ممّا لا شكّ فيه أنّ أئمة الهدى هم مشاعل الحقِّ للأجيال في كلِّ عصر ومصر ، ولكن لأنّ الظروف مختلفة من جيل لآخر ، ومن مصر لمصر ثانٍ ، ولأنّ الله قد ختم بالمصطفى رسالاته ، وبأوصيائه خلفاءه المعصومين ، فإنّ حكمته اقتضت أن تكون سيرة كلِّ واحد منهم متميزة بهدى ومنهاج ؛ ليكون مجمل سيرهم المتنوعة ذخيرة غنية يرجع الناس إليها ليأخذوا منها ما يتناسب وظروفهم الخاصة .
وكانت سيرة الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام) الإيمانيّة هي المنهاج المتناسب كليّاً , وظروف مشابهة لظروفنا في بعض البلاد ؛ حيث حبانا الله سبحانه بحالة ثورية تحتاج إلى المزيد من الروح الإيمانيّة حتّى لا تخرج الحركة عن مسارها الديني ، ولا تفسد السياسة ومصالحها وحتمياتها النقاء الإيماني الذي يحتاجه العاملون في سبيل الله . فماذا كانت سيرته ، وما هو برنامجه ؟
أولاً : كان عباد الله المخلصون دعاة إلى الله بسلوكهم قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم ، فما أمروا الناس بشيء إلاّ وسبقوهم إليه . وكانت حياة الإمام السجّاد (عليه السّلام) لوحة إيمانيّة نقيّة ، وقد قال عنه جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الشهير : ما رأيت في أولاد الأنبياء شخصاً كعلي بن الحسين (عليه السّلام) .
ثانياً : تربية جيل من العلماء الربانيِّين الذين ربّوا بدورهم علماء وثائرين وعبّاداً صالحين . وهكذا تماوجت تعاليم الإمام (عليه السّلام) عبر النفوس الزكية في حلقات مترامية كالصخرة العظيمة تُلقى في بحر واسع .
قال الشيخ المفيد : إنّه روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يحصى كثرة ، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية , وفضائل القرآن , والحلال والحرام , والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء .
وقال ابن شهر آشوب : قلّما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه : قال علي بن الحسين ، أو قال زين العابدين(1) .
وكان شديد الاحترام لطلبة العلوم الذين كانوا يتوافدون عليه في المدينة من أقطار العالم الإسلامي ، ويرى أنّهم وصية رسول الله (ص) .
وكان العلماء يستلهمون من سلوكه الهدى والورع قبل أن يتلقّوا من منطقه العلم والمعرفة ، ومَنْ لا يستلهم نور الله من تلك الطلعة الربّانيّة ، من العين التي تفيض من خشية الله ، والجبهة التي عليها ثفنات من أثر السجود ، من ذلك اللسان الذي لا يني(*) يذكر الله (عزّ وجلّ) , وبالتالي من تلك السيرة التي يشع منها نور الله تبارك وتعالى ؟
يذكر عبد الله بن الحسن فيقول : كانت اُمّي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين (عليه السّلام) , فما جلست إليه قط إلاّ قمت بخير قد أفدته ؛ إمّا خشية لله تَحدث في قلبي ؛ لما أرى من خشيته لله ، أو علم قد استفدته منه(2) .
وكانت الفتوحات الإسلاميّة تطوي كلَّ يوم بلداً جديداً ، وتضم إلى الجسد الإسلامي عضواً جديداً ، ولكنها كانت بحاجة إلى زخم إيماني يصهر مختلف الثقافات والتقاليد والمصالح في بوتقة الاُمّة الواحدة .
وقد تصدّى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وأصحابه وأنصاره لهذه المسؤولية , وبسبل شتّى ؛ فقد كان شديد الاحترام للموالي ، وهم المنتمون إلى سائر الشعوب التي دخلت في الإسلام بعد فتح البلاد لها ، ولمّا تبلغ من المعارف الإلهية نصيباً كافياً .
وكان كثير من الموالي من خيرة أصحاب الإمام (عليه السّلام) ؛ إذ كان الإمام (عليه السّلام) يتّبع منهجاً فريداً في زرع القيم الإلهيّة في أفئدة ثلة مختارة منهم ؛ حيث كان يشتري العبيد ويتعامل معهم بأفضل طريقة ثمّ يُعتقهم ويزوّدهم بما يوفّر لهم الحياة الكريمة ، فيكون كلُّ واحد منهم ركيزة إعلاميّة بين بني قومه .
ولنقرأ معاً أخلاق الإمام (عليه السّلام) في تعامله مع مواليه قبل أن نعرف كيف كان يعتقهم ؛ فإنّ تلك الأخلاق الحسنة كانت مدرسة عملية لهم إلى جانب التوجيه المباشر .
روي عن عبد الرزاق (أحد الرواة) أنه قال : جعَلت جارية لعلي بن الحسين (عليه السّلام) تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه , فرفع رأسه إليها , فقالت له الجارية : إنّ الله يقول : ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾(آل عمران/134) .
قال : (( كظمتُ غيظي )) .
قالت : ﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ ﴾(آل عمران/134) .
قال لها : (( عفا الله عنك )) .
قالت : ﴿وَالله يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ﴾(آل عمران/134) .
قال: (( اذهبي فأنت حرّة لوجه الله عزّ وجلّ ))(3) .
هكذا كان يتعامل مع الرقيق الذين اعتبرهم بعض الناس ذلك اليوم أنّ لهم طبيعة غير طبيعة الإنسان ، فكيف لا يؤثِّر فيهم ذلك الخُلُق الرفيع ؟
ويروي بعضهم القصة التالية التي تعكس مستوىً رفيعاً من الصفح والسماحة والإيثار ، تقول الرواية : كان عنده (عليه السّلام) قوم أضياف ، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعاً , فسقط السفود منه على رأس بُنَيٍّ لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله ، فقال عليٌّ للغلام , وقد تحير الغلام واضطرب : (( أنتَ حرٌّ ؛ فإنّك لم تتعمده )) ، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه(4) .
وكان للإمام (عليه السّلام) مولىً يتولّى عمارة ضيعة له ، فجاء فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً , فغاظه ما رأى من ذلك وغمّه ، فقرع المولى بسوطٍ كان في يده , وندمَ على ذلك ، فلمّا انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى , فجاء فوجده عارياً والسوط بين يديه ، فظنّ أنّه يريد عقوبته ، فاشتدّ خوفه ، فقال له علي بن الحسين : (( قد كان مني إليك ما لم يتقدّم مني مثلُه ، وكانت هفوة وزلّة . خذ ذلك السوط واقتصّ مني )) .
فقال : يا مولاي , والله إن ظننت إلاّ أنّك تريد عقوبتي ، وأنا مستحق للعقوبة , فكيف اقتصُّ منك ؟!
قال : (( ويحك ! اقتصّ )) .
قال : معاذ الله , أنتَ في حلٍّ وسعة .
فكرّر عليه ذلك مراراً والمولى يتعاظم قوله ويجلله ، فلما لم يره يقتص قال له : (( أمّا إذا أبيتَ فالضيعة صدقة عليك ))(5) .
هذه نماذج من الخُلق الكريم الذي اتّسَم به سلوك الإمام (عليه السّلام) مع الموالي .
وقد كان اُسلوب عتق الإمام (عليه السّلام) لهم متميّزاً يرويه التاريخ بجلال وإعجاب ؛ فقد روى ابن طاووس في كتاب شهر رمضان المعروف بالإقبال ، بسنده عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( كان علي بن الحسين (عليه السّلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمَة . وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ، ولم يعاقبه , فيجتمع عليه الأدب , حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ، ثم أظهر الكتاب , ثم قال : يا فلان , فعلت كذا وكذا , ولم اُؤذّك , أتذكر ذلك ؟
فيقول : بلى يابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . حتّى يأتي على آخرهم , ويقرّرهم جميعاً , ثمَّ يقوم وسطهم ويقول : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين , إنّ ربك قد أحصى عليك كلَّ ما عملتَ كما أحصيت علينا كلّما عملنا ، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلاّ أحصاها .
وتجد كلّما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً ، فاعفُ واصفح كما نرجو من المليك العفو ، وكما تحبُّ أن يعفو المليك عنك , فاعفُ عنّا تجده عفوّاً وبك رحيماً ، ولك غفوراً , ولا يظلم ربك أحداً , كما لديك كتاب ينطق بالحق علينا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيناها .
فاذكر يا علي بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل ، ويأتي بها يوم القيامة , وكفى بالله حسيباً وشهيداً , فاعفُ واصفح يعفُ عنك المليك ويصفح ؛ فإنّه يقول : ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ﴾(النور/22) .
وهو ينادي بذلك على نفسك , ويلقّنهم وهم ينادون معه , وهو واقف بينهم يبكي وينوح , ويقول : ربّ , إنك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا ، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت ، فاعفُ عنّا فإنك أولى بذلك منّا ومن المأمورين . إلهي , كرمت فأكرمني إذ كنت من سُوّالك , وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم ))(6) .
ثمَّ يُقبل عليهم فيقول : (( قد عفوت عنكم , فهل عفوتم عنّي ما كان منّي إليكم من سوء ملكة ؛ فإنّي مليك سوءٍ , لئيمٌ ظالمٌ , مملوكٌ لمليكٍ كريم , جوادٍ عادل , محسنٍ متفضّل ؟ )) .
فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا ، وما أسأت .
فيقول لهم : (( قولوا : اللهمَّ اعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنّا , فأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق )) .
فيقولون ذلك ، فيقول : (( اللهمَّ آمين ربّ العالمين . اذهبوا فقد عفوت عنكم , وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عني وعتق رقبتي )) , فيعتقهم , فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس .
وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلى أقل أو أكثر . وكان يقول : (( إنّ لله تعالى في كلِّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار ، كُلاّ قد استوجب النار , فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه . وإنّي لأحبُّ أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا ؛ رجاء أن يعتق رقبتي من النار )) .
ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة ، يأتي بهم عرفات فيسدُّ بهم تلك الْفُرَج والخلال , فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال(7) .
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين
ــــــــــ
(1) في رحاب أئمة أهل البيت 3 / 196 .
(*) لايفتُر ولايعجز.
(2) في رحاب أئمة أهل البيت 3 / 196 .
(3) بحار الأنوار 46 / 67 .
(4) بحار الأنوار 46 / 99 .
(5) بحار الأنوار 46 / 96 .
(6) بحار الأنوار 46 / 104 .
(7) بحار الأنوار 46 / 103 ـ 105 .
source : http://www.alhassanain.com/arabic/show_articles.php?articles_id=1091&link_articles=holy_prophet_and_ahlul_bayt_library/imam_ali_bin_hussein/menhaj_alimam_alsajjad_fi_tarbia_alruhia