في أن عليا لم يندم على التحكيم :
( مسألة ) : فان قيل فاذا كان عليه السلام من أمر التحكيم على ثقة ويقين فلم روي عنه ( ع ) انه كان يقول بعد التحكيم في مقام بعد آخر :
لقد عثرت عثرة لا تنجبر * سوف اكيس بعدها واستمر واجمع الرأي الشتيت المنتشر أو ليس هذا اذعانا بأن التحكيم جرى على خلاف الصواب ؟ .
( الجواب ) : قلنا قد علم كل عاقل قد سمع الاخبار ضرورة ان أمير المؤمنين عليه السلام وأهله وخلصاء شيعته وأصحابه كانوا من أشد الناس اظهارا لوقوع التحكيم من الصواب والسداد موقعه ، وان الذي دعي اليه حسن ، والتدبير اوجبه ، وأنه ( ع ) ما اعترف قط بخطأ فيه ولا اغضى عن الاحتجاج على من شك فيه وضعفه ، كيف والخوارج انما ضلت عنه وعصته وخرجت عليه ، لاجل انها ارادته على الاعتراف بالزلل في التحكيم فامتنع كل امتناع وأبي اشد اباء وقد كانوا يقنعون منه ويعاودون طاعته ونصرته بدون هذا الذي اضافوه اليه ( ع ) من الاقرار بالخطأ واظهار الندم . وكيف يمتنع من شئ ويعترف بأكثر منه ، ويغصب من جزء ويجيب إلى كل هذا مما لا يظن به احد ممن يعرفه حق معرفته . وهذا الخبر شاذ ضعيف ، فإما ان يكون باطلا موضوعا أو يكون الغرض فيه غير ما ظنه القوم من الاعتراف بالخطأ في التحكيم . فقد روي عنه عليه السلام معنى هذا الخبر وتفسير مراده منه ، ونقل من طرق معروفة موجودة في كتب اهل السير ، انه عليه السلام لما سئل عن مراده بهذا الكلام ، قال كتب الي محمد بن ابي بكر بأن اكتب له كتابا في القضاء يعمل عليه ، فكتبت له ذلك وانفذته اليه ، فاعترضه معاوية فأخذه ، فأسف ( ع ) على ظفر عدوه بذلك ، واشفق من أن يعمل بما فيه من الاحكام ، وتوهم ضعفة اصحابه ان ذلك من علمه ومن عنده ، فتقوى الشبهة به عليهم . وهذا وجه صحيح يقتضي التأسف والتندم ، وليس في الخبر المتضمن للشعر ما يقتضي ان تندمه كان على التحكيم دون غيره . فإذا جاءت رواية بتفسير ذلك عنه ( ع ) ، كان الاخذ بها اولى
في أن قتله للخوارج كان بعهد من رسول الله :
( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما فعله أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عند حربه للخوارج يوم النهروان من رفعه رأسه إلى السماء ناظرا اليها تارة والى الارض أخرى وقوله ( ع ) : والله ما كذبت ولا كذبت . فلما قتلهم وفرغ من الحرب ، قال له ابنه الحسن ( ع ) : يا أمير المؤمنين أكان رسول الله صلى الله عليه وآله تقدم اليك في هؤلاء بشئ ؟ . قال : لا ولكن أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكل حق ، ومن الحق أن أقاتل المارقين والناكثين والقاسطين . أو ليس قد تعلق بهذا النظام في كتابه المعروف بالنكت . وقال هذا توهيم منه ( ع ) لاصحابه أن رسول الله قد تقدم اليه في أن الخوارج سيخالفوه ويقتلهم ، اذ يقول والله ما كذبت ولا كذبت .
( الجواب ) : إنا لا ندري كيف ذهب على النظام كذب هذه الرواية ، يعني التضمنة لقوله ( ع ) انه لم يتقدم الرسول اليه في ذلك بشئ ، إن كان النظام رواها ونقلها ، ام كيف استجاز ان يضيفها اليه ( ع ) ان كان تخرصها ؟ وكيف ظن ان مثل ذلك يخفى على احد مع ظهور الحال وتواتر الروايات عنه عليه السلام بالانذار لقتال أهل النهروان وكيفيته ، والاشعار بقتل المخدج ذي الثدية ، وإنما كان عليه السلام ينظر إلى السماء ثم إلى الارض ويقول ما كذبت ولا كذبت استبطاء لوجود المخدج ، لانه ( ع ) عند قتل القوم أمر بطلبه في جملة القتلى ، فلما طال الامر في وجوده واشفق ( ع ) من وقوع شبهة من ضعفة اصحابه فيما كان يخبر به وينذر من وجوده فقلق ( ع ) لذلك واشتد همه وكرر قوله ما كذبت ولا كذبت ، إلى ان اتاح الله وجوده والظفر به بين القتلى على الهيئة التي كان ( ع ) ذكرها ، فلما احضروه اياه كبر ( ع ) واستبشر بزوال الشبهة في صحة خبره .
وقد روى من طرق مختلفة وجهات كثيرة عنه ( ع ) الانذار بقتال الخوارج وقتل المخدج على صفته التي وجد عليها ، وأنه عليه السلام كان يقول لاصحابه أنهم لا يعبرون النهر حتى يصرعوا دونه ، وأنه لا يقتل من أصحابه إلا دون العشرة ، ولا يبقى من الخوارج إلا دون العشرة ، حتى أن رجلا من اصحابه قال له يا أمير المؤمنين ذهب القوم وقطعوا النهر . فقال ( ع ) لا والله ما قطعوه ولا يقطعونه حتى يقتلوا دونه عهدا من الله ورسوله . فكيف يستشعر عاقل ان ذلك من غير علم ولا اطلاع من الرسول صلى الله عليه وآله على وقوعه وكونه .
وقد روي عن ابن ابي عبيدة اليماني لما سمعه ( ع ) يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بقتال الخوارج قبل ذلك بمدة طويلة وقتل المخدج ، شك فيه لضعف بصيرته فقال له : أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ؟ فقال أي ورب الكعبة مرات .
وقد روي أمر الخوارج وقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم وانذار الرسول صلى الله عليه وآله بذلك جماعة من الصحابة ، لولا ان في ذكر ذلك خروجا عن غرض الكتاب لذكرناه ، حتى أن عائشة روت ذلك فيما رفعه عامر عن مسروق قال : دخلت على عائشة ، فقالت من قتل الخوارج ؟ قلت قتلهم علي بن ابي طالب عليه السلام . فسكتت . فقلت لها يا امة اسألك بحق الله وحق نبيه وحقي ، فإني لك ولد إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهم شيئا لما اخبرتنيه . قالت سمعت رسول الله يقول هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة .
وعن مسروق ايضا عن عائشة أنها قالت من قتل ذا الثدية ؟ قلت علي بن ابي طالب . قالت لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه كتب الي يخبرني انه قتله بالاسكندرية ، إلا انه لا يمنعني ما في نفسي ان أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه سمعته يقول يقتلهم خير امتي بعدي . وروى فضالة بن ابي فضيلة وهو ممن كان شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا ، قال اشتكى امير المؤمنين عليه السلام بينبع شكاة ثقل منها ، فخرج ابي يعوده ، فخرجت معه ، فلما دخل عليه قال لا تخرج إلى المدينة ، فإن اصابك اجلك شهدك اصحابك وصلوا عليك وإنك هاهنا بين ظهراني اعراب جهينة . فقال عليه السلام اني لا اموت من مرضي هذا لانه فيما عهده الي رسول الله صلى الله عليه وآله اني لا اموت حتى أؤمر واقتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وحتى تخضب هذه من هذا وأشار ( ع ) إلى لحيته ورأسه . وذكر المروي في هذا الباب يطول والامر في اخباره عليه السلام بقصة الخوارج وقتاله ( ع ) لهم وانذاره بذلك ظاهرا جدا .
بيان أن عليا قد يعرض في كلامه خدعة الحرب :
( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه السلام من قوله : اذا حدثتكم عن رسول الله بحديث فهو كما حدثتكم ، فوالله لان أخر من السماء احب الي من أن اكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله . واذا سمعتموني احدث فيما بيني وبينكم ، فإنما الحرب خدعة . وأليس هذا مما نفاه النظام ايضا وقال لم يحدثهم عن رسول الله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، وذكر ان هذا يجري مجرى التدليس في الحديث .
( الجواب ) : قلنا ان امير المؤمنين عليه السلام لفرط احتياطه بالدين وتخشنه فيه وعلمه بأن المخبر ربما دعته الضرورة إلى ترك التصريح واستعمال التعريض ، أراد ان يميز للسامعين بين الامرين ويفصل لهم بين ما لايدخل فيه التعريض من كلامه مما باطنه كظاهره ، وبين ما يجوز ان يعرض فيه للضرورة ، وهذا نهاية الحكمة منه وازالة اللبس والشبهة ، ويجري البيان والايضاح بالضد فيما يوهمه النظام من دخوله في باب التدليس في الحديث ، لان المدلس يقصد إلى الابهام ويعدل عن البيان والايضاح طلبا لتمام غرضه . وهو عليه السلام ميز بين كلامه وفرق بين انواعه حتى لا تدخل الشبهة فيه على احد . واعجب من هذا كله قوله انه لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، لانه ما اعتذر كما ظنه ، وانما نفى ان يكون التعريض مما يدخل روايته عن رسول الله . كما انه ربما دخل ما يخبر به عن نفسه قصدا للايضاح ، ونفي الشبهة . وليس كل من نفى عن نفسه شيئا واخبر عن براءته منه فقد فعله . وقوله عليه السلام لان أخر من السماء يدل على انه ما فعل ذلك ولا يفعله ، وإنما نفاه حتى لا يلتبس على احد خبره عن نفسه ، ومما يجوز فيه مما يرويه ويسنده إلى رسول الله .
في قوله ما حدثني أحد عن الرسول إلا استحلفته :
( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام من انه قال كنت اذا حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله بحديث استحلفته بالله أنه سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله فإن حلف صدقته وإلا فلا . وحدثني ابوبكر وصدقني ، أو ليس هذا الخبر مما طعن به النظام وقال لا يخلو المحدث عنده من ان يكون ثقة او متهما . فإن كان ثقة فما معنى الاستحلاف ؟ وان كان متهما فكيف يتحقق قول المتهم بيمينه ؟ واذا جاز ان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالباطل جاز ان يحلف على ذلك بالباطل ؟
( الجواب ) : قلنا هذا خبر ضعيف مدفوع مطعون على اسناده ، لان عثمان بن المغيرة رواه عن علي بن ربيعة الوالبي عن اسماء بن الحكم الفزاري . قال سمعت عليا عليه السلام يقول كذا وكذا واسماء بن الحكم هذا مجهول عند اهل الرواية لا يعرفونه ولا روي عنه شئ من الاحاديث غير هذا الخبر الواحد .
وقد روي ايضا من طريق سعد بن سعيد بن ابي سعيد المقري عن اخيه عن جده ابي سعيد رواه هشام بن عمار والزبير بن بكار عن سعد بن سعيد بن ابي سعيد عن اخيه عبدالله بن سعيد عن جده عن امير المؤمنين عليه السلام . وقال الزبير عن سعد بن سعيد أنه ما ارى اخبث منه . وقال ابو عبدالرحمن الشيباني : عبدالله بن سعيد بن ابي سعيد المقري متروك الحديث . وقال يحيى بن معين انه ضعيف . ورووه من طريق ابي المغيرة المخزومي عن ابن نافع عن سليمان بن يزيد عن المقري وابومغيرة المخزومي مجهول لا يعرفه اكثر اهل الحديث . ورووه من طريق عطا بن مسلم عن عمارة عن محرز عن ابي هريرة عن امير المؤمنين عليه السلام قالوا : محرز لم يسمع من امير المؤمنين ( ع ) بل لم يره ، وعمارة وهو عمارة بن حريز وهو ابن هرون العبدي ، قيل أنه متروك الحديث . ومما ينبئ عن ضعف هذا الحديث واختلاله ان من المعروف الظاهر أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يرو عن احد قط حرفا غير النبي صلى الله عليه وآله . واكثر ما يدعى عليه من ذلك هذا الخبر الذي نحن في الكلام عليه . وقوله ما حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا استحلفته ، يقتضي ظاهره أنه قد سمع اخبارا عنه ( ع ) من جماعة من الصحابة . والمعلوم خلاف ذلك . واما تعجب النظام من الاستحلاف ففي غير موضعه ، لانا نعلم ان في عرض اليمين تهيبا لمن عرضت عليه وتذكيرا بالله تعالى وتخويفا من عقابه ، سواء كان من تعرض والاقدام عليها يزيدنا في الثقة بصيرة ، وربما قوى ذلك حال الظنين لبعد الاقدام على اليمين الفاجرة ، ولهذا نجد كثيرا من الجاحدين للحقوق متى عرضت عليهم اليمين امتنعوا منها وأقروا بها بعد الجحود واللجاج . ولهذا استظهر في الشريعة باليمين على المدعى عليه ، وفي القاذف زوجته بالتلفظ باللعان . ولو أن ملحدا أراد الطعن على الشريعة واستعمل من الشبهة ما استعمله النظام ، فقال اي معنى لليمين في الدعاوى ، والمستحلف ان كان ثقة فلا معنى لاحلافه ، وان كان ظنينا متهما فهو بأن يقدم على اليمين اولى . وكذلك في القاذف زوجته لما كان له جواب إلا ما اجبنا به النظام ، وقد ذكرناه .
وقد حكي عن الزبير بن بكار في هذا الخبر تأويل قريب وهو انه قال : كان ابوبكر وعمر اذا جاءهما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يعرفانه لا يقبلاه حتى يأتي مع الذي ذكره آخر ، فيقوما مقام الشاهدين . قال فأقام امير المؤمنين عليه السلام اليمين مع دعوى المحدث مقام الشاهد مع اليمين في الحقوق ، كما اقاما الرواية في طلب شاهدين عليهما مقام باقي الحقوق . فان قيل أو ليس هذا الحديث اذا سلمتوه واخذتم في تأويله يقتضي ان أمير المؤمنين عليه السلام ما كان يعلم الشئ الذي يخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وانه كان يستفيده إلا من المخبر ، ولولا ذلك لما كان لاستحلافه معنى ؟ وهذا يوجب انه ( ع ) كان غير محيط بعلم الشريعة على ما يذهبون اليه ؟ .
قلنا : قد بينا الجواب عن هذه الشبهة في كتابنا الملقب بالشافي في الامامة ، وذكرنا انه ( ع ) وان كان عالما بصحة ما اخبره به المخبر ، وأنه من الشرع ، فقد يجوز ان يكون المخبر له به ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله ، وإن كان من شرعه ، ويكون كاذبا في ادعائه السماع ، فكان يستحلفه لهذه العلة . وقلنا أيضا لا يمتنع ان يكون ذلك انما كان منه ( ع ) في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الاحوال لم يكن محيطا بجميع الاحكام ، بل كان يستفيدها حالا بعد حال .
فان قيل : كيف خص ابابكر في هذا الباب بما لم يخص به غيره ؟
قلنا : يحتمل ان يكون ابوبكر حدثه بما علم أنه سمعه من الرسول وحضر تلقيه له من جهته صلى الله عليه وآله ، فلم يحتج إلى استحلافه لهذا الوجه .
في حكمه بعد غنيمة المال والذرية :
( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما ذكره النظام في كتابه المعروف بالنكت من قوله العجب مما حكم به علي بن ابي طالب في حرب اصحاب الجمل ، لانه ( ع ) قتل المقاتلة ولم يغنم ، فقال له قوم من اصحابه إن كان قتلهم حلالا فغنيمتهم حلال ، وإن كان قتلهم حراما فغنيمتهم حرام فكيف قتلت ولم تسب ؟ فقال ( ع ) فأيكم يأخذ عائشة في سهمه ؟ فقال قوم إن عائشة تصان لرسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فنحن لا نغنمها ونغنم من ليس سبيله من رسول الله صلى الله عليه وآله سبيلها ، قال فلم يجبهم إلى شئ من ذلك . فقال له عبدالله بن وهب الراسبي : أليس قد جاز ان يقتل كل من حارب مع عائشة ولا تقتل عائشة ؟ قال بلى قد جاز ذلك وأحله الله عزوجل . فقال له عبدالله بن وهب : فلم لا جاز ان نغنم غير عايشة ممن حاربنا ويكون غنيمة عايشة غير حلال لنا فيما تدفعنا عن حقنا . فأمسك ( ع ) عن جوابه وكان هذا أول شئ حقدته الشراة على علي عليه الصلاة والسلام ؟
( الجواب ) : قلنا ليس يشنع امير المؤمنين عليه السلام ويعترضه في الاحكام الا من قد اعمى الله قلبه وأضله عن رشده ، لانه المعصوم الموفق المسدد على ما دلت عليه الادلة الواضحة . ثم لو لم يكن كذلك وكان على ما يعتقده المخالفون ، اليس هو الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وآله بأنه ( ع ) اقضى الامة واعرفها بأحكام الشريعة ؟ وهو الذي شهد صلى الله عليه وآله له بأن الحق معه يدور كيف ما دار ؟ فينبغي لمن جهل وجه شئ فعله ( ع ) ان يعود على نفسه باللوم ويقر عليها بالعجز والنقص ، ويعلم ان ذلك موافق للصواب والسداد ، وإن جهل وجهه وضل عن علته . وهذه جملة يغني التمسك بها عن كثير من التفصيل ، واستعمال كثير من التأويل . وأمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل اهل القبلة إلا بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله . وقد صرح ( ع ) بذلك في كثير من كلامه الذي قد مضى حكاية بعضه ، ولم يسر فيهم إلا بما عهده اليه من السيرة . وليس بمنكر ان يختلف احكام المحاربين فيكون منهم من يقتل ولا يغنم . ومنهم من يقتل ولا يغنم . لان احكام الكفار في الاصل مختلفة مقاتلو امير المؤمنين عليه السلام عندنا كفار لقتالهم له . واذا كان في الكفارمن يقر على كفره ويؤخذ الجزية منه ، ومنهم من لا يقر على كفره ولايقعد عن محاربته ، إلى غير ذلك مما اختلفوا فيه من الاحكام جاز ايضا ان يكون فيهم من يغنم ومن لا يغنم ، لان الشرع لا ينكر فيه هذا الضرب من الاختلاف .
وقد روي ان مرتدا على عهد ابي بكر يعرف بعلانة ارتد ، فلم يعرض ابوبكر لما له . وقالت امرأته ان يكن علانة ارتد فانا لم نرتد . وروي مثل ذلك في مرتد قتل في ايام عمر بن الخطاب ، فلم يعرض لما له . وروي ان امير المؤمنين عليه السلام قتل مستوردا العجلي ولم يعرض لميراثه . فالقتل ووجوبه ليس بامارة على تناول المال واستباحته ، على ان الذي رواه النظام من القصة محرف معدول عن الصواب ، والذي تظاهرت به الروايات ونقله أهل السير في هذا الباب من طرق مختلفة ، أن امير المؤمنين عليه السلام لما خطب بالبصرة وأجاب عن مسائل شتى سئل عنها ، واخبر بملاحم وأشياء تكون بالبصرة ، قام اليه عمار بن ياسر رضي الله عنه فقال يا امير المؤمنين ، ان الناس يكثرون في أمر الفئ ويقولون من قاتلنا فهو وماله وولده فئ لنا . وقام رجل من بكر بن وايل يقال له عباد بن قيس ، فقال يا امير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية ولا عدلت في الرعية ، فقال عليه السلام ولم ويحك ؟ قال لانك قسمت ما في العسكر وتركت الاموال والنساء والذرية . فقال امير المؤمنين ( ع ) : يا ايها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن . فقال عباد بن قيس جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات . فقال عليه السلام ان كنت كاذبا فلا اماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف . فقال رجل يا امير المؤمنين ومن غلام ثقيف ؟ فقال رجل لا يدع لله حرمة الا انتهكها . فقال له الرجل أيموت او يقتل ؟ فقال امير المؤمنين عليه السلام بل يقصمه قاصم الجبارين يخترق سريره لكثرة ما يحدث من بطنه ، يا أخا بكر انت امرؤ ضعيف الرأي ، أما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير ، وان الاموال كانت بينهم قبل الفرقة يقسم ما حواه عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم ، فإن عدا علينا احد اخذناه بذنبه ، وان كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره . يا أخا بكر والله لقد حكمت فيكم بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل مكة قسم ما حواه العسكر ، ولم يعرض لما سوى ذلك . وانما اقتفينا اثره حذو النعل بالنعل . يا أخا بكر ، اما علمت ان دار الحرب يحل ما فيها ، ودار الهجرة محرم ما فيها إلا بحق ، مهلا مهلا رحمكم الله فإن انتم انكرتم ذلك علي ، فأيكم يأخذ أمه عايشة بسهمه ؟ قالوا يا امير المؤمنين اصبت واخطأنا وعلمت وجهلنا ، أصاب الله بك الرشاد والسداد .
فاما قول النظام ان هذا اول ما حقدته الشراة عليه فباطل ، لان الشراة ما شكوا قط فيه عليه السلام ولا ارتابوا بشئ من افعاله قبل التحكيم الذي منه دخلت الشبهة عليهم ، وكيف يكون ذلك وهم الناصرون له بصفين والمجاهدون بين يديه والسافكون دماءهم تحت رايته . وحرب صفين كانت بعد الجمل بمدة طويلة فكيف يدعى ان الشك منهم في أمره كان ابتداءه في حرب الجمل لولا ضعف البصائر ؟
في أن الزبير لم يلحق بعلي وهو لم يقتل قاتله
( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه ذكره النظام من أن ابن جرموز لما أتى أمير المؤمنين عليه السلام برأس الزبير وقد قتله بوادي السباع ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما كان ابن صفية بجبان ، ولا لئيم ، لكن الحين ومصارع السوء . فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين . فقال ( ع ) سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار . فخرج ابن جرموز وهو يقول :
أتيت عليا برأس الزبير * وكنت أرجى به الزلفة
فبشر بالنار قبل العيان * فبئس البشارة والتحفة
فقلت له ان قتل الزبير * لولا رضاك من الكلفة
فان ترض ذاك فمنك الرضا * وإلا فدونك لي حلفة
ورب المحلين والمحرمين * ورب الجماعة والالفة
لسيان عندي قتل الزبير * وضرطة عنز بذي الجحفة
قال النظام ، وقد كان يجب على علي عليه السلام أن يقيده بالزبير وكان يجب على الزبير إذ بان أنه على خطأ أن يلحق يعلي فيجاهد معه ( الجواب ) : أنه لا شبهة في أن الواجب على الزبير أن يعدل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أو ينحاز اليه ويبذل نصرته لا سيما ان كان رجوعه على طريق التوبة والانابة . ومن أظهر ما أظهر من المباينة والمحاربة إذا تاب وتبين خطأه يجب عليه أن يظهر ضد ما كان أظهره لا سيما وأمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحال مصاف لعدوه ومحتاج إلى نصرة من هو دون الزبير في الشجاعة والنجدة ، وليس هذا موضع إستقصاء ما يتصل بهذا المعنى وقد ذكرناه في كتابنا الشافي المقدم ذكره .
فأما أمير المؤمنين ، فإنما عدل أن يقيد ابن جرموز بالزبير لاحد أمرين : إن كان ابن جرموز قتله غدرا وبعد أن آمنه وقتله بعد أن ولى مدبرا ، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أمر أصحابه أن لا يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح فلما قتل ابن جرموز مدبرا كان بذلك عاصيا مخالفا لامر إمامه ، فالسبب في أنه لم يقيده به أن أولياء الدم الذين هم أولاد الزبير لم يطالبوا بذلك ولا حكموا فيه وكان أكبرهم والمنظور اليه منهم عبدالله محاربا لامير المؤمنين عليه السلام ، مجاهرا له بالعداوة والمشاقة فقد أبطل بذلك حقه ، لانه لو أراد أن يطالب به لرجع عن الحرب وبايع وسلم ثم طالب بعد ذلك فانتصف له منه .
وإن كان الامر الآخر وهو ان يكون إبن جرموز ما قتل الزبير الا مبارزة من غير غدر ولا أمان تقدم على ما ذهب اليه قوم ، فلا يستحق بذلك قودا ولا مسألة ها هنا في القود .
فإن قيل فعلى هذا الوجه ما معنى بشارته بالنار ؟
قلنا ، المعنى فيها الخبر عن عاقبة أمره ، لان الثواب والعقاب إنما يحصلان على عواقب الاعمال وخواتيمها ، وابن جرموز هذا خرج مع أهل النهروان على أمير المؤمنين عليه السلام ، فقتل هناك . فكان بذلك الخروج من أهل النار لا بقتل الزبير .
فإن قيل : فأي فائدة لاضافة البشارة بالنار إلى قتل الزبير وقتله طاعة وقربة ، وإنما يجب ان تضاف البشارة بالنار إلى ما يستحق به النار
قلنا : عن هذا جوابان :
أحدهما : أنه ( عليه السلام ) أراد التعريف والتنبيه ، وإنما يعرف الانسان بالمشهور من أفعاله ، والظاهر من أوصافه ، وابن جرموز كان غفلا خاملا ، وكان فعله بالزبير من أشهر ما يعرف به مثله وهذا وجه في التعريف صحيح .
والجواب الثاني : ان قتل الزبير اذا كان بإستحقاق على وجه الصواب من أعظم الطاعات وأكبر القربات ، ومن جرى على يده يظن به الفوز بالجنة ، فأراد ( عليه السلام ) أن يعلم الناس أن هذه الطاعة العظيمة التي يكثر ثوابها اذا لم تعقب بما يفسده غير نافعة لهذا القاتل ، وأنه سيأتي من فعله في المستقبل ما يستحق به النار ، فلا تظنوا به لما اتفق على يده من هذه الطاعة خيرا . وهذا يجري مجرى أن يكون لاحدنا صاحب خصيص به خفيف في طاعته مشهور بنصيحته ، فيقول هذا المصحوب بعد برهة من الزمان لمن يريد اطرافه وتعجبه : أو ليس صاحبي فلان الذى كانت له من الحقوق كذا وكذا ، وبلغ من الاختصاص بي إلى منزلة كذا قتلته وأبحت حريمه وسلبت ماله ؟ وان كان ذلك انما استحقه بما تجدد منه في المستقبل ، وانما عرف بالحسن من أعماله على سبيل التعجب وهذا واضح .