الدين والعقل
أشاد الإسلام بالعقل وأحكامه ، ودعا إلى تحرره من التقاليد والأوهام ، ونعى على العرب وغير العرب الذين لا يفقهون ولا يعقلون ، ويؤمنون بالسخافات والخرافات .
وقد أنزل اللّه في ذلك عشرات الآيات ، وتواترت به عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الأحاديث والروايات ، وأفرد له علماء المسلمين أبواباً خاصة في كتب الحديث والكلام والاُصول .
سؤال :
هل معنى إشادة الإسلام بالعقل أنه يدرك صحة كلِّ أصل من اُصول الإسلام ، وكلِّ حكم من أحكام الشريعة ، بحيث إذا حققنا ومحّصنا أية قضية دينيّة في ضوء العقل لصدّقها وآمن بها إيمانه بأن الاثنين أكثر من الواحد ؟
الجواب :
كلاّ , ولو أراد الإسلام هذا من تأييده للعقل لقضى على نفسه بنفسه ، ولكان وجوده كعدمه , ولوجب أن يؤخذ الدين من العلماء والفلاسفة لا من الأنبياء (عليهم السّلام) وكتب الوحي .
إنّ للعقل دائرة وللدين اُخرى ، وكلٌّ منهما يترك للآخر الحكم في دائرته واختصاصه ، والإنسان بحاجة إلى الاثنين ؛ حيث لا تتم له السعادة والنجاح إلاّ بهما معاً .
إنّ الغرض الأوّل الذي يهدف إليه الإسلام من الإشادة بالعقل هو أن يؤمن الإنسان بما يستقل به من أحكام ، ولا يصدّق شيئاً يكذّبه العقل ويأباه .
إنّ العقل لا يدرك كلّ شيء ، وإنما يدرك شيئاً ولا يدرك شيئاً . والذي يعلم كل شيء هو اللّه وحده ؛ فوجود اللّه وعلمه وحكمته ، وإعجاز القرآن الدال على صدق محمّد (صلّى الله عليه وآله) في دعوته ، وما إلى ذاك يدركه العقل مستقلاً ، ويقدّم عليه البرهان القاطع .
أمّا وجود الملائكة والجن ، والسير غداً على صراطٍ أدق من الشعرة وأحدّ من السيف ، وشهادة الأيدي والأرجل على أصحابها ، وتطاير الكتب ، وسؤال منكر ونكير ، ونحو ذلك ممّا لا يبلغه الإحصاء ، وثبت بضرورة الدين . أمّا هذه فلا تُفسّر بالعلم ، وليس فيه للعقل حكم بالنفي أو الإثبات .
إنّ الدين غير محصور ولا مقصور فيما يدركه العقل ، بل يتعدّاه إلى اُمور غيبيّة يؤمن بوجودها كلُّ مَن آمن باللّه والرسول واليوم الآخر , ولكن الدين في جميع أحكامه وتعاليمه لا يعلم الناس ما يراه العقل محالاً أو مضرّاً , وبالتالي فليس كلّ ما هو حق يجب أن يثبت بطريق العقل ، ولا كلّ ما لم يثبت بالعقل يكون باطلاً .
مثلاً : إنّ مسألة المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) لا يمكن إثباتها بالأدلّة العقلية ، لا لأنها غير صحيحة وباطلة من الأساس ، بل لأنها ليست من شؤون العقل واختصاصه . إنّ عجز العقل عن إدراك قضية من القضايا شيء ، وكونها حقاً أو باطلاً شيء آخر .
العادة والعقل :
إنّ هناك فرق بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه ، بحيث لا يمكن أن يقع بحال من الأحوال حتّى على أيدي الأنبياء والأولياء (عليهم السّلام) ؛ كاجتماع النقيضين ، وجعل الواحد أكثر من اثنين ، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه ، ولكن العادة لم تجرِ بوقوعه كالأمثلة الآتية .
وما كان من النوع الأوّل يسمى بالمحال العقلي ، وما كان من النوع الثاني يسمى بالمحال العادي . وكثير من الناس يخلطون بين النوعين ، ويتعذّر عليهم التمييز بينهما ؛ فيظنّون أنّ كلَّ ما هو محال عادة هو محال عقلاً .
وإليك الأمثلة : لقد اعتدنا أن لا نرى عودة الأموات إلى هذه الدنيا ، وأن يولد الصبي ولا يكلّم الناس ساعة ولادته ، وإذا جاع أحدنا لا تنزل عليه مائدة من السماء ، وإذا أصابه العمى والبرص لا يشفى بدون علاج ، وإذا سبّح اللّه وحمده لا تُردد الجبال والطير معه التسبيح والتحميد ، وإذا أخذ الحديد بيده لا يلين له كالشمع ، وإذا سمع منطق الطير لا يفهم منه شيئاً .
كما يخفى عليه حديث النمل ، ويعجز عن تسخير الجنِّ في عمل المحاريب والتماثيل , ولم يشاهد إنساناً حيّاً منذ قرون ، ولا انقلاب العصا إلى ثعبان ، ولا وقوف مياه البحر كالجبال ، ولا جلوس الإنسان في النار دون أن يناله أي أذى .
فكلُّ هذه وما إليها لم تجرِ العادة بوقوعها ، ولم يألف الناس مشاهدتها ؛ لذا ظنَّ مَن ظنَّ أنها مستحيلة في حكم العقل ، مع أنها ممكنة عقلاً ، بعيدة عادة .
بل وقعت بالفعل ؛ فلقد أخبر القرآن الكريم بصراحة لا تقبل التأويل أنّ السيد المسيح (عليه السّلام) كلّم الناس وهو في المهد ، وأحيا الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، وأنزل مائدة من السماء , وأنّه ما زال حيّاً ، وسيبقى حيّاً إلى يوم يبعثون .
وأنّ النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم (عليه السّلام) ، وأنّ عصا موسى (عليه السّلام) صارت ثعباناً ، وأنّ الحديد لانَ لداود (عليه السّلام) ، وسبّح معه الطير والجبال ، وأنّ سليمان (عليه السّلام) استخدم الجان ، وعرف لغة الطيور والنمل .
إنّ هذه الخوارق محال بحسب العادة ، جائزة في نظر العقل ، ولو كانت محالاً في نفسها لامتنع وقوعها للأنبياء (عليهم السّلام) وغيرهم .
فكذلك بقاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) حيّاً ألف سنة , أو اُلوف السنين , واختفاؤه عن الأنظار ـ كما يقول الإماميّة ـ بعيد عادة ، جائز عقلاً ، واقع ديناً بشهادة الأحاديث الثابتة عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) .
فمن أنكر إمكان وجود الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) , محتجّاً بأنه محال في نظر العقل , يلزمه أن ينكر هذه الخوارق التي ذكرها القرآن وآمن بها كلُّ مسلم , ومن اعترف بها يلزمه الاعتراف بإمكان وجود الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) .
والتفكيكُ تحكُّم وعناد ؛ إذ لا فرق في نظر العقل بين بقاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) حيّاً اُلوف السنين ، وهذه الخوارق من حيث الإمكان وجواز الوقوع ما دام الجميع من سنخ واحد .
(*) تجدر الإشارة إلى أنّ هذا المقال هو في الأصل بحث علمي في الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) , وهو مقتطف من كتاب الشيعة في الميزان للكاتب نفسه (رحمه الله) .
source : http://www.alhassanain.com/arabic/show_articles.php?articles_id=1098&link_articles=holy_prophet_and_ahlul_bayt_library/imam_al_mahdi/almahdi_almontazar