التفسير النقليّ يشمل ما كان تفسيراً للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيراً للقرآن بالسنّة، وما كان موقوفاً على الصحابة، أو المرويّ عن التابعين، أمّا تفسير القرآن بالقرآن بعد وضوح الدلالة فهو ممّا لا خلاف فيه، وكذلك بما ثبت من السنّة الصحيحة.
وأمّا ما أُضيف إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى أحد الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، وكان في سنده ضعف أو في متنه وهن، فذلك مردود غير مقبول، ما دام لم تصحّ نسبته إلى المعصوم عليه السلام.
وأمّا تفسير القرآن بالمروي عن الصحابة والتابعين، فقد تسرّب إليه الخلل، وتطرّق إليه الضعف والوهن الكثير، إلى حدّ كاد يفقدنا الثقة بكلّ ما روي من ذلك.
أسباب الوهن في التفسير الروائي
وعلى أيّ تقدير فأسباب الوهن في التفسير الروائي تعود إلى الأمور الثلاثة التالية:
1- ضعف الأسانيد
ممّا يوجب الوهن في التفسير الروائي، ضعف الأسانيد بكثرة المجاهيل أو ضعاف الحال أو الإرسال أو حذف الإسناد رأساً، وما إلى ذلك ممّا يوجب ضعف الطريق في الحديث المأثور.
2- الوضع في التفسير
كان الوضع والدسّ من أهمّ أسباب الوهن في التفسير الروائي، وكانت الدواعي متوفّرة للدّسّ والاختلاق في المأثور من التفسير، إلى جنب الوضع في الحديث، فهناك أسباب سياسيّة وأخرى: مذهبيّة وكلاميّة، وربّما عاطفيّة.
وقد تفعّل ذلك على يد معاوية، حيث كان يجعل الجعائل على وضع الحديث أو قلبه تمشية لسياسته الغاشمة ذلك الحين، وراج ذلك طوال عهد الأمويّين وبعدهم في عهد العبّاسيين.
وأمّا أهم أسباب الوضع بشكل عامّ:
وهذه الأسباب الّتي سنوردها لها تأثير بشكل ولو غير مباشر على الأحاديث الّتي تفسّر القرآن الكريم أو ترتبط به بوجه، وهي:
ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غِشّاً ونفاقاً، وقصدهم بذلك إفساد الدِّين وإيقاع الخلاف والافتراق بين المسلمين، قال حمّاد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث(1) ، وروى ابن الجوزيّ بإسناده إلى حمّاد بن زيد، يقول: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة عشر ألف حديث(2).
وهذا يعني أن هناك عدداً من الأحاديث لا يمكن الاستدلال بها في التفسير.
الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدِّين وفروعه، فقد جعل العديد من أصحاب المذاهب يستفرغ ما بوسعه لإثبات مذهبه ودعم عقيدته.
وضع الحديث تزلّفاً لدى الأمراء، فمثلاً كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به، فأُهدي إليه حمام، فروى له أبو البختريّ عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو جناح. فزاد جناح(3).
الوضع نزولاً مع سياسة الطغاة، فقد حثّ معاوية قوماً من الصحابة والتابعين، على رواية أخبار قبيحة في الإمام عليّ عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم أموالاً طائلة مقابل ذلك، ومن هؤلاء: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.
الوضع نزولاً مع رغبة العامّة، ورغبة في ما بأيديهم من حطام الدنيا. وهذه مهنة القصّاصين. وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "قد كثرت عليّ الكذّابة وستكثر. فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار. فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوه، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به"(4).
3- الإسرائيليات
كانت العرب منذ أوّل يومها تزعم أنّ أهل الكتاب، ولا سيّما اليهود القاطنين بين أظهرهم، أهل دين وثقافة ومعرفة بشؤون الحياة، ومن ثمّ كانوا يراجعونهم فيما تتوق إليه نفوسهم في معرفة شؤون الخليقة وتواريخ الأمم السالفة والأنبياء وما إلى ذلك.
وبعد ظهور الإسلام حثّ القرآن الكريم العرب على مسائلة أهل الذكر والكتاب بالنسبة إلى علامات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(5).
وقد حسب بعض المسلمين الأوائل، أنّ ذلك تجويز لهم أيضاً في مراجعة اليهود، وسؤالهم عن بعض شؤون الشريعة ومعارفها.
من هنا جاء النهي عن مراجعة أهل الكتاب من القرآن والسنّة(6).
ومن أشهر من روى الإسرائيليات:
1ـ عبد الله بن سلام: كان حبراً من أحبار اليهود، فأسلم عند مقدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وكان عبد الله بن سلام ممّن يحوك الأحاديث ليستجلب أنظار العامّة ليرفع منزلته لديهم، من ذلك ما حاكه حول صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة، فكان يذكر من أوصاف الرسول الراهنة، ويقول: وجدتها كذلك في التوارة (7) ، وكان يدّعي أنّه أعلم اليهود وأخبرهم بكتب السالفين.
2ـ تميم بن أوس الداريّ: جاء مع عشرة نفر من بني عبد الدار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد منصرفه من تبوك سنة (9هـ) فأسلم مع أخيه وكانا نصرانيّين، وقيل عنه: كان تميم راهب عصره وعابد فلسطين وقد بالغ أصحاب التراجم بشأنه وذكروا له كرامات ومناقب من نسج الخيال، وهذا الكاهن المسيحي والّذي بقيت معه نزعته المسيحيّة إلى ما بعد إسلامه هو أوّل من سنّ القصّ في المسجد، وذلك على عهد عمر بن الخطاب.
3ـ كعب الأحبار: من كبار أحبار اليهود، كان أبوه كاهناً، ولد قبل الهجرة باثنتين وسبعين سنة، وأسلم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل خلافة عمر، وهلك أيّام عثمان سنة (32هـ).
اصطفاه معاوية وجعله من مستشاريه، وأمره أن يقصّ في بلاد الشام، وبذلك أصبح أقدم الأخباريين في موضوع الأحاديث اليهوديّة والمتسرّبة إلى الإسلام والّتي تحتوي على طائفة من أقاصيص التلمود الإسرائيليّات وما لبثت هذه الروايات أن أصبحت جزءاً من الأخبار التفسيريّة والتاريخيّة في حياة المسلمين.
4ـ عبد الله بن عمرو بن العاص: أسلم قبل أبيه عمرو، وعمرو أسلم قبل الفتح سنة ثمان، ولد عبد الله قبل الهجرة بسبع سنين، ومات سنة (65هـ).
هو أوّل من أشاع الإسرائيليّات بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ويبرّر ذلك بما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: "حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"(8).
5ـ أبو هريرة: لم يُعرف أصله ولا نسبه ونشأته، ولا شيء من تاريخه قبل إسلامه، غير ما ذكر هو عن نفسه، من أنّه كان يلعب بهرّةٍ صغيرة وأنّه كان معدماً فقيراً، يخدم الناس على شبع بطنه.
أخذ العلماء على أبي هريرة كثرة حديثه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع قلّة صحبته وقلّة بضاعته حينذاك، ومن ثمّ رموه بالتدليس والاختلاق. كان يسمع الحديث من أحد الصحابة ثمّ يدلّس، فيرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان كثيراً ما يسمع الحديث من أهل الكتاب ولا سيّما كعب الأحبار، فيسنده إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد كبار صحابته تدليساً وتمويهاً على العامّة.
6ـ وهب بن منبّه: ولد سنة (34هـ) ومات سنة (110هـ).
7ـ محمّد بن كعب القرطبي: ولد سنة (39هـ) ومات سنة (117هـ).
8ـ ابن جريج: من أصل رومي نصراني (80ـ 150هـ) (9).
أهمّ كتب التفسير الروائي
أمّا عند الشيعة - غير ما تقدّم في ص 99- 100, تفسير فرات الكوفي (كان حيّاً سنة 307هـ)، وتفسير العيّاشي (ت: حوالي 320هـ)، تفسير النعماني (ت: 342هـ)، وتفسير الصافي (للفيض الكاشاني، ت: 1091هـ)، والبرهان (السيد هاشم البحراني، ت: 1107هـ)، ونور الثقلين (لعلي بن جمعة الحويزي، ت: 1112هـ).
أمّا عند السنّة فهناك جامع البيان لإبن جرير (ذهب البعض إلى كونه من الشيعة) (ت: 310هـ)، والدّر المنثور في التفسير بالمأثور (لجلال الدِّين السيوطي، ت: 911هـ)، وهذان التفسيران يحتويان على روايات ضعيفة وموضوعة فضلاً عن الإسرائيليات، وتفسير ابن كثير (ت: 774هـ).
نموذج عن أصحاب التفسير بالمأثور
الطبري صاحب جامع البيان
هو أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (224 310هـ) نسبة إلى طبرستان، ولد بآمل من بلاد مازندران إيران، رحل إلى بغداد واستقرّ بها ونشر علمه هناك حتّى توفّاه الله.
يعتبره بعضهم أباً للتفسير وكذلك للتاريخ لجامعيّة تفسيره واستقصائه لآراء السلف وأقوالهم وعلى الرغم من ذكره للإسرائيليّات، واحتوائه على الروايات الضعاف، يُعدّ من أهمّ المراجع التفسيريّة الجامعة لآراء السلف عند السنّة، ولولاه لربّما ضاعت أكثر تلكم الآراء.
منهجه في التفسير ونقد الآراء
إنّه يذكر الآية أوّلاً ثمّ يعقّبها بتفسير غريب اللغة فيها، أو إعراب مشكلها، وربّما يستشهد بأشعار العرب وأمثالهم، وبعد ذلك يتعرّض لتأويل الآية، أي تفسيرها على الوجه الراجح، فيأتي بحديث أو قول مأثور إن كان هناك رأي واحد، وأمّا إذا ازدحمت الآراء، فعند ذلك يذكر كلّ تأويل على حدة، وربّما رجّح لدى تضارب الآراء أحدهما وأتى بمرجّحاته.
موقفه تجاه أهل الرأي في التفسير
إنّه يقف في وجه أهل الرأي في التفسير موقفاً عنيفاً، ويرى ذلك مخالفة بيّنة لظاهر دلائل الشرع، ويشدّد في ضرورة الرجوع إلى العلم المأثور عن الصحابة والتابعين، وأنّ ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح.
موقفه تجاه أهل الظاهر
كان الطبري إذا رأى من ظاهر النقل ما يتنافى مع العقل، يعمد إلى التأويل بوجهٍ مقبول، ويستنكر على أولئك الّذين يقتنعون بظاهر التعبير من غير تعقّل أو تحصيل.
نراه عند تفسير الاستواء من سورة البقرة (10) يواجه آراءً يستنكرها ويؤوّل الآية بما لا يستدعي التحيّز في ذاته تعالى، الأمر الّذي استنكره عليه مشايخ الحنابلة ببغداد.
موضع ولائه لآل البيت عليهم السلام
لم نجد علماً من أعلام الأمّة إلّا وهو خاضع لولاء آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا يقول عنه الذهبي: الإمام الجليل المفسّر، ثقة صادق، فيه تشيّع وموالاة لا تضر (11) أي تشيّع من غير مغالاة. ومن ثمّ فآثار هذا التشيّع والولاء بادية أثناء تفسيره الجامع وكذا تاريخه الكبير، ومن الشواهد على ذلك تفسيره لآية التطهير (12) حيث يروي ستّة عشر حديثاً مسنداً مؤكّداً أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين خاصّة (13)، وصنّف كتاباً في مجلّدين بشأن حديث الغدير، وله تأليف آخر بشأن حديث "الطير المشوي" في فضل الإمام عليّ عليه السلام.
وذُكر أنّه دُفن ليلاً خوفاً من العامّة، لأنّه كان يُتّهم بالتشيّع، ومع ذلك اجتمع على جنازته من لا يُحصى عددهم.
ـ من الآفّات الكبيرة للتفسير الروائي تسرّب الخلل إليه، والضعف والوهن، حتّى كاد يصل الأمر إلى فقدان الثقة بكلّ ما روي في ذلك.
ـ أهمّ أسباب الوهن في التفسير النقلي:
ضعف الأسانيد.
الوضع في التفسير وأسباب الوضع كثيرة، منها:
1- ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام نفاقاً.
2- الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدِّين وفروعه.
3- وضع الحديث تزلّفاً لدى الأمراء.
4- الوضع نزولاً مع رغبة العامّة.
ومن أقطاب مُحدّثي الروايات الإسرائيلية: عبد الله بن سلام، وتميم بن أوس الداري، وكعب الأحبار، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، ووهب بن منبّه، ومحمّد بن كعب القرطبي، وابن جريج.
المصادر :
1- أضواء على السنّة المحمّدية، ص221.
2- الموضوعات لابن الجوزي: ج1، ص37 38.
3- تفسير القرطبي، ج1، ص79-80.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 225.
5- سورة الأنبياء، الآية: 7.
6- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 596ـ 597.
7- الطبقات، ابن سعد، ج1، ص 87.
8- صحيح البخاري، ج 4، ص 207.
9- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 621 627.
10- سورة البقرة، الآية: 29.
11- ميزان الاعتدال، أبو عبد الله الذهبي، ج 3، ص 498 499، رقم 7306.
12- الأحزاب: 33
13- جامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر بن جرير الطبري، ج 22، ص 5 7، دار المعرفة، بيروت، 1406هـ.