داود عليه السلام
تنزيه داود عن المعصية :
( مسألة ) فإن قيل فما الوجه في قوله تعالى : ( وهل اتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب اذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ان هذا اخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ) ( 1 ) أو ليس قد روى أكثر المفسرين ان داود عليه السلام قال رب قد اعطيت ابراهيم واسحق ويعقوب من الذكر ما وددت انك اعطيتني مثله ، قال الله تعالى اني ابتليتهم بما لم ابتلك بمثله ، وان شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم واعطيتك كما اعطيتهم ، قال نعم ، فقال عزوجل له فاعمل حتى أرى بلاءك ، فكان ما شاء الله ان يكون ، وطال عليه ذلك حتى كاد ينساه . فبينا هو في محرابه اذ وقعت عليه حمامة ، فأراد ان يأخذها فطارت إلى كوة المحراب ، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة ، فاطلع من الكوة فاذا امرأة تغتسل فهويها وهم بتزوجها ، وكان لها بعل يقال له أوريا ، فبعث به إلى بعض السرايا وأمره ان يتقدم امام التابوت الذي فيه السكينة ، وكان غرضه ان يقتل فيه فيتزوج بامرأته ، فأرسل الله اليه الملكين في صورة خصمين ليبكتاه ( 2 ) على خطيئته وكنيا عن النساء بالنعاج . وعلكيم في هذه الآيات سؤال من وجه آخر وهو ان الملائكة لاتكذب فكيف قالوا خصمان بغى بعضنا على بعض ؟ وكيف قال أحدهما ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة إلى آخر الآية ؟ ولم يكن من كل ذلك شئ ؟ .
( الجواب ) : قلنا : نحن نجيب بمقتضى الآية ونبين انه لا دلالة في شئ منها على وقوع الخطأ من داود عليه السلام ، فهو الذي يحتاج اليه ، فأما الرواية المدعاة ، فساقطة مردودة ، لتضمنها خلاف مايقتضيه العقول في الانبياء عليهم السلام ، قد طعن في رواتها بما هو معروف ، فلا حاجة بنا إلى ما ذكره .
وأما قوله تعالى : ( وهل اتاك نبأ الخصم ) فالخصم مصدر لا يجمع ولا يثنى ولا يؤنث . ثم قال ( اذ تسوروا المحراب ) فكنى عنهم بكناية الجماعة ، وقيل في ذلك انه اخراج الكلام على المعنى دون اللفظ ، لان الخصمين ههنا كانا كالقبيلتين او الجنسين . وقيل بل جمع لان الاثنين اقل الجمع ، وأوله لان فيهما معنى الانضمام والاجتماع . وقيل بل كان مع هذين الخصمين غيرهما ممن يعنيهما ويؤيدهما . فإن العادة جارية فيمن يأتي باب السلطان بأن يحضر معه الشفعاء والمعاونون ، فأما خوفه منهما فلانه ( ع ) كان خاليا بالعبادة في وقت لا يدخل عليه فيه احد على مجرى عادته ، فراعه منهما انهما . أتيا في غير وقت الدخول ، أو لانهما دخلا من غير المكان المعهود . وقولهما خصمان بغى بعضنا على بعض جرى على التقدير والتمثيل . وهذا كلام مقطوع عن اوله ، وتقديره : ارأيت لو كنا كذلك واحتكمنا اليك ؟ ولابد لكل واحد من الاضمار في هذه الآية . وإلا لم يصح الكلام لان خصمان لا يجوز أن يبتدؤا به .
وقال المفسرون تقدير الكلام : نحن خصمان . قالوا وهذا مما يضمره المتكلم ويضمره المتكلم له أيضا . فيقول المتكلم سامع مطيع ، أي انا كذلك . ويقول القافلون من الحج آئبون تائبون لربنا حامدون . أي نحن كذلك . وقال الشاعر :
وقولا اذا جاوزتما ارض عامر * وجاوزتما الحيين نهدا وخثعما
فزيعان من جرم بن ريان انهم * ابوا أن يجيروا في الهزاهز محجما اي نحن فزيعان .
ويقال للمتكلم مطاع معان . ويقال له أراحل أم مقيم ؟ وقال الشاعر :
تقول ابنة الكعبي لما لقيتها * امنطلق في الجيش أم متثاقل اي أنت كذلك . فإذا كان لابد في الكلام من اضمار فليس لهم ان يضمروا شيئا بأولى منا اذا اضمرنا سواه .
فأما قوله : ( ان هذا اخي له تسع وتسعون نعجة ) إلى آخر الآية . فإنما هو ايضا على جهة التقدير والتمثيل اللذين قدمناهما ، وحذف من الكلام ما يقتضي فيه التقدير . ومعنى قوله : ( وعزتي في الخطاب ) أي صار اعزمني . وقيل إنه أراد قهرني وغلبني . وأما قوله لقد ظلمك من غير مسألة الخصم ، فإن المراد به إن كان الامر كذلك . ومعنى ظلمك انتقصك ، كما قال الله تعالى : ( أتت اكلها ولم تظلم منه شيئا) ( 3 ) . ومعنى ظن قيل فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد الظن المعروف الذي هو بخلاف اليقين . والوجه الآخر : أنه أراد العلم واليقين ، لان الظن قد يرد بمعنى العلم قال الله تعالى : ( ورأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها )( 4 ) وليس يجوز ان يكون أهل الآخرة ظانين لدخول النار بل عالمين قاطعين . وقال الشاعر :
فقلت لهم ظنوا بالقاء مذحج * سراتهم في الفارسي المسرد أي ايقنوا . والفتنة في قوله : ( وظن داود انما فتناه ) هي الاختبار والامتحان لا وجه لها إلا ذلك في هذا الموضع . كما قال تعالى : ( وفتناك فتونا ) .
فأما الاستغفار والسجود فلم يكونا لذنب كان في الحال ، ولا فيما سلف على ما ظنه بعض من تكلم في هذا الباب ، بل على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلل والعبادة والسجود . وقد يفعله الناس كثيرا عند النعم التي تتجدد عليهم وتنزل وتؤول وترد إليهم شكرا لمواليها . فكذلك قد يسبحون ويستغفرون الله تعالى تعظيما وشكرا وعبادة .
وأما قوله تعالى : ( وخر راكعا وأناب ) فالانابة هي الرجوع . ولما كان داود عليه السلام بما فعله راجعا إلى الله تعالى ومنقطعا اليه ، قيل فيه انه أناب ، كما يقال في التائب الراجع إلى التوبة والندم انه منيب . فأما قوله تعالى : ( فغفرنا له ذلك ) فمعناه انا قبلنا منه وكتبنا له الثواب عليه فاخرج الجزاء على وجه المجازات به ، كما قال تعالى : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) ( 5 ) وقال عزوجل : ( الله يستهزئ بهم ) فأخرج الجزاء على لفظ المجازي عليه . قال الشاعر :
الا لا يجهلن احد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا ولما كان المقصود في الاستغفار والتوبة انما هو القبول ، قيل في جوابه فغفرنا لك اي فعلنا المقصود به . كذلك لما كان الاستغفار على طريق الخضوع والعبادة المقصود به القربة والثواب ، قيل في جوابه غفرنا مكان قبلنا .
على ان من ذهب إلى ان داود عليه السلام فعل صغيرة ، فلابد من أن يحمل قوله تعالى ( غفرنا ) على غير اسقاط العقاب ، لان العقاب قد سقط بما هناك من الثواب الكثير من غير استغفار ولا توبة ، ومن جوز على داود عليه السلام الصغيرة ، يقول ان استغفاره ( ع ) كان لاحد امور :
أحدها ان اوريا بن حنان لما اخرجه في بعض ثغوره قتل ، وكان داود ( ع ) عالما بجمال زوجته فمالت نفسه إلى نكاحها بعده ، فقل غمه بقتله لميل طبعه إلى نكاح زوجته ، فعوتب على ذلك بنزول الملكين من حيث حمله ميل الطبع ، على أن قل غمه بمؤمن قتل من اصحابه .
وثانيها : انه روى ان امرأة خطبها اوريا بن حنان ليتزوجها ، وبلغ داود ( ع ) جمالها فخطبها ايضا فزوجها اهلها بداود وقدموه على اوريا وغيره ، فعوتب ( ع ) على الحرص على الدنيا ، بأنه خطب امرأة قد خطبها غيره حتى قدم عليه .
وثالثها : أنه روي ان امرأة تقدمت مع زوجها اليه في مخاصمة بينهما من غير محاكمة لكن على سبيل الوساطة ، وطال الكلام بينهما وتردد ، فعرض داود ( ع ) للرجل بالنزول عن المرأة لا على سبيل الحكم لكن على سبيل التوسط والاستصلاح ، كما يقول احدنا لغيره : اذا كنت لا ترضى زوجتك هذه ولا تقوم بالواجب من نفقتها فانزل عنها . فقدر الرجل ان ذلك حكم منه لا تعريض ، فنزل عنها وتزوجها داود ( ع ) ، فاتاه الملكان ينبهانه على التقصير في ترك تبيين مراده للرجل ، وأنه كان على سبيل العرض لا الحكم .
ورابعها : ان سبب ذلك ان داود ( ع ) كان متشاغلا بعبادته في محرابه ، فأتاه رجل وأمرأة يتحاكمان ، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها فيحكم لها أو عليها ، وذلك نظر مباح على هذا الوجه ، فمالت نفسه اليها ميل الخلقة والطباع ، ففصل بينهما وعاد إلى عبادته ، فشغله الفكر في أمرها وتعلق القلب بها عن بعض نوافله التي كان وظفها على نفسه فعوتب .
وخامسها : ان المعصية منه انما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبت ، وقد كان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين ان يسأل الآخر عما عنده فيها ، ولا يقتضي عليه قبل المسألة . ومن أجاب بهذا الجواب قال : ان الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة نساه التثبت والتحفظ . وكل هذه الوجوه لا يجوز على الانبياء ( ع ) ، لان فيها ما هو معصية ، وقد بينا ان المعاصي لا تجوز عليهم ، وفيها ما هو منفر ، وإن لم يكن معصية ، مثل ان يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه فتقدم عليه وتزوجها . ومثل التعريض بالنزول عن المرأة وهو لا يريد الحكم . فأما الاشتغال عن النوافل فلا يجوز ان يقع عليه عتاب ، لانه ليس بمعصية ولا هو ايضا منفر ، فأما من زعم انه عرض اوريا للقتل وقدمه امام التابوت عمدا حتى يقتل ، فقوله أوضح فسادا من ان يتشاغل برده . وقد روي عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال : لا أوتى برجل يزعم ان داود عليه السلام تزوج بامرأة اوريا إلا جلدته حدين ، حدا للنبوة وحدا للاسلام .
فأما ابومسلم فإنه قال : لا يمتنع ان يكون الداخلان على داود ( ع ) كانا خصمين من البشر ، وأن يكون ذكر النعاج محمولا على الحقيقة دون الكناية ، وانما ارتاع منهما لدخولهما من غير اذن وعلى غير مجرى العادة ، قال وليس في ظاهر التلاوة ما يقتضي ان يكونا ملكين . وهذا الجواب يستغنى معه عما تأولنا به . قولهما ودعوى احدهما على صاحبه وذكر النعاج . والله تعالى اعلم بالصواب .
( 1 ) سورة ص . الآية 21 - 24 . وقصص الانبياء ص ( 312 - 313 )
( 2 ) يبكتاه : بكت ( بالفتح ) : ضربه بسيف أو عصا - وكذلك بمعنى عنف وقرع
( 3 ) الكهف 33
( 4 ) الكهف 53
( 5 ) النساء 142