الشهيد الشيخ مرتضى مطهري
{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية
يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّا مما ذكروا به}.
التحريف في اللغة العربية عبارة عن نوع من التغيير
والتبديل أو حرف الشيء عن مسيره واتجاهه الأساسي
الذي ينبغي أن يكون. وهناك أنواع عديدة للتحريف
أهمها: التحريف اللفظي والتحريف المعنوي. التحريف
اللفظي عبارة عن تغيير الشكل الظاهري لموضوع ما،
كأن تضاف عبارة إلى حديث أو موضوع أو تحذف عبارة
منه، أو أن يتم التلاعب بذلك الحديث عن طريق تقديم
وتأخير جمله وعباراته بشكل يؤدي إلى تغيير في المعنى.
وفي الحالتين فإنّ ما يحصل هو نوع من التصرف في
ظواهر وألفاظ الحديث.
بينما في حالة التحريف المعنوي فإنك لا تتصرف في
اللفظ، إذ يبقى اللفظ على حاله. لكنك تقوم بتفسير ذلك
اللفظ بشكل يؤدي إلى مفهوم مخالف للمفهوم الذي قصده
المتكلم.
إن القرآن الكريم قد تطرّق إلى مفهوم التحريف لا سيما
فيما يتعلق بأعمل اليهود في إحدى آيات سورة البقرة في
قوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق
منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم
يعلمون}.
نعم إنهم يحرفون الكلام ليس من باب عدم الفهم أو سوء
الفهم، لا، بل إنهم قوم أذكياء وحادقون، لكنهم في نفس
الوقت يقلبون الحقائق ويمسخونها عن وعي وسابق
تصميم عندما يعرضونها للناس، وهذا هو التحريف، أي
تدوير الكلام وعرض الأمور بطريقة معوّجة وحرفها عن
منهجها الأصلي.
إن للتحريف منازل أيضاً حسب الموضوعات المحرّفة.
فمرّة يجري التحريف لقول عادي من أقوال الناس كأن يتم
تحريف ما قاله فلان من الناس. ولكن أحياناً يتم التحريف
أثناء التعرض لموضوع اجتماعي كبير كأن يحرّف كلام
شخصيات عظيمة، أو سلوك شخصية تاريخية عظيمة
ممن يشكل قولها وعملها سنداً تاريخياً للأجيال ومثالاً
يحتذى به على مر الزمن. وتشكل عملية التحريف في
الأمور المرتبطةبأخلاق الناس وتربيتهم ودينهم أمراً
خطيراً، والأخطر من ذلك كله لو تناول التحريف
المستندات والآثار والأسس التي تستند إليها البشرية في
حياتها العامة.
وحادثة كربلاء شئنا ام أبينا حادثة إجتماعية كبرى
بالنسبة لشعبنا وأمتنا. إن هذه القضية ينبغي عرضها كما
هي ودون زيادة أو نقصان لأن أي تدخل أو تصرف في
اللفظ أو المعنى مهما كان بسيطاً سيرتّب بلا شك حرف
اتجاه الحادثة عن مسارها، وبالتالي إلحاق الضرر بأمتنا
بدلا من إفادتها منها. إن هذه الحادثة مع الأسف قد
تعرّضت للتحريف اللفظي كما تعرضت للتحريف المعنوي.
إنّ التحريفات التي أصابت هذه القضية على أيدينا كانت
كلّها تؤدي إلى التقليل من قيمة الحادثة ومسخها
وتحويلها إلى حادثة لا طعم لها ولا معنى. والمسؤولية
تقع هنا على الرواة والعلماء، كما تقع على العامة من
الناس. فهناك مسؤوليتان كبيرتان ينبغي على جمهور
العامة تحملهما على الدوام.
أولاً: إن النهي عن المنكر واجب على الجميع. وعليه فان
من يعرف بأن ما يقال على المنابر كذب وافتراء فان من
واجبه عدم الجلوس في مثل هذه المجالس.
وثانياً: لا بد لنا جميعا من قهر هذه الرغبة اللامسؤولة
المنتشرة بين الناس والخطباء، والتي تتوقع من المجالس
الحسينية أن تصبح مجالس حارة وحماسية، أو كما
يصطلح عليها البعض "كربلاء ثانية".
فما معنى خلق كربلاء ثانية! ينبغي على الناس أن
يستمعوا إلى المأتم الحسيني الصادق حتى تتسع معارفهم
وينمو مستوى التفكير لديهم ويعرفوا بأن اهتزاز روحهم
مع أية كلمة من كلمات المأتم الحسيني يعني تحليقها
وانصهارها مع روح الحسين بن علي(ع). وبالتالي فإن
دمعة واحدة إذا ما خرجت من مآقيهم كافية لمنحهم ذلك
المقام الكبير لأنصار الحسين. أما الدموع التي تخرج من
خلال العرض المأساوي ورسم المجزرة فلا تساوي شيئاً،
حتى لو كانت بحرا من الدموع!.
إن الرغبة اللامسؤولة لرؤية واقعة كربلاء وبشكلها
المأساوي من طرف الناس كانت هي الدافع لاختلاق
الأكاذيب.
هناك نموذج للتحريف في وقائع عاشوراء، وهي القصة
التي أصبحت معروفة جداً في القراءات الحسينية والمآتم
وهي قصة ليلى أم علي الأكبر. هذه القصة لا يوجد في
الحقيقة دليل تاريخي واحد يؤكد وقوعها. نعم، فأم علي
الأكبر موجودة في التاريخ واسمها ليلى بالفعل، ولكن
ليس هناك مؤرخ واحد يشير إلى حضورها لمعركة
كربلاء. ومع ذلك فما أكثر المآتم التي تقرأ لنا قصة
احتضان ليلى ليلى لابنها علي الأكبر في ساحة الوغى!
وكيف أنها نذرت أيضا زرع الطريق من كربلاء إلى
المدينة بالريحان إذا ما استجاب الله تعالى دعاءها وأرجع
لها ابنها سالماً من المعركة!! أي أنها ستزرع طريقا
طوله ثلاثمائة فرسخ بالريحان:
نذر علي لئن عادوا وان رجعوا لأزرعن طريق التفـت
ريـحانـا
إن التفت منطقة غير منطقة كربلاء، ثم أن بيت الشعر كله
لا علاقة له بحادثة عاشوراء لا من قريب ولا من بعيد بل
انه نظم على لسان مجنون ليلى العامري وهو ينتظر ليلاه
التي كانت تقيم في تلك الناحية، وإذا بقرّاء العزاء صاروا
يقرأونه على لسان ليلى أم علي الأكبر وحرّفت التفت إلى
طف كربلاء وواقعة عاشوراء.
إن الشيء الذي يحز في القلب هو كون واقعة كربلاء من
أغنى الوقائع التاريخية المدعّمة بالوثائق والأسانيد
المعتبرة، في السابق كنت أتصور أن سبب كل هذه
الأكاذيب التي ألصقت بهذه الحادثة يكمن في عدم معرفة
الوقائع الصحيحة لها. ولكنني بعد المطالعة والتدقيق
لاحظت أنه ربما كانت واقعة كربلاء واحدة من أندر
الوقائع التاريخية المدعمة بكل تلك الأسانيد التاريخية الباقية منذ ذلك التاريخ البعيد أي منذ أربعة عشر قرنا خلت.
فالمؤرخون المسلمون المعتبرون دوّنوا ونقلوا لنا وقائع
عاشوراء بالأدلة والوثائق الدامغة منذ القرن الأول
والثاني. والروايات الموجودة في هذا الشأن إما متطابقة
أو قريبة جدا من التطابق مع بعضها البعض، ويبدو أن
أسباباً معينة كانت وراء حفظ كل تلك التفاصيل من عوامل
التزوير والاختلاق، وربما كانت الخطب الكثيرة أحد
الأسباب التي جعلت وقائع القضية محفوظة في التاريخ
من جهة وجعلت أهدافها معروفةً للجميع من جهة أخرى.
فالخطبة في ذلك الزمان كانت بمثابة البيان الرسمي أو
الإعلان الحكومي للدولة في الوقت الحاضر، تماما كما هي
حال البيانات الرسمية التي تصدر عن الدول بشأن
الحروب ووقائعها، والتي تعتبر أفضل وثيقة تاريخية،
هكذا كانت حال الخطب آنذاك. ولذلك نرى أن الخطب
التاريخية الأساسية سواء الخطب التي وردت قبل دخول
المعركة أو خلالها، وكذلك خطب آل بيت النبوة في الكوفة
أو في الشام وغيرها من المدن بعد انتهاء الواقعة، كلها
تبيّن بوضوح أهداف المعركة وخط سيرها الأساسي.
يضاف إلى ذلك أن هدف أهل البيت من إلقاء تلك الخطب
كان يهدف إلى إلقاء الأضواء على أسباب وقوع الحادثة
وعرض تفاصيلها للناس وشرح أهدافها لهم، وهذا بحد
ذاته يشكّل سببا من أسباب بقاء تفاصيل الواقعة مدوّنة في
الوثائق التاريخية.