من المسلمات أنّ الحديث هو المصدر الثاني للتشريع، ومن المرتكزات الاساسية للبناء العقائدي والفكري، وله دور متفرد في كثير من المجالات التشريعية والسلوكية والتربوية للفرد المسلم. فلولاه ما عرفنا كثير من الاحكام التي جاءت مجملة في القرآن الكريم كمناسك الحج وعدد ركعات الصلاة وغيرها، ولولاه ما عرفنا الكثير من الاحكام الشرعية التأسيسية التي لا نجد لها ذكراً في القرآن الكريم اصلاً كحدّ شارب الخمر وغيره، ولولاه ما عرفنا كثير من المغيبات وما يتعلق بمستقبل الأمة الاسلامية، ولولاه ما عرفنا الأحكام التقريرية لما عليه العرف وخصوصاً في المعاملات، ولولاه ما عرفنا هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وخلقه وسلوكه، ولولاه ولولاه الكثير الكثير... وفي قوله تعالى: (وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزّل اليهم ولعلهم يتفكرون) (1). تصريح بأنه لا يمكن الاعتماد على القرآن بدون بيانات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أن الشريعة الاسلامية بحكم الملغاة بدون الحديث، وبكلمة أكثر صراحة: إن الدين هو الحديث، وبدون الحديث لا يبقى دين، فمن أدعى كفاية الكتاب رام محو الدين.
ومن هنا تتبدى لك أهمية تدوين الحديث ورعايته والمحافظة عليه ليتمكن من البقاء والديمومة واداء دوره الذي اناطه به المولى عز وجل ولنا في تدوين القرآن أسوة فلولا ذلك لما بقي على ما هو عليه الآن، لهذا تجد الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصاً على تدوينه ورعايته ونقله إلى الأجيال، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((نضّر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع)) (2). وجوابه لرجل من أهل اليمن أراد أن يُكتب له، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اكتبوا لابي شاة)) (3).
وتأكيده لمن قال: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديثاً لا نحفظها افلا نكتبها؟ قال: ((بلى فأكتبوها)) (4).
واستنكاره الشديد لنهي قريش عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب ما يسمعه من رسول الله لانه حسب زعمهم بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأومأ إلى فمه الشريف وقال: ((اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق)) (5)، وغيره الكثير الكثير الذي نقلته لنا كتب الفريقين، وبالرغم من كل هذه التأكيدات والحث المتواصل لتدوين السنّة المطهرة، إلا أن القوم اصرّوا على منع تدوينها لاسباب تعمّلوها وفرضوها على السابقين ونظرّ لها المتأخرون، وسنأتي على بيانها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
ولم يبق مواصلاً لتدوين السنّة ـ التزاماً بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وباتفاق أهل الاختصاص ـ إلا أمير المؤمنين عليه السلام وثلة قليلة من الصحابة لم يرضخوا لرغبات السلطة، واستمر التدوين عند أهل البيت عليهم السلام واتباعهم ولم يتوقف، إلاّ أنه أخذ اطواراً وكيفيات متعددة بحسب الظروف ومقتضياتها.
ونتيجة لمنع تدوين السنّة الذي استمر قرناً من الزمن، والابتعاد عن عصر النصّ، ومحاولات التزوير والوضع التي مارستها يد السياسة، مضافاً إلى وفاة أغلب حملة الحديث، وغيرها من العوامل أدّت مجتمعة إلى صعوبة الحصول على السنّة الصحيحة عندهم، وكذا الأمر عندنا فبعد انتهاء عصر النص بوفاة الإمام الحادي عشر عليه السلام وحصول الغيبة، حصلت بعض العوامل التي أثرت في خلوص الحديث وصفائه، فمسّت الحاجة لدى العاملين على تدوين الحديث إلى وضع قواعد وقوانين لتمييز الحديث الصحيح من غيره، اصطلحوا على مجموعها علم الحديث أو أصول الحديث، أو علم الدراية وغيرها من المسميات وكلها ذات دلالة واحدة.
ونحن هنا إن شاء الله تعالى سنحاول التوفر على طبيعة هذا العلم وتشخيص موضوعاته وبيان مصطلحاته على شكل مقالات يتبع بعضها بعضاً.
تعريف علم الحديث
لعلم الحديث عدة تعاريف متقاربة الدلالة اسبقها ما ذكره الشهيد الثاني (ت 966 هـ) بأنه: ((علم يبحث فيه عن متن الحديث وطرقه، من صحيحها وسقيمها وعليلها، وما يحتاج اليه ليعرف المقبول منه والمردود)) (6).
وعرفه البهائي بأنه: ((علم يبحث فيه عن سند الحديث، ومتنه وكيفية تحمله وآداب نقله)) (7).
ونجد كلا التعريفين جعلا مدار علم الحديث السند والمتن معاً، إلا أن الثاني اضاف كيفية التحمل وآداب النقل ولهذا اللحاظ اختاره المامقاني واعتبره أدق من التعريف الأول، وردّ قول البعض ان قول الشهيد الثاني ـ ما يحتاج اليه ـ شامل لهذا المعنى، بأن ذلك يحتاج إلى تكلف (8).
والحق أن تعريف الشهيد الثاني أكمل؛ لأنه حوى على غرض العلم الشامل لجميع مسائله والمميز له عن غيره، أما كيفية التحمل فهي مسألة من مسائله بمعنى كلما كانت طريقة تحمل الحديث صحيحة فهو مقبول، وهذه مسألة خاصّة لا علاقة لها بغيرها، وإذا كان ذكر هذه المسألة ضروري فلا بد من ذكر جميع مسائل العلم بلا فرق.
مع أن المناسب ذكره في التعريف ما كان متصفاً بالشمولية لجميع مسائل ذلك العلم، والمتحقق في المقام بغرض العلم، والذي خلا منه تعريف الشيخ البهائي.
وبعضهم جعل مدار علم الحديث السند فقط كما نجد ذلك عند الشيخ آغا بزرك الطهراني حيث عرفه بقوله: ((هو العلم الباحث فيه عن الأحوال والعوارض اللاحقة لسند الحديث أي الطريق إلى متنه المتألف ذلك الطريق من عدّة اشخاص مرتبين في التناقل يتلقى الأول منهم متن الحديث عمن يرويه له، ثم ينقله عنه لمن بعده، حتى يصل المتن الينا بذلك الطريق، فإن نفس السند المتألف عن هؤلاء المتناقلين تعرضه حالات مختلفة مؤثرة في اعتبار السند وعدمه، مثل كونه متصلاً ومنقطعاً، مسنداً ومرسلاً، معنعناً مسلسلاً عالياً قريباً صحيحاً حسناً موثقاً ضعيفاً، إلى غير ذلك من العوارض التي لها مدخلية في اعتبار السند وعدمه، فعلم دراية الحديث كافل للبحث عن تلك العوارض)) (9). واختار ذلك تلميذه الشيخ عبد الهادي الفضلي حيث قال: ((تعريف الشيخ الطهراني اسلم من ناحية منهجية والصق بطبيعة موضوعات هذا العلم، وفي ضوئه عرفه بأنه: دراسة مستوى السند من حيث الاعتبار)) (10).
قلت: ان العلوم عبارة عن مجموعة كليات وقوانين عامة تتحدد من خلالها ماهية كل علم وحقيقته، وتتميز تلك العلوم عن بعضها بأغراضها التي نشأة من أجلها، فلا تشترك بنفس الغرض وإلا لعادت واحدة، كما أن المواضيع ليست لها مدخلية في تميز العلوم فقد يشترك علمان في موضوع واحد (11). أما الغرض الواحد فلا يشترك فيه علمان، وعلى اساسه نستطيع تشخيص مسائل ذلك العلم فما كان منها محققاً لذلك الغرض فهي منه والعكس بالعكس، والمتفق عليه أن الغرض من علم الحديث هو تحديد الحديث المقبول من المردود، ولتحقيق هذا الغرض وضعوا قوانين وكليات مجموعها يسمى علم الحديث، وأما مسائله فكما اسلفنا يحددها تحقق الغرض سواء كان موضوعها السند أو المتن.
فمن المسائل التي موضوعها السند مسألة اتصال السند وانقطاعه فما كان منه متصلاً كان معتبراً، ومسألة عدالة رواة الطريق فإذا كان الطريق رواته عدول فهو صحيح، وغيرها من المسائل، وهناك مسائل موضوعها المتن، ومنها كأضطرابه فإنه يضعف الحديث وإن صحّ سنده، وفيه يقول السيد حسن الصدر: ((المضطرب هو المختلق متناً أو اسناداً أو هما معاً، والاضطراب يضعف الحديث للاشعار بعدم الضبط)) (12)، أو كونه مخالف لضرورات الدين فيسقط اعتباره وإن صحّ سنده مضافاً إلى دوره في تحديد الموضوعات في الحديث.
وكذلك له دور في تقوية الحديث وقبوله وإن كان سنده ضعيف كشمول المتن على امور غيبية ومعارف علمية دقيقة لا تصدر عادة إلا من نبي أو إمام، وفيه يقول بعض علمائنا الاعلام: اننا كثيراً ما نصحح الاسانيد بالمتون. واستجود العلامة كاشف الغطاء هذا القول (13).
ومنه يتبين أن للمتن مدخلية في قبول الحديث وردّه.
أما اغفاله اعتماداً على ندرة الاعتماد عليه في اعتبار الحديث، أو كونه لا يشكل ظاهرة في كتب الدراية، فهذه لا تعتبر مبررات علمية وجيهة لاخراجه من موضوع علم الحديث.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن بعض القائلين بجزئية المتن لموضوع علم الحديث، يجعلون كثيراً من عوارض المتن كمسائل لعلم الحديث مع أنها لا تحقق غرض العلم فما المبرر العلمي إذن لدخولها؟ كادخالهم مثلاً مسألة كون هذا المتن نص أو ظاهر أو محكم أو متشابه وغيرها من المسائل مع أنه لا علاقة لنصيّة المتن أو ظهوره في قبول الحديث وردّه، فهذا من شأن علم الفقه، أمّا علم الحديث فتنتهي مهمته بقوله هذا الحديث معتبر تستطيع الاعتماد عليه، أو غير معتبر لا يمكنك الاعتماد عليه.
ولعلّه من هنا اضطر البعض إلى حصر موضوع علم الحديث بالسند فقط وهذا ما يستشعر من كلام اغا بزرك الطهراني، فبعد أن ذكر تعريف علم الحديث والرجال قال:
((ويقابل هذين الفنين فنٌ ثالث وهو فن (فقه الحديث) المخالف معهما في الموضوع فإن موضوعه متن الحديث خاصّة فيبحث فيه في شرح لغاته وبيان حالاته من كونه نصاً أو ظاهراً، عاماً أو خاصاً، مطلقاً أو مقيداً، مجملاً أو مبيناً، معارضاً أو غير معارض)) (14).
إلى هنا اتضح أن لبعض عوارض المتن مدخلية في قبول الحديث وردّه ولهذا لا بد من دخوله في موضوع علم الحديث.
ومن هنا نقول أن التعريف الصحيح لكل علم لا بد أن يكون جامعاً مانعاً يجمع جميع مسائله التي تحقق غرضه ويمنع ما عداها، ويتحقق ذلك بانتزاع حالة تشترك فيها جميع مسائله وبنفس الوقت تميز العلم عن غيره، وفي ضوء ذلك نرى ان التعريف المناسب لعلم الحديث هو عبارة عن: قواعد كلّية تبحث في احوال السند والمتن من حيث القبول والردّ. فيكون قولنا قواعد كلّية بمنزلة الجنس، وقولنا من حيث القبول والردّ بمنزل الفصل المانع لكل حالة تعرض السند أو المتن لا يتحقق فيها هذا المعنى، ومرادنا من حال السند أي حال رواته مجموعاً لا آحاداً فحالهم آحاداً من اختصاص علم الرجال.
وأما تعريف علم الحديث عند أهل السنّة فهو كما ينقل لنا السيوطي عن ابن جماعة قال: ((علم الحديث: ((علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن))، وموضوعه السند والمتن، وغايته معرفة الصحيح من غيره)) (15).
وهو أشهر تعريف له عندهم، وله تعاريف أخرى، ويقسموه إلى علم حديث رواية وعلم حديث دراية (16).
والى هنا تبين لنا تعريف علم الحديث وموضوعه ومسائله والغرض منه وبقي أن نتحدث عن معنى بعض المصطلحات التي يتعامل بها أهل هذا العلم وهي:
أولاً: السنّة
وهي الطريقة أو السيرة المتبعة وجمعها سنن وهي أعم من كونها حسنة، قال الجرجاني في التعريفات: ((السنّة في اللغة الطريقة مرضية كانت أو غير مرضية)) (17). ومنه قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) (18)، وكذلك الحديث النبوي المشهور ((من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنّة سيئة... الحديث)). ومنه أيضاً قول الشاعر:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
وأول راض سنة من يسيرها
إلا أن منهم من حصرها في الحسنة فقط كما حكي ذلك عن الازهري (19).
والسنّة إذا اطلقت في الشريعة أريد منها الحسنة، وهي اصطلاحاً ما يصدر من المعصوم من قول أو فعل أو تقرير. والمراد من المعصوم عندنا هم النبي وبضعته والأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين وعرفها الشيخ المامقاني بأنها: قول ما لا يجوز عليه الكذب والخطأ وفعله وتقريره غير قرآن ولا عادي (20) .
وأما أهل السنّة، فمفهوم السنّة عندهم تجده في علم الاصول وفي علم الفقه وعلم الوعظ والارشاد، وعلم الحديث ونظراً لاختلاف الغرض الذي يسعى له كل علم اختلفت تعريفاتهم لها، وكل هذا استعرضه أبو زهو في كتابه (الحديث والمحدثون)، وقال بعد ذكره لتعريفها عند أهل الحديث بأن السنّة عندهم يساوي الحديث (21)، أي هما مترادفان، ومنه نفهم الاختلاف والتباين في استعمال مفهوم السنّة في كلماتهم فهو نابع من اختلاف النظر والغرض الملحوظ ويفهم المراد من قرائن الحال وغيرها، وهم بين من خصّ السنّة بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبين من عدّاها إلى خاصّة أصحابه، كما يقول أبو رية: وسنة رسول الله ما كان عليه هو وخاصة أصحابه عملاً وسيرة (22). والثاني حسب التتبع هو المعمول به، ومنهم من عدّاها إلى التابعي أيضاً كما يقول الدكتور نور الدين عتر: ((وفي اصطلاح المحدثين: تطلق السنة على ما اضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة عند بعضهم، والأكثر انها تشمل ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي)) (23).
أما الحاكي عن السنّة فهو الحديث، فهما مترادفان وسيتضح ذلك عند تعريفنا للحديث.
ثانياً: الحديث والخبر
الحديث لغةً هو الخبر وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: (هل أتاك حديث موسى) (24). أي خبر موسى عليه السلام، قال الشهيد الثاني: ((الحديث والخبر مترادفان بمعنى واحد)) (25).
الحديث اصطلاحاً هو ما كان حاكياً عن قول المعصوم وفعله وتقريره. ومنه يتبين أن الحديث حاكياً عن السنّة، لأننا سبق وان عرفّنا السنّة بأنها قول المعصوم وفعله وتقريره، وعلى هذا يكون الحديث والسنّة مفهومان مترادفان، ومنه ينقدح ـ أيضاً ـ أن ما لا ينتهي إلى المعصوم لا يُسمّى حديثاً، إلا أن الشهيد الثاني يقول: إنّ اطلاق صفة الحديث على ما عدا ما صدر من المعصوم هو الموافق للاستعمال المشهور ولعموم المعنى اللغوي (26). وردّه الشيخ المامقاني بقوله: ولا يخفى عليك أن تسمية ما انتهى إلى غير المعصوم من الصحابي والتابعي حديثاً مبني على أصول العامّة، واما اصحابنا فلا يسمون ما لا ينتهي إلى المعصوم بالحديث (27). ويؤيده ما جاء في منظومة الكاشاني من ترادف السنّة والحديث والخبر وليس منها ما جاء عن الصحابي والتابعي قال:
وسنّةٌ وخبرٌ رواية ترادف الحديث في الدراية
وما إلى التابعي والصحابي ينسبُ لا يعدُّ من ذا الباب (28)
وعند أهل السنّة فالتعريف المختار للحديث على ما يقوله الدكتور نور الدين عتر هو: ما أضيف إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلقي أو خلقي أو اضيف إلى الصحابي أو التابعي (29). وفيهم من فرّق فخصّ الحديث بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول الدكتور اسماعيل عبد العال: الخبر مرادف للحديث عند كثير من العلماء، وحاول البعض التفرقة فجعل الحديث مختصاً بالرسول والخبر ما عداه، وبعضهم اعتبر الخبر أعم لأنه يشمل الموقوف والمرفوع (30). ومحاولة البعض في التفرقة لا نجد لها واقعاً عند أهل الحديث فهم يستعملون اصطلاح حدثنا وأخبرنا في روايتهم للحديث الموقوف والمرفوع على حدٍّ سواء مما يؤشر وحدة المعنى والاستعمال.
ثالثاً: الأثر
الأثر: لغة بقية الشيء، والأثر الخبر، ومنه قوله عز وجل: (ونكتب ما قدموا وآثارهم)، ومنه أيضاً قول أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في دعائه على الخوارج ولا بقي منكم اثير، أي مخبر يروي الحديث، وسنن النبي آثاره (31).
الأثر اصطلاحاً، قال الشهيد الثاني: ((هو أعم من الخبر والحديث فيقال لكل منهما أثر بأي معنىً أعتبر)) (32). ووصفه المامقاني بأنه أشبه الاقوال في معنى الأثر (33).
ويؤيده ما صنّفه الأصحاب في حديث النبي والأئمة واطلقوا على تصنيفهم الأثر؛ كما في كفاية الأثر للخزاز، ومقتضب الأثر للعياشي، وكذلك ما نجده في استعمالات محدثينا رضوان الله عليهم حيث يصطلحون على أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بالآثار، وفي هذا المعنى يقول السيد الداماد: ((واما رئيس المحدثين فقد عنى بالآثار الصحيحة: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياءه الصادقين)) (34). وينقل أيضاً ان بعضهم خصّ الأثر بما جاء عن الأئمة عليهم السلام، والمحقق نجم الدين بن سعيد في مصنفاته الاستدلالية كثيراً ما يسير ذلك المسير (35). وبعضهم ربما خصّه بما جاء من غير المعصوم عليه السلام؛ كما يظهر ذلك من منظومة حبيب الله الكاشاني قال:
وما إلى التابع والصحابي
ينسب لا يعدّ من ذا الباب
وعدّه أهل الخلاف في الخبر
وخصّه اصحابنا بأسم الأثر (36)
والأثر عند أهل السنّة مرادف للخبر والحديث وعليه اصطلاح الجمهور، يقول الدكتور نور الدين عتر: ((والحاصل ان هذه العبارات الثلاثة: الحديث، الخبر، الأثر، تطلق عند المحدثين بمعنى واحد)) (37).
ولكن بعضهم يفرق فيجعل الأثر مختصاً بما يروى عن الصحابة، والجمهور يسمون ذلك بالموقوف، وقد ساد هذا التقسيم عند عدد من الباحثين المعاصرين والمحققين لكتب التراث، وفي ذلك ينقل لنا السيوطي عن فقهاء خراسان أنهم يسمون الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر، إلا أن النواوي يعتبر الموقوف والمرفوع كلاهما أثراً (38)، وكذلك لم يستسيغ هذا التقسيم الدكتور صبحي الصالح حيث قال: ((فلا مسوغ لتخصيص الأثر بما أُضيف للسلف من الصحابة والتابعين، إذ إن الموقوف والمقطوع روايتان مأثورتان كالمرفوع ثم يخلص إلى أنه قد أخذ برأي الجمهور في تساوي هذه المصطلحات جميعاً في افادة التحديث والأخبار، وعليهما مدار البحث في علم أصول الحديث)) (39).
رابعاً: المتن
المتن لغةً له معانٍ متعددة ذكرها أصحاب اللغة، منها: ما اكتنف الصلب من الحيوان، فمتن كل شيء: ما يتقوم به ذلك الشيء ويتقوى به، كما ان الانسان يتقوم بالظهر ويتقوى به، ومنه حبل متين. وعليه فمتن الحديث هو لفظ الحديث الذي يتقوم به المعنى (40)، والطيبي يعرفه بألفاظ الحديث التي تتقوم بها المعاني (41).
وقيل: هو من المماتنة وهي المباعدة في الغاية؛ لأنه غاية السند، وعليه عرفه ابن جماعة بأنه ما ينتهي اليه غاية السند من الكلام (42)، أو من متن الكبش إذا شققت جلدة بيضته واستخرجتها، وكأن المسند استخرج المتن بسنده (43).
خامساً: السند والاسناد
السند لغة المعتمد، ومنه قولهم فلان سند أي معتمد، وفي الاصطلاح المراد منه مجموع الرواة الواقعين في طريق المتن، أي المعتمد عليهم في تحصيل المتن، ونفس السند إذا نظرنا له بلحاظ رفعه الحديث إلى قائله نسميه بالاسناد، ويعرفه الشهيد الثاني: ((رفع الحديث إلى قائله من الرسول والإمام وغيرهما)) (44).
والسند هو طريق المتن وهو جملةُ من رواه (45). وعرفه صاحب الوجيزة بسلسلة رواة الحديث إلى المعصوم (46). وقد يطلق الاسناد على السند كما ذكره البعض (47).
وعند أهل السنة يبدو أن هناك خلطاً بين تعريف السند والاسناد، فالسند عند ابن جماعة والطيبي هو الاخبار عن طريق المتن (48). وهذا التعريف نفسه تجده عند الدكتور أحمد عمر هاشم يجعله للاسناد، ويعرف السند بأنه الطريق الموصلة إلى المتن (49). والاسناد عند السيوطي هو رفع الحديث إلى قائله (50)، وبعضهم جعل كلا التعريفين المتقدمين للاسناد دون تمييز (51). وعن ابن جماعة قال: المحدثون يستعملون السند والاسناد لشيء واحد (52).
سادساً: الراوي والرواية
قال الطريحي: ((الرواية في الاصطلاح العلمي: الخبر المنتهي بطريق النقل من ناقل إلى ناقل حتى ينتهي إلى المنقول عنه من النبي أو الإمام)) (53).
والرواية مرة تلحظها كأسم فاعل فيكون المراد منها متن الحديث فتصبح اصطلاحاً الخبر الحاصل عن طريق النقل، ومرة تلحظها كمصدر، فيكون المراد منها نقل المتن من شخص إلى آخر. والرواية بعضهم خصّها بالحديث المسند، وبعضهم عمّمها لغير المسند أيضاً (54).
أما الراوي: فهو الناقل للحديث بأحد الطرق المقررة في تحمل الحديث، فالبعض لا يعتبر الراوي راوياً إلاّ إذا كان متحملاً للحديث بأحد الطرق المقررة في النقل، وإلا فيعدّ في كل ما رواه حاكياً وناقلاً لا راوياً (55). ويطلق الراوي على من روى الحديث مسنداً أم غير مسند. وقيل لا يطلق على من لم يروه مسنداً.
1. سورة النحل: آية 44.
2. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، 1: 41.
3. صحيح البخاري 3: 95.
4. مسند أحمد 2: 215.
5. سنن أبي داود 1: 125، مسند أحمد 2: 162.
6. الرعاية في علم الدراية؛ الشهيد الثاني ص: 45.
7. نهاية الدراية؛ السيد حسن الصدر، ص: 79.
8. مقباس الهداية في علم الدراية؛ الشيخ المامقاني، 1: 42.
9. الذريعة إلى تصانيف الشيعة؛ اغا بزرك الطهراني، 8: 54.
10. اصول الحديث؛ عبد الهادي الفضلي، ص: 13.
11. كما نجده في علمي النحو والصرف فكلاهما موضوعهما واحد وهو الكلمة.
12. نهاية الدراية؛ السيد حسن الصدر ص: 224، أسباب ردّ الحديث؛ د. محمد محمود بكار، ص: 203.
13. الفردوس الاعلى؛ الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: ص 78.
14. الذريعة إلى تصانيف الشيعة 8: 54.
15. تدريب الراوي؛ السيوطي، ص: 14.
16. مهمات علوم الحديث؛ د. ابراهيم آل كليب، ص: 44 ـ 48.
17. نقلاً عن اضواء على السنة المحمدية؛ أبو رية، ص: 11.
18. سورة النساء: آية 26.
19. ملخصاً عن لسان العرب؛ ابن منظور، 6؛ 399 ـ 400 مادة (سنن). تاج العروس؛ الزبيدي 18: 300 مادة (سنن).
20. مقباس الهداية؛ الشيخ المامقاني، 1: 69.
21. الحديث والمحدثون؛ محمد محمد أبو زهو، ص: 9 ـ 10، السنة قبل التدوين؛ د. محمد عجاج الخطيب، ص: 17 ـ 20 قال بعد أن ذكر تعريف السنة بأصطلاح المحدثين: والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي.
22. اضواء على السنة المحمدية؛ محمود أبو رية: ص 12، حجية السنة؛ د. عبد الغني عبد الخالق: ص 56 ـ 60.
23. مهمات علوم الحديث؛ د. ابراهيم آل كليب: ص 13، منهج النقد في علوم الحديث؛ د. نور الدين عتر: ص 28.
24. سورة النازعات، آية: 15.
25. الرعاية؛ الشهيد الثاني: ص 49.
26. الرعاية؛ الشهيد الثاني: ص 50.
27. مقباس الهداية: ج 1، ص 60.
28. الدرة الفاخرة؛ حبيب الله الكاشاني المطبوعة في مجلة علوم الحديث، العدد الأول.
29) منهج النقد؛ نور الدين عتر: ص 27.
30) دراسات في علوم الحديث؛ د. اسماعيل سالم عبد العال: ص 7.
31) ملخصاً عن لسان العرب، 1: 69 مادة (أثر)، تاج العروس، 6؛ 6 مادة (أثر).
32. الرعاية: ص 50.
33. مقباس الهداية، 1: 65.
34. ، 2 مستدركات مقباس الهداية، محمد رضا المامقاني 5؛ 32 ـ 33 نقلاً من الرواشح السماوية للسيد الداماد.
35. الدرة الفاخرة منظومة في علم الدراية؛ الملا حبيب الله الكاشاني: المطبوعة في العدد الأول لمجلة علوم الحديث، السنة الأولى (عام 1418 هـ)
36. منهج النقد؛ د. نور الدين عتر، ص: 29.
37. تدريب الراوي؛ السيوطي، ص: 117.
38. علوم الحديث ومصطلحه؛ د. صبحي الصالح، ص: 122.
39. الرعاية، الشهيد الثاني: ص 52.
40. تدريب الراوي، السيوطي: ص 15.
41. ، 5 المنهل الروي، بدر الدين بن جماعة: ص 29.
42. الدراية، الشهيد الثاني: ص 5.
43. الرعاية: ص 53.
44. نهاية الدراية: ص 93.
45. وصول الاخبار إلى أُصول الأخيار؛ الشيخ حسين عبد الصمد العاملي: ص 90.
46. تدريب الراوي، ص: 14 ـ 15.
47. قواعد اصول الحديث؛ د. أحمد عمر هاشم، ص: 21 ـ 22.
48. تدريب الرواي، ص: 15.
49. معجم علوم الحديث النبوي؛ د. عبد الرحمن الخميسي، ص: 21.
50. المنهل الروي، ص: 30.
51. مجمع البحرين، الطريحي: مادة روى.
52. اصول الحديث؛ د. عبد الهادي الفضلي، ص: 33.
53. هداية المحدثين؛ ص: 15 نقلاً عن معجم مصطلحات الرجال والدراية ص: 67.
54. مقباس الهداية، ص: 49.
55. هداية المحدثين، ص: 15 نقلاً عن معجم مصطلحات الرجال والدراية، ص: 67.
source : http://www.darolhadith.com/arabic/modules.php?name=Content&pa=byPage&pid=145