تختلف المساعي لمعرفة الله تعالى عن المساعي لتحصيل باقي المعارف اختلافاً جذرياً؛ ذلك لأن الذي يسعى لمعرفة شيء، إنما يجعله موضوع دراسة يتوصل منها إلى الحقائق المتعلقة بذلك الشيء، أما الذي يسعى لمعرفة الله تعالى، وهو الحق المحيط بكل حقيقة وبكل شيء، فهل يستطيع أن يجعله موضوع دراسة، وإذا جعله موضوع دراسة فإلى أي شيء يريد أن يصل بعد الحق المحيط؟! وإلى أية نتيجة يريد أن يتوصل؟!
إن الله سبحانه وتعالى يقول:
(ذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟) يونس – 32.
ولهذا، فإن أمير المؤمنين (ع) غضب حينما سأله السائل أن يصف له الله حتى كأنه يراه عياناً (1).
فغاية كل علم هو بلوغ حقائقه، أي الإحاطة بثوابت الصدق من معاني وجوده؛ وهي جزئيات الحق الذي تبقى الإحاطة به بعيدة المنال، حيث لا يوجد سبيل علمي إلى الله تعالى من خلال أنماط التعلم في التكوين النفسي للإنسان، كالتسليم والتعليل والتصديق والتفاضل والتكامل والتعميم والاستقراء والاستنتاج... الخ.
بل السبيل إلى معرفة الله تعالى تبدأ من نفس الإنسان وقلبه، أي عكس معرفة الأشياء، حيث تبدأ في خارج النفس ومحيطها، ثم بعد المعرفة تصير حقائق تنطوي عليها النفس في داخلها.
ولقد رسم أمير المؤمنين لنا معلماً واضحاً في هذا الاتجاه من المعرفة الذي يبدأ بتطهير النفس بحب الله تعالى، بحيث يمكن القول وبيقين أن معرفة الله تعالى في قلب أي آدمي إنما تساوي بمقدارها، مقدار حبه لله تعالى، فالذي يمتلك حب الله تعالى بصدق ويمتلئ قلبه به دون أي حب آخر، يكون قد امتلك العلم كله، وكان هذا نهج كل الأنبياء والعارفين، وقد بينه القرآن العظيم في قصة سيد الموحدين إبراهيم الخليل(ع).
فقد كان قلب الخليل مفعماً بالحب لربه، مما دفعه لسلوك سبل المعرفة الفطرية في أنماط التعلم فجرب السبل من فكره وذاكرته في النظر إلى النجوم، فلما رآها تأفل، علم أنها ليست بمكانة المحبوب الفاطر الذي لا يأفل ولا يتغير، فوجه وجهه إليه: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) (الأنعام: 75-79).
فقد امتلأ قلب إبراهيم(ع) بصدق بحب الله تعالى فأراه الله حقيقة ملكوت السموات والأرض فكان من الموقنين، وصار بذلك يحاجّ قومه بما امتلك ويقول:
(أتحاجّوني في الله وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) (الأنعام: 79–83).
فقد كان إبراهيم (ع) ذا قلب سليم وفطرة نقية، ولكنه حين رأى من ذاته لذاته أنه كلما وجه وجهه لشيء يظن أنه ربه، يجد أنه فقير بذاته محتاج لغيره لأنه يأفل وهو (ع) قد امتلأ قلبه السليم بحب الغني الفاطر الذي لا يصيبه الأفول، لذا فهو لا يحب الآفلين، فهي مخلوقات من أمثاله، مما جعله (ع) يلتفت إلى أنه إنما يبحث عن الذي ليس كمثله شيء، أي يبحث عن علة البحث عنده، بل علة كل شيء موجود مثله، فوّجه (ع) وجهه إليه سبحانه وتعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
إذن فإبراهيم (ع) أحب الله تعالى ربه وامتلأ قلبه بهذا الحب، فلا وجود لغيره معه في قلبه؛ فهو (ع) بدأ بالحق الذي بدأ به الوجود كله ويقوم عليه ويستمر معه، إنه (ع) امتلك الحقيقة التي تشع منها كل العلوم.
ولذا فإن الذي يظن أنه يعرف الله تعالى بعلم يعلمه، إنما هو جاهل متجرئ.. ولهذا غضب الإمام من السائل الذي يريد وصف الله وصف معاينة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لأن هذا السائل ألبس جهله بسؤاله هذا ثوب العلم حين ظن واهماً أن الله تعالى يمكن وصفه من قبل عالم عظيم كعلي بن أبي طالب (ع) ... وفي غضبه (ع) إظهار لجدية عبوديته لله تعالى؛ حيث فيه بيان لقبح الجرأة على التفكير في وصف الله تعالى، فإنه سبحانه وتعالى الجلي الذي لا يتجلى، الذي يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
المعاني العلمية للجلاء والتجلي
يقول الإمام علي (ع): (الحمد لله المعروف من غير رؤية) (2).
ويقول في خطبة أخرى: (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) (3).
ويقول (ع) في خطبة ثالثة في معنى كون الله جل وعلا جلياً دون تجلٍّ: (الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور ودلّت عليه أعلام الظهور وامتنع على عين البصير فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره، سبق في العلو فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به) (4).
هذا التوجيه من لدن أمير المؤمنين (ع) يجعل التعرف إلى الله سبيلاً لا بد منه، في حين يمنع سبيل التعرف عليه، وهنا لا بد من التفريق بين التجلي والجلاء من وجهة نظر علمية صرفة.
الجلاء: (Consistent)
هو الوضوح، والوضوح هو نتيجة لتمام الإدراك، والإدراك هو انطباق السنة التكوينية للنفس مع السنة الكونية في موضوعها(5).
والسنن التكوينية تبرز لنا في ثمانية أنماط للتعلم نرى النفس تمارسها في التعلم، أما السنن الكونية فتعرف في ثمانية بديهيات معروفة هي:
كون النفس الإنسانية تميل للحسن والجمال، وكون الرحمة ومظاهرها علة أُمّاً في كل حادث وكون الموت سنة لا بد منها، وكون الحق والعدل أساس كل خلق، وكون الإمامة معنى الحسن في كل خلق، وكون البلاء ناموس الخلق، وكون كل الموجودات مربوبة لله تعالى الواحد، وكون التطور للأحسن دافعاً لكل الموجودات.
أما أنماط التعلم التي تبرز في النفس محاكية لمواضيع السنن الكونية فهي:
- نمط التسليم، ويبدو في تسليم النفس بثوابت الأسماء مقابل معانيها في الواقع.
- ونمط التعليل، ويبرز في بحث النفس عن العلل والأسباب، فعلة مقابل كل حادث.
- ونمط التصديق، وهو واضح في بحث النفس عن العدل والحق، وهما مواقع الصدق الثابت في الواقع.
- ونمط القياس؛ وهو يتوضح دوماً في سعي النفس للمفاضلة بين الحسن والأحسن وبين القبيح والأقبح من خلال المطابقة لمعايير ثابتة من أصل ثوابت الأسماء لمعانيها وثوابت العلل لمعلولاتها بثوابت مواقع العدل والصدق في الواقع.
- ونمط التعميم، الذي يبرز في ميل النفس للتوحيد والتوحد، وكما هو واضح في واقع الناس اليوم وعلومهم.
- ونمط التكامل ويبرز في انجذاب النفس للحسن والأحسن والأجمل، وهو واضح عند الجميع بدون استثناء، ويكون أوضح في النفس الراقية في قيمها الإنسانية.
- ونمط الإيمان؛ ويبرز في ميل النفس للاستعداد لما بعد الموت الذي لا بد منه.
- ونمط التجريب، ويبرز في ميل النفس للتجريب والملاحظة والممارسة والتطبيق للقوانين المعروفة.
ونلاحظ بوضوح أن كل سنة تكوينية في نفس الإنسان، إنما تبرز بسبب التكوين الإنساني الذي يضم في خلقته كل مكونات الكون، وهي المادة والطاقة والحياة ومميزاتها والروح ومميزاتها الظاهرة للعقل.
فنمط التسليم في النفس وليد سنة الطاعة الكونية، حيث كل ما في الكون حادث مربوب لرب واحد مدبر حكيم قوي متين... له الصفات الحسنى؛ فكل ما في الكون طائع مسبح لله تعالى.
ونمط التعليل في النفس وليد سنة الرحمة الواسعة، حيث كل ما في الكون حادث معلول في حدوثه لمظاهر رحمة الله الواسعة في المحبة والألفة، والعاطفة الأبوية أو الود...
ونمط التصديق في النفس وليد سنة الحق والعدل الكونية، حيث كل ما في الكون بدأ بالحق ويقوم بالعدل ويستمر معهما.
ونمط القياس في النفس وليد سنة الإمامة الكونية، حيث كل ما في الكون له من ذاته لذاته إمام، ولا بد له من صنفه لصنفه إمام، يبدو به حسن تلك الذات أو ذلك الصنف، إذ بدون الإمام لا معنى جميل لخلق تلك الذات أو ذلك الصنف.
ونمط التجريب في النفس هو وليد سنة البلاء الكونية حيث كل ما في الكون هو بذاته بلاء ومبتلى بغيره في آن واحد.
ونمط التعميم في النفس وليد سنة التوحيد الكونية، حيث كل ما في الكون مترابط بوحدة الثوابت ووحدة الشروط، فهو مربوب لقوة واحدة هي قوة الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد.
ونمط الإيمان في النفس وليد سنة الموت الكونية التي لا يفلت منها كائن مادي أو حي أو عاقل لا في الأرض ولا في السموات.
ونمط التكامل في النفس وليد سنة التطور للأحسن، حيث كل ما في الكون يسير للأحسن وينجذب إليه ويسر ويبتهج لوجوده.
الجلاء والتجلي:
فالجلاء: إذن؛ هو الوضوح، وهو عند كل نفس يكون بمقدار مطابقة نسبتها التكوينية مع السنة الكونية الأم التي ولدتها، ما دامت تلك النفس ساعية إليها، لذا فالوضوح جزئي وكلي يبرز من تلك المطابقة وبقدرها، وعليه فإن كل معنى له حيز في نفس الإنسان قد يكون جزئياً وقد يكون كلياً طبقاً لمعاني الوضوح.
أما التجلي: فهو إحاطة الحواس الخمس بالموجود، أحداها أو كلها.. ولذا فإن التجلي غير ممكن إلا مع الشروط التالية:
1- كون الموجود في حدود قدرة الحاسة على الإحاطة به، ذلك لأن كل حاسة لها حدود، ولا يمكنها الإحساس بالموجود إلا من خلال تلك الحدود، فإذا كان الموجود خارج تلك الحدود فلا تجلي.
أمثلة ذلك: حدود البصر في حدود الضوء المرئي – Visible light الذي يقع بين (7500AO- 4000AO) انكلستروم لطول موجته، أما خارج هذه الحدود فلا رؤيا ولا تجلي لأي موجود للباصرة(6).
أما حدود السمع؛ فتقع ما بين (20000-20) ذبذبة – ثانية فالأجسام المصوته أقل من هذه الحدود أو أكبر فلا تجلي لأي موجود منها للسامعة(7).
أما حاسة الذوق؛ فتعتمد على إمكان اللعاب في إذابة المادة المتذوقة إلى شوارد (أيونات) تؤثر على النهايات العصبية الحسية، وإلا فلا تجلي للذوق.
كذلك حدود الشم فتعتمد على إمكان المخاط من إذابة الغازات المحيطة به وإلا ففي حال الرشح يقل الشم أو ينعدم فلا تجلي.
ويبدو هنا أن حاستي السمع والبصر فيزياوتيان لاعتمادهما الضوء والصوت أما حاستا الذوق والشم، فكيمياويتان، لاعتمادهما في التفاعل في أوساط مائعة على نهايات العصب الحسي حيث يتم نقل حاصل التفاعلات إلى الفصوص الحسية في الدماغ حيث يتم بعدها التجلي.
أما حاسة اللمس، فحدودها تجاوز المحسوس في درجة حرارته، حرارة اللامسة وقدرته في تغير واقع بناء اللامس، وفيما عدا ذلك لا تجلي.
2- كون الحواس سليمة، فإن فقدت الحاسة، أو أصيبت بعلة فإن النفس تفقد إحدى نوافذها لتجلي الموجودات من حولها.. وفي حالة مرض الحاسة قد يحصل خلل في استجلاء الأشياء كمرض العين بالانحراف، الذي يفقدها تجلي الخطوط الطولية دون العرضية في المربعات.
3- أن يكون المتجلي حاضراً في وسط التجلي: حتى في فرض وقوع الموجود في حدود الحس للحاسة، وفي شرط سلامة الحاسة، فلا بد أن يقع المتجلي في وسط التجلي كي يحصل التجلي.
مثال ذلك لتجلي الموجود في الباصرة، لابد من الضوء المرئي؛ إذ مع الباصرة السليمة ووجود الشيء فإنه لا يمكن رؤيته في الظلام فلا تجلي.
مثال ذلك أيضاً: لتجلي الموجود المصوت في السامعة، لا بد من وجود الوسط الناقل كالهواء مثلاً ففي الفراغ لا يتجلى الجسم المصوت.
مثال ذلك أيضاً: لتجلي الموجودات المشمومة كالعطور أو المتذوقة لا بد من وجود السائل المؤين كاللعاب أو المخاط.
مثال ذلك أيضاً: لتجلي الموجودات ذات الطاقة الحركية أو الكامنة، أو الحرارية لا بد من وجود وسط ناقل، وإلا فلا تجلي للامسة.
4- أن تكون النفس منتبهة ومتوجهة للكائن الذي تطلب تجليه، فحتى إن توفرت كل شروط التجلي دون أن تكون النفس متوجهة ومنتبهة لما تريد فإنه لا تجلي.
فمثلاً؛ قد تدخل مكاناً ما وتخرج منه دون أن تنتبه لوجود شيء فلا يتجلى لك، بعكس ما لو كنت تبحث عن شيء وتقصده فأنت منتبه له، فإنه إن كان موجوداً تجلى لك.
5- ملاءمة البيئة والحدود والنظام لتجلي الموجود على حقيقته، فقد تخدع الحواس بالبيئة المصطنعة فلا يتم التجلي، وقد يكون للبيئة حدود تمنع تجلي الموجود مع وجوده بشروط التجلي.
وهذا ما نراه في مظاهر التمويه التي تبرزها بعض الكائنات في الطبيعة كحالة دفاع غريزية والذي يمنع غالباً من تجليها، أو نراه في ما يمارسه القانون الكوني في خفاء بعض الموجودات، كالحرارة الشديدة، أو الجاذبية الشديدة أو البرودة الشديدة، أو اللون الواحد (monocoulor) في حدود مسيطرة، والذي يبدو فيما يستعمله تجار الأقمشة في وضع مصابيح أحادية اللون في متاجرهم؛ حيث لا يتجلى اللون الحقيقي للقماش في اللون المسيطر الأحادي.
والآن فإن بين الجلاء والتجلي في معرفة الله تعالى معاني لا بد أن يدركها الإنسان ليعلم مقدار القبح الذي أغضب أمير المؤمنين (ع) في تطلع النفس لوصف الله تعالى وكأنها تراه.
موانع تجلي الله تعالى (موجبات عدم التجلي)
إن من موانع تجلي الله تعالى ، وحدانيته الصمدية، ثم إحاطته وسعته سبحانه ثم هيمنته واستطالته، ثم استدامته وثباته، فالله سبحانه وتعالى جلي ولا يتجلى لأنه كما يقول الإمام علي (ع): (واحد لا بعدد).
الوحدانية:
تفرد الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، الجلية بوحدة خلقه، المتميزة بوحدة الثوابت والشروط النافذة في كون خلقه، المميزة بإدراك أن وحدانيته هي الوجود كله، وكل وحدانية دون وحدانية الله تعالى قلة؛ يقول الإمام علي (ع) في هذا المعنى:
(الحمد لله الذي لم يسبق له حالٌ حالاً فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كل مسمى بالوحدة غيره قليل... ).
ذلك معناه أن الواحد كما هو في نمط تعلمنا هو عكس نمط معرفة الله التي أشرنا إليها؛ في معرفتنا أن الواحد هو أقل العدد ومبتداه.. ومن كان واحداً منفرداً عن الشريك محروماً من المعين كان محتقراً لضعفه ساقطاً لقلته، أما الوحدانية لله تعالى فتعني:
أ- الصمدية: الامتناع على التجزئة والتركيب.
ب- الاستطالة: الهيمنة بالسلطان والقوة والعظمة.
ج- الثبات: لم يسبق له حالٌ حالاً – كما يقول أمير المؤمنين(ع).
4- الاستدامة: (الديمومة).
5- الإحاطة: الاحتواء الحكيم لكبره اللامحدود.
(سأل ذعلب اليماني أمير المؤمنين (ع): هل رأيت ربك؟ فقال (ع): أفأعبدُ ما لا أرى؟!.
فقال ذعلب: وكيف تراه؟!.
فقال (ع): لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلم لا بروّية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته وتجب القلوب من مخافته) (8).
قدمنا قول أمير المؤمنين (ع) هذا تقويماً لما سيأتي من بيان عن معاني التجلي والجلاء بما يوافق) لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان)، فهو جل وعلا جلي لا يتجلى.. من هنا نبدأ مسيرة البحث في موجبات عدم التجلي التي هي انعكاس لمعاني وحدانيته:
1- الوحدانية في الصمدية:
قال أمير المؤمنين (ع):
(ما وحّده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمّده من أشار إليه وتوهمه) (9)... ومعنى (ولا صمده) من أشار إليه وتوهمه أي من تصوره على ذات هيئة عند الإشارة إليه، توهماً، إذ مع تصوره في تلك الهيئة، حيث أشار إليه، يكون قد ركبه أو جزأه، وهو ما يتنافى مع معاني الصمدية في الوحدانية التي تمتنع على التجزئة مثلما تمتنع على التركيب.
وهذا ما يتوضح في قوله (ع) في خطبة أخرى لبيان معاني التوحيد: (كمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده... ) (10).
ففي هذا الحديث توضيح لمعنى الإشارة في حديثه الأول (ع)، فالصمدية هي الامتناع على التعدد في التجزئة أو في التركيب على حد سواء.
هذا لأن أساس الإحساس أصلاً يعتمد التعدد والتغير، وحين لا تعدد ولا تغير في تركيب أو تجزئة فلا إحساس؛ كيف إذن يحيط الإحساس القاصر بالله تعالى الصمد!!.
من أجل البيان نأخذ الأمثلة التالية من واقع الأشياء في تجليها وعدمه مع أنها مادية، فالموجود بمقدار ما يكون مركباً يكون الإحساس به سهلاً، وكلما كان بسيطاً يكون الإحساس به صعباً.
مثال ذلك وجود القوة، فالقوة موجودة لا ينكرها أحد، إلا أن تجليها بذاتها صعب جداً، وإنما نحن نحسها من خلال أثرها في إزاحة الأشياء، ولولا الإزاحة فلا إحساس ولا تجلي للقوة بذاتها وإن وجدت، كأن تضغط على حائط دون إزاحته.
مثال آخر الحركة، فالحركة موجودة كطاقة لا ينكرها أحد، إلا أن تجليها بذاتها صعب جداً، وإنما نحن نحسها فقط من خلال الأجسام المتحركة، ولولا هذه الأجسام فلا إحساس ولا تجلي للحركة بذاتها وإن وجدت، كأن تضع جسماً على مرتفع، فإن فيه حركة كامنة لا تبدو إلا عند سقوطه.
فالقوة والحركة موجودان بسيطان، يمكن تجليهما للإحساس بذاتهما إنما من خلال آثارهما، فنحن لا ندرك الحركة إنما ندرك المتحرك، وكذا لا ندرك القوة بل نرى الإزاحة... فكيف بالواحد الصمد، كيف يمكن أن يتجلى؟! ونحن الذين يصعب علينا استجلاء الحركة بذاتها أو القوة بذاتها فكيف نطلب بأوهامنا تجلي خالق القوة ومبدع الحركة؟!.
إذن فنحن نستجلي بحواسنا الموجود البسيط بصعوبة، ومن خلال آثاره ندركه بعقولنا، وكلما كان في بساطة الموجود كمال ويقترب من الصمدية كلما كان الإحساس به صعباً ويقترب من الاستحالة، حتى إذا كان الصمد سبحانه كان تجليه للإحساس مستحيلاً، ولكنه يدرك بالعقول من خلال آثاره في خلقه، وتلك هي معرفة الله تعالى تبدأ من صمديته في تركيب كونه وأجزاء خلقه.
2- الوحدانية في الاستطالة: التفرد بالملك، والهيمنة بسلطان القوة والعظمة (سبحانه وتعالى):
يتجلى الموجود للحواس كلما كان صغيراً مقدوراً عليه محدوداً لا سلطان له؛ حيث هذه الصفات وغيرها من صفات التبعية تجعله متحركاً بسلطان غيره، مسخراً لقدرة من هو أقدر منه، فالإحساس كما قلنا هو أصلاً يعتمد التغير والتبدل.. أما إذا كان الموجود يتمتع بالاستطالة؛ أي أنه مهيمن بسلطان ما؛ فإن تجليه يكون صعباً بمقدار هيمنة سلطانه في وجوده.
مثال ذلك: استطالة النوم على النائم؛ فإن تجلي الحال للنائم أنه نائم صعب جداً، ولذلك تجده إن رأى في نومه مثلاً رؤيا مخيفة فإنه ينفعل ويخاف.. حتى إذا استيقظ وجد أن قلبه يخفق بشدة من الخوف وأن عرقه يتصبب، ولولا سلطان النوم عليه واستطالته على نفسه لتجلى له أنه مجرد حلم.
ومثال آخر: استطالة الرائحة أو العطر على حاسة الشم، فالشخص الذي يعيش في غرفة مثلاً لها رائحة مميزة فإنه إذا عايشها لمدة طويلة دون أن يخرج منها، فإنه لا يستجلي تلك الرائحة في حاسته مهما كانت قوية إلا أن يدخل عليه أحد فينبهه إليها أو أن يخرج هو ثم يعود للغرفة فيباشر التغير على حاسته فيحصل له التجلي.
ومثال ثالث: استطالة التقاليد والعادات على الإنسان قد تجعله يفعل أشياء لا يستجلي معانيها إلا إذا خرج من استطالة تلك العادات والتقاليد .
ومثال رابع: استطالة الحب، أو استطالة الغضب، تعمي العيون وتُصم الآذان وكل الحواس عن استجلاء الموجودات بما يناسب تلك الاستطالة، فلا يستجلي المحب أو الساخط شيئاً من الحقائق الموجودة حتى ليقول الشاعر:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
فتجلي الموجود إذن رهن عدم استطالته، أما إذا كان له حظ من الاستطالة والهيمنة بسلطان ما على النفس، فإن حظه من عدم التجلي يساوي حظه من الاستطالة.. وهكذا كلما امتدت استطالته استحال على التجلي للحس.
على هذا فكيف إذن بالله سبحانه وتعالى المهيمن بالسلطان الذي لا يقهر!!
يقول الإمام علي (ع): (كل شيء خاشع له وكل شيء قائم به) (11).
وبهذا يكون تجليه سبحانه وتعالى مستحيلاً، مثلما يكون جلاؤه أوضح من فلق الصبح، فسبحان (المتجلي لخلقه بخلقه والظاهر لقلوبهم بحجته) (12).
3- الوحدانية في الاستدامة (الدائم في وحدانيته):
قال أمير المؤمنين (ع):
(الحمد لله الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه) (13).
هذا تعبير عن صدق الديمومة وثباتها لله تعالى، والذي يعبر عنه (ع) في مكان آخر بقوله: (تبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله حسن الفطن، الأول الذي لا غاية له فينتهي، ولا آخر له فينقضي) (14).
وفي نفس المعنى يقول (ع): (الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، بأوليته وجب أن لا أول له، وبآخريته وجب أن لا آخر له) (15).
وفي بيان أوضح يقول الإمام (ع) في معنى ديمومته سبحانه:
(ليس لأوليته ابتداء، ولا لأزليته انقضاء، هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل) (16).
ويقول (ع) في هذا المعنى:
(واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد، تتلقاه الأذهان لا بمشاعره، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها) (17).
ونحن نجد على صعيد الواقع أن الموجود كلما اكتسب من عناصر الاستدامة في وجوده، كلما صعب تجليه، وكلما كانت استدامته جزئية كلما كان تجليه ممكناً؛ في حين يكون الموجود السريع التغير، شديد التجلي واضحاً للحواس، بل يجذب الحواس جذباً.
مثال: وجود مصباح مستديم في إضاءته، وآخر يشتعل ثم ينطفئ بالتناوب، فإن الذي يلفت الإحساس بالنظر لوجوده هو المصباح الذي لا يتمتع بالاستدامة في إضاءته؛ أما المستديم الإضاءة فإنه لا يلفت النظر كثيراً.
ولذا فإنه لهذا السبب توضع في الأماكن العالية والأبراج مصابيح تضيء وتنطفئ لتجلب النظر أثناء الليل للطيارين تحذيراً لهم من الارتطام.
ومثال آخر: الجاذبية الأرضية بما لها من عناصر الاستدامة على جسم الإنسان، فإنه يكاد يتجاهلها.
إن وجود الجاذبية أقوى من وجود الإنسان وأدوم، ولكنه بسبب حيازته لعناصر من الاستطالة والديمومة يصعب جداً على الإنسان الإحساس بها، وإن كان له حظ من العلم فإنه يدركها ولا يحسها، لأنه يلاحظ تأثيرها غير المباشر من خلال حركة الأجسام وسقوطها، وقد يحصل أنه بحساب درجات السلم وهو يصعد يعطي قوة إضافية لقدمه، فيضحك لأنه يعلل ذلك بخطئه، وليس لاستدامة الجاذبية عليه، وعندما يهرم أو يمرض ويتحتم عليه صعود سلم يحس بتجلي الجاذبية.
إن الإنسان بل والكون كله يعيش في بحر مستديم من الجاذبية لكن لا تجلي لهذا المحيط المذهل، ويكلفنا مئات الأطنان يومياً وفي كل لحظة دون أن نشعر به، بل إن رواد الفضاء يتدربون على الحركة في أجواء من انعدام الجاذبية كي يتعلموا كيف يتصرفون، فلرب حركة إعتادها في جو استدامة الجاذبية تفقده يده أو رجله أو تكلفه كثيراً.
والجاذبية مخلوق موجود باستدامة جزئية يصعب تجليها للحواس، فكيف يتجلى المستديم المطلق!! الذي يقول عنه الإمام (ع): (الدائم بلا أمد).
فسبحانه الجلي الذي لا يتجلى والدائم الذي لا غاية له فينتهي ولا آخر له فينقضي.
4- الوحدانية في الثبات:
الثبات يعبر عنه أمير المؤمنين (ع) إذ يقول: (الحمد لله الذي لم يسبق له حالٌ حالاً... ) (18)، فالثبات هو الاستقرار دون الجمود، وهو في الموجودات حالة عدم تغير الطور الوجودي لها مع الزمن، وهناك من الموجودات ما يتمتع بالثبات الجزئي في هذا المعنى، فالموجود إذا لم يتغير طوره، يصعب تجليه للحواس لدرجة الاستحالة.
والطور هو النمط الوجودي للمخلوق، كأن يكون محض طاقة، فالطاقة الكامنة مثلاً وجود لا يتجلى مع أنه كائن في كل جسم.. أو يكون إشعاعاً لموجة كهرومغناطيسية، أو يكون لوناً أحادياً – أي غير متحد مع جسم – أو محض سائل لا يتحول إلى صلب أو غاز، أو غازاً مطلقاً لا يتحول إلى سائل أو صلب، أو مثل حالة البلازما، حيث تتمتع بشكل ثابت وحجم متغير.
إن تمتع الموجود بالثبات الجزئي يجعل من الصعب تجليه للحواس، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي يصف الإمام علي (ع) ثباته المطلق بقوله: (الذي لا يشغله شان ولا يغيره فان، ولا يحويه مكان ولا يصفه لسان) (19).
ويقول (ع) في معنى ثباته في مكان آخر: (الدال على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده) (20).
ويصف (ع) ثبات الله تعالى بقوله: ( واحد لا بعدد) (21).أو بقوله (ع): (الأحد لا بتأويل عدد).
لأن التعدد خروج على الطور فلا ثبات.
مثال: من الثابتات الجزئية من الموجودات الضغط الجوي: وهو قوة تسلط على السنتيمتر المربع الواحد ثقلاً يساوي عموداً من الزئبق طوله 76سم زئبق عند سطح البحر.
والآن لو قلت لأي شخص أنك تحمل على جسمك حوالي 6 أطنان فعلية من موجود اسمه الضغط الجوي، فإن كان من أهل العلم فإنه يصدقني ولكن لا بحواسه بل بعلمه، أما إذا لم يكن من أهل العلم، فلا يصدقني.
والسبب: هو أن الضغط الجوي من الثوابت، وهو الذي يولد به الإنسان ويعيش حتى منتهى أجله، نعم قد يتغير عند الناس الذين يغوصون إلى أعماق سحيقة في البحر أو عند الطيارين الذين يجازفون بارتفاعات هائلة، ولذا فهذا التغير يصير مبعثاً للإحساس بالضغط الجوي كوجود حقيقي عند هؤلاء المجازفين فقط.
والضغط الجوي موجود ذو ثبات جزئي، فكيف بالمطلق في ثباته سبحانه؟ هل يمكن تجليه!؟.
(سبحان الرادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه) (22).
وأناسيّ الأبصار هو البؤبؤ ربما عظمتها مع صغرها نسبة إلى عظمة الله وهو الكبير المتعال.
5- الوحدانية في السعة:
السعة هي الكبر والامتداد في أبعاد الموجود الوجودية، فكلما كبرت وامتدت أبعاد الموجود في وجوده كلما صار ممتنعاً على الحواس أن تستجليه.
مثال ذلك كبر سعة الموجة الصوتية كلما ابتعدت عن مصدرها لا يعدم وجودها ولكن يعدم تجليها للسامعة.
مثال آخر اتساع وجود الجاذبية على الأرض يعدم تجليها، وكذا اتساع وجود الضغط الجوي في محيط الأرض يعدم تجليه للحواس.
وعلى العموم فمن الواضح أن الاتساع في كل شيء يتنافى مع محدودية الحواس في قدراتها على الإحاطة بالمحسوس.
والله سبحانه وتعالى كما يقول الإمام (ع): (لا يشمل بحد ولا يحسب بعد، وإنما تحدّ الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، منعتها منه القدمية، وحمتها عنه الأزلية، وجنبتها لولا التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة... ).
إنه سبحانه وتعالى وسع برحمته وعلمه وسلطانه كل شيء فلا حدود لسعته، وإذا كانت الحواس قاصرة عن استجلاء مخلوقاته لسعتها فكيف تدركه وتحيط به!!.
6- الوحدانية في الإحاطة:
الإحاطة: هي شمول الموجود بوجوده لموجودات أخرى.. وكلما كان الموجود محيطاً كلما صعب تجليه.
فمثلاً إحاطة الماء بحياة الأحياء المائية، فالسمكة لا تدرك أنها في الماء، حتى إذا خرجت منه بقيت تدير حركاتها وكأنها لا زالت في الماء.
وإحاطة الهواء بنا تجعلنا لا نستجلي حقيقة ما نحمل من قوته على أجسامنا.. وإحاطة قوة الجذب الشاقولي لمركز الأرض بنا تعدم، والماء والهواء والجاذبية، بل والكون كله، هي موجودات إحاطتها جزئية، ومع هذا يصعب تجليها، فكيف بالمحيط المطلق!!
سبحان الله الذي لم يتجلّ مع جلائه وبيان آياته.
هذه هي موجبات عدم التجلي في واقعها، وخارج وجود الإنسان وطبيعة معرفته وتعلمه، باعتبار أن العلم – كما قدمنا – ناتج المطابقة بين السنن التكوينية في نفس الإنسان مع السنن الأم من الكون، فإذا كانت المطابقة جزئية، كذلك تكون معرفته جزئية، وتكون المعرفة تامة بتمام المطابقة، وهي التجلي عند السعي بالحواس أو الجلاء عند السعي بأنماط التعلم.
وإن موجبات عدم التجلي هذه لا تعني شيئاً أمام قدرة الله تعالى بعيداً عن حقائق المعرفة في الوجود الكلي والموجودات، وإن عدم تجليه هو من فصول سنة رحمته الواسعة التي كتبها على نفسه، فإن شاء الله تعالى التجلي فلا شيء في الوجود يقوم لتجليه، ويبدو ذلك واضحاً من طلب موسى (ع) رؤية ربه:
قال تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) (الأعراف: 143).
وهذا بيان واضح للرحمة الواسعة، والحكمة والتدبير الحسن، في التعليق على المحال بين استقرار الكون وبين تجلي الخالق لخلقه
source : http://www.tebyan.net/index.aspx?pid=29070