المطلب الثالث
في تلاوة الاحاديث المشتملة على مناقب الميت ومصائبه
كما كانت عليه سيرة السلف، وفعلته عائشة إذ وقفت على قبر أبيها باكية، فقالت: كنتَ للدنيا مذلاً بادبارك عنها، وكنتَ للاخرة معزاً باقبالك عليها، وكان أجل الحوادث بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك.
وفعله محمد بن الحنفية إذ وقف على قبر أخيه المجتبى (عليه السلام)، فخنقته العبرة ـ كما في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد ـ ثم نطف فقال: يرحمك الله أبا محمد، فإن عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح
|
|
|
ضمّه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقيّة ولد الانبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الاسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، ولا شاكة في الخيار لك.
ثم بكى بكاءاً شديداً، وبكى الحاضرون حتى سمع نشيجهم(1).
ووقف أمير المؤمنين على قبر خباب بن الارت في ظهر الكوفة ـ وهو أول من دفن هناك كما نصّ عليه ابن الاثير في آخر تتمة صفين ـ فقال: «رحم الله خباباً، لقد أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتلى في جسمه أحوالاً، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً».
ولما توفي أمير المؤمنين، قام الخلف من بعده أبو محمد الحسن الزكي (عليهما السلام) خطيباً، فقال ـ كما في حوادث سنة 40 من تاريخ ابن جرير وابن الاثير وغيرهما ـ: «لقد
____________
(1) العقد الفريد 2 / 8 و 3 / 197، تذكرة الخواص: 213.
|
|
|
قتلتم الليلة رجلاً، والله ما سبقه أحد كان قبله، ولا يدركه أحد يكون بعده، إن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليبعثه في السرية وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، ما ترك صفراء ولا بيضاء...».
ووقف الامام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنين (عليهما السلام)، فقال: «أشهد أنّك جاهدت في الله حق جهاده، وعملت بكتابه، واتبعت سنن نبيه (صلى الله عليه وآله)، حتى دعاك الله إلى جواره فقبضك إليه باختياره، لك كريم ثوابه، وألزم أعداءك الحجة مع مالك من الحجج البالغة على جميع خلقه».
وعن أنس بن مالك ـ كما في العقد الفريد وغيره ـ قال: لمّا فرغنا من دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكت فاطمة ونادت: «يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من ربّه ما أدناه، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه».
ولو أردنا أن نستوفي ما كان من هذا القبيل، لخرجنا عن الغرض المقصود.
وحاصله: أنّ تأبين الموتى من أهل الاثار النافعة بنشر
|
|
|
مناقبهم وذكر مصائبهم ممّا حكم بحسنه العقل والنقل، واستمرت عليه سيرة السلف والخلف، وأوجبته قواعد المدنية، واقتضته أصول الترقي في المعارف، إذ به تحفظ الاثار النافعة، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلى أوج البلاغة.
والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ وعلم الرجال، بل يستوجب المنع من تلاوة الكتاب والسنة، لاشتمالهما على جملة من مناقب الانبياء ومصائبهم، ومن يرضى لنفسه هذا الحمق أو يختار لها هذا العمى، نعوذ بالله من سفه الجاهلين.
|
|
|
المطلب الرابع
في الجلوس حزناً على الموتى من أهل الحفائظ والايادي المشكورة
وحسبك في رجحان ذلك: ما تواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحزن الشديد على عمّه أبي طالب وزوجته الصديقة الكبرى أم المؤمنين (عليهما السلام)، وقد ماتا في عام واحد، فسمّي عام الحزن، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين.
وأخرج البخاري ـ في باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن من الجزء الاول من صحيحه ـ بالاسناد إلى عائشة، قالت: لمّا جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة، جلس ـ أي في المسجد كما في رواية أبي داود ـ يعرف فيه الحزن.
|
|
|
وأخرج البخاري ـ في الباب المذكور أيضاً ـ عن أنس، قال: قنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهراً حين قتل القرآء، فما رأيته حزن حزناً قط أشدّ منه...(1).
والاخبار في ذلك أكثر من أن تحصى أو تستقصى.
والقول: بأنه إنما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لم يتقادم العهد بالمصيبة.
مدفوع: بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء.
نعم يتمّ قول هؤلاء اللائمين إذا تلاشى الحزن بمرور الازمنة، ولم يكن دليل ولا مصلحة يوجبان التعبد بترتيب آثاره.
وما أحسن قول القائل في هذا المقام:
خلي أميمة عن ملا |
مك ما المعزى كالثكول |
ما الراقد الوسنان مثـ |
ـل معذب القلب العليل |
____________
(1) وأخرجه مسلم أيضاً في باب التشديد في النياحة من صحيحه «المؤلّف».
|
|
|
سهران من الم وهـ |
ـذا نائم الليل الطويل |
ذوقي أميمة ما أذو |
ق وبعده ماشئت قولي |
على أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تلك الفجائع، وحلّ بساحته من هاتيك القوارع، حكماً توجب التعبد بترتيب آثار الحزن بسببها على كلّ حال، والادلة على ترتيب تلك الاثار في جميع الاعصار متوفرة، وستسمع اليسير منها إن شاء الله تعالى.
وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيبة واستمرارها على ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد، حتّى بلغني أنهم لا يزالوا إلى الان إذا ناحوا على ميت بدوا بالنياحة عليه، وما ذاك إلاّ مواساة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمصيبته في عمه، وأداءً لحق تلك الكلمة التي قالها في البعث على البكاء عليه، وهي قوله: «لكن حمزة لا بواكي له».
وكان الاولى لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن على أهل بيته، والاقتداء به في البكاء عليهم، وقد لام بعض أهل البيت (عليهم السلام) مَن لم يواسهم في ذلك فقال: «يا لله
|
|
|
لقلب لا ينصدع لتذكار تلك الاُمور، ويا عجباً من غفلة أهل الدهور، وما عذر أهل الاسلام والايمان في إضاعة أقسام الاحزان، ألم يعلموا أن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) موتور وجيع وحبيبه مقهور صريع»؟، قال: «وقد أصبح لحمه (صلى الله عليه وآله)مجرداً على الرمال، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف أهل الضلال، فيا ليت لفاطمة وأبيها، عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها، وهم ما بين مسلوب وجريح، ومسحوب وذبيح...» إلى آخر كلامه.
ومن وقف على كلام أئمّة أهل البيت في هذا الشأن، لا يتوقف في ترتيب آثار الحزن عليهم مدى الدوران، لكنّا منينا بقوم لا ينصفون، فانّا لله وإنا إليه راجعون.