عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

ابوذر في جبل عامل

حين نقرأ سيرة أبي ذر في الكتب التأريخية وغيرها ، نجد أنفسنا أمام صورة غير واضحة لهذا الصحابي العظيم ، فنجد شيئا من الغموض يكاد يكتنف حياته . ولعل مردّ ذلك يعود الى نوع من التعتيم الاعلامي ، فرض على مسار هذه الشخصية . فمثلا . نجد بعض
ابوذر في جبل عامل

حين نقرأ سيرة أبي ذر في الكتب التأريخية وغيرها ، نجد أنفسنا أمام صورة غير واضحة لهذا الصحابي العظيم ، فنجد شيئا من الغموض يكاد يكتنف حياته . ولعل مردّ ذلك يعود الى نوع من التعتيم الاعلامي ، فرض على مسار هذه الشخصية .
فمثلا . نجد بعض المؤرخين ، كالطبري ، وابن الأثير ، قد أهملوا التفصيل في كيفية نفي أبي ذر الى المدينة ، فالربذة ، كما أهملوا ذكر النزاع الذي جرى بينه وبين عثمان .
ونجد : البعض الآخر يحاول الدفاع عن عثمان ، فيذهب الى القول : بأن أبا ذر نزل الربذة بمحض اختياره .
والبعض الآخر ، يؤكد نفي أبي ذر الى الشام أوّلا ، ثم الى المدينة ، ثم الى الربذة .
والحقيقة أن أبا ذر كان قد أقام في الشام مدة طويلة ، ربما نافت على العشرة سنوات . تسنى له من خلالها نشر مذهبه في التشيع لعلي وأهل البيت عليهم السلام .
أعرض للقارئ كلمات بعض المؤرخين والباحثين ، الذين ذهبوا الى القول : بأن أبا ذر أُخرج الى الشام منفيَّاً ، ليتسنى له المقارنة بينها وبين النصوص الاخرى التي تؤكد خلاف ذلك .
قال أبن أبي الحديد في شرح النهج :
«واعلم : أن الذي عليه اكثر أرباب السيرة ، وعلماء الاخبار والنقل ، أن عثمان نفى أبا ذر أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لمَّا شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة ، لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام » (1) .
وقال السيد المرتضى رحمه الله تعالى :
« بل المعروف والظاهر ، أنه نفاه أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لما شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة . . » (2)
وقال السيد الامين رحمه الله :
«وما كان أبو ذر ليترك المدينة ، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومسجده ، ومجاورة قبره ، اختيار ، ويذهب الى الشام ، فيجاور بني أميَّة ، وانما خرج الى الشام منفياً » (3) .
الى غير ذلك من أقوال غيرهم ، التي تفيد الشهرة حول هذا الامر ، والشهرة في هذا المقام لا تغني من الحق شيئاً ، فرب مشهور لا أصل له ، سيما اذا قام الدليل على خلافه .
والآن نعرض للقارئ بعض النصوص الاخرى ، نضعها بين يديه للتأكد مما نرمي اليه ، من القول : بأن إقامة أبي ذر في الشام كانت طويلة جدا ، وكانت بادئ الامر بمحض اختياره ورغبته ، وكامل حريته ، إلا أن حريته في الذهاب الى المدينة المنورة ، ومجاورة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) متى شاء ، أصبحت مقيدة آخر الامر بسبب ما جرى بينه وبين عثمان .
قال في الاستيعاب :
« بعد أن أسلم أبو ذر ، رجع الى بلاد قومه ، فأقام بها حتى مضت بدر ، وأحد ، والخندق ، ثم قدم على النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) المدينة ، فصحبه الى أن مات صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ثم خرج بعد وفاة أبي بكر الى الشام ، فلم يزل بها حتى ولي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية ، فنفاه وأسكنه الربذة ، فمات بها . . » (4)
وهنا ، يحق لنا التساؤل :
ما هو المبرر لرفض هذه الرواية . ؟ مع أن هناك الشواهد الكثيرة على صحة مضمونها !؟
إن رفض هذه الرواية ، لا مبرر له ، فأي مانع من أن يكون أبو ذر ، قد أقام في الشام بمحض اختياره ، إن لم نقل بأنه كان يتعرض لمضايقات معينة
ـ نظرا لجرأته وصراحته ـ دفعت به الى الاقامة فيها أثناء خلافة عمر بن الخطاب .
إن من يتتبع سيرة أبي ذر ، يجد أن هذه الشخصية الفريدة ، يكتنف مسارها الغموض والتعتيم من الفترة ما بين خلافة عمر الى خلافة عثمان ، فلا حديث ، ولا رواية ، ولا أي شيء يتعلق به في تلك الفترة ، ! مع كونه من المبرزين الأول في الاسلام ، دينا ، وفضلا ، وعلما ، فهو لم يكن مسلما عاديا يقرن بعامة المسلمين ، بل كان من خيرة خيرتهم ، ممن نوَّه رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) بفضلهم ، وممن حازوا قصب السبق في مجالي الدين والعلم ، ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه : « ما تقل الغبراء ، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر ، شبيه عيسى بن مريم » (5)
وحديث علي عليه السلام فيه : « وعاء ملىء علما ، ثم أوكأ عليه » (6)
إن التعتيم الاعلامي على مسار أبي ذر ( رضی الله عنه ) في تلك الفترة ، ربما لم يكن مقصودا ، ولكنه يؤكد تأكيدا كاملا على أنه كان بعيدا عن مركز الخلافة ، أعني : المدينة المنورة ـ عاصمة العالم الاسلامي ـ آنذاك .
كما أنه لم يكن في تلك الفترة في موطنه الاصلي ، أعني منازل قومه بني غفار ، لأن النصوص لا تشير الى ذلك البتة .
اذن : أين كان أبو ذر في تلك الفترة ؟ .
الشواهد التأريخية كلها ساكتة عن وجوده في أي بلد ، ما عدا الشام .
نعم : كان أبو ذر رضي الله عنه في تلك الفترة ، قد اتخذ الشام وجوارها مقرا له ، وقد كان يقوم بدوره الرسالي فيها على أكمل وجه . هذا ما يستفاد من بقية النصوص والروايات في هذا الصدد .
جاء في رواية البلاذري :
«وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ؟ فاذا أيسر قضى ؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك .
فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ! ؟
فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك بأصحابي ! ؟ إلحق بمكتبك ! وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيأذن له في ذلك . . » (7)
وكلمة « مكتب » هنا ، تعني : مركز تجمع كتائب الجيش الاسلامي ، والرواية صريحة في كون إقامته بالشام لم تكن قسرا .
ويؤيدها ، ما جاء في تأريخ ابن الأثير ، قال في حوادث سنة 23 :
« وفيها غزا معاوية الصائفة ( الروم ) ومعه عبَّادة بن الصامت ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو ذر . . »
وقال في حوادث سنة 28 :
« كان فتح قبرس على يد معاوية . . الى أن قال : ولما غزا معاوية هذه السنة ، غزا معه جماعة من الصحابة ، فيهم أبو ذر . . » (8) الخ .
وجاء في كلام ابن بطال :
« وكان في جيشة ـ يعني معاوية ـ ميل الى أبي ذر ، فأقدمه عثمان حشية الفتنة » (9)
وجاء في رواية الواقدي :
«إن أبا الأسود الدؤلي قال : كنت أحب لقاء أبي ذر ، لأسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له :
ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ؟ أم أخرجت كرها ؟
فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغني عنهم ، فأخرجت الى المدينة ، فقلت دار هجرتي وأصحابي ، فأخرجت من المدينة الى ما ترى ! » (10)
والثغر الذي عناه ، هو بلاد الشام بالطبع . ويلاحظ هنا ، أنه لم يقل أخرجت الى ثغر من ثغور المسلمين ، أو اخرجت الى الشام . بينما قال : أخرجت الى المدينة ، ثم قال : فأخرجت الى ما ترى ـ يعني البرذة ـ مما يدل على أنه كان مختارا ، أو مرتاحا ـ على الأقل ـ في اقامته بالشام .
وجاء في رواية ثانية للواقدي :
«فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا !
فقال أبو ذر : ما أبغض الي جوارك ، فالى أين أخرج ؟
قال : حيث شئت !
قال : أخرج الى الشام ، أرض الجهاد ؟ !
قال : انما جلبتك من الشام ، لما قد أفسدتها ، أفأردك اليها !؟ » (11)
إن هذه الروايات ، تعطينا الدليل الكافي ، بل القاطع ، على أن اقامة أبي ذر في الشام لم تكن جبرية ، ولم يكن مكرها فيها ، كما لم تكن قصيرة تقاس بالأشهر .
ولا يعني هذا ، أنه في خلال اقامته تلك ، كان قد انقطع عن زيارة مدينة الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) فمما لا شك فيه أن أبي ذر لا يفوته الحج الى بيت الله الحرام في كل عام ، كما لا تفوته زيارة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ومجاورته ، ومن ثمَّ اللقاء بالصحابة ، وزيارة دار الخلافة ، والنظر في شئون المسلمين .
من هنا ، يمكننا الركون ـ بكل بساطة ـ الى القول بأن ما جرى بينه وبين عثمان بادئ الامر ، من النقاشات الكلامية الحادة ، لم يكن سببا في نفيه الى الشام ـ كما يتصور ـ بل كان في أغلب الاحيان ، سببا في تعجيل رجوعه الى الشام ، وتقييدا لحريته في الاقامة بالمدينة متى شاء ، وكيف أراد .
وبهذا يتضح وهن الرأي القائل بأن عثمان نفاه الى الشام ، هذا الرأي الذي يهدف ـ غالبا ـ الى إضفاء صبغة مأساوية ، تضاف الى مأساة أبي ذر الحقيقية ، وهي نفيه ( الى المدينة ، ومن ثم الى الربذة ) .
بعد هذا العرض ، ننتقل الى حقيقة تأريخية هامة ، تتصل بسيرة هذا الصحابي العظيم ، ومكوثه في بلاد الشام هذه المدة الطويلة ، وقيامه بدوره الرسالي على أكمل وجه . تلك هي : صلته بنشأة التشيع في جبل عامل :

أبـو ذرّ وَالتّـشيُّع في جَبـل عَامِـل
وقبل الدخول في الموضوع ، لا بد لنا من الوقوف على موقع ( جبل عامل ) الجغرافي من بلاد الشام ، تأريخيا ، لكي تتثبت من إقامة ابي ذر فيه ، وتنجلي لنا حقيقة الامر في ذلك .
حـدود الـشـام :
قال ياقوت في معجم البلدان : وأما حدها ـ يعني الشام ـ فمن الفرات الى العريش المتاخم للديار المصرية .
وأما عرضها : فمن جبلي طيىء من نحو القبلة ، الى بحر الروم ، وما بشأمة ذلك من البلاد . وبها من أمهات المدن : منبج ، وحلب ، وحماة ، وحمص ، ودمشق ، والبيت المقدس ، والمعرة . وفي الساحل : إنطاكية ، وطرابلس ، وعكا ، وصور ، وعسقلان ، وغير ذلك . . الخ (12)
هذه هي سعة الشام وسعة حدودها ـ في ذلك الوقت ـ ويتضح من ذلك ، ان منطقة جبل عامل داخلة في ضمنها ، لأن منها صور .
وقال في متن اللغة . مادة : ع م ل .
بنو عاملة ، حي يمان من ولد الحرث بن عدي . ينتهي الى كهلان بن سبأ ، نُسبوا الى أمهم عاملة بنت مالك القضاعية . وجبلهم بالشام ، فوق صور وصيدا ، يعرف بهم . واشتهر باسم : جبل عامل (13)
المهم : ان الشام لم تكن اسما لخصوص دمشق ( العاصمة ) ، بل كان لفظ الشام يطلق على المنطقة المشار اليها آنفا بأجمعها ، بما فيها جبل عامل .
وقد أشرنا سابقا الى أن أبا ذر ( رضی الله عنه ) أقام في الشام بعد وفاة أبي بكر ـ كما يظهر من رواية الاستيعاب ـ حتى شكاه معاوية الى عثمان ، فأخرجه الى المدينة ، ثم نفاه الى الربذة . وأن الروايات الاخرى التي تشير الى اخراجه من المدينة الى الشام ، لا تعني اخراجه اليها منفيا ، بل كل ما هناك أن عثمان كان يأمره بالتعجيل في الخروج الى الشام ، كما في قوله له : « الحق بمكتبك » . راجع ص 67 .
ثم ان اقامة أبي ذر فيها ، لا تعني في خصوص دمشق ـ كما يتوهم ـ بل في المنطقة عامة ، يؤيد ذلك قول أبي ذر مخاطبا عليا عليه السلام حين كان في وداعه : « اني ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ! » (14)
فكما أن كلمة « الحجاز » تشمل كل مدن الحجاز بما فيها المدينة ، كذلك كلمة « الشام » تشمل كل مدن الشام ، بما فيها دمشق ، وبما فيها « جبل عامل » .
ومن الواضح : أنه ( رض ) ، كان في هذه المنطقة ، تحت قبضة معاوية وسلطانه . فصح أن يقال : كان عند معاوية .

تحـديـد مـدة اقـامته في الشـام
النصوص التأريخية ، لا تحدد مقدار إقامته فيها . إلا ما ورد عن كميل بن زياد رحمه الله ، قال : « كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وكنت بها في العام المقبل حين سيَّره الى الربذة » (15)
هذه الرواية فقط ـ اذا صحت ـ تشير الى ان اقامته فيها استغرقت سنة . أما ما عداها ، فلا يستند إلا الى التخمين والاستنتاجات الخاصة . ومع ذلك ، فان رواية كميل هذه لا يستفاد منها مجموع إقامته في الشام ، بل يستفاد منها : أن المدة ما بين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وبين نفيه الى الربذة ، استغرقت سنة .
وعلى هذا ، فلا تنافي بين رواية ( الاستيعاب ) المتقدمة وهذه الرواية .
وبوسعنا القول الآن : أن اقامة ابي ذر في بلاد الشام ، في مدنها وقراها ، كانت طويلة جدا ، ربما استغرقت أربعة عشر سنة ، وأهم الشواهد على ذلك ، ما يلي :
اولا : رواية الاستيعاب المتقدمة ( ص 65 ) وهي صريحة فيما نرمي اليه ، حيث يقول فيها : « ثم خرج بعد وفاة ابي بكر الى الشام ، فلم يزل بها حتى ولي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية . . »
والمعروف أن وفاة أبي بكر كانت في سنة 13 هـ . وفي هذه السنة ولي عمر بن الخطاب ، حتى توفي سنة 23 هـ ، وفيها بويع عثمان بن عفان (16) ، الى سنة 35 هـ ( على التقريب ) وقد نفى عثمان أبا ذر من الشام الى المدينة ، فالربذة ، في سنة 30 ـ على ما ذكره ابن الأثير ـ (17) .
فعلى هذا تكون الفترة ما بين خروج أبي ذر الى الشام ونفيه الى المدينة سبعة عشر سنة . على رواية الاستيعاب !
ثـانيـا : النصوص التي تتحدث عما أوجده أبو ذر ، ـ في اقامته تلك ـ من تغيير في ذهنية المجتمع الشامي ، وصرفه الناس اليه ، وأخذهم منه الحكم والفتيا واجتماعهم من حوله ، من جهة ، وميل المعسكر الذي كان فيه ، اليه من جهة أخرى . الى حدّ حرك في نفس معاوية الخوف من عواقب ذلك . فكتب الى عثمان يحمله اليه . واليك بعض هذه النصوص :
أ ـ قول حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية : « إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة . . »(18)
ب ـ كتب معاوية الى عثمان : « إن أبا ذر تجتمع اليه الجموع ، ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فان كانت لك في القوم حاجة ، فاحمله اليك . . »(19)
ج ـ وكتب اليه : « إن أبا ذر قد حرف قلوب أهل الشام ، وبغضك اليهم فلا يستفتون غيره ! ولا يقضي بينهم إلا هو . . ! »(20)
د ـ « قول عثمان لأبي ذر حين طلب الرجوع الى الشام : « انما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها ! أفأردّك اليها !؟ »(21)
ويؤيد ذلك ، كلام ابن بطال المتقدم : « كان في جيش معاوية ميل الى أبي ذر ، فأقدمه عثمان خشية الفتنة » .
إن هذه النصوص ، تزودنا بالكثير حول ( اقامته الطويلة في بلاد الشام ) . فقد كانت اقامته هذه تقضّ مضاجع الحكام آنذاك ، فقد استطاع هذا الصحابي الجليل ، أن يستقطب الاكثرية من الناس ، يعضهم ويرشدهم ، ويذكرهم بأيام الله . وينوّه بمقام أهل البيت عليهم السلام ، ومكانتهم وفضلهم ، وما ورد فيهم على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى غير ذلك مما جلب على معاوية المتاعب ، فكتب فيه الى عثمان .
وهنا سؤال يفرض نفسه :
أترى ، كان باستطاعته أن يقوم بهذه الادوار الخطيرة ، خلال أشهر أو سنة !؟ كما يدعي أكثر الكتَّاب والمؤرخين .
فهل أن تغيير ذهنية مجتمع بكامله ، كان يتعاطف مع الامويين ، ولم يعرف غيرهم ، وتزويده بذهنية جديدة ذات طابع معيَّن ، من السهولة بمكان ؟؟ كما ربما يتصور البعض .
إن تصور هذا من البعد بمكان .
فان عملية إفساد المجتمع الشامي على معاوية ومن ولاَّه ، لا بد وأنها استغرقت سنين عديدة ، لأن تغيير المرتكزات الذهنية السائدة لدى أي مجتمع كان ، لا يمكن أن يتم في خلال أشهر معدودة .
من هنا ، ومما ذكرنا آنفا ، يسهل علينا الوصول الى الحقيقة التاريخية الهامة التي أغفلها المؤرخون القدماء ، وتكتم فيها كثيرون .
أغفلها المؤرخون ، إما إستخفافا بأهلها ، أو فرقا من الحكام الذين كانوا في زمانهم .
وتكتم فيها كثيرون ، خوفا على دمائهم وأموالهم .
هذه الحقيقة ، هي صلة التشيع في ( جبل عامل ) بأبي ذر ( رضی الله عنه ) . فان مما توارثه أهل هذا الجبل عن الاباء والاجداد ، أن تشيعهم لمذهب أهل البيت عليهم السلام كان على يد هذا الصحابي الجليل ، عندما كان مقيما في بلاد الشام .
وهنا يجدر بنا أن نستعرض كلمات بعض كبار الباحثين حول هذا الموضوع .
قال السيد الامين في أعيان الشيعة : « ومن المشهور ان تشيع جبل عامل كان على يد أبي ذر ، وأنه لما نفي الى الشام ، وكان يقول في دمشق ما يقول ، أخرجه معاوية الى قرى الشام ، فجعل ينشر فيها فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) فتشيع أهل تلك الجبال على يده . فلما علم معاوية ، أعاده الى دمشق ، ثم نفي الى المدينة . . »
ثم قال : وهذا ، وان لم يرد به خبر مسند ، لكنه قريب غير مستبعد (22)
وذكر الشيخ الوالد مد ظله في كتابه ( جبل عامل في التأريخ ) ، كلمات لبعض كبار الباحثين حول هذا الموضوع ، وبدوري أقتطف بعضا من كلماتهم .
قال الاستاذ الشيخ أحمد رضا : « إن التشيع في بلاد الشام هو أقدم منه في كل البلاد ، غير الحجاز . وهذا من العجيب ، أن يقوم أول ركن ، وتنتشر أول دعوة للشيعة في بلاد محكومة لأعدى الناس لهم .
ثم استطرد في كلامه عن أبي ذر ، ونشره مذهب التشيع في بلاد الشام فقال : ثم كان يخرج الى الساحل ، فكان له مقام في قرية الصرفند القريبة من صيدا ، ومقام آخر في قرية ميس ، المشرفة على غور الاردن ، وكلتاهما من قرى جبل عامل ، والمقامان الى الآن معروفان ، الى آخر ما قال .
ولقد عقبه الامير شكيب ارسلان ، فقال :
أما كون التشيع في جبل عامل هو أقدم منه في العجم ( ايران ) بل في كل قطر حاشا الحجاز ، فمن الحقائق التي لا خلاف فيها ، ثم استطرد عارضا ظهور التشيع في ايران ، ثم ذكر انه في العرب وبلاد الشام لم يكن ظاهرا ، وأن الشيعة كانت تستمسك بحبال التقية خوفا على أنفسهم ، ولذا تجد المؤرخين يتجانفون عن نسبة علماء الشيعة الى التشيع . . ثم ذكر حادثة جرت بين الشيخ البهائي وبعض علماء السنة في الشام ـ راجع .
وقد ذكر الاستاذ الشيخ سليمان ظاهر ما يقرب من كلام صاحبيه ، قائلا : إن قدم التشيع في هذا القطر ، ( يعني جبل عامل ) يمتد الى خلافة عثمان والى عهد نفي أبي ذر .
ثم عقب سماحة الشيخ مدظله ، فقال :
هؤلاء أعلام ثلاثة من ثقات أهل الاستقراء والتدقيق ، يشهدون شهادة جازمة بقدم التشيع في بلاد عاملة ، وأنه من عهد نفي أبي ذر الغفاري ، كما يشهدون بسبق تشيع الحجاز .
ثم ذكر كلمة الحر العاملي ( قدس سره ) وهو من أعظم الثقات ومن أجلاء أهل زمانه وهو أقدم من هؤلاء جميعا .
كان يقول : إن تشيعهم ( يعني العامليين ) أقدم تشيع . فقد روي أنه لما مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن من شيعة علي ( عليه السلام ) إلا أربعة مخلصون : سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمَّار . ثم تبعهم جماعة قليلون إثنا عشر ، وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفا وأكثر . ثم في زمن عثمان ، لما أخرج أبا ذر الى الشام ، بقي أياما ، فتشيع جماعة كثيرة ، ثم أخرجه معاوية الى القرى ، فوقع في جبل عامل ، فتشيعوا من ذلك اليوم (23) الى آخر ما ذكره .
بعد هذا العرض ، يتضح لنا أن هذا متفق عليه ، لا مكان للغموض فيه . ولكن يمكننا النقاش في عملية الطرح لهذا المضمون ، فنقول :
مما لا شك فيه ، أن أبا ذر ( رضی الله عنه ) هو أول من بذر هذه البذرة الطيبة في جبل عامل ( قرى الشام ) بفضل إقامته فيها . ولكن إقامته الطويلة الأمد التي استغرقت من عمره سنوات ، والتي كان مرتاحا فيها ـ على الاقل ـ بادئ الامر ، كما قدمنا ، لا منفيا . هذا أولا .
وثانيا : انه أقام أولا في قرى الشام خلال هذه المدة الطويلة . بدليل قوله « كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم . . » راجع ص 68 . والثغر لا يعني قلب العاصمة ، بل على العكس ، يعني حدود المنطقة التي يمكن للعدو أن ينفذ منها . ثم بعد ذلك ـ يمكننا القول ـ بأن معاوية حين خشي منه أن يفسد الناس عليه ، جلبه الى الشام ليكون تحت رقابته ، ورقابة جلاوزته . فلما رأى انه لايكف عن ذلك ، كتب فيه الى عثمان .
أما القول بأن معاوية ، نفاه الى قرى الشام أولا ، ثم جلبه اليه ، فبعيد جدا ، ولا يتلائم مع دهاء معاوية وحذره . إذ كيف يعقل أن ينفيه معاوية من الشام بسبب اثارته الناس عليه ، وهو فيها تحت قبضته وسلطانه ، الى قرى الشام ، النائية عن العاصمة ، والتي يجد فيها أبو ذر حرية أكبر ـ بطبيعة الحال ـ ومجالا أوسع لنشر أفكاره ، بعيدا عن الرقباء والجلاوزة ؟؟
ومجمل القول :
فان نسبة التشيع في جبل عامل لأبي ذر الغفاري ( رضي الله عنه ) مما توارثه أبناء هذه المنطقة ، أباً عن جد ، وحبهم لآل البيت ( عليهم السلام ) ، واعتناقهم مذهبهم ، هما الصفة المميزة لأهل هذا الجبل . وعلى مر العصور والاعوام ، وجدنا جبل عامل ، منبتاً لفحول علماء المسلمين من أتباع مذهب أهل البيت ، عليهم السلام ، وستبقى هذه السلسلة الذهبية ، مستمرة لامعة في دنيا الاسلام ، مهما حاول المغرضون ، بترها .
وسيبقى طهر أبي ذر ( رضي الله عنه ) وشفافية نفسه الزكية ، يطيفان على أهل هذا الجبل ، بركة وخيرا ، وايمانا مستمدا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته الميامين .
رحم الله أبا ذر حامل مشعل الهداية والكرامة .
رحم الله تلك الروح الزاكية التي تشبعت بحب النبي وآل النبي ، حتى فاضت ، وفاضت ، فشملت أهل هذا الجبل ( جبل عامل ) بالبركات .
المصادر :
1- شرح النهج 8 / 255 ـ 256
2- اعيان الشيعة 16 / 363
3- نفس المصدر / 353 / 354
4- الاستيعاب ( حاشية على كتاب الاصابة ) م 1 ص 213
5- المستدرك مع التلخيص م 3 / 342
6- الغدير 8 / 311 نقلا عن أسد الغابة 5 / 186 وشرح الجامع الصغير 5 / 423 وفي الاصابة / 4 ص 64
7- الغدير 8 / 293 نقلا عن الانساب 5 / 52 / 54
8- الكامل 3 / 77 و 95
9- الغدير 8 / 325 عن عمدة القارئ للعيني 4 / 291
10- شرح النهج 80 / 360
11- المصدر السابق
12- معجم البلدان 3 / 312 مادة : شأم
13- متن اللغة 4 / مادة : ع م ل / 209
14- شرح النهج 8 / 254
15- الغدير 8 / 204
16- مروج الذهب 2 / 297 / 304
17- الكامل 3 / 113
18- شرح النهج 8 / 257
19- مروج الذهب 2 / 340
20- رجال بحر العلوم 2 / 152
21- شرح النهج 8 / 260
22- أعيان الشيعة 16 / 358
23- جبل عامل في التاريخ ج 1 / 49 الى 5


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

فضائل الإمام الصادق ( عليه السلام )
الإمام الصادق (ع)
وصية السيدة خديجة بالزهراء{عليهاالسلام}
امامة الحسن العسکري عليه السلام
زينب (عليها السلام) شريكة آلام الحسين (عليه ...
هل هناك عهد بيننا وبين الحسين (عليه السّلام) عبر ...
ابوذر في جبل عامل
ابو ذر فـي الـرّبـذَة
الرسول يسب ويلعن في صحيح أهل السنة
ملامح عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)

 
user comment