عربي
Saturday 21st of December 2024
0
نفر 0

حدود الجاذبة والطاردة (العنف والتسامح) في الإسلام

لقد اقترح البعض أن نتعرّض لبحث الجاذبة والطاردة من وجهة نظر الإسلام، ومن الطبيعي في البحث العلمي أن نقوم في بداية الأمر بتوضيح موضوع البحث ثم فيما بعد نتعرّض للأبحاث التي تدور حول الموضوع، ولذا نبتدئ في هذا البحث ببيان المقصود من الجاذبة والطاردة في الإسلام لننتقل ثانيةً إلى بيان حدودهما.

مفهوم «الجاذبة والطاردة» و«الإسلام»:

الجميع يسمع بمفهوم «الجاذبة والطاردة»، والذي يتبادر إلى الذهن عند سماع هذا الاصطلاح، وخصوصاً ما يتبادر إلى أذهان أساتذة الهندسة، هو المعنى المراد من الجذب والطرد في الطبيعيات والفيزياء، وهو القانون العام للجاذبية (قانون نيوتن) في الفيزياء، وأما مثال ذلك في الطبيعيات فهو القوّة الفارّة عن المركز، أو تلك الطاردة الموجودة بين قطبي المغناطيس، فيما لو وضعنا القطب الزائد قرب قطب زائد آخر.

ولكن عندما يدخل هذا المفهوم في أبحاث العلوم الاجتماعية والإنسانية سيحصل له تغييرات، ولم يعد المقصود منه الجذب والطرد الفيزيائي والمادي، بل يكون المقصود هو الجذب والطرد النفسي والمعنوي، ومعنى ذلك أنّه عندما يشعر الشخص بوجود عامل يشدّه إليه، وسيميل صوبه ولو أمكنه لاتحد معه، أو على العكس فإنه يوجد بعض الأشياء لا يحبّ الشخص أن يقترب منها، بل يحبّ الابتعاد عنها قدر الإمكان لما فيها من المنفرّية؛ وقد يكون عامل الجذب والطرد النفسي والروحي هذا أمراً مادياً أو شخصاً معيناً أو فكرة أو عقيدة. فنرى أحيانا منظرا طبيعيا جميلا جدا يجذبنا نحوه بصورة لا شعورية، وإن لم نقترب منه بأجسادنا المادية إلا أنّه يسلب منّا جميع حواسنا وانتباهنا فنتيه في النظر إليه، وقد نسمع أحيانا صوتا مزعجا أو نرى منظرا مرعبا فنبتعد عنه بأسرع وقت ممكن.

ووجود جاذبية في شخصية معينة هي أنّ هذه الشخصية ـ غير ما تمتلكه من خصائص جسمية وظاهرية ـ تتصف ببعض الملكات الأخلاقية والروحية تجذب الآخرين إليها وتجعلهم يتعلقون بها، والجميع ينشرح صدره من أولئك الأشخاص المؤدّبين الطاهرين الذين لا يعاشرون الناس إلا بالمحبة والحنان ولا يقابلونهم إلا بالبشاشة والابتسامة، والجميع يحبّ أن يعاشرهم ويقترب منهم؛ والدافعة في الشخصية على عكس ذلك تماما بأنّ تكون هذه الشخصية تتصف ببعض الرذائل تؤديّ لتنفرّ الناس منها والابتعاد عنها قدر الإمكان.

ولا بدّ من ملاحظة هذه النكتة، وهي أننا عندما نبحث عن الجاذبة والطاردة في الشخصيات والأفراد علينا أن نعلم أنّ المسألة تابعة للثقافة والقيم، بمعنى أنّه من الممكن أن نجد بعض الخصائص مرغوب فيها في مجتمع وثقافة معينة ويكون لها قيمة إيجابية، ولكنها نفسها في مجتمع آخر وثقافة أُخرى لا يكون مرغوباً فيها، بل مرغوباً عنها وتحمل قيمة سلبية، ومن الواضح أن الشخصية، التي تتصف بهذه الخصائص ستكون محبوبةً في المجتمع الأوّل ولها جاذبية أيضاً، وبينما هي نفسها في المجتمع الثاني ستكون شخصية عادية بل منبوذة أيضاً. وعليه فجاذبية الشخصية أو دافعيّتها أمر يتعلق بالنظام القيمي والثقافة الحاكمة في المجتمع وهي تختلف من مجتمع إلى آخر، وهذه مسألة تحتاج إلى بحث مستقل لسنا بصدد التعرض إليه.

إلى الآن يمكن القول بأننا بيّنا مفهوم الجاذبة والطاردة، ولكن يبقى علينا أن نبيّن المراد من (الإسلام) في عنوان البحث.

والإسلام بنظرنا عبارة عن مجموعة من التصديقات والقيم والأحكام، فيشمل المسائل الإعتقادية والقيمية والقوانين الفردية والإجماعية، وعندما نقول إنّ الإسلام هكذا فنحن نقصد من الإسلام مجموع هذه التصديقات والقيم والأحكام. وفي هذا البحث عندما نقول الجاذبة والطاردة في الإسلام فنقصد الجاذبة والطاردة الموجودة في الأُصول والمباني الاعتقادية، والأُصول والمباني القيمية، والقوانين والمقررات الإسلامية. فنعني بجاذبية الإسلام في قسم العقائد أنّ العقائد الإسلامية موافقة للفطرة الإنسانية الباحثة عن الحقيقة، بمعنى أن العقائد الإسلاميّة بما أنّها مبتنية على أساس الحقائق الوجودية، والإنسان بفطرته طالب للحقيقة وباحث عنها، ستكون هذه العقائد موافقة للفطرة وجاذبة لها، ولكن لا نريد التعرض للجاذبة والطاردة في مجال العقائد الإسلامية، وإنما المهم هنا أن نتعرّض للجاذبة والطاردة المتعلقة بالقيم والأحكام الإسلاميّة، وبالخصوص تلك المتعلقة بالقوانين والأحكام التكليفية، والسؤال الذي نودّ التعرّض إليه هو: هل أنّ مجموعة القيم والأحكام الإسلاميّة جاذبة للإنسان أو دافعة له؟

هل يمكن تصوّر الطاردة في الإسلام؟

ومن الممكن أن يخطر في الذهن هذا السؤال، وهو أنّه إذا كانت مجموعة المعارف الإسلاميّة منظمة على أساس الفطرة الإنسانية، وهذا بمعنى أنّها جاذبة للإنسان، فكيف يتصوّر وجود دافعة للإنسان في هذه المعارف؟

والجواب على هذا السؤال هو: أن الإنسان كما أنّه طالب للحقيقة ومريد للكمال ومحبّ للجمال بفطرته، كذلك هناك مجموعة من الأُمور الغريزية والفطرية الأُخرى موجودة فيه، وفي كثير من الأحيان يحصل التعارض والتزاحم بين هذه الأُمور الفطرية والغريزية، ولكي يتّضح البحث أكثر ولا يحصل فيه بعض الالتباسات بسبب الاصطلاحات سنطلق اسم >الغريزة< على الرغبات الحيوانية والمادية للإنسان، وأما سائر الرغبات فنطلق عليها اسم >الفطرة<، وبعد ذلك نقول إنّه كثيراً ما يحصل التنافي وعدم الانسجام بين الغريزة والفطرة، حيث إنّ الغريزة لا يهمها إلا إشباع رغباتها فقط ولا تعرف معنى العدالة والرحمة والإنصاف، والبطن الخاوية لا تعرف إلا الطعام والخبز ولا تفرق بين حلاله وحرامه وبين أنّه ملك لها أو غصب أو غير ذلك، وكلّ همّها الشبع فحسب. وطبيعة الإنسان الطالبة للرفاهية، تسعى خلف المال وتأمين الاحتياجات لتحصيل تلك الرفاهية المطلوبة، ولكن لا يهمّها من أين تحصل على المال، من الحلال أو من الحرام، من طريق العدل والإنصاف، أو من طريق الظلم والاعتداء؛ وأما فطرة الإنسان فهي تطلب الإنصاف وتوافق العدالة والأمانة ولا ترضى بالظلم والخيانة، ولو غضضنا الطرف عن فطرة طلب العدالة وترك الظلم، فإننا نلاحظ أحياناً أنّ إرضاء الغرائز المادية والحاجات الجسمية وإشباعها والوصول إلى اللذائذ الحيوانية لا يحصل إلا عن طريق الظلم والخيانة، وعلى هذا فإذا كان الإنسان فعلاً طالباً لكماله الحقيقي والإنساني فسيضطر إلى ترك اللذائذ من أكل وشرب ولباس ونظر وسماع وغيره، وبالتالي سيكون مقيّداً ببعض القيود، والإسلام الذي يريد أن يوصل الإنسان إلى كماله الحقيقي يحكم في هكذا موارد بتقديم جانب الفطرة وتحديد الغرائز وتقييد اللذائذ المادية والحيوانية، وستكون الأحكام الإسلاميّة في هذه المجالات غير جاذبة للأشخاص الذين لم يمسكوا لجام غرائزهم وغلبت غرائزهم الحيوانية على فطرتهم الإنسانية، بل قد تكون هذه الأحكام دافعة لهم عن الإسلام، والإسلام يحتوي على سلسلة من القوانين والأحكام موافقة للغريزة وللفطرة أيضاً نحو {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ }([1])، أو نحو {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}([2]) وهكذا أحكام لا تواجه مشكلة مع أحد، وأما السلسلة الثانية من الأحكام الإسلاميّة المجعولة للحدّ من الغرائز الحيوانية عندما تتعارض أو تتزاحم مع الفطرة الإنسانية نحو: لا تشربوا الخمر، ولا تأكلوا لحم الخنزير و... فإنّ هذه الأحكام لا تجذب جميع أفراد الإنسان، بل هناك مَن لا تعجبه هذه الأحكام فتكون دافعة له عن الإسلام.

مثال تاريخي عن طارديّة أحكام الإسلام:

لا بأس بذكر المثال التاريخي عن طارديّة أحكام الإسلام لبعض الأفراد وهو: قصة نصارى نجران عندما تغلّب عليهم الرسول الأكرم | في المناظرة والبحث العلمي في عقائدهم وفي باب التوحيد بالذات، ولكن نلاحظ أنّ نصارى نجران لم يقبلوا بالإسلام فدعاهم الرسول للمباهلة، وعندما قبلوا الدعوة وجاء الرسول في اليوم الثاني مع أحبّ الخلق إليه وأعزّهم لديه، مع ابنته فاطمة وزوجها علي وابنيهما الحسن والحسين ـ عليهم جميعاً سلام الله ـ مستعدين للمباهلة، ولكن عندما وقعت أبصار علماء النصارى على أنوار هذه الوجوه الطيبة قالوا: إنّ مَن يباهل هؤلاء الخمسة لن يكون نصيبه إلا اللعن والعذاب في الدنيا والخزي والويل في الآخرة، ولذا لم يباهلوا الرسول كما أنهم لم يقبلوا بالإسلام أيضاً، وأصرّوا على مسيحيتهم بعد قبولهم لدفع الجزية. وعندما سأل أصحاب الرسول عن السبب في عدم دخولهم الإسلام، أجاب | بأنهم تعودوا على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وهذا ما حرّمه الإسلام على الجميع.

فهذا مثال تاريخي عن جماعة ثبت لهم بالدليل أنّ الإسلام هو الدين الحق، ولكن بعض الأحكام الإسلاميّة كانت دافعة لهم عن دخولهم في هذا الدين القويم. وهذا يعني حصول تعارض وتناف عندهم بين فطرتهم الإنسانية وغرائزهم الحيوانية، فقاموا بترجيح وتقديم الغرائز الحيوانية، وهذا الأمر ليس خاصا بنصارى نجران بل هو شامل لكلّ من لم يربِّ نفسه تربية إلهية وما زال تحت سيطرة الغرائز والشهوات الحيوانية.

والإسلام يصدر مجموعة من الأحكام والقوانين التي تحددّ وتقيّد بالجملة الغرائز والعلائق المادية، وبالتالي ستكون هذه الأحكام دافعة لتلك الطائفة من الناس، والأمر ليس بسهل ولا يتلاءم مع الغرائز والميول الحيوانية أبداً، عندما يصدر الإسلام حكمه بالصوم من الفجر إلى الغروب، وعدم جواز الشرب والأكل وغيره من المفطرات ويصادف ذلك في أيام الصيف الحار، وبالخصوص لمن كان عمله شاقاً ومتعباً، طبعاً هناك بعض الأشخاص يعملون تحت حرارة الشمس وقرب النار وغيره من الأعمال الصعبة ومع ذلك كلّه يمتثلون حكم الله ويصومون قربةً وحبّاً لله.

وأما قانون الخُمس في الإسلام، فمن الممكن لي ولأمثالي الذين لا يتقاضون الأموال الكثيرة أن ندفع الخمس المتعلق بها، ولكن ذلك الشخص الذي يمتلك الأموال الطائلة والحسابات الضخمة فسوف يواجه مشكلة عند دفع الخمس، ولا أظنّ الأمر سهلاً أبداً أن يدفع ملايين من الأموال للحاكم الشرعي تلبية لحكم الخمس الإلهي، والنماذج كثيرة في صدر الإسلام عن الأشخاص الذين تركوا الإسلام وحاربوا الرسول | ووقفوا مقابله لأجل حكم الزكاة، وعندما كان يصلهم رسول النبي | لأخذ الأموال والخمس والزكاة منهم كانوا يقولون: لقد صار الرسول يأخذ الجزية، نحن لا نعطي الجزية لأحد. فلاحظوا كيف صار هذا الحكم الإسلامي دافعاً لهم وباعثاً على ترك الإسلام، بل وعلى القيام لمحاربة خليفة المسلمين؟

وأما قانون وحكم الإسلام بالجهاد، فمن الواضح جداً أن لا يكون له جاذبية عند أغلب الناس، ففي الحرب والجهاد لا يوجد الطعام اللذيذ والفاكهة الطيبة، بل هناك احتمال الموت أو العمى أو قطع اليد أو الرجل أو الأسر أو آلاف الأهوال الأُخرى، ولا يقدر كثير من الناس على تحمل هذه الأهوال وتلبية نداء الجهاد، وذلك يعني أن هذا الحكم ليس فيه الجاذبة لهم؛ نعم هناك مجاهدون يلبون نداء هذا الحكم حبّاً لله ولا يعبَؤون أبداً بكلّ هذه الأهوال والاحتمالات، ولكن لا يعني ذلك عدم دافعيه حكم الجهاد لأُناسٍ آخرين.

وخلاصة الجواب عن سؤال: هل أنّ أحكام الإسلام وقوانينه جاذبة أو دافعة، هو: أنّ بعض الأحكام والقوانين الإسلاميّة قد يكون جاذباً بالنسبة لنوع من الناس ولأشخاصٍ عاديين، وقد يكون بعضها طارداً أيضاًً.

حكم الإسلام بالنسبة للجاذبة والطاردة في السلوك:

وأما مسألة كيف ينبغي أن يكون سلوك المسلمين فيما بينهم، وكيف ينبغي أن يكون تعاطيهم مع الآخرين؟ فالجواب هو: أنّ الإسلام يسعى لإيجاد الجاذبة، والإسلام يريد أن يوصل الإنسان والمجتمع إلى الكمال والسعادة، فلذا يحاول أن يصيغ سلوك المجتمع الإسلامي بشكل يجذب فيه كلّ من هو خارج هذا المجتمع، فيروا سلوك المسلمين فيسألوا عن الإسلام وبالتالي تتمّ هدايتهم بذلك، وإلا إذا ابتعد الناس عن المجتمع الإسلامي، فلا يمكن تبليغ الإسلام لهم وعليه لا يحصل مراد وهدف الإسلام وهو هداية الناس إلى سواء السبيل، وعلى هذا فالأصل هو أن يتعامل المسلمين فيما بينهم بأُسلوب يبعث إلى الجاذبة فيما بينهم وإلى المحبة والترابط وأن يكون لهم جاذبية لغير المسلمين لكي يستطيعوا أن يبلّغوهم الإسلام ويهدوهم إلى الحق، هذا هو الأصل في الإسلام ولكن لا يعني ذلك أنّ هذا السلوك الجاذب لا بدّ  أن يكون دائمياً وبشكل مطلق وفي كلّ الظروف والأحوال،  بل لا بدّ من الاستفادة من الأُسلوب الدافع في بعض الموارد. وأما إثبات ذلك وتوضيحه فنحن نذكر بعض المطالب ونترك الباقي إلى البحث القادم.

نماذج للسلوك الإسلامي الجاذب:

يؤكّد الإسلام كثيراً على رعاية العدل والإنصاف والإحسان، وعلى خدمة الآخرين وإدخال السرور إلى قلوبهم، ومن أكبر العبادات الإسلاميّة أن تسرّ الآخرين وتذهب عنهم الغمّ والهم، وقد ورد في بعض الروايات أن مسرّة المؤمن وإبعاد الغمّ عنه أفضل من عبادة سنين، حتى ولو كان ذلك العمل مجرّد قول أو سلوك وُدّي يبعث في نفسه الهدوء النفسي والأمل، والروايات التي تذكر الثواب الكثير لمن يبتسم في وجه المؤمن أو يصافحه أو يحضنه، أو يعوده عند المرض، أو يقوم بمساعدته وقضاء حوائجه مما يبعث على الألفة والمحبّة (أحكام جاذبة) بين المسلمين كثيرة جداً، ولم يكتفِ الإسلام بذلك فحسب بل أوصى وأكّد على أن تُتَّبع هذه التعاليم والأحكام مع غير المسلمين أيضاً، فالإسلام يقول إن هناك حقاً للجار حتى ولو كان كافراً، وهناك حقاً لرفيق السفر حتى ولو كان كافراً، فتُشيّعه وتسير معه عدة خطوات تودّعه فيها عند مفترق الطرق بينك وبينه، والإسلام يأمر برعاية العدل والقسط مع جميع الناس حتى الكافر ولا يسمح بظلمه أبداً {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}([3]) ولم يكتفِ بالعدل مع الكفار فقط بل أمر بالإحسان إليهم الذي هو بمرتبة أعلى من العدل: {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}([4])، وفي بعض الموارد ترقى الحكم الإسلامي إلى درجة أعلى بكثير بحق الكفار، وأمر بإعطاء قسماً من الأموال الشرعية للكفّار المجاورين للبلد الإسلامي لعلهم يميلون إلى الإسلام وينجذبون إليه([5])، ولا يعني أنّه من جرّاء هذا العمل سيوف يدخلون الإسلام، وإنما يكفي ذلك المقدار من التعامل الحسن من المسلمين وإيجاد العلاقة والمحبّة معهم، لعله يؤدي رويداً رويداً إلى اقترابهم من المسلمين وأُنسهم بهم ومشاهدة أعمال وسلوك وحياة المسلمين وسماع كلامهم، ولا يبعد أن يتأثروا بذلك فيهتدوا ويصبحوا مسلمين، والتاريخ يذكر لنا عددا ممّن دخل الإسلام جرّاء اتصاله بالمسلمين وسماعه منطق الإسلام ومشاهدة سلوك اتباعه. وعلى كلّ حال، كانت هذه نماذج للتعاليم والأحكام الإسلاميّة التي شرعت لأجل الجاذبة.

هل يوصي الإسلام دائماً باتباع سياسة الجاذبة في السلوك؟

من الضروري جداً أن نعلم أنّ هذه السياسة الهادفة إلى إيجاد الجاذبة بين المسلمين أنفسهم ومع غيرهم أيضاً ليست كلية وعلى إطلاقها، وإنما يقوم مقامها في بعض الموارد السياسة الطاردة؛ والإحسان والمحبّة في بعض الأحيان لا يهدون الشخص ولا يوصلونه إلى رشده المعنوي وتكامله الروحي بل قد يشكلان سدّاً مانعاً عن الوصول إلى ذلك، فقد تطغى على الإنسان الغرائز الحيوانية والشهوات المادية، أو أنّه يقع تحت تأثير بعض العوامل الاجتماعية والتربية المنزلية وغيرها من العوامل التي تجعله يظلم ويبطش ويفسد في الأرض، وإذا لم نمنعه عن أفعاله القبيحة هذه سيغرق أكثر وأكثر في مستنقعات الفساد والانحراف، وسيخسر الدنيا والآخرة، وسيؤدي أيضاً إلى أذيّة الآخرين وتضييع حقوقهم، وفي هكذا حال ـ ولصلاح المجتمع وصلاحه هو ـ لا بدّ من تأديبه وتنبيهه ليقف عن ظلمة وفساده، ويرجع إلى طريق الخير والصلاح، وهذا يعني أن في باطن هذا التأديب رحمة من أن يسقط في الضلال أكثر، ولئّلا تسري أعماله إلى الآخرين، وإن كان ظاهر الغرامة المالية أو الجَلد أو الحبس أو الإعدام أو غيره من القِصاص باعثاً على انزعاج هذا الشخص وتذمره من حكم القِصاص. وعلى هذا نخلص إلى أنّ الإسلام يدعو في بعض الموارد والشرائط الخاصة إلى القساوة والخشونة والسياسة الطاردة ولا يوصي باستعمال السياسة الجاذبة دائماً وفي كلّ الموارد.

خلاصة البحث:

تبيّن في البحث عن الجاذبة والطاردة في الإسلام تعريف كلّ من «الجاذبة والطاردة» و«الإسلام»، وقلنا: إن الجاذبة والطاردة قد تتعلق بشيء معين أو شخص كذلك أو فكر أو عقيدة، وقلنا: إنّ الإسلام عبارة عن مجموعة من القيم والعقائد والأحكام، وكلّ من هذه المجالات ترتبط بالجاذبة والطاردة في الإسلام.

وقد صببنا البحث على خصوص الجاذبة والطاردة المتعلقة بدائرة القيم والأحكام دون العقائد، وفي هذا المجال قلنا إنّ في الإسلام أحكاماً يطلبها نوع الناس ويرغب فيها، كما أنّ فيه أحكاماً أيضاً لا يرغب فيها كثير من الناس، والمجموعة الأُولى تكون جاذبة وأما المجموعة الثانية فتكون طاردة.

ومن أمثلة المجموعة الأُولى: الأمر بالتعطر واستعمال السواك، وبالنظافة والطهارة وحسن المعاشرة والأمانة والعدالة والإحسان.

ومن أمثلة المجموعة الثانية: الأمر بالجهاد وتأدية الزكاة والخمس والصوم وبعض الأحكام التي تكون طاردة لأفراد الناس ونوعهم.

ثم تعرضنا لسؤال مهم وأنه ما هو حكم الإسلام بالنسبة لسلوك المسلمين وتعاطيهم مع الآخرين؟ وهل يوصيهم بأنّ يكون تعاطيهم دائماً مبنياً على أساس من المحبّة والعشرة الحسنة ويستفيدوا من السياسة الجاذبة، أو أنّه أوصى باستعمال القساوة والعنف والاستفادة من السياسة الطاردة في بعض الأحيان؟ وقلنا في الجواب: إنّ الإسلام أوصى باستعمال السياستين معاً، رغم أن الموارد التي يجب اتّباع السياسة الطاردة فيها قليلة جداً، لكن مع ذلك هي موجودة في التعاليم الإسلامية، وسنذكر إن شاء الله تعالى نماذجَ لهذه السياسة في البحث القادم.



*  يستعمل الشيخ المصباح (حفظه الله) في هذه المحاضرة والمحاضرات اللاحقة اصطلاح (مدارا وخشونت)، وهذا الاصطلاح يترجم إلى العربية بالعنف والتسامح، لكن بما أنه يركّز في بعض الأحيان على خصوص لفظ الخشونة ومادة خشن لم نجد بُدّاً من استعمال نفس الاصطلاح الفارسي مع محاولة دمجه بالاصطلاح العربي، فعبّرنا أحياناً بالخشونة، وأخرى بالعنف، وثالثة بهما معاً.(المترجم). 

[1] ) سورة الأعراف:31.

[2] ) سورة الأعراف: 160.

[3] ) سورة المائدة: 8.

[4] ) سورة الممتحنة: 8.

[5] ) سورة التوبة: 60.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العدل في القرآن الكريم
واقعة الغدير و أهميتها (1)
ثالث النواب الأربعة الحسين بن روح النوبختي
برامج الرعاية الاجتماعية في ضوء مقاصد الشريعة
بَينَ يَدَيّ الخِطاب العظيم لِسَيّدَةِ نِسَاءِ ...
أين يقع غدير خُمّ؟
الملكية ووظيفتها الاجتماعية في الفقه الإسلامي
العلاقة بين القضاء والقدر، وإختيار الإنسان
جهاد النفس في فكر الإمام الخميني (قدس سره)
وصايا رمضانية ( ضرورة صلة الرحم)

 
user comment