عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

فكرة ظهور الإمام المهدي

الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بشارة تضمّنتها كل العقائد الدينية السابقة للإسلام، وجاء الإسلام ليضع يده على ملامح هذه البشارة ويؤكد وقوعها، ويشرح تفاصيلها بدقة، بحيث أصبح ما عندنا عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) من أخبار متواترة يفوق كثيراً من الأجزاء العقائدية الأخرى.

لقد أصبح الحديث عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) هو الحديث عن الأمل.. المستقبل.. السعادة، فقد ارتبطت الظاهرة المهدوية بالدين من جانب البشارة التي زفها للبشرية المعذبة، ثم اتسعت هذه الظاهرة لتكون البشارة والأمل والضرورة. ففكرة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) وإن كانت تشكّل جزءاً من العقيدة الدينية فإنها من جانب آخر تعدّ الأمل الذي شدّ جميع أبناء البشر بما فيهم المنكرين لحقيقة السماء.

إن المثير حقاً أن يختلف المتدينون حول فكرة ظهور الإمام المهدي بما هي فكرة تتصل بالاعتقاد الديني من جانبه الخطير، فالإمام المهدي ليس اختصاصاً بمذهب الشيعة، ولا هو عقيدة (طارئة) قذفت بها رواية غير صحيحة السند كما هو شأن كثير من المفردات التي تحتاج إلى التثبت والفحص والتحقيق.. كلا.

الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بشارة تضمّنتها كل العقائد الدينية السابقة للإسلام، وجاء الإسلام ليضع يده على ملامح هذه البشارة ويؤكد وقوعها، ويشرح تفاصيلها بدقة، بحيث أصبح ما عندنا عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) من أخبار متواترة يفوق كثيراً من الأجزاء العقائدية الأخرى.

أمّا لماذا اختلف المسلمون أنفسهم حول ذلك ففي ذلك تأمل؟

لا نعتقد أنه سرد الأحاديث وتبيان مصادرها على اختلاف أئمة الحديث كاف في صدد قضية عقائدية مهمة كقضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) مرة لأن هذا الأسلوب قد أفاض العلماء في الحديث عنه ولا جديد فيه.. ومرة لأن الجانب النفسي للمسلمين من غير الشيعة أصبح يشكّل فاصلاً يحول دون اقترابهم حتى من البحث عن هذه المسألة المهمة في مصادرهم المعتبرة. ولذا يجب أن يتم تناول هذه المسألة بعيداً عن تكرار ما قيل في الماضي مع تأكيدنا على ثبوتها من ناحية النص.

وفيما نجده ضرورياً للتوضيح هو ذلك الحاجز النفسي لدى بعض المسلمين تجاه عقيدة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، بما هو حاجز تراكمي لم يؤسس على أي حقيقة علمية بقدر ما ساهمت مجموعة ظروف مختلفة وعلى رأسها العامل السياسي بالذات في خلق هذا الحاجز بقصد محاصرة هذه العقيدة وتضييق مساحتها لما لها من مخاطر قاتلة على واقع السلطة السياسية غير الشرعية. وعندما يتأكد هذا الكلام واقعياً فإننا سنتجاوز الافتراض الذي صنعه ذات الواقع السياسي لكي يجعل من قضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) قضية غير حقيقية!

فبعد أن تحولت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض، كان على الكسروية الأموية أن تبحث في النصوص الإسلامية ما يحقق (شرعيتها) وتستبعد به عنها كل ما يهدد السلطة، ويحذف هيمنتها. ولذا فإنّ أول ما بدأت به هذه السلطة هو إبعاد النصوص الصارمة التي تعين الاتجاه النموذجي للتطبيق الإسلامي، وإحلال أخرى محلها تتوافق مع الصيغة السياسية الاستبدادية الجديدة التي ابتدعتها هي. ولأن السلطة أيقنت أن ذلك غير ممكن بوجود الأمناء على الشريعة ممن تم تعيينهم بالنص الشرعي.

فقد وجدت في محاربة الأوصياء (عليهم السلام) والتشكيك فيهم هي بمثابة النقطة الأهم في صراع السلطة الاستبدادية مع الاتجاه الإسلامي الأصيل، وهكذا فإن أول ما بدأت به السلطة الأموية هو تقنين السب والشتم، حتى أصبح النيل من خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاتحة أي حديث من على منابر الدولة الأموية.

وعندما كرست السياسة الأموية كل الوسائل باتجاه شق صف الأمة وتحريف الرأي العام، وانقسام الواقع الإسلامي فيما بعد إلى مذاهب فقهية اختلفت في تفاصيلها حول نقطة الإمامة، فكان من الطبيعي أن تتحمل الفكرة المهدوية آثار هذا الشرخ رغم أن النص الشرعي الذي يؤكد على حقيقة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ظل متداولاً في أمهات كتب الحديث لدى جميع الفرق الإسلامية.

وبسبب إذكاء السلطة السياسية للاختلاف الفقهي، فقد بدأ ينتقل هذا الاختلاف من إطاره العلمي إلى الإطار النفسي، بحيث أصبح المسلم مشدوداً إلى الحالة النفسية الرافضة للآخر أكثر من انشداده إلى النص الشرعي، وهكذا زحفت العقيدة المهدوية من الواقع الإسلامي لتبدو وكأنها عقيدة شيعية رغم ما حوته كتب أهل السنة من أحاديث متواترة وصادرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا تقل عما هو موجود في كتب الشيعة.

إن البحث عن مسألة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) من طريق الحديث قد استوعبها العلماء بحثاً وتنقيباً، ولعلنا لا نأتي بجديد عندما نريد أن ندرج هنا أسماء كتب الحديث لأهل السنة التي احتوت على أخبار الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).. لكن أهمية ذلك للقارئ تجعلنا نضطر إلى تدوين ذلك فيما يأتي، طالما أننا نرجو تحفيز وعي القارئ العزيز للبحث والإطلاع حول هذه المسألة العقائدية المهمة.

لقد تعرضت الكتب التالية لقضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، وسنكتفي هنا في ذكر اسم الكتاب ورقم الصفحة، في حين سنذكر حديث واحد من تلك الأحاديث بالنص وكما هو لما تضمنه من وضوح في هذا الشأن.

الكتب:

1ـ المرقاة في شرح المشكاة الجزء الثاني، ص11.

2ـ ينابيع المودة للقندوزي، ص187.

3ـ الصواعق المحرقة لابن حجر الشافعي، ص97، وص233.

4ـ صحيح البخاري، الجزء الرابع، ص143.

5ـ صحيح الترمذي، الجزء التاسع، ص74.

6ـ سنن أبي داود، الجزء الثاني، ص208.

7ـ صحيح بن ماجة الجزء الثاني، ص269.

8ـ مسند أحمد بن حنبل الجزء الثالث، ص28، وص70.

أما النص:

عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (يكون من بعدي اثني عشر أميراً كلهم من قريش) رواه البخاري في صحيحه، ج9، ص81، والترمذي في صحيحه، ج9، ص66، وأبو داود في سننه، ص91، وأحمد بن حنبل في مسنده، ج5، ص90-95، ومسلم في صحيحه باختلاف في التعبير، ص19.

مقولة زائفة

يحلو للبعض ممن أراد أن يمعن في محاربة عقائد المسلمين، وبالذات فكرة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) التي تتشكل عنصراً نهضوياً مهماً في تقويض الواقع السياسي الذي تجيّر لصالح الاستبداد.. يحلو له أن يصف هذه الفكرة الإسلامية بالخرافة. ولما لم يجد ما يتذرع به هذا البعض من دليل شرعي فقد تم تفسير فلسفة الظاهرة المهدوية على أساس أنها تعبر عن الحالة النفسية التي يعانيها المضطهدون المحاصرون الذين لا يملكون الخروج من الحصار المفروض عليهم، ولا يجدون فرصة للحصول على أي موقع من مواقع الحكم فيما يتطلعون إليه من حاكم عادل يحكم فيهم بالعدل، ويفتح لهم أبواب الحياة من أوسع الآفاق(1).

وإذا صحت هذه المقولة، فقد كان الأولى أن تصح الفكرة الشيوعية التي فسرت الدين كله على أنه متنفس (البروليتاريا) التي خسرت المعركة في صراعها مع الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج.

ومع أن هذه المقولة تتوافق في الاتجاه مع الماركسية، فإنها لا ترتفع إلى مستوى النيل من عقيدة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، طالما أن انتظار الموعود هو أمل أنشد له ليس الشيعة فقط، إنما المسلمون، والمسيحيون واليهود وفلاسفة، وعقائد متنوعة أخرى. على أن هذه المقولة المزيفة إذا كانت تفسر الأمل بهذه الطريقة، فهذا يعني أن أكثر العقائد ذات الطابع الغيبي سوف تخضع لهذا المنطق اللاعلمي كالجنّة والثواب، والدعاء.. الخ.

الواقع أن هذه الفكرة تتفق تماماً مع إيديولوجية الإلحاد، ولكنها ذات طابع اختراقي استعماري فيما تعتمده من طريقة الانقضاض الجزئي على العقيدة الإسلامية، ولعل اتجاهها نحو فكرة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) يوضح خطورة الأمل المدعو من الناحية الحضارية على ما يرسمه هذا الأمل من شد روحي ونفسي للمسلمين باتجاه رفض كل أشكال الظلم والتسلط والنهب الاستعماري.

وعندما نريد أن نستوضح خبث هذه المقولة فإننا نجد ذلك في طابعها الطائفي حينما تريد أن تنسب هذه الفكرة للشيعة دون غيرهم أولاً، وعندما تتوسل في تاريخ الاضطهاد الشيعي بما يثير إخوانهم السنة ثانياً.

في الحقيقة إن الواقع السياسي وعلى مدى مراحل التاريخ الإسلامي لم يتجانس مع طابع الإيديولوجية الإسلامية الحضاري، لا لأن النظرية السياسية الإسلامية صعبة التطبيق، أو أن الواقع لم يتكيف معها.. إنما بسبب تعارض السلوك الاستبدادي للفردية مع النصوص الشرعية التي تنظم الحياة السياسية في الإسلام، ولذلك فإن السلطة السياسية التي هيمنت على الواقع الإسلامي كيّفت النصوص الشرعية بما يلائم واقعها ورموزها حتى أصبحت (طاعة الحاكم الجائر واجبة)(2).

وفي حين اقتربت معظم المذاهب الإسلامية في موقفها السلمي من السلطة، قاطع المخلصون من علماء الإمامية الحاكمين، وأفتوا بتحريم العمل عندهم، ولم يستثنوا إلا ما فيه نفع المؤمنين، ودفع الحيف والظلم عن المظلومين. ولم يكتفوا بذلك بل أفتوا بأشياء تتصل مباشرة بأعمال الحاكم، فلقد اشترطوا العدالة في إمام الجمعة والجماعة وكان الحاكم ـ في الغالب ـ يؤم الناس في الصلاة، ولازم هذا الشرط أن صلاة المؤتمين به باطلة لا يتقبّلها الله، مع علمهم بفسق الإمام وجوره، وأفتوا أيضاً بتحريم الغناء واستعمال آلات الطرب، والصيد للهو، وما إلى ذلك ممّا يتعاطاه الحاكمون. بهذا يتبين أن مبدأ التشيع يلازم الثورة على الفساد والظلم، فلا بدع إذا كان اضطهاد الشيعة هو الشغل الشاغل لكل حاكم جائر(3).

وقضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بما هي قضية إسلامية أساسية، لم تأت متأخرة على تاريخ الظلم والبطش الذي لحق بالشيعة ولا هي كذلك محصورة في الأحاديث التي يروونها بطرقهم الخاصة، إنما:

أولاً: هي قضية كشف النقاب عن تفاصيلها شخص الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يقع الظلم على الشيعة، وقد نقل هذه القضية صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وقد تلقى التابعون مجموعة ضخمة من الأحاديث عن الصحابة، ونقلوها فيما بعد إلى الأجيال، وفيما يلي سرد لأسماء الصحابة الذين رووا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحاديث المهدي (عجل الله تعالى فرجه):

1ـ علي بن أبي طالب.

2ـ عثمان بن عفان.

3ـ طلحة بن عبد الله.

4ـ عبد الرحمن بن عوف.

5ـ الحسين بن علي (عليهما السلام).

6ـ أم سلمة.

7ـ أم حبيبة.

8ـ عبد الله بن عباس.

9ـ عبد الله بن مسعود.

10ـ عبد الله بن عمر.

11ـ عبد الله بن عمرو.

12ـ جابر بن عبد الله.

13ـ أبو سعيد الخدري.

14ـ أبو هريرة.

15ـ أنس بن مالك.

16ـ عمار بن ياسر.

17ـ عوف بن مالك.

18ـ ثوبان مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

19ـ مرة بن إياس.

20ـ علي الهلالي.

21ـ حذيفة بن اليمان.

22ـ عبد الله بن الحارث بن حمزة.

23ـ عمران بن حصين.

24ـ عوف بن مالك.

25ـ أبو الطفيل.

26ـ جابر الصدفي(4).

ثانياً: هي قضية إسلامية ولا تختص بالشيعة فقط. ولعل عدم الاهتمام بها (سنياً) قياساً باهتمام الشيعة لها كان بسبب الموقف السياسي لكلا الطرفين من السلطة. ففي الوقت الذي جسد فيه الشيعة الموقف المعارض للسلطة الحاكمة على طول التاريخ الإسلامي، كان لابدّ أن يوظف الشيعة كل ما ورد في الإسلام من نصوص شرعية (ومنها البشارة موضع البحث) بوجه السلطة اللاشرعية، في حين أن الموقف السلمي للمذاهب الإسلامية الأخرى من السلطة، وانتماء الحكام لهذه المذاهب كان يستدعي العكس. أي إهمال النصوص التي تسبب للسلطة الإحراج السياسي.

وعلى ضوء ما سبق، فإن المقولة التي تذهب إلى تفسير الظاهرة المهدوية في الإسلام على أنها نتاج نفسي معين للشيعة تبدو أكثر زيفاً، بل وتجاوزاً على النصوص الشرعية عندما نتجاهل بشارة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بها، وتواتر الأحاديث المروية فيها، عن طريق الصحابة الذين روى عنهم الشيعة والسنة معاً، فضلاً عن ثبوتها في صحاح أهل السنة.

البشارة

إذا كانت معظم الديانات السماوية قد أشارت بطرق مختلفة إلى حقيقة ظهور المنقذ في حياة البشرية، فإن فكرة المنقذ لازمت في الحقيقة. فجر التاريخ الديني واستمرت معه لتشكل فيما بعد جزءاً من الواقع الديني الذي لم ينفصل عن حياة الإنسان حتى وإن بدت بعض مظاهر تلك الحياة أكثر إلحاداً وكفراً. ورغم التحميل الهائل الذي أدخل على النصوص الدينية السماوية من غير الإسلام، إلا أن فكرة الانتظار، وومضات البشارة ظلت حقيقة شاخصة في متون الكتب المقدسة، وتعاليم الكهنة، على أننا لا ننكر تقلب هذه الفكرة لتأخذ وجوه متعددة بفعل تدخل الإنسان في تفسير هذه الفكرة وفق السياقات المذهبية للديانات المختلفة.

ويمكننا في هذا الصدد أن نحيل كثير من الاختلافات، أو حتى التشوهات التي طرأت على البشارة إلى ما يمكن أن نسميه بـ(العرقية الدينية) إذا صح التعبير. فقد لعبت فكرتي (شعب الله المختار) لدى اليهود، (بنوة عيسى) لدى النصارى. دوراً كبيراً في انغلاق الديانتين على نفسيهما، ممّا أدى إلى إدراج البشارة المهدوية في إطار العقيدتين.

ولربما نستطيع أن نستدل على ذلك من خلال موقف الديانتين معاً من بعثة الرسول الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله) التي أجمعت كتبهم على النبوة الخاتمة في ذات المكان والزمان الذي حصلت فيه فعلاً. بل الأكثر من ذلك أن التاريخ يؤكد لنا أن حالة من الترقب كانت سائدة في الجزيرة العربية إبان البعثة النبوية الشريفة، ورغم ذلك فقد تراجعت كلا العقيدين (اليهودية، والنصرانية) عند الاعتقاد بنبوة النبي الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله) حتى بعد قيام الأدلة الثبوتية القاطعة، ومنها على سبيل المثال (المباهلة)، والسبب أن اليهود تتطلع إلى النبي اليهودي والنصارى تتطلع أيضاً إلى النبي المسيحي.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(5).

وعلى ضوء ذلك فإن فكرة الإمام المهدي التي هي أقدم من الإسلام، وأوسع منه(6) كان لابدّ لها أن تخضع للتوظيف اليهودي والنصراني، بحيث لم تعد هذه الكفرة عالمية بوصفها الشمولي، إنما تهودت وتنصرت بطابع الديانتين. ولهذا عندما يتطلع اليهود إلى (المنتظر)، أو حينما يترقب النصارى (المولود) فإن المنتظر عند اليهود يجب أن يكون يهودياً وإلا فهو غير معترف به، وكذا فالمولود لدى النصارى يجب أن يكون مسيحياً، وهذا الحصر الضيق لفكرة الشمول أدى به بالطبع إلى انقطاع الفكرين اليهودي والمسيحي عند حدوديهما (العرقيين)، وعدم تواصل هذا الفكر دينياً لتحديد مواصفات المنقذ الحقيقي الذي يأتي آخر الزمان.

هذا على أننا لا نريد أن نخوض في طبيعة الأخبار الواردة لدى الطرفين حول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، بقدر ما نؤكد أن التغير الذي حصل في مواصفات المنقذ في الديانات السماوية حتى وإن اختلف لكنها على أية حال لا تلغي أصل القضية وهي البشارة.

الأمل

إذا كانت البشارة ذات طابع ديني غيبي، فإن الأمل التي تجسده تطلعات البشرية جمعاء يأخذ بعداً آخر وهو البعد النفسي عندما تتجه الأمنيات والأفكار والحواس نحو الخلاص، والبعد النفسي هذا لا يمكن أن يكون ناتجاً عن ظروف خاصة تحيط بالإنسان وبالتالي تودع في نفسه هذا الأمل. وإلا لكانت إظهارات النفس بما هي انعكاسات على الواقع بهيئة سلوك، وأفكار وتطلعات هي الأخرى ذات خصوصية تنطبع بطابع الزمان والمكان، في حين أن واقع البشرية يؤكد عكس ذلك إن النزوع النفسي الإنساني نحو التطلع إلى يوم الخلاص المنشود يكاد يكون حالة لدى جميع بني البشر الذين يعيشون على الكوكب الأرضي، وإذا تجلّى هذا النزوع على هيئة انشداد وجداني نحو المستقبل في هذا المكان، فإنه يظهر على هيئة أخرى قد ترتدي لباس الفكر، أو الأسطورة في ذلك المكان.

فليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها.. ولم يقتصر هذا الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتد إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشد الإيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات(7).

وعندما نبحث عن القاسم المشترك لطموح البشرية في تصورها للمستقبل، فإننا لا نجد غير الفطرة الإنسانية التي تعكس هذا الطموح بأشكال مختلفة وحسب طبيعة الإنسان ومكوناته العقائدية ودافعه الاجتماعي والسياسي.. الخ.

وإذا كانت الفطرة جزء أصيل من النفس الإنسانية، فإن الشعور المتولد عن هذه الأصالة هو في حقيقته جانب من حركة الإنسان نحو التكامل وبحثه عن التجدد الدائم، وتلك هي صورة العدالة التي يقيمها الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).

الضرورة

للإنسان كموجود من بين الموجودات الكونية الأخرى نظام خاص به. وعلى ضوء هذا النظام فإنه يؤثر في الموجودات كما هي تؤثر فيه. لكن تمثل الإدراك لدى الإنسان ومن ثم الاختيار يجعلان تأثيره يتعدى مساحة التأثير الطبيعية كموجود من بين الموجودات.

فالماء مثلاً بما هو جزيئة من الهيدروجين وجزيئة من الأوكسجين (H2O) لا يملك الاختيار في التأثير على الموجودات أكثر من القانون الطبيعي له.

ولعل في ذلك السبب الذي استفهمت بموجبه الملائكة عندما أخبرهم الله تعالى أن الإنسان سيكون خليفة في الأرض: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(8).

وعلى ما نلاحظ ونستنتج من هذه الآيات الشريفات ما يلي:

1ـ التركيز الواضح في هذا المقطع الصغير من القرآن على أهمية العلم الذي تكرر ذكره ثماني مرات.. ممّا يشير إلى أن الإنسان بما منحه الله تعالى من إدراك وقابلية على تركيب الحقائق سوف يكون له شأن كبير على الأرض، وسوف تتطور أداته العلمية باتجاه التأثير على الموجودات الأخرى.

2ـ إن الإنسان بطبيعته الاختيارية تميز على جميع المخلوقات الكونية بما فيهم الملائكة. وهذا سيجعله متمرداً حيناً وطائعاً لقوانين الطبيعة حيناً آخر، وبالنتيجة ستترتب نتائج تدميرية هائلة على تمرده وعصيانه.

3ـ إن خلافة الإنسان على الأرض لا يعني ذلك أن كل البشر سوف يكونون خلفاء عندما سيتوالد آدم بشكل يصبح فيه عددهم بالملايين. إنما هناك خليفة واحد لهؤلاء البشر جميعاً هو الذي يستحق أن يكون خليفة. ممّا يتصف به من علم وطاعة وهنا نستحضر (وعلم آدم الأسماء كلها). أي علمه حقائق الأشياء، أو بعبارة أخرى: أطلعه على سفر الكون، وأطلعه على الأنظمة التي تحكم هذا الكون، وأطلعه على علاقات الموجودات بعضها ببعض، وتأثر هذه الموجودات بعضها بالبعض الآخر، وموقعه هو آدم (عليه السلام) في هذا الكون، وتأثره بهذا الكون وتأثيره في هذا الكون)(9)، (وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(10).

4ـ إن آدم لم يسفك الدماء على ما ظهر فيما بعد، ونسب سفك الدم إليه يعني أنه من ذريته سيكون مخالفاً لسنن الكون، وهذا يدلك أن مثيل آدم (عليه السلام) سيتكرر بصفته المعصومة على ما اطلع عليه من العلم، وسيتكرر من الجانب الآخر الأفراد غير المعصومين من ذرية آدم (عليه السلام) وعلى ضوء هذه الحقيقة سيكون من سلسلة آدم (عليه السلام) وعلى طول المسيرة الإنسانية نوعان من البشر.

الأول: ينفذ الأوامر الإلهية بدقة مع قدرته على رفضها بما هو إنسان مختار. وهؤلاء هم سلسلة المعصومين (عليه السلام).

الثاني: يتمرد على الأوامر الإلهية وهؤلاء نحن بنو البشر غير المعصومين. ولأن الله لا يخلي الأرض من حجة (أي وجود المعصوم الذي يوازن النظام الكوني من جهة توازن تأثير الموجودات). فإن تتابع الأنبياء المعصومين (عليهم السلام) والأوصياء المعصومين (عليهم السلام) هو ضرورة كونية بالإضافة إلى ضرورتهم التشريعية فيما يتعلق بالهداية.

الهوامش:

1 - مجلة التوحيد، العدد 51، آذار، 1991.

2 - الشيخ أبو زهرة، المذاهب الإسلامية، الطبعة النموذجية، ص155.

3 - محمد جواد مغنية، الشيعة والحاكمون، ط5، 1981، ص27.

4 - مجلة الجامعة الإسلامية، السنة الأولى، 1389هـ، العدد3، عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر، الشيخ عبد المحسن العباد، ص145.

5 - سورة المائدة، الآية 18.

6 - المصدر، الإمام محمد باقر، بحوث حول المهدي، ص20.

7 - نفس المصدر السابق، ص21.

8 - سورة البقرة، الآيات 30-33.

9 - العصمة.. وشروط الحفاظ على النظام الكوني، السيد محمد مهدي الحكيم.

10 - سورة يس، الآية 12.


source : http://www.mahdawiat.com/arabic/pages/news.php?nid=632
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

کتابة رقعة الحاجة إلی مولانا صاحب العصر والزمان ...
الحرب العالمیة فی عصر الظهور
في رحاب بقية الله: المهدوية عقيدة النجاة
المعالم الاقتصادية والعمرانية في حكومة الامام ...
تكاليف عصر الغيبة الكبری
المهدي والحسين عليه السلام الدور والتجلي
سيرة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه)
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
كيف يكون الإنتظار للإمام المهدي عليه السلام
المدخل إلى عقيدة الشيعه الإمامية في ولادة الإمام ...

 
user comment