المواجهة مع شخصية علي D:
اُولى خطوة خطاها معاوية في هذا الطريق هي أمره بسبّ الإمام D، ولما اكتشف أن هذا الإجراء لا يكفي لتحقيق مأربه قرر تزوير أحاديث عن الرسول 9 فيها من المناقب والفضائل لغير عليٍّ D وإشاعتها في صفوف العامة لتُزاحم تلك الأحاديث الشريفة المروية عن رسول الله 9 في حق علي D. من هذه النقطة تحديداً يبدأ التحول وتُحاط المرحلة الاُولى وأفرادها بهالة من القداسة، وتُختلق الأحاديث في مدح الصحابة وعصر الصحابة والخلفاء الثلاثة والخلفاء الراشدين والعشرة المبشَّرة وزوجات الرسول 9 والشخصيات المهمة في عصر الصدر الأول، لتحتلّ هذه الأحاديث مكانها في أذهان عامة الناس وحتى العلماء والمحدثين وتترسخ فيها حتى تصبح كأنها من المسلَّمات التي لا يدخل إليها الشك؛ لانعدام أرضية مثل هذا الشك، وتعززت هذه المعتقدات في الفترات المتعاقبة لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقاً.
ولابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة فصل تحت عنوان "ذكر بعض ما مُني به آل البيت من الأذى والاضطهاد" ينقل فيه حديثاً مفصّلاً عن الإمام الباقر D يبين فيه جانباً مما جرى على أئمة الشيعة وأنصارهم: «... ثم لم نزل (أهل البيت) نُستذلّ ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله وما لم نفعله، ليبغضونا إلى الناس، وكان عُظم ذلك وكُبره زمن معاوية بعد موت الحسن D «.([1])
بعد نقله لهذا الحديث يورد فقرة جاءت في كتاب المدائني المهم "الأحداث"، نسجل هنا جزءاً منه لأهميته: «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة؛ لكثرة من بها من شيعة علي D، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف؛ لأنه كان منهم أيام علي D، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسَمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبقَ بها معروف منهم.
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا مَن قَبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي؛ فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.
ثم كتب إلى عماله: أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة؛ فإن هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، واُلقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه عن الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة اُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به، واهدموا داره... فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان؛ فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها، ولا تدينوا بها».([2])
ثم يذكر ابن أبي الحديد الجملة التالية عن ابن نفطويه وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم:
«إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني اُمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يُرغمون به اُنوف بني هاشم»([3]).
حقيقة الأمر أن معاوية ومن بعده من بني اُمية توسّلوا بهذا الاُسلوب لأسباب عديدة، فلترسيخ مكانتهم وإثبات مشروعيتهم وإبعاد أكبر منافسيهم بنو هاشم وعلى رأسهم الأئمة المعصومين، اضطروا للظهور بمظهر الوريث الشرعي والقانوني لعثمان واتهام عليٍّ D بدمه، ولهذا أخذ شعراؤهم وخطباؤهم يكيلون المديح لعثمان ويذكرون فضائله ويؤكدون على أنه قتل بريئاً، وأنّ الاُمويين هم أولياء دمه وورثته الحقيقيون الذين وصلتهم الخلافة بطريقه.([4])
يقول غولدتسيهر بهذا الشأن: «تاريخياً، من المسلّم به تقريباً أن الاُمويين كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم خلفاء عثمان الشرعيين والقانونيين، وعادوا علياً D وشيعته تحت عنوان طلب الثأر لدم عثمان. وكان عثمان يمثّل شعار الاُمويين ضد علي D والعلويين، ولهذا كان العثماني لقباً يطلق على الموالين بشدة لبني اُمية».([5])
في ظل ذلك حظي عثمان بمنـزلة رفيعة حصنته من أية انتقادات يمكن أن توجّه إليه، الأمر الذي يحمل في طيّاته عدة نتائج مهمة:
أولاً: لم يعد يفكر أحد بسبب مقتل عثمان ومن الذي قتله وبأية تهمة، وأصبحت الفضائل التي قيلت فيه بمثابة ستاراً سميكاً يحجب شخصيته الحقيقية وسلوكه وأعماله.
ثانياً: رُسمت لعثمان صورة الشخص الذي كان مع الحق إلى آخر لحظة في حياته واستشهد مظلوماً، وقتلته هم اُناس لا دين لهم، واستطاعوا إقناع الناس بأن لعلي D يداً مؤثّرة في الحادث.
ثالثاً: لابدّ أن يُؤخذ بثأر المقتول ظلماً وعدواناً، ومن هم أحق من معاوية والاُمويين للأخذ بالثأر؟ فمعاوية ولي دم المقتول ولابدّ أن ينهض للانتقام ويستخلف المقتول. وعن هذا الطريق تتخذ خلافة معاوية صيغة الخلافة المشروعة وكذلك معارضته لعليٍّ D وقتاله له. وكانت هذه الطريقة من الاستدلال مقبولة في تلك الفترة القريبة من العهد الجاهلي، وكان الاُمويون لا يتورّعون عن إحياء السنن الجاهلية، ومنها قانون الثأر الذي يبيح في العرف الجاهلي لورثة المقتول الانتقام من القاتل، فقد كان المطلوب الأخذ بالثأر دون مراعاة أية مبادئ وحدود اُخرى.([6])
إنّ أفضل ما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه: قصة تنظيم الاتفاق في قضية التحكيم في حرب صفّين بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، وهو مثال احتذى به فيما بعد معاوية وسائر خلفاء بني اُمية. فبعد مداولات طويلة بين الاثنين طلب عمرو بن العاص من أبي موسى أن يسجّل الكاتب – وكان غلاماً لعمرو– ما اتفقا عليه. فبعد الشهادة بوحدانية الله ونبوة الرسول 9 وحقانية الخليفة الأول والثاني قال عمرو لغلامه اكتب: «إنّ عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع المسلمين وشورى من أصحاب رسول الله 9 ورضاً منهم، وإنّه كان مؤمناً.
فقال أبو موسى الأشعري: ليس هذا مما قعدنا له.
قال عمرو: والله لابدّ من أن يكون مؤمناً أو كافراً.
فقال أبو موسى: كان مؤمناً.
قال عمرو: فظالماً قتل عثمان أو مظلوماً؟
قال أبو موسى: بل قتل مظلوماً.
قال عمرو: أفليس قد جعل الله لولي المظلوم سلطاناً يطلب بدمه؟!
قال أبو موسى: نعم.
قال عمرو: فهل تعلم لعثمان ولياً أولى من معاوية؟
قال أبو موسى: لا.
قال عمرو: أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتله أو يعجز عنه؟
قال أبو موسى: بلى.
قال عمرو: فإنّا نقيم البينة أن علياً قتل عثمان».([7])
كل هذا كُتب كجزء من الاتفاق.
ما ذكرناه بيّن بعض الظروف التي رافقت تزوير الأحاديث لصالح عثمان والخليفة الأول والثاني وصحابة الرسول 9، فقد كان معاوية ولتنفيذ مآربه مضطراً لرفع شأن عثمان، ولهذا أمر بعد استقرار الخلافة له مباشرة بافتعال الأحاديث في هذا الاتجاه كما يقول المدائني. لكن معاوية واجه مشكلة، خلاصتها: أنه لا يستطيع أن يسبغ على عثمان هذه المنـزلة دون غيره ويحددها به؛ لأنه كان من الصعب على الناس التي عاصرت الخلفاء الثلاثة أن تهضم هذه الحالة التي تميز عثمان عن غيره من الخلفاء والصحابة المعروفين بهذه المنـزلة، الأمر الذي يثير جملة من الشكوك لدى تلك الطائفة من الناس حول صحة هذه الأحاديث والفضائل المنسوبة لعثمان. لذا اضطر معاوية إلى رفع شأن الآخرين إلى جانب عثمان.
فضلاً عن ذلك فإن إجراء كهذا يمكنه أن يُسفر عن نتائج اُخرى تصبّ في صالح معاوية، أهمها: أن إبراز الصحابة يساعد على ضمور أبرز الوجوه([8]). ويضمر معاوية في إصراره على ذكر فضائل للصحابة تماثل الفضائل التي ذكرتها الروايات في "أبي تراب"، هدفاً يبتغي من ورائه التعتيم على شخصية عليٍّ D، ولهذا قالها بكل صراحة بأنه يحبها وتقرّ عيناه بها؛ لأنها تبطل دلائل أبي تراب وشيعته. وقد حقق معاوية هدفه لأسباب سنشير إليها لاحقاً.
على أية حال فقد علا شأن الآخرين أيضاً إلى مستوىً يقترب أحياناً من مستوى الرسول 9([9])، واُحيط تاريخ الصدر الأول بهالة من القداسة والمنـزلة الرفيعة حتى بلغت قيمته قيمة الإسلام نفسه، وأصبح توأمه بحيث لا يمكن فهم الإسلام دون العودة إلى هذا التاريخ والاهتمام به.
بهذا أصبح التنافس السياسي المصدر الأساس لتحوّل كبير في فهم الدين، بمعنى فهم الدين من منظار مرحلة الصدر الأول، أي مرحلة الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين ولا سيما مرحلة الخلفاء الراشدين والصحابة. ورغم وجود عوامل مؤثرة كثيرة أدت إلى هذا التحوّل، إلا أن أهمها وأكثرها تأثيراً إجراءات معاوية للحطّ من شخصية علي بن أبي طالب D.
لم يبق شيء من التزوير الذي لُفّق في قدح عليٍّ D وذمّه، ولم يكن بمقدوره أن يبقى ويستمر رغم بعض التأثير الذي تركه لاسيما في القرون الاُولى، إلا أن الذي كتب له البقاء هو التزوير في رفع شأن الآخرين لمساواتهم بالإمام، وأصبح عقيدة مجمعاً عليها، وهذا – كما أشرنا سابقاً – هو أحد الفروق الأساسية بين الشيعة والسنّة في فهم الإسلام، فعلى العكس من الشيعة لقيت إجراءات معاوية لدى أهل السنّة قبولاً عن وعي أو دون وعي، ولهذا أخذوا ينظرون إلى الإسلام بمنظار تاريخ الصدر الأول، بينما بات الشيعة ينظرون إلى تاريخ الصدر الأول من نافذة المبادئ والمعايير الإسلامية([10]).
وقد جرت فيما بعد محاولات لتغيير هذه النظرة على يد المعتزلة من خلال التحليلات والنقد التاريخي، إلا أنه كان تياراً عابراً لم يكتب له الاستمرار؛ لأسباب عديدة، أهمها: أنهم دخلوا الميدان في وقت كانت العقائد الدينية للناس قد تبلورت، إذ أنهم حاولوا إصلاح عقائد تغلغلت في نفوس الناس وتكوّنت على أساسها شخصياتهم فحالفهم الفشل. أمّا لو كان دخولهم إلى الميدان قد سبق تلك الفترة فلربما كان حظّهم أوفر في النجاح([11]).
كما قلنا فإن النواة المركزية في الاعتقادات الدينية لأهل السنّة في تلك البرهة وما بعدها هي هذه النظرة المقرونة بالقداسة للصدر الإسلامي الأول([12])، فلو تلاشت هذه النواة لانتهى بنيانهم الاعتقادي، ولهذا لم يكن بمقدور المعتزلة ولا غيرهم مواجهة هذا المعتقد، ولم يكن الكلام يدور حول الرأي الصائب والرأي الخاطئ، فقد تبلورت أذهان شريحة واسعة من المجتمع وعددٍ يُعتدّ به من الفقهاء والمحدّثين على هذه الطريقة، فيما كانت الحاجة قائمة إلى هذا الطور من التفكير؛ لأن زواله يعني انهيار شخصياتهم من الداخل فضلاً عن انهيار إيمانهم بسبب غياب عقيدة اُخرى تحلّ محلّها. فقبول نظريات المعتزلة كان يعني تفتيت كل البنية الاعتقادية لأهل السنّة، دون أن يحلّ البديل؛ ذلك أن المعتزلة لم يكونوا في موضع الثقة والاعتماد، كما أن كلامهم لم يكن بتلك الدرجة من الصراحة التي تجعله سائغاً قابلاً للفهم، خاصة وأنهم يفتقدون إلى مذهب مدوّن ثابت، ولكلٍّ منهم نظرة متباينة عن الآخر([13]).
الملاحظة الاُخرى التي يجب أن نضيفها هنا هي: أن كلّ إنسان مؤمن ومعتقد بعقيدة خاصة سواء كان مسلماً أو غير مسلم يتخذ جانب الحيطة والحذر فيما يتعلق بعقائده؛ لأن هذا الموقف هو ضرورة من ضرورات الالتزام بالدين ونتيجته، فإنما يتمسك الإنسان بالدين ويتحمل ضوابطه لنيل الفلاح الاُخروي، وطالما كان الأصل هو النجاة والفلاح فإنه يفضّل الإيمان على العقل لدى تخييره بينهما، كما أن المسألة ليست في تضاد هذين الاثنين أو عدم تضادهما، وإنما هي مسألة كشف خصائص ذهن إنسان مؤمن وتفكيره وموقفه، فحينما يخيَّر بين عقيدتين ويرى إحداهما موافقة لموازين الشرع لأسباب معينة والاُخرى منسجمة مع موازين العقل فإنه يرجّح الاُولى على الثانية، والاحتياط الشرعي في مثل هذه الحالات لا يستسلم أمام الدقة العقلية أبداً([14]).
وقد واجه المعتزلة مثل هذه المشكلة، وهي مشكلة يواجهها اليوم الكثير من المصلحين، وتُعدّ العامل المهم في الميل لاتخاذ المواقف المحافظة لدى الحركات التقدمية الإصلاحية الدينية، فرغم تفوّق عقائدهم على عقائد منافسيهم عقلاً ومنطقاً، وأكثر موافقة لموازين الشرع على الظاهر إلا أنهم خسروا الجولة أمامهم لسوء الظن بهم والناشئ عن حالة اللا اُبالية لدى بعضهم، وعدم توافق آرائهم مع التراث المتبقي ممن يعتبرهم الجمهور سلفاً صالحاً. ومن المناسب أن ننقل هنا عن ابن أبي الحديد بعض آرائهم حول الصحابة:
«... في كلامهم (المعتزلة) ما يدلّ دلالة واضحة على أنهم وضعوا الصحابة والتابعين موضع الناس، يخطئون ويصيبون، ويصدر منهم ما يمدح وما يذم، ولم يتحرجوا من ذلك كما تحرج غيرهم، فوضعوا الصحابة وكبار التابعين في دائرة لا يستباح مهاجمتها. بل قالوا: إنّا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم بعضاً، بل ويلعن بعضهم بعضاً، ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنـزلة التي لا يصح فيها نقد ولا لعن لعلمت ذلك من حال نفسها؛ لأنهم أعرف بمحلّهم من عوامِّ أهل دهرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن عليّ، وهذا معاوية وعمرو بن العاص لم يقصّروا دون ضربه وضرب أصحابه بالسيف، وكالذي روى عن عمر من أنه طعن في رواية أبي هريرة، وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه، وخوّن عمرو بن العاص ومعاوية ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه، وقلّ أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى كثير من أمثال ذلك ما رواه التاريخ.
قالوا: وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنما اتخذهم العامة أرباباً بعد ذلك. والصحابة قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم؛ لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات، فمعاصينا أخفّ لأننا أعذر»([15]).
بعد أن ينقل أحمد أمين هذه الفقرات يقول: إن المعتزلة ينتقدون بكامل حريتهم أعمال الصحابة والتابعين وأقوالهم، ويكشفون عن تناقضاتهم، حتى وصل بهم الأمر إلى انتقاد الشيخين، ثم يذكر أمثلة على انتقادهم لأبي بكر وعمر([16]).
إنّ اتخاذ مثل هذا الموقف حيال الصحابة والتابعين ناجم عن الميول العقلية للمعتزلة الذين كانوا يرفضون الأخذ بالقول على علاّته دون دليل، ولا يرجّحون على منطق العقل أي أصل آخر، ولهذا السبب قيل في وصفهم ووصف مخالفيهم: "النرد أشعري والشطرنج معتزلي"؛ لأنّ لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على الكدّ وإعمال الفكر([17]).
سوى المعتزلة ثمة آخرين نظروا إلى صدر الإسلام وفترة الصحابة والتابعين نظرة انتقادية تحدوهم إلى ذلك رغبة التفكير الحرّ، ومنهم ابن خلدون، فهو يقول حينما يتحدث عن علم الفقه: «... ثم إنّ الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصّاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقّوه من النبي 9 أو ممن سمعه منهم ومن علْيتهم، وكانوا يُسمَّون لذلك القرّاء، أي الذين يقرؤون الكتاب؛ لأن العرب كانوا اُمّة اُمّيّة فاختصّ مَن كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة، ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الاُمّية من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط، وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلماً فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القرّاء...»([18]).
ويعتبر ابن حزم أيضاً من زمرة هؤلاء الأفراد، فيتفق في الرأي مع المعتزلة وابن خلدون، ولكن من منطلق آخر، فهو من علماء المذهب الظاهري وفقهائه والذي يرى بأن أحكام الشريعة تنحصر في النص والإجماع دون القياس، حيث يتوصل ابن حزم إلى رأيه هذا عن طريق ردّ النظرية القائلة بصحة كل ما يصدر عن الصحابة من قول أو فعل، التي يؤمن بها ويجمع عليها عامة أهل السنّة، يقول محمد أبو زهرة بهذا الشأن: «ابن حزم يقرر أنه لا يسوغ تقليد أحد لا من الصحابة ولا من غيرهم، لا من الأحياء ولا من الأموات، ويعتبر الأخذ بقول الصحابي من غير حجة من السنّة النبوية تقليداً غير جائز في دين الله تعالى، فإنه لا يأخذ إلا بالكتاب أو السنّة، أو الإجماع القائم على نصٍّ منهما، أو الدليل المشتق من هذه الاُمور الثلاثة، فالصحابي لا يحتج بقوله؛ لأنه ليس إلا بشراً من البشر، وأنه ليُروى مثل ذلك الرأي عن الشافعي، إذ روى عنه أنه قال في قول الصحابي: كيف آخذ بقول من لو عاصرته لحاججته؟ ولكن الصحيح: أن الشافعي كان يأخذ بأقوال الصحابة إذا اجتمعوا، وإن افترقوا اختار من أقوالهم.. وأن تلك الكلمة التي رويت عنه إنما كانت عند التعارض بين حديث وقول صحابي فإنه بلا شك يكون قول الصحابي غير جدير بالاتّباع، إذ لا قول لقائل أمام قول رسول الله 9 كما قال الإمام مالك: كل إنسان يؤخذ بعض قوله ويُردّ بعضه، إلا صاحب هذه الروضة»([19]).
(1) للإحاطة بهذه الرواية وما تحويه من نكات كثيرة، ومعرفة وضع الشيعة خلال قرن راجع: شرح نهج البلاغة: 11/43.
(3) كمثال لاحظ قصائد الشعراء الاُمويين في: الاُمويون والخلافة: 15–21، وقارن بردود الشعراء العباسيين في: مروج الذهب: 3/43.
(2) كان الاُمويون يقولون: إنّ الخلافة حق من حقوقهم ورثوها عن عثمان الذي كان قد تولاها بدوره بطريق الشورى، لكنه قتل مظلوماً وضاع حقه، وأن الخلافة خرجت عن نطاق اُسرته وانتقلت إلى الغير، لهذا تقع عليهم مسؤولية خوض غمار المعارك لاستعادة الحق المسلوب! كان شعراء بني اُمية يتناولون هذا الموضوع في قصائدهم في مختلف المناسبات [الاُمويون والخلافة: 13]، ويزعمون أيضاً أن الاُمويين ورثوا الخلافة عن الرسول 9. (المصدر نفسه: 17)..
وقد أثر هذا الاُسلوب الدعائي في عامة الناس، ورسخ هذا الاعتقاد في أذهانهم حتى اُفول الحكم الاُموي ولا سيما في منطقة نفوذهم أي في الشام. يروى المسعودي بأنه وبعد مصرع آخر خليفة اُموي جاء عبد الله بن علي إلى الشام، وأوفد إلى السفّاح مجموعة من كبار تجار الشام وأثريائها، وأقسموا للسفاح أنهم لم يعرفوا للنبي أهل بيت سوى الاُمويين، وقد أنشد إبراهيم بن مهاجر في المجلس شعراً وتبعه الشعراء العباسيون في الحطّ من الاُمويين ووراثة بني العباس للنبي. انظر مروج الذهب: 3/43.
(1) انظر إلى التفاصيل في مروج الذهب: 2/406– 409.
ويرى الاُستاذ السبحاني أنّ هذه القضية تعتبر أساس ظهور الاعتقاد بأحقية الخلفاء: «لم يكن في عصور الخلفاء الثلاثة أي أثر من هذه العقيدة، ولم يكن يخطر ببال أحد من المهاجرين والأنصار أنه يجب الاعتقاد بخلافة هذا أو ذاك أو ذلك، وإن من لم يكن معتقداً بخلافتهم يخرج عن صفوف المؤمنين ويلتحق بالمبدعين. وإنما وجدت تلك الفكرة يد السياسة بهدف الإزراء بعلي وتصحيح خروج معاوية عليه، لأخذ ثأر الخليفة، ولعل عمرو بن العاص هو أول من بذر تلك الفكرة». وبعد أن يثبت الدليل بالنص يقول: «وهذا النص من حجة التاريخ وغيره يعرب عن أن الاعتقاد بخلافة الخلفاء إنما برز للوجود في جوٍّ مشحون بالعداء والبغضاء والمغالبة والمنافسة، حتى جعل ذلك الداهية الماكر الاعتقاد بخلافة الشيخين وسيلة لانتزاع الإقرار بخلافة الثالث». الملل والنحل: 1/265- 266.
(1) لاحظ مثال ذلك في كتاب رجال حول الرسول لخالد محمد خالد، فقد أثّر هذا الإجراء حتى على فرد حرٍّ متجدد كمؤلف هذا الكتاب.
(2) يؤكد البربهاري في شرحه على كتاب السنّة لابن حنبل على وجوب السلام على أبي بكر وعمر بعد السلام على النبي 9 لدى زيارة مرقده. نقلاً عن: طبقات الحنابلة: 2/35.
قارن مع مقالة الصحابة في: Shorter Encyclopaedia of Islam, p.488 وكذلك العواصم والقواصم في الذبّ عن سنّة أبي القاسم: 3/223–230.
(1) تعتبر هذه الملاحظة حسّاسة ومصيرية ودقيقة نادراً ما ينتبه إليها الشيعة وأهل السنّة، فكل منهما يخاطب الآخر على أساس مبادئه ومعتقداته. ومن أفضل الأمثلة على ذلك: كتاب "دلائل الصدق" للشيخ محمد حسين المظفر في الردّ على كتاب "إبطال الباطل" للفضل بن روزبهان، وهذا الأخير في الردّ على كتاب "نهج الحق" للعلامة الحلي. فبالتأمل في ردّ ابن روزبهان ونقد المظفر له يكتشف المرء أن بعض البحوث تستند على أساسين مختلفين تماماً، وكل منهما ينظر إلى المسائل من نافذة معتقداته، وينتقد الطرف الآخر على هذا الأساس.
(1) ينقل عبد الهادي الحائري عن المستشرق الانجليزي المعروف واط في ذكر سبب إضفاء القداسة على الصدر الأول مايلي: «في العقود الأخيرة من القرن 3/9 أصبح من الواضح لدى معظم المسلمين بأن الوسيلة الوحيدة لحفظ الهوية الإسلامية هو تعزيز صلتهم بتاريخ الإسلام الماضي، أو على الأقل بالفترات الاُولى للإسلام، وفي أواخر القرن المذكور اختار معظم المنتمين إلى الحركات الدينية المختلفة المذهب السني على الاختلافات الموجودة فيه، وكان هذا الاختيار يعني تبجيل جميع الصحابة بمن فيهم عثمان الذي كان موضع شكوك طوائف من المسلمين السابقين حول كفاءته في الخلافة...». مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في مشهد: العدد 56، 733.
(2) من المشكلات الكبرى للمعتزلة أنهم أخذوا بتدوين معتقداتهم تدويناً نهائياً في الوقت الذي بدؤوا فيه بالاضمحلال لأسباب سياسية واجتماعية وفكرية ودينية مختلفة. ويمكن ملاحظة ذروة هذا النضوج في كتب القاضي عبد الجبار. وغير كتاب المغني الذي غفل عنه علماء أهل السنّة رغم عظمته وأهميته، ولم يكتشف أمره إلا في العقد الخامس من القرن الحالي في مركز الزيدية المعتزلة في اليمن، راجع الاُصول الخمسة الذي يعدّ من أفضل كتب الفكر المعتزلي ويستند على الاُسس الشرعية والقرآنية أكثر من الكتب المتقدمة عليه. فلو أن هذه الكتب كانت قد دخلت الميدان الفكري قبل كتب أبي الحسن الأشعري أو في وقت متزامن معها لما تمكن الأشاعرة من فرض نفوذهم بهذا الشكل. وحول أسباب نجاح الأشعري والظروف التي رافقت نزوله إلى الساحة راجع محاوراته مع كبير حنابلة بغداد البربهاري، طبقات الحنابلة: 2/18–19.