بين الناس، حتى بدأ أهل البيت(عليهم السلام) يتظلمون منها علناً، وبشكل يُشعر أن البتر كأنه كان يجري عن علم!!
2- أخرج الشريف المرتضى حديثاً عن الإمام علي(عليه السلام) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: >لا تصلّوا عليّ صلاة مبتورة، بل صِلُوا إليّ أهل بيتي ولا تقطعوهم، فإن كل نسب وسبب يوم القيامة منقطع الاّ نسبي"(19).
3- وأخرج الصدوق بسنده إلى الإمام الباقر(عليه السلام)، عن آبائه قال: "قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: (من صلّى عليّ ولم يصلّ على آلي لم يجد ريح الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام")(20).
وأخرج نحوها عن الإمام الحسن(عليه السلام) عن أبيه قال: "قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: (من قال صلّى الله على محمد وآله، قال الله جلّ جلاله: صلّى الله عليك، فليكثر من ذلك، ومن قال: صلّى الله على محمد ولم يصلّ على آله لم يجد ريح الجنّة، وريحها يوجد من مسير خمسمائة عام")(21).
وهذا النهي الذي جاءت به هذه الروايات دالّ على عدم مشروعية العمل بالصلاة البتراء، ويؤيده أن كيفية الصلاة إنما هي كيفية تعليميّة جاءت لبيان تكليف أنزله الله تعالى في كتابه العزيز، وهذه الكيفية التعليمية أجمعت الأحاديث الناقلة لها على شمولها للآل، فدلّ ذلك على عدم صحّة تركهم، ولو كان ذلك جائزاً، لاقتضى تمامية البيان ترك ذكرهم ولو مرة واحدة ليعلم الناس أن ترك ذكرهم جائز، فلا يتحول غير اللازم عندهم إلى لازم، كما قال به الكثير من المسلمين اعتماداً على مافهموه من إجماع الكيفيات على ذكر الآل، وقد مرّت بك أقوالهم في ذلك.
فالقول بلزوم ذكر الآل المتحصل من إجماع الكيفيات على ذكرهم، يعني أن الشريعة تنهى عن تركهم، أي تنهى عن الصلاة البتراء.
فاتّحد بذلك إجماع أحاديث كيفية الصلاة على ذكر الآل مع أحاديث النهي عن الصلاة البتراء، على عدم مشروعية الصلاة البتراء.
____________________
1- لسان العرب/ ابن منظور، 4: 37.
2- القول البديع، ص 45، وكذا ذكره السخاوي في مختصر القول البديع المسمى بـ (الحرز المنيع )
3- جواهر العقدين، ص 217، الصواعق المحرقة: 225، ينابيع المودة/ القندوزي، 434:2/196،
رشفة الصادي / أبو بكر الحضرمي، ص 68.
4- كشف الغمة، 1: 325 فصل في الأمر بالصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
5- حاشية الطهطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح / أحمد بن محمد بن إسماعيل الطهطاوي الحنفي، 8:1، ويقصد من الفاسي الذي ذكر الحديث هو صاحب شرح الدلائل، وقد أشار له قبل صفحات، وهو مهدي بن أحمد الفاسي المالكي (ت1109هـ)
6-قال عنه الحاكم: أني لم أرّ أجمع منه علماً وزهداً وتواضعاً وإرشاداً . وقال عنه الخطيب البغدادي: كان ثقة ورعاً صالحاً، راجع عنه سير أعلام النبلاء للذهبي 17: 256، والأعلام للزركلي 4: 163.
7- ذكرنا في الأصل أن اسم أبي سعد هو عبدالرحمن بن الحسن الإصبهاني النيسابوري (ت/307هـ) وهو خطأ والصحيح ما أثبتناه.
8- الكامل المنير، ص 253، تحقيق عبد الولي الهادي.
9- مجلة علوم الحديث، ص397ـ 398، العدد الثامن، السنة الرابعة، رجب- ذو القعدة 1421هـ .
10- حاشية الطهطاوي على مراقي الفلاح / 8:1 .
11- النصائح الكافية، ص 295.
12- تاريخ جرجان، ص 189.
13- فردوس الأخبار، 2: 311 / 6403.
14 الصواعق المحرقة، ص 348، باب مشروعية الصلاة عليهم تبعاً للصلاة على مشرفهم (صلّى الله عليه وسلّم).
15- سنن الدار قطني، 348:1/1328.
16- المصدر نفسه، 348:1/1329.
17- ذخائر العقبى/ المحبّ الطبري ص:52.
18- الكافي، 2: 464 /21 كتاب الدعاء / باب الصلاة على محمد وآل محمد.
19- وسائل الشيعة، 7: 207 / 9127 نقلها عن رسالة المحكم والمتشابه للمرتضى.
20- وسائل الشيعة، 7: 203 / 9117 عن أمالي الصدوق.
21- وسائل الشيعة، 7: 203 / 9116 عن أمالي الصدوق.