عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

أهل البيت (عليهم السلام) سماتهم و حقوقهم

أهل البيت (عليهم السلام) سماتهم و حقوقهم

لقد وردت لفظة «أهل البيت » مرّتين في القرآن الكريم.

قال سبحانه حاكياً عن لسان الرسل: (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أمرِ اللّهِ رَحمةُ اللّهِ وبَركاتُهُ عَلَيْكُمْ أهلَ البَيْتِ إنّهُ حَمِيدٌ مَجِيد ) .(1)

وقال تعالى :(وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَّ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الاَُولى وأقِمْنَ الصلاةَ وآتِينَ الزكاةَ واطِعْنَّ اللّهَ ورَسُولَهُ إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ). (2)

فالآية الاَُولى تخاطب أهل بيت خليل اللّه عند ما جاءتهم الرسل فبشّـروا امرأته بإسحاق ومن وراء إسحاق بيعقوب.

ولمّا كانت هذه البشارة على خلاف السنن الكونية حيث كان الخليل شيخاً وزوجته طاعنة في السن، فلذلك تعجبت وقالت مخاطبة الرسل: (يا وَيْلَتي ءَأَلِدُ وأنَا عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إنّ هَذا لَشَيْءٌ عَجِيب ) (3) فوافاها


1 . هود: 73 .

2 . الاَحزاب: 33 .

3 . هود: 72.

 

الجواب من جانب الرسل الذين كانوا ملائكة وتمثّلوا بصورة الاِنسان، قائلين: (أتعجبين من أمر اللّه رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت انّه حميد مجيد ) .

وأمّا الآية الثانية فقد وردت في ثنايا الآيات التي نزلت في شأن نساء النبي ص بدعوتهنّإلى التخلّـي عن الدنيا والتحلي بالتقوى إلى غير ذلك من الوصايا التي وردت ضمن آيات.(1)
والمهم في هذا المقام هو معرفة أهل البيت في الآية الثانية وما هي سماتهم وحقوقهم في الذكر الحكيم؟
فهناك مباحث ثلاثة:

من هم أهل البيت (عليهم السلام) ؟
و ماهي سماتهم؟
وماهي حقوقهم؟
وها نحن نقوم بدراسة هذه المواضيع في فصول ثلاثة مستمدين من اللّه العون والتوفيق.


1 . انظر سورة الاَحزاب، الآيات : 28 ـ 34.

 

 الفصل الاَوَّل : من هم أهل البيت (عليهم السلام)

إنّ المعروف بين المفسرين والمحدّثين، هو انّ المراد من أهل البيت في الآية المباركة، العترة الطاهرة الذين عرّفهم الرسول ص في حديث الثقلين، وقال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي».

غير انّ تحقيق مفاد الآية وتبيين المراد من أهل البيت فيها وانطباقها على حديث الثقلين يستدعي البحث في موردين:

أ. أهل البيت لغة وعرفاً.

ب. أهل البيت في الآية المباركة.

وإليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر .

* * *

 

 

 

أ. أهل البيت لغة وعرفاً:

هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم، ويمكن تحديد مفهوم «الاَهل» من موارد استعماله فيقال:
1. أهل الاَمر والنهي. 2. أهل الاِنجيل. 3. أهل الكتاب. 4. أهل الاِسلام. 5. أهل الرجل. 6. أهل الماء.

وهذه الموارد توقفنا على أنّ كلمة «أهل» تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أُضيف إليه، فأهل الاَمر والنهي هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر، وأهل الاِنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الاِسلام.

وقد اتفقت كلمة أهل اللغة على أنّ الاَهل والآل كلمتان بمعنى واحد، قال ابن منظور: آل الرجل: أهله، وآل اللّه وآل رسوله: أولياوَه، أصلها أهل ثم أُبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل، فلمّـا توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفاً، كما قالوا: آدم وآخر، وفي الفعل آمن وآزر .

وقد أنشأ عبد المطلب عند هجوم ابرهة على مكة المكرمة، وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال:

وانصر على آل الصليب *** وعابديه اليوم آلك

وعلى ما ذكرنا، فهذا اللفظ إذا أُضيف إلى شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه، فأهل الرجل مثلاً هم أخص الناس به، وأهل المسجد، المتردّدون كثيراً إليه، وأهل الغابة القاطنون فيها ... فإذا لاحظنا موارد

 

استعمال هذه الكلمة لا نتردّد في شمولها للزوجة والاَولاد، بل وغيرهم ممّن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الاَولاد والاَزواج، ولاَجل ذلك ترى أنّه سبحانه يطلقه على زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية.

هذا هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة، ولنأت ببعض نصوص أئمّة اللغة.

قال ابن منظور: أهل البيت سكانه، وأهل الرجل أخص الناس به، وأهل بيت النبي : أزواجه وبناته وصهره، أعني: علياً (عليه السلام) ، وقيل: نساء النبي والرجال الذين هم آله . (1)

فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم أوّلاً ، وتوضيح معناه في القرآن الكريم ثانياً، كما أشار بقوله: «قيل» إلى ضعف القول الآخر، لاَنّه نسبه إلى القيل.

وقال ابن فارس ناقلاً عن الخليل بن أحمد: أهل الرجل: زوجه، والتأهّل، التزوّج، وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل البيت: سكّانه، وأهل الاِسلام: من يدين به. (2)

وقال الراغب في «مفرداته»: أهل الرجل من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الاَصل من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد، ثم تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإيّاهم النسب وتعورف في أُسرة النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت. (3)

وقال الفيروز آبادي: أهل الاَمر : ولاته، وللبيت سكّانه، وللمذهب من يدين به، وللرجل زوجته كأهله، وللنبي أزواجه وبناته وصهره علي ـ رضي اللّه


1 . لسان العرب: 11|29، مادة «أهل».

2 . معجم مقاييس اللغة: 1|150.

3 . المفردات: 29.

 

تعالى عنه ـ أو نساوَه والرجال الذين هم آله . (1)

هذه الكلمات ونظائرها بين أعلام أهل اللغة كلّها تعرب عن أنّ مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت، وأهل الرجل من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما.

هذا هو الحق الذي لامرية فيه والعجب من إحسان إلهي ظهير الذي ينقل هذه النصوص من أئمّة اللغة وغيرهما ثم يستظهر انّ أهل البيت يطلق أصلاً على الاَزواج خاصة، ثم يستعمل في الاَولاد والاَقارب تجوّزاً، ثم يقول: هذا ما يثبت من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة في قصة إبراهيم بالبشرى، فقال اللّه عزّ وجلّ في سياق الكلام: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَـقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (2) وقال: فاستعمل اللّه عزّ وجلّ هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيم (عليه السلام) لا غير، وهكذا قال اللّه عزّ وجلّ في كلامه المحكم في قصة موسى عليه الصلاة والسلام : (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً ) (3) ، فالمراد من الاَهل زوجة موسى (عليه السلام) ، وهي بنت شعيب. (4)

نحن نسأل الكاتب من أين استظهر من كلمات أهل اللغة انّ «الاَهل» تطلق


1 . القاموس المحيط: 3|331.

2 . هود: 73.

3 . القصص: 30.

4 . الشيعة وأهل البيت: 16 ـ 17.

 

أصلاً على الاَزواج خاصة، ثم تستعمل في الاَولاد تجوّزاً ؟!

أليس قد تقدّم لنا كلام ابن منظور: أهل الرجل: أخص الناس به؟ ! أليس الاَولاد أخص الناس بالرجل؟ ومن فسره بقوله: أهل الرجل زوجه لا يريد اختصاصه بالزوج، بل يشير إلى أحد موارد استعماله، ولاَجل ذلك يستدركه ويصرح بقوله: أهل الرجل: أخص الناس به.

ثم نسأله عن دلالة الآيتين على اختصاص الاَهل بالاَزواج وهل في منطق اللغة والاَدب جعل الاستعمال دليلاً على الانحصار ؟ فلا شك انّ الاَهل في الآيتين أُطلق على الزوجة، وليس الاِطلاق دليلاً على الانحصار، على أنه أُطلق في قصة الخليل وأُريد الزوجة والزوج معاً، أي نفس الخليل بشهادة قوله تعالى: (عليكم أهل البيت ) والاِتيان بضمير الجمع المذكر، وإرادة واحد منهما وحمل الخطاب العام على التعظيم، لا وجه له في المقام.

وحصيلة الكلام: انّ مراجعة كتب اللغة، وموارد استعمال الكلمة في الكتاب والسنّة تعرب عن أنّ مفهوم «الاَهل» هو المعنى العام وهو يشمل كل من له صلة بالرجل والبيت صلة وطيدة موَكدة من نسب أو سبب أو غير ذلك، من غير فرق بين الزوجة والاَولاد وغيرهم، وانّ تخصيصها بالزوجة قسوة على الحق، كما أنّ تخصيصها لغة بالاَولاد وإخراج الاَزواج يخالف نصوص القرآن واستعمالها كما عرفت في الآيات الماضية.

هذا هو الحق في تحديد المفهوم، فهلّم معي نبحث عما هو المراد من هذا المفهوم في الآية الكريمة، وهل أُريد منه كل من انتمى إلى البيت من أزواج وأولاد أو أنّ هناك قرائن خاصة على أنّ المقصود قسم من المنتمين إليه؟ وليس هذا بشيء غريب، لاَنّ المفهوم العام قد يطلق ويراد منه جميع الاَصناف

 

والاَقسام كما يطلق ويراد منه حسب القرائن بعضهم، وقد عرفت أنّ المراد من الاَهل في قصة موسى زوجته وفي قصة إبراهيم زوجته، وعلى هذا لا شك في شمول كلمة أهل البيت للزوجة والاَولاد وغيرهما إلاّ أن تقوم قرائن على أنّ المراد صنف خاص، والمدّعى انّه قد قامت القراأهل البيت في الآية المباركة؟:

اختلف المفسرون في بيان ما هو المراد من «أهل البيت» في الآية المباركة على أقوال، غير انّ العبرة بقولين، والاَقوال الاَُخر شاذة لا يعبأ بها، وانّما اختلقت لحل الاِشكالات الواردة على القول الثاني كما سيوافيك بيانها في آخر البحث.

1. المراد بنت النبي وصهره وولداهما الحسن والحسين (عليهم السلام) .

2. نساء النبي «(صلى الله عليه وآله وسلم) . (1)

ولا بد من إمعان النظر في تعيين المراد بعد قابلية اللفظ لشمول كلتا الطائفتين، فيقول: إنّ هناك قرائن تدل بوضوح على أنّ المراد من هذه الكلمة جماعة خاصة منتمين إلى البيت النبوي بوشائج خاصة لا كل المنتمين إليه، وإليك تلك القرائن:


1 . وهناك أقوال أُخر شاذة جداً ستوافيك في مختتم البحث.

 

 

 

                            ئن على إرادة صنف خاص منهم، وتتبيّـن في البحث الآتي:

 

القرينة الاَُولى: اللام في «أهل البيت» للعهد:

لا شك أنّ اللام قد تطلق ويراد منها الجنس المدخول كقوله سبحانه: (إنّ الاِنسان لفي خُسر ). (2)

وقد يطلق ويراد منها استغراق أفراده كقوله سبحانه : (يَا أَيُّها النَّبِيُّ جَاهِدِ


2 . العصر : 2.

 

الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . (1)

وثالثة تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلّم والمخاطب.

ولا يمكن حمل اللام في «البيت» على الجنس أو الاستغراق، لاَنّ الاَوّل انّما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة كما يعلم من تمثيلهم لذلك بقوله تعالى: (إِنَّ الاِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ) (2)، ومن المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت ، كما لا يصح أن يحمل على العموم، أي: جميع البيوت في العالم، أو بيوت النبي ، وإلاّ لناسب الاِتيان بصيغة الجمع فيقول: أهل البيوت، كما أتى به عندما كان في صدد إفادة ذلك، وقال في صدر الآية : (وقرن في بيوتكن ) .

فتعين أن يكون المراد هو الثالث، أي البيت المعهود، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص، معهود بين المتكلم والمخاطب، وحينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود، فما هو هذا البيت؟ هل هو بيت أزواجه، أو بيت فاطمة وزوجها والحسن والحسين (عليهم السلام) ؟
لا سبيل إلى الاَوّل، لاَنّه لم يكن لاَزواجه بيت واحد حتى تشير اللام إليه، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص، ولو أُريد واحداً من بيوتهن لاختصت الآية بواحدة منهم، وهذا ما اتفقت الاَُمّة على خلافه.

أضف إلى ذلك أنّه على هذا يخرج بيت فاطمة مع أنّ الروايات ناطقة بشمولها، وانّما الكلام في شمولها لاَزواج النبي كما سيوافيك بيانه.


1 . التوبة: 73.

2 . المعارج: 19.

 

هذا كلّه على تسليم انّ المراد من البيت هو البيت المبني من الاَحجار والآجر والاَخشاب، فقد عرفت أنّ المتعيّـن حمله على بيت خاص معهود ولا يصح إلاّ حمله على بيت فاطمة، إذ ليس هناك بيت خاص صالح لحمل الآية عليه.

وأمّا لو قلنا بأنّ البيت قد يطلق ويراد منه تارة هذا النسق، كما في قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاَُولى ) ، وأُخرى غير هذا النمط من البيت، مثل قول القائل: «بيت النبوة» و «بيت الوحي» تشبيهاً لهما على المحسوس، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها، عدّهم أهلاً لذلك البيت، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر، ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب، وفي الوقت نفسه يفتقد الاَواصر المعنوية الخاصة، ولقد تفطّن العلاّمة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة، فهو يقول في تفسير قوله تعالى: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1)، لاَنّها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والاَُمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وان تسبح اللّه وتمجّده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها: (رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت ) أرادوا انّ هذه وأمثالها ممّا يكرمكم به رب العزة، ويخصّكم بالاَنعام به يا أهل بيت النبوة. (2)

وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الاَواصر الجسمانية لبيت خاص حتى بيت فاطمة، إلاّ أن تكون هناك الوشائج المشار


1 . هود: 73.

2 . الكشاف: 2|107.

 

إليها، ولقد ضل من ضل في تفسير الآية بغير تلك الجماعة عليها السلام، فحمل البيت في الآية على البيت المبني من حجر ومدر مع أنّ المراد غيره.

ولقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف وبين أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) محادثة لطيفة أرشده الاِمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه، قال ـ عندما جلس أمام الباقر (عليه السلام) ـ : لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر (عليه السلام) : «ويحك، أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ * رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ ) (1) فأنت ثم ونحن أُولئك» فقال له قتادة: صدقت واللّه جعلني اللّه فداك، واللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين(2).

وهذه القرينة تحضّ المفسر على التحقيق عن الاَفراد الذين يرتبطون بالبيت بأواصر معينة، وبذلك يسقط القول بأنّ المراد منه أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لاَنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة باتفاق المسلمين بينهم وأقصى ما عندهن انهن كن مسلمات موَمنات.


1 . النور : 36 ـ 37.

2 . الكافي: 6|256 ـ 257.

 القرينة الثانية: تذكير الضمائر

نرى أنّه سبحانه عندما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد بضمائر التأنيث، ولكنّه عندما يصل إلى قوله: (إنّما يريد اللّه ليذهب ... ) يغير الصيغة الخطابية في التأنيث ويأتي بصيغة التذكير، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي؟ وإليك نص الآيات:

 

(يا نِسَاءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) . (1)

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الاَُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . (2)

(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ آياتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ إنّ اللّهَ كانَ لَطِيفَاً خَبِيراً ). (3)

ترى أنّه سبحانه يخاطبهن في الآية الاَُولَى بهذه الخطابات:

1. لستن. 2. اتقيتن. 3. فلا تخضعن. 4. وقلن.

ويخاطبهن في الآية الثانية بهذه الخطابات:

1. قرن. 2. بيوتكن. 3. لا تبرجن. 4. أقمن. 5. آتين. 6. أطعن.

كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله:

1. واذكرن . 2. بيوتكن.

وفي الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفاً خاصاً في الخطاب ويقول:

1. عنكم. 2. يطهركم.

فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي ؟!

أو ليس هذا يدل على أنّ المراد ليس نساءه (صلى الله عليه وآله وسلم) .


1 . الاَحزاب: 32.

2 . الاَحزاب: 33 .

3 . الاَحزاب: 34 .

 

وقد حاول القرطبي التفصّي عن الاِشكال فقال: إنّ تذكير الضمير يحتمل لاَن يكون خرج مخرج «الاَهل» كما يقول لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك ونساوَك؟ فيقول: هم بخير، قال اللّه تعالى: (أتعجبين من أمر اللّه رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت ) . (1)

ولكن المحاولة فاشلة فانّ ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب، إنّما إذا تقدّم «الاَهل» وتأخّر الضمير، دون العكس كما في الآية، فإنّ أحد الضميرين مقدّم على لفظ «الاَهل» في الآية كما يقول: (عنكم الرجس أهل البيت ) .

وأمّا الاستشهاد في الآية فغير صحيح، لاَنّ الخطاب فيها لاِبراهيم وزوجته، فيصح التغليب تغليب الاَشرف على غيره في الخطاب والمفروض في المقام انّ الآية نزلت في زوجاته ونسائه خاصة فلا معنى للتغليب.

نعم انّما تصح فكرة التغليب لو قيل بأنّ المراد منه، هو أولاده وصهره وزوجاته، وهو قول ثالث سنبحث عنه في مختتم البحث، وسيوافيك انّ بقية الاَقوال كلها مختلقة لتصحيح الاِشكالات الواردة على النظرية الثانية، فلاحظ.


1 . جامع الاَحكام: 14|182.

 

القرينة الثالثة: الاِرادة تكوينية لا تشريعية

سيوافيك الكلام عند البحث في سمات أهل البيت، انّ من سماتهم، كونهم معصومين من الذنب وذلك بدليل كون من الاِرادة في قوله: (إنّما يريد اللّه ... ) الاِرادة التكوينية، التي لا ينفك المراد فيها عن الاِرادة وتكون متحقّقة وثابتة في الخارج، وبما أنّ المراد هو إذهاب الرجس وإثبات التطهير وتجهيزهم

 

بالاَسباب والمعدّات المنتهية إلى العصمة، فلا يصح أن يراد من أهل البيت أزواج النبي ، إذ لم يدّع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب ومطهرات من الزلل . فلا مناص عن تطبيقه على جماعة خاصة من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقّق فيهم تعلّقهم بالاَسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلاّ على الاِمام علي وزوجته والحسنين (عليهم السلام) ، لاَنّ غيرهم مجمع على عدم اتصافهم بهذه الاَسباب.

القرينة الرابعة انّ الآيات المربوطة بأزواج النبي تبتدىَ من الآية 28 وتنتهي بالآية 34 ، وهي تخاطبهن تارة بلفظ «الاَزواج» ومرتين بلفظ «نساء النبي» الصريحين في زوجاته، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ «أهل البيت» فإنّ العدول قرينة على أنّ المخاطب به غير المخاطب بهما .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ملامح عقيلة الهاشميّين السيّدة زينب الكبرى *
يوم الخروج وكيفيته
الجزع على الإمام الحسين (عليه السّلام)
الدفاعٌ عن النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم
أهل البيت النور المطلق
حديث الغدير ودلالته على ولاية أمير المؤمنين (ع)
عوامل نشوء اليقين بولادة الامام المهدي (عليه ...
عليٌ لا يحبّه منافق
سيرة الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)
خطيب جمعة بغداد: ما احوجنا اليوم لفهم مشروع ...

 
user comment